وكلامه (عليه السلام) في الدنيا وصفتها والتنبيه على أحوالها ومعرفتها وكثرة خدعها ومكرها، وتنوع افسادها وغرها وإيلامها بنيها وضرها كثير جدا، وهو موجود في تضاعيف الكتب، وفي نهج البلاغة فيستغني بما هناك عن ذكرها هنا لئلا تخرج من غرض الكتاب، ولما علمه من حال الدنيا رفضها وتركها، وترفع عنها وفركها، وعاملها معاملة من لم يدركها حين أدركها، وخاف على نفسه أن تتورط في مهاويها، فما انتهجها ولا سلكها، وخشي أن تملكه بزخارفها فلم يحفل بها لما ملكها، واحترز من آلامها وآثامها، وخلص من أمراضها وأسقامها، وعرفها تعريف خبير بحدها ورسمها، وأنزلها على حكمه ولم ينزل على حكمها [1]، فصار زهده مسألة إجماع لا شك فيه ولا إنكار، وورعه مما اشتهر في النواحي والأقطار، وعبادته ونزاهته مما أطبق عليه علماء الأمصار، وهو الذي فرق بيت المال على مستحقيه وقال:
هذا جناي وخياره فيه
إذ كل جان يده إلى فيه [2]
وكان يرشه ويصلي فيه رجاء أن يشهد له يوم القيامة.
قال هارون بن عنترة قال: حدثني أبي قال: دخلت على علي بن أبي طالب (عليه السلام) بالخورنق [3] وهو يرعد تحت سمل قطيفة [4]، فقلت: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قد جعل لك ولأهل بيتك في هذا المال ما يعم وأنت تصنع بنفسك ما تصنع؟ فقال: والله ما أرزاكم [5] من أموالكم شيئا وإن هذه لقطيفتي التي خرجت بها من منزلي من المدينة ما عندي غيرها.
ومن هذا إن سودة بنت عمارة الهمدانية دخلت على معاوية بعد موت علي فجعل يؤنبها على تحريضها عليه أيام صفين وآل أمره إلى أن قال: ما حاجتك؟ قالت:
إن الله مسائلك عن أمرنا وما افترض عليك من حقنا، ولا يزال يقدم علينا من قبلك من يسمو بمكانك ويبطش بقوة سلطانك، فيحصدنا حصيد السنبل ويدوسنا دوس الحرمل، يسومنا الخسف ويذيقنا الحتف، هذا بسر بن أرطاة قدم علينا فقتل رجالنا
صفحه ۱۸۰