Kashf al-Zuyuf
كواشف زيوف
ناشر
دار القلم
شماره نسخه
الثانية
سال انتشار
١٤١٢ هـ - ١٩٩١ م
محل انتشار
دمشق
ژانرها
في سلسلة أعداء الإسلام
٦
كواشف زيوف في المذاهب الفكريّة المعاصرة
دراسة علميّة نقدية تحليليّة بمنظار إسْلامي
لزيوف كبريات الآراء والمذاهب الفكرية المعاصرة وأئمتها
عبد الرّحمن حسن حَبَنّكة الميداني
1 / 3
لولا أنّ الإسلام حقّ بذاته، مؤيّد بتأييد الله، محفوظ بحفظه، لم تبق منه بقيّة تصارع قوى الشرّ في الأرض، الّتي ما تركت سبيلًا من المكر به إلاّ سلكته، ولا سَبباَ لإطفاء نوره إلاّ أخذت به، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين
1 / 5
أعوذ بالله السميع العليم
من الشيطان الرجيم
قال الله ﷿ في أواسط العهد المدني في سورة (الصف / ٦١ مصحف / ١٠٩ نزول):
﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ *﴾ .
وقال الله ﷿ في أواخر العهد المدني في سورة (التوبة / ٩ مصحف / ١١٣ نزول):
﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدينِ كُلهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ .
النص الأول يشير إلى إعداد الكافرين الوسائل التمهيدية ابتغاء إطفاء نور الله بأفواههم. والنص الثاني يشير إلى إرادة الكافرين إطفاء نور الله بأفواههم بعد أن استكملوا إعداد الوسائل بحسب تصورهم. لذلك كان النصّ الأول مشتملًا على قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ﴾ بهدوء المتمكن الواثق من قوة نفسه وعجز عدوه، وكان النص الثاني مشتملًا على قوله تعالى: ﴿وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ﴾ بتعبير فيه حركة الناهض بكل قوته لقمع عدوه، وإحباط وسائله، وإدحاض باطله.
* * *
1 / 7
بسم الله الرحمن الرحيم
فاتِحَة الكِتَاب
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
والصلاة والسلام على سيدنا وقائدنا محمد خاتم رسل الله، الذي اجتباه ربّه واصطفاه، وأرسله بخاتمة رسالاته للناس، فأظهر به وبمن اتّبعه بإحسان دينه الحقّ على الدين كلّه، وعلى كل فكرة ومذهب مناقض له، بالحجّة والبرهان، وبما يكتشف الناس على الدوام من سيّئات وويلات تطبيقات الأديان والمذاهب المخالفة.
اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، واهدنا وسدّدنا يا ربّ العالمين.
وبعد فإن الفتنة المعاصرة الكبرى آتية من الآراء والأفكار والشعارات والمذاهب الفكرية المعاصرة، التي تناولت حرمات العقائد الدينيّة الربّانية الكبرى، وتناولت مقدّسات المبادئ والأخلاق، بالتقويض والهدم، والتشويه والرجم. وعبثت بالنظم ومناهج السلوك الإنساني الفردي والاجتماعي، التي جاءت بها الشرائع الربانية، وأكملها الله بالرسالة الخاتمة، التي بعث محمدًا خاتم أنبيائه ورسله.
وقد انتشرت هذه المحدَثات الفكرية المعاصرة مع تفجّر منجزات الحضارة الماديّة المعاصرة التي بدأت منذ أواخر القرن السابع عشر الميلادي في الغرب وما زالت تتسارع بصورة مذهلة حتى وقتنا هذا.
1 / 9
وقد أثبت المتتبعون من أهل البحث أن اليهود يحملون كبر نشرها في العالم، وظهر هذا في مخططاتهم السرية، وفي كون أئمة معظم هذه المذاهب المعاصرة هم من اليهود.
وكانت الدراسات الفلسفية والنفسية والاجتماعية، هي المجالات الخاصبة، التي أُسست فيها هذه الآراء والأفكار والمذاهب الفكرية المعاصرة، مع بعض مجالات أخرى.
