بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد، شمس الأئمة، وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي - إملاء - رحمه الله: وإذ قد أجبتكم إلى ما سألتموني من إملاء شرح المختصر على حسب الطاقة وقدر الفاقه، بالآثار المشهورة والاشارات المذكورة في تصنيفات محمد بن الحسن رحمه الله، لإظهار وجه التأثير وبيان طريق التصوير، رأيت أن الحق به إملاء شرح " كتاب الكسب " الذي يرويه محمد بن سماعه عن محمد بن الحسن رحمه الله، وهو من جملة تصنيفاته، إلا أنه لم يشتهر لأنه لم يسمع رحمه الله، وهو من جملة تصنيفاته، إلا أنه لم يشتهر لأنه لم يسمع [1 - و] منه ذلك أبو حفص ولا أبو سليمان رحمهما الله، ولهذا لم يذكره الحاكم رحمه الله في المختصر، وفيه من العلوم ما لا يسع جهلها،
صفحه ۳۱
ولا تخلف عن علمها، ولو لم يكن فيه إلا حث المقتبسين على مشاركة المكتسبين في الكسب لأنفسهم، والتناول من كد يديهم لكان يحق على كل أحد إظهار هذا النوع من العلم.
وقد كان شيخنا الإمام رحمه الله بين بعض ذلك على طريق الآثار فنذكر ما ذكرناه تبركا بالمسموع منه، ونلحق به ما تكلم فيه أهل الأصول رحمهم الله، وما يجود به الخاطر من المعاني والإشارات.
صفحه ۳۲
الكسب محمد بن الحسن الشيباني
صفحه ۱
باب
الاكتساب في عرف أهل اللسان تحصيل المال بما يحل من الأسباب واللفظ في الحقيقة يستعمل في كل باب وقد قال الله تعالى {أنفقوا من طيبات ما كسبتم} وقال عز وجل {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} أي بجنايتكم على أنفسكم فقد سمى جناية المرء على نفسه كسبا وقال جل وعلا في آية السرقة {جزاء بما كسبا} أي باشرا من ارتكاب المحظور فعرفنا أن اللفظ مستعمل في كل باب ولكن عند الاطلاق يفهم منه اكتساب المال
ثم بدأ محمد رحمه الله الكتاب بقوله طلب الكسب فريضة على كل مسلم كما أن طلب العلم فريضة وبهذا اللفظ يرويه ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم = أنه قال طلب الكسب فريضة على
صفحه ۳۲
لى كل مسلم وفي رواية قال طلب الكسب بعد الصلاة المكتوبة الفريضة بعد الفريضة وقال النبي صلى الله عليه وسلم طلب الحلال كمقارعة الأبطال ومن بات ناويا من طلب الحلال بات مغفورا له وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقدم درجة الكسب على درجة الجهاد فيقول لأن أموت بين شعبتي رحلي أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله أحب إلي من أن أقتل مجاهدا في سبيل الله لأن الله تعالى قدم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضله على المجاهدين بقوله تعالى {وآخرون يضربون في الأرض} وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صافح سعد بن معاذ رضي الله عنه يوما فإذا يداه أكنبتا فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال أضرب بالمر والمسحاة في نخيلي لأنفق على عيالي فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يده وقال كنان يحبهما الله تعالى وفي هذا بيان أن المرء باكتساب مالا بد له ينال من الدرجة
صفحه ۳۳
أعلاها وإنما ينال ذلك بإقامة الفريضة ولأنه لايتوصل إلى إقامة الفرض إلا به فيكون فرضا بمنزلة الطهارة لأداء الصلاة
وبيانه من وجوه
أحدها أن يمكنه من أداء الفرائض بقوة بدنه وإنما يحصل له ذلك بالقوت عادة ولتحصيل القوت طرق الاكتساب أو التغالب أو الانتهاب وبالانتهاب يستوجب العقاب وفي التغالب فساد والله لا يحب الفساد فتعين جهة الاكتساب لتحصيل القوت وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم نفس المؤمن مطيته فاليحسن إليها يعني الاحسان بأن لايمنعها قدر الكفاية وإنما يتوصل إلى ذلك بالكسب ولأنه لايتوصل إلى أداء الصلاة ألا بالطهارة ولابد لك من كوز تستقي به الماء أو دلو ورشاء ينزح به الماء من البئر وكذا لايتوصل إلى أداء الصلاة إلا بستر العورة وإنما يكون ذلك بثوب ولا يحصل له إلا بالإكتساب عادة وما لا يتأتى إقامة الفرض إلا به يكون فرضا في نفسه
الكسب طريق المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين وقد أمرنا بالتمسك بهم والاقتداء بهديهم قال الله تعالى {فبهداهم اقتده} وبيان أن أول من اكتسب أبونا آدم صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى} أي تتعب في طلب الرزق
وقال مجاهد رحمه الله في تفسيره لا تأكل خبزا بزيت حتى تعمل
صفحه ۳۴
عملا إلى الموت
وفي الآثار أن آدم عليه السلام لما هبط إلى الأرض أتاه جبرائيل عليه السلام بالحنطة وأمره بأن يزرعها فزرعها وسقاها وحصدها وداسها وطحنها وخبزها فلما فرغ من هذه الأعمال حان وقت العصر أتاه جبرائيل عليه السلام وقال إن ربك يقرئك السلام ويقول إن صمت اليوم غفرت لك خطيئتك وشفعتك في أولادك فصام وكان حريصا على تناول ذلك الطعام لينظر أنه هل يجد من الطعم ما كان يجد له لطعام الجنة فمن ثمة حرص الصائمون بعد العصر على تناول الطعام
