152

نشر هذا المقال في جريدة الشعب التي كانت تصدر عام 1981 عن حزب العمل الاشتراكي (والتي تغيرت فيما بعد وسيطر عليها التيار الديني المحافظ) أذكر أن هذا المقال ومقالات أخرى في تلك الفترة، أدخلتني سجن السادات في سبتمبر 1981، وأذكر أن المدعي الاشتراكي حقق معي في هذا المقال باعتباره مقال يضر المصالح العليا للبلاد، وأني أتآمر لقلب نظام الحكم مع دولة أجنبية هي بلغاريا.

بعد اغتيال السادات بشهرين سقطت هذه التهمة عني، وخرجت من السجن مع أكثر من ألف معارض مصري سجنوا جميعا لمجرد كشفهم للخسارة الاقتصادية أو الثقافية أو العسكرية التي سوف تتكبدها مصر من جراء تلك العلاقات المصرية الأمريكية.

وقالوا لنا لا داعي لنقد ما مضى في عهد السادات، والمطلوب تضافر الجهود من أجل مصر، وقلت وقال غيري إن نقد الماضي ضروري حتى لا تتكرر الأخطاء، وحتى يتصحح المسار، تلافيا للخسارة في المستقبل، وإن هذا النقد للماضي جزء لا يتجزأ من العمل على تضافر الجهود، والوحدة الوطنية مع الجدل والحوار واحترام للآراء المخالفة للسلطة الحاكمة.

لكن هذا لم يحدث، استمرت الأحوال كما كانت، والتف حول السلطة الحاكمة هؤلاء الذين أيدوا السادات في كل خطواته دون نقد، إنه الداء الذي ينخر في النخبة المثقفة في بلادنا، داء تأييد الحاكم في حياته والخوف من نقده، وإلا ضاعت الميزات والمناصب العالية وجوائز الدولة.

التقيت بالأمس بأحد القيادات الفكرية في بلادنا اليوم، وكان من أكبر المؤيدين للملك فاروق، ثم أصبح من أكبر المؤيدين لجمال عبد الناصر، ثم السادات، ثم مبارك، ولأن الناس في مصر تفقد الذاكرة فإن هذا المثقف يحمل لقب المفكر الكبير.

وأنا مع هؤلاء الذين يدعون إلى التسامح وتضافر القوى على اختلافها، لكني لست مع استمرار عمليات النفاق في كل عهد، وإخفاء الحقائق الهامة في كل عهد حتى يفوت الوقت وتضيع فرص الإصلاح الحقيقي.

كما أنني ضد تلميع المنافقين في كل عهد، وتهميش هؤلاء الذين يزهدون في المناصب والمزايا والجوائز من أجل كلمة حق واحدة، وهؤلاء الناس في بلادنا كثيرون إلا أنهم يتوارون بعيدا عن السلطة والأضواء بحكم الثقة في النفس والكرامة والتعفف عن المكاسب.

أكثر ما أدهشني في هذه الأيام الأخيرة التي تأزمت فيها العلاقات المصرية الأمريكية بسبب التعنت الأمريكي والإسرائيلي الواضح في مفاوضات كامب ديفيد الثانية، أن هذا التعنت معروف وواضح منذ أكثر من ثلاثين عاما، ولم نكن في حاجة إلى كامب ديفيد أخرى لنعرف أن العلاقات المصرية الأمريكية الإسرائيلية «منذ كامب ديفيد الأولى» لم يكن نتيجتها إلا الخسارة الفادحة لمصر، ليس في مجال الاقتصاد فحسب، ولكن أيضا في السياسة وفي الثقافة وفي الإعلام، وفي الأمن القومي والتسلح العسكري في الشرق الأوسط، لقد أصبحت إسرائيل هي القوة النووية العظمى في المنطقة، إنها تتفاوض معنا من منطلق القوة؛ ولهذا يضيع الحق على الدوام، وتزيد التنازلات على الدوام، حتى أصبحت كلمة الوحدة العربية كأنما هي عيب أو عورة لا يصح النطق بها.

إن حجم الخسارة الاقتصادية المصرية أصبح منشورا في صحف الحكومة مثل الأهرام، بفضل الأزمة الأخيرة في العلاقات المصرية الأمريكية، عرف الشعب المصري اليوم أن المعونة الأمريكية لمصر كانت خدعة لاستغلال مصر اقتصاديا، كانت المعونة لصالح اقتصاد أمريكا على حساب مصر، مثال واحد: أصبح العجز التجاري المصري لصالح أمريكا 75٪ من التجارة بين البلدين منذ 1974، ندفع دماءنا مواردنا وحققت أمريكا أرباحا وفائضا تجاريا بلغ أكثر من 44 مليار دولار، تكاد تبلغ ضعف المعونة الأمريكية لمصر خلال هذه المدة ذاتها.

وقد صاحب هذا الخلل الاقتصادي الكبير بين البلدين خلل في المجالات الحيوية الأخرى؛ ومنها الأمن القومي في مواجهة إسرائيل، لم توقع إسرائيل على معاهدات حظر انتشار الأسلحة النووية على حين وقعت مصر على عدد من هذه المعاهدات «تحت الضغط الأمريكي» منها المعاهدة في 26 فبراير 1981، والمعاهدة في 14 أكتوبر 1996، والمعاهدة في 10 أبريل 1972، وقد سارت عدد من البلاد العربية والأفريقية وراء مصر ووقعت مثل هذه المعاهدات، أصبحت بلادنا العربية والأفريقية محظور عليها القوة النووية حتى في الأغراض العلمية والسلمية، أما إسرائيل فقد انطلقت في تطورها النووي العسكري حتى امتلكت طرازا جديدا من صواريخ جيركو تم تحميلها برءوس نووية أخطر، وإلى جانب البرنامج الإسرائيلي العلني أرو مع أمريكا، أصبح لإسرائيل ترسانة نووية متعددة الأذرع، يمكن لذراع إسرائيل أن يطوي أي بلد في المنطقة تعصي أمرها.

صفحه نامشخص