وجرَّت هذه المحدثات الفكرية المعاصرة التي عبثت بالعقائد الدينية، والمبادئ والأخلاق والنظم ومناهج السلوك، للأمم والشعوب بلاءً كبيرًا، وشرًا مستطيرًا، وأمست منذرة بانهيار ساحق، ودمار ماحق، وكثير من هذه المحدثات هو من دفائن الأولين، من الكافرين والفاسقين والمجرمين، والمهلَكين المدمر عليهم.
وصار لزامًا على دعاة الحق وأهل الفكر أن يكشفوا للناس زيوف هذه المذاهب، وما اشتملت عليه من باطل كثير.
وقد حمّل الله الأمة الإسلامية مسؤولية دعوة الخلق إلى الحق، وتبصير الناس به، ليكونوا يوم القيامة شهداء على الناس.
وإن ثقل هذه المسؤولية يقع على علماء المسلمين ومفكريهم وباحثيهم، إذْ لا سعادة للبشرية إلا باتباع منهج الله، الذي بلغهم عن خاتم رسل الله محمد وحملهم اله مسؤولية تبليغه وبيانه.
وقد بدأ المفكرون الإسلاميون، بحمد الله، يتحملون هذه المسؤولية، ويجاهدون في سبيل الله جهادًا فكريًا، ويحاولون القيام بواجبهم في هذا المجال على قدر استطاعتهم، فظهرت مقالات وبحوث وكتب ورسائل جامعية مشكورة.
ولكن لا يزال العمل في هذا المجال - كما أرى - في المراحل الأولى من الطريق الطويل.
1 / 10
وإني ما زلت منذ مطلع العام الدراسي (١٣٩٧ - ١٣٩٨ هجرية) أقوم بتدريس مادة " المذاهب الفكرية المعاصرة " في جامعة أم القرى بمكة المكرمة (جامعة الملك عبد العزيز: سابقًا) على مستوى الدراسة الجامعية، ومستوى الدراسات العليا، التي تُعِدّ لنيل شهادة الماجستير فالدكتوراه.
وكتبت في هذه المادة مذكرات للطلاب والطالبات، لتكون بين أيديهم شارحة بعض الموضوعات فيها.
ومنذ حين وفي عزمي على أن أستكمل هذه المذكرات، حتى تستوعب الموضوعات والعناصر التي ينبغي أن تشتمل عليها مادة " المذاهب الفكرية المعاصرة "، وأن أرتبها وأصنّفها تصنيفًا يجعلها صالحة لإخراجها في كتاب ملتزم بمنهجية التصنيف والتبويب والتقسيم والترتيب المنطقي.
وكانت تشغلني عن استكمال تصنيفه مشاغل أخرى نافعة إن شاء الله، ظهرت ثمراتها في عدة مؤلفات.
إلى أن أذن الله ﷿، فأقدرني على متابعة العمل بفضله وجوده وكرمه، ومعونته وتوفيقه، ولا حول ولا قوة إلا به.
وكان شهر رمضان الميمون في مكة المكرمة من سنة (١٤٠٤ هجرية) شهر بركة وفتح، وعون من العلي القدير، فتفرغت فيه لمتابعة العمل في هذا الكتاب، حتى قطعت فيه من أشواط السعي بنسبة خمسة إلى سبعة.
ثمّ سافرت مع أسرتي في إجازة الصيف إلى تركيا، فانقطعت عن العمل في إتمام الكتاب.
ولم يتهيا لي بعد العودة من الإجازة الصيفية التفرغ الكامل لإتمام العمل، لكني صرت أقتطع أوقاتًا للعمل، وانتهبها انتهابًا، حتى أذن الله بإكمال الكتاب في اليوم الأول من شهر صفر سنة (١٤٠٥) هجرية.
وإذ قم تم الكتاب بفضل الله ومنه وكرمه، فإني أقدمه لقراء العربية، لا سيما المسلمون الذين يُهمهم أن يعرفوا زيوف الأفكار التي غزتهم في
1 / 11
هذا العصر، عن طريق المذاهب الفكرية المعاصرة، ليكونوا على بصيرة بها، وليبصروا بها الأجيال الصاعدة من أجيال الأمة الإسلامية، ولتكون لديهم القدرة على حماية أنفسهم وأمتهم، ومقارعة خصومهم بالحجج المنطقية، والبراهين والقواطع.
والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل، والحمد لله أولًا وآخرًا، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
مكة المكرمة غرة صفر ١٤٠٥ هجرية
عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني
أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة
1 / 12
خِطّةُ الكِتَابْ
نظرت في الأفكار والآراء والشعارات والاتجاهات والتيارات والمذاهب المعاصرة، ذات الأهداف الرامية إلى هدم الدين والأخلاق والنظم الاجتماعية ذات الكيانات والأبنية الثابتة المستقرة، وسيلة إلى تمكين المفسدين في الأرض، الطامعين بخيراتها، من السيطرة على الشعوب والعلو في الأرض، واستغلال خيراتها، والتحكم بمقدراتها.
ونظرت في الأفكار والمذاهب التي أفرزها الاتجاه العلماني المعادي للدين، أو المهمل له، بقصد هدم الدين، وبدون قصد لذلك.
ونظرت في أسباب نشأة هذه المحدَثات المعاصرة، ومناخ ترعرعها، وعوامل ظهورها القوي، في هذه الحقبة من الدهر.
وبحثت عن أهمّ وأخطر المفسدين المضلين في الأرض.
ونظرت في وسائل التضليل الفكري، التي يتّخذها المضلّون المفسدون في الأرض.
واكتشفت أن أخلاط هذه المحدثات المبتعدات الفكرية، ترجع إلى:
١- افتراءات تروج ضد الدين والأخلاق، ثمّ النظم والقوانين والأحكام وأنواع السلوك المنبثقة عن الدين والأخلاق.
٢- شعارات تخدع الجماهير، بما لها من بريق يُغْرِي، فتتعلق بها النفوس، وقد يكون لها مساحات جزئية محدودة، هي فيها حقٌ وخير.
1 / 13
وتأتي لعبة التضليل، فتستغلُّ عموم لفظ الشعار، وتزحف به شيئًا فشيئًا، حتى يعم مساحات فكرية هو فيها باطل وشر.
وتنطلي الحيلة على الجماهير فتردد الشعار، ملاحظة المساحة التي هو فيها حق وخير، ومعممة تعميمًا باطلًا، حتى تتولد لديها بالترديد الببغاوي القناعة بصحة الشعار في كل المساحات التي يمكن أن يتناولها عمومه.
وبعض هذه الشعارات تحوّل فصار اتجاهًا أو مذهبًا، يوجه بصورة عشوائية كل تصرفات من آمن به، ولو لم يكن في حقيقة أمره كافيًا لأن يكون مذهبًا ذا أسس ومفاهيم عامة، وقواعد ومناهج للسلوك.
٣- آراء وأفكار وتعليلات وتفسيرات فلسفية، هندسة في العلوم، من اعتقدها وسلم بصحتها كانت في نفسه:
* بمثابة معول يهدم لديه عقائد الإيمان بالله، وبما جاء به رسل الله، أو يهدم لديه الأخلاق الكريمة وأسسها، أو يهدم لديه القيم التي تربطه بالجماعة.
* أو بمثابة باعث شيطاني، يوقد فيه نيران الثورة الحاقدة على مجتمعه، ونظم مجتمعه، وقيم مجتمعه، وسائر المبادئ والقِيَم المسلم بها، أو المتواضع عليها.
ثمّ غذت هذه الآراء والأفكار والتعليلات والتفسيرات الفلسفية المندسّة في العلوم مذاهب جزئية، ضمن مسائل العلوم التي هي مندسة فيها، دون أن يكون للعلوم التجريبية أو الوصفية علاقة بها، باعتبارها أفكارًا فلسفية تخيُّلية، لا تجريبية، ولا وصفية، ولا تثبتها براهين عقلية.
٤- مذاهب فكرية كبيرة، إلا أنها غير شاملة لجوانب الحياة كلها، فتوجد أخلاط منها في مختلف الشعوب، وفي مختلف الملل والمذاهب والأديان.
٥- مذاهب فكرية كليّة، مستجمعة لجملة قواعد ومفاهيم نظرية،
1 / 14
وأسس وقواعد وأنظمة لمناهج السلوك الفردي والاجتماعي في الحياة.
وهي لدى المؤمنين بها بمثابة دين مهيمن على جميع تصرفاتهم.
* * *
تأملت في هذا كله فرأيت أن العمل المنهجي يتطلب مني أن أقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام، وضمن كل قسم منها أبواب وفصول.
فالقسم الأول جعلته للمقدمات العامة التي تشتمل على التعريف بمناخ نشأة الآراء والمذاهب الفكرية المعاصرة، المناقضة للدين، ولمكارم الأخلاق، وللنظم الاجتماعية التي تنبثق عنهما، أو تستند إليهما. ووسائل التضليل التي يستخدمها المضللون لترويج الشعارات والآراء والأفكار والمذاهب الفكرية المعاصرة المزيفة.
والقسم الثاني جعلته لعرض أهم الشعارات البرّاقة المزيفة الباطلة ولأفكار ولآراء ولمذاهب فكرية معاصرة جرئية منبثة وموزعة في علوم مختلفة، مع كشف زيوفها، وتعريفٍ بأئمتها.
والقسم الثالث جعلته للمذاهب الفكرية الكبيرة، ذات التأثير المهيمن على سلوك شعوب وأمم ودول، مع كشف زيوفها، وتعريف بأئمتها.
ومن الله التوفيق، وعليه الاتكال، وهو المستعان في كلّ أمر.
1 / 15
القِسمُ الأوّل مِنَ الكِتَاب
مقدمات عامة
وفيه بابان:
الباب الأول: تعريف بمناخ نشأة الآراء والمذاهب الفكرية
المعاصرة المناقضة للدين ولمكارم الأخلاق
وللنظم الاجتماعية التي تستند إليهما.
الباب الثاني: وسائل التضليل لترويج الشعارات والآراء
والمذاهب الفكرية المعاصرة المزيفة.
1 / 17
الباب الأول
تَعريفٌ بمَنَاخِ نَشأةِ المذَاهِب الفِكرية المعَاصِرَة
مقدمة عامة.
الفصل الأول: مناخ نشأتها في أوروبا.
الفصل الثاني: تحرّك اليهود مستغلين المناخ الملائم في أوروبا.
الفصل الثالث: أسباب تَقَبُّلِ شعوب الأمة الإسلامية، لوافدات المذاهب الفكرية
المعاصرة.
1 / 19
مَقَدِّمَة عَامَّة
مما يساعد على تقبل الأفكار والمذاهب الفاسدة الضارة وجود المناخ المناسب لنشأتها وانتشارها.
إن المناخ المناسب لانتشار الجراثيم الضارة، والأمراض الوبائية، يتجلي بانحجاب نور الشمس، وتراكم القذارات، والرطوبة، وتكاثف السكان، ونقص الغذاء.
كذلك نشأة المذاهب والأفكار الباطلة الفاسدة المفسدة، وكذلك انتشارها. إنها تنشأ وتنتشر حينما تغيب شمس الهداية الحقة، أو تحجبها حجب كثيفة، وتتراكم قذارات الأعمال الفاسدة، والانحرافات الخلقية، والظلم الاجتماعي، والضغط السياسي الظالم الآثم، والاضطهادات الجائرة، والأنانيات المفرطة، والفوارق الطبقية الفاحشة التي لا تقوم على قواعد الحق والعدل، والمولدة لصنوف الحقد، والحسد، والكراهية، والراغبة بالانتقام، ولو عن طريق الثورة المدمرة.
يضاف إلى ذلك تمكين عناصر الشر والفساد المجرمة من أن تعيث في الأرض فسادًا، وتنشر بين الجاهلين ضلالاتها، وتستدرج ذوي العقول الصغيرة إلى شبكاتها، وذوي المطامع الكبيرة إلى مغرياتها.
وقد نشأت وانتشرت المذاهب الفكرية المعاصرة في الغرب أولًا، ثمّ امتدت إلى مختلف شعوب العالم، ثمّ زحفت بويلاتها وألوان زيوفها وفجورها إلى شعوب الأمة الإسلامية.
1 / 21
فعلينا أن ندرس المناخ الذي هيأ لنشأتها وانتشارها في الغرب أولًا، ثمّ ندرس المناخ المناسب الذي جعل شعوب الأمة الإسلامية تتقبل وافداتها، أو تستوردها أحيانًا، وجعلها تسمح بانتشارها بين ناشئتها، رغم زيوفها ومفاسدها وشرورها الكثيرة.
* * *
1 / 22
الفصْل الأوّل
مُنَاخ نَشأةِ المذَاهِب الفِكرية المعَاصِرَة في أوربَّا
باستطاعة الباحث أن يكتشف أهم العوامل التي هيأت المناخ المناسب لانتشار المذاهب الفكرية المعاصرة في أوروبا.
ويمكن إيجازها بالعوامل التالية:
العامل الأول:
التحريف في أسس الدين الذي أنزله الله على عيسى ﵇، عقيدة وشريعة.
أ - فالإيمان بالله الواحد خالق الكون، وبأن عيسى عبد الله ورسوله، قد صار في عقيدة النصارى إيمانًا بإله مثلث يتجسد، أو يحل بالإنسان، وهو ثلاثة أقانيم (الآب والابن والروح القدس) .
ب - والعبادات قد دخلت فيها أوضاع بشرية كنسية مبتدعة، وهذه المبتدعات حملها النصارى مفاهيم غيبية، وفسروها بأن لها أسرارًا مقدسة، وجعلوا لها طقوسا تمارس في مناسباتها، ويجب احترامها.
جـ - والأحكام التشريعية معظمها أوامر وقرارات كنسية بابوية، ما أنزل الله بها من سلطان، وهي تحلِّل وتُحرم من غير أن يكون لها مستند من كتاب الله أو بيانات الرسول ﵇.
فدين من هذا القبيل مقطوع الصلة بالحق وبما أنزل الله من الحق، غير مؤهل لأن يكون له سلطان على العقول والنفوس في عصور التنور
1 / 23
الفكري، والتقدم الحضاري، وانتشار العلوم والمعارف المستندة إلى أدلة إثبات عقلية أو حسية تجريبية.
العامل الثاني:
الفتح الإسلامي الذي أيقظ العالم الغربي من سباته، ثمّ الفكر الإسلامي الذي امتد فأثار الإعجاب بمناهجه العقلية والعلمية القائمة على الحق، وعلى الأدلة البرهانية في القضايا النظرية، حتى في المسائل الدينية الكبرى، فضلًا عن القضايا الكونية القائمة على البحث والملاحظة والتجربة، للاستفادة مما سخر الله للناس في الكون، والتعرف على سنن الله فيه، واكتشاف القوانين الثابتة التي طبع الله كونه عليها.
العامل الثالث:
طغيان رجال الكنيسة، وفساد أحوالهم، واستغلال السلطة الدينية لتحقيق أهوائهم وإرضاء شهواتهم تحت قناع القداسة التي يضفونها على أنفسهم، ويهيمنون بها على الجماهير الأمية الساذجة. ثمّ اضطهادهم الشنيع المريع لكل من يخالف أوامرهم السنية، أو يخالف التعليمات الكنسية المرعية المبتدعة في الدين، والتي ما أنزل الله بها من سلطان، حتى ولو كانت أمورًا تتصل بحقائق كونية تثبتها التجارب والمشاهدات العلمية المادية.
العامل الرابع:
الاتجاه الجاد في أوروبا والغرب عامة، للأخذ بأسباب التقدم الحضاري العلمي والمادي. ولما اصطدم هذا الاتجاه بجمود الكنيسة ومقاومتها للعلماء، حاول رويدًا رويدًا، فكريًا ثمّ عمليًا، أن يعزل الكنيسة عن شؤون السياسة، الذي صادف هوى ملوك الغرب وزعمائه السياسيين الذين لا دين لهم، ثمّ عن شؤون الحياة ووسائل العيش وأساليب السلوك العام، الذي صادف هوى الشباب والشابات، بعد تغذيتهم بنزعة الحرية العمياء، كما صادف هوى كل الذين يصانعون الدين مصانعة وهم لا يؤمنون به.
1 / 24
وبهذا العزل ينحصر سلطان الكنيسة في شؤون الدين الغيبية والروحية، وفي مراسيمه وطقوسه الخاصة.
* * *
(١)
تفصيل العامل الأول بإيجاز
وهو تحريف الدين عقيدة وشريعة، وتحوله إلى أوضاع بشرية مشحونة بالخرافات.
استقرت العقيدة النصرانية الرسمية المؤيدة من الكنائس الغربية والشرقية، على فكرة التثليث التي عملت دسائس اليهود منذ القرن الأول الميلادي على إدخالها في المسيحية.
كما استقرت على تحريفات أخرى دخلت في أحكامها وتطبيقاتها بعوامل شتى، منها ما كان مكرًا مقصودًا من أعداء المسيحية الذين دخلوا فيها نفاقًا، ليفسدوها من داخلها، ومنها ما كان من المسيحيين أنفسهم، ومن رجال الكهنوت فيهم، استجابة لأهوائهم وشهواتهم ومصالحهم ومنافعهم الدنيوية الخاصة، أو استجابة لضغوط ذوي السلطان والجاه، من ملوكهم وزعمائهم وأغنيائهم وقادتهم العسكريين.
وفيما يلي لمحة عن تاريخ التحريف الذي دخل في المسيحية، فأفسد أصولها الربانية التي أنزلها الله ﷿ على عيسى ﵇.
١ - دسائس "بولس":
من الذين احتلوا مركزًا مهمًا من مراكز الصدارة في الديانة النصرانية رجل اسمه "بولس".
وبولس هذا قصته في النصرانية قصة عجيبة غريبة، إنه صاحب الشأن الخطير في تحريف الديانة النصرانية عن أصولها الربانية الصحيحة التي أنزلها الله على عيسى ﵇.
1 / 25
كان هذا الرجل يهوديًا طرطوسيًا من الفريسيين، وكان اسمه "شاوُل" وهو لم يرَ عيسى ﵇، ولا سمعه يدعو الناس ويبشر بدين الله، مع أنه قد أدرك زمانه.
وكان في أول عهده من كبار أعداء النصارى الذين آمنوا بعيسى وصدقوه واتبعوه، حتى كان ممن أنزل بهم ألوانًا من الاضطهاد والقتل والتعذيب.
وبعد أن رفع الله عيسى ﵇ إليه بمدة من الزمن أعلن "بولس = شاوُل" هذا بشكل مفاجئ دخوله في النصرانية، وأحاط دخوله فيها بادعاءات غريبة جرت له، ومشاهدات روحية خاصة ادعى فيها أن يسوع بنوره الباهر هبط عليه عندما كان قادمًا من دمشق وقريبًا منها. وقال له: لماذا تضطهدني؟ . فقال "بولس = شاول" وهو مرتعد ومتحير: يا رب ماذا تريد أن أفعل؟ فقال له: " قم وادخل المدينة فيقال لك ماذا ينبغي أن تفعل "وبعد أن قاده رفاقه إلى دمشق، واستقر فيها، أتاه حنانيًّا، وكان هذا رجلًا مشهودًا له بالتقوى من جميع اليهود السكان كما يذكر "بولس" فأخبره بأن الله قد اختاره ليعلم الدين ويكرز بالمسيحية، أي: يعظ بها ويدعو إليها.
جاء في الإصحاح التاسع من أعمال الرسل ما يلي:
" (١) أما شاوُل فكان لم يزل ينفث تهددًا وقتلًا على تلاميذ الرب ... "
" (٣) وفي ذهابه حدث أن اقترب إلى دمشق، فبغتة أبرق حوله نور من السماء (٤) فسقط على الأرض وسمع صوتًا قائلًا له: شاوُل شاوُل لماذا
1 / 26
تضطهدني؟ . (٥) فقال: من أنت يا سيد؟ . فقال الرب: أنا يسوع الذي أنت تضطهده....
(٦) فقال وهو مرتعد ومتحير: يا رب ماذا تريد أن أفعل؟ . فقال له الرب: قم وادخل المدينة فيقال لك ماذا ينبغي أن تفعل ... "
" (١٩) ... وكان شاول مع التلاميذ الذين في دمشق أيامًا (٢٠) وللوقت جعل يكرز في المجاميع بالمسيح أن هذا هو ابن الله (٢١) فبهت جميع الذين كانوا يسمعون وقالوا: أليس هذا هو الذي أهلك في أورشليم الذين يدعون بهذا الاسم؟.
ويروي الإصحاح الثاني والعشرين من أعمال الرسل عن "بولس=شاول" أنه قال:
" (٣) أنا رجل يهودي ولدت في طرسوس كيليكية، ولكن ربيت في هذه المدينة مؤدبًا عن رجلي غمالائيل على تحقيق الناموس الأبوي. وكنت غيورًا لله كما أنتم جميعكم اليوم. (٤) واضطهدت هذا الطريق حتى الموت، مقيدًا ومسلمًا إلى السجون رجالًا ونساءً. (٥) كما يشهد لي أيضًا رئيس الكهنة وجميع المشيخة الذين إذ أخدت أيضًا منهم رسائل للإخوة إلى دمشق ذهبت لآتي بالذين هناك إلى أورشليم مقيدين لكي يعاقبوا. (٦) فحدث لي وأنا ذاهب ومتقرب إلى دمشق أنه نحو نصف النهار بغتة أبرق حولي من السماء نور عظيم. (٧) فسقطت على الأرض وسمعت صوتًا قائلًا لي: شاول شاول لماذا تضطهدني؟. (٨) فأجبت من أنت يا سيد؟. فقال لي: أنا يسوع الناصري الذي أنت تضطهده. (٩) والذين كانوا معي نظروا النور وارتعبوا ولكنهم لم يسمعوا صوت الذي كلمني. (١٠) فقلت: ماذا أفعل يا رب؟ . فقال لي الرب: قم واذهب إلى دمشق وهناك يقال لك عن جميع ما ترتب لك أن تفعل. (١١) وإذ كنت لا أبصر من أجل بهاء ذلك النور اقتادني بيدي الذين كانوا معي فجئت إلى دمشق (١٢) ثمّ إن حنانيًا رجلًا تقيًا حسب الناموس ومشهودًا له من جميع اليهود السكان (١٣) أتى إلي ووقف وقال لي: أيها الأخ شاول أبصر. ففي تلك الساعة نظرت إليه (١٤) فقال: إله آبائنا انتخبك لتعلم مشيئته وتبصر البار وتسمع صوتًا من
1 / 27
فمه. (١٥) لأنك ستكون شاهدًا لجميع الناس بما رأيت وسمعت. (١٦) والآن لماذا تتوانى. قم واعتمد واغسل خطاياك داعيًا باسم الرب".
ومنذ ذلك الحين نشط بالدعوة إلى المسيحية معلنًا أن عيسى هو ابن اله، حتى صار المعلم الأول في المسيحية، وداعيتها النشيط، وأخذ ينشر أنه يتلقى التعاليم المسيحية إلهامًا، ويستر بهذه الدعوى ما يعلمه الناس عنه من أنه لم يكن من تلاميذ المسيح، ولم يجتمع به، ولم يسمع منه، ويفتح لنفسه بهذه الدعوى الكاذبة مجال التلاعب بأصول الدين. والتحريف فيه وفق مخطط يهودي لكل ما ليس بيهودي، ولو كان منزلًا من عند الله.
وصار هذا الرجل اليهودي في تاريخ المسيحية أحد الرسل السبعين الذين نزل عليهم روح القدس في اعتقاد النصارى بعد رفع المسيح، وأُلهموا بالتبشير بالمسيحية، كما ألهموا مبادئها، ويسمي النصارى هؤلاء السبعين رسلًا، أي: رسلًا للتبشير بالمسيحية في الأقطار.
وتفاقم تأثير "بولس" حتى صار معلمًا لـ"مرقس" أحد كتاب الأناجيل الأربعة، إذ لازمه ملازمة التلميذ لأستاذه، وصار معلمًا لـ"لوقا" أحد كتاب الأناجيل الأربعة أيضًا، قالوا: وكان "لوقا" التلميذ الحبيب والرفيق الملازم لـ"بولس" وليس هو من أصل يهودي.
وفكرة أن عيسى "ابن الله" لم تكن قد عرفت من قبل "بولس". ولكن بعد أن دخل المسيحية منافقًا، وأحل نفسه منها في مركز المعلم الأول الذي يتلقى تعالمي الدين إلهامًا، أخذ يطوف في الأقاليم يبشر بالمسيحية الجديدة، ضمن خطة، فيها دهاء كبير، فيلقي الخطب، وينشيء الرسائل، حتى كانت رسائله هي الرسائل التعليمية، بما حوت من مبادئ اعتقادية وشرائع عملية.
قالوا: وقد قُتل في اضطهادات "نيرون" سنة (٦٦ أو ٦٧م) .
وبهذه الخطة الماكرة استطاع هذا الرجل أن يحرف في جوهر الديانة
1 / 28