وكذا نوح عليه السلام كان نجارا يأكل من كسبه وإدريس عليه السلام كان خياطا وابراهيم عليه السلام كان بزازا على ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال عليكم بالبز فإن أباكم كان بزازا يعني الخليل عليه السلام وداود عليه السلام كان يأكل من كسبه على ما روي أنه كان يخرج متنكرا فيسأل عن سيرته أهل مملكته حتى استقبله جبرائيل عليه السلام يوما على صورة شاب فقال له داود عليه السلام كيف تعرف داود أيها الفتى فقال نعم العبد داود إلا أن فيه خصلة فقال وما هي قال إنه يأكل من بيت المال وإن خير الناس من يأكل من كسبه فرجع داود عليه السلام إلى محرابه باكيا متضرعا يسأل الله تعالى ويقول اللهم علمني كسبا تغنيني به عن بيت المال فعلمه الله تعالى
صفحه ۳۵
صفة الدرع ولين له الحديد حتى كان الحديد في يده كالعجين في يد غيره قال الله تعالى {وعلمناه صنعة لبوس لكم} فكان يصنع الدرع ويبيع الدرع بإثني عشر ألفا فكان يأكل من ذلك ويتصدق وسليمان صلوات الله عليه كان يصنع المكاتل من الخوص فيأكل من ذلك وزكريا عليه السلام كان نجارا وعيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه وربما كان يلتقط السنبلة فيأكل من ذلك وهو نوع اكتساب ونبينا صلى الله عليه وسلم كان يرعى في بعض الأوقات على ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه رضي الله عنهم يوما كنت راعيا لعقبة بن أبي معيط وما بعث الله نبيا إلا استرعاه وفي حديث السائب بن شريك عن أبيه رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شريكي وكان خير شريك لايداري ولا يماري أي لايلاج ولا يخاصم قيل في ماذا كانت الشركة بينكما فقال في الأدم
وازدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجرف على ما ذكره محمد رحمه الله في كتاب المزارعة ليعلم أن الكسب عن طريق المرسلين عليهم السلام
صفحه ۳۶
ثم الكسب نوعان كسب من المرء لنفسه وكسب منه على نفسه فالكاسب لنفسه هو الطالب لما لابد له من المباح والكاسب على نفسه هو الباغي لما عليه فيه جناح نحو ما يكون من السارق والنوع الثاني حرام بالإتفاق قال الله تعالى {ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه} وقال عز وجل {ومن يكسب خطيئة أو إثما} الآية والمذهب عند الفقهاء من السلف والخلف رحمهم الله أن النوع الأول من الكسب مباح على الاطلاق بل هو فرض عند الحاجة
وقال قوم من جهال أهل التقشف وحماقى أهل التصوف إن الكسب حرام لا يحل إلا عند الضرورة بمنزلة تناول الميتة وقالوا إن الكسب ينفي التوكل على الله أو ينقص منه وقد أمرنا بالتوكل قال الله تعالى {فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} فما يتضمن نفي ما أمرنا به من التوكل يكون حراما والدليل على أنه ينفي التوكل قوله صلى الله عليه وسلم لو توكلتم على الله حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا وقال تعالى {وفي السماء رزقكم وما توعدون} وفي هذا حث على ترك الاشتغال بالكسب وبيان أن ما قدر له من الموعود يأتيه لا محالة وقال عز وجل
صفحه ۳۷
{وأمر أهلك بالصلاة} الآية والخطاب وإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فالمراد منه أمته فقد أمروا بالصبر والصلاة وترك الاشتغال بالكسب بطلب الرزق وقال تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} وفي الاشتغال بالكسب ترك ما يأمر المرء لأهله وأمر به من عبادة ربه وإليه أشاز النبي صلى الله عليه وسلم في قوله ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين وإنما أوحي إلي {فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين} الآية وما في القرآن من ذكر البيع والشراء في بعض الآيات ليس المراد التصرف في المال والمكسب بل المراد تجارة العبد مع ربه عز وجل ببذل النفس في طاعته والاشتغال بعبادته فذلك يسمى تجارة وقال الله تعالى {هل أدلكم على تجارة} الآية وقال عز وجل {إن الله اشترى من المؤمنين} الآية والمراد هذا النوع وهو بذل النفس لنيل الثواب بالجهاد وأنواع الطاعة وكذا قد سمن الله تعالى أخذ المال لإرتكاب ما لايحل له في الدين بايعا نفسه قال الله تعالى {ولبئس ما شروا به أنفسهم} وقال عز وجل {اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا}
صفحه ۳۸
وإلى ذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله الناس غاديان فبائع نفسه فموبقها ومشتر نفسه فمعتقها وأن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كانوا يلزمون المسجد فلا يشتغلون بالكسب ومدحوا على ذلك وكذلك الخلفاء الراشدون وغيرهم من أعلام الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين لم يشتغلوا بالكسب وهم الأئمة السادة والقدوة القادة
وحجتنا في ذلك قوله تعالى {وأحل الله البيع} وقال جل وعلا {إذا تداينتم بدين} وقال عز وجل {إلا أن تكون تجارة عن تراض} وقال جل جلاله {إلا أن تكون تجارة حاضرة} الآية ففي بعض هذه الآيات تنصيص على الحل وفي بعضها ندب إلى الاشتغال بالتجارة فمن يقول بحرمتها فهو مخالف لهذه النصوص
وإنما يحمل كلام صاحب الشرع عند الاطلاق على ما يتفاهمه الناس في مخاطبتهم لأن الشرع إنما خاطبنا بما نفهمه ولفظة البيع والشراء حقيقة للتصرف في المال بطريق الاكتساب والكلام محمول على حقيقة لا يجوز تركها إلى نوع من المجاز إلا عند قيام الدليل كما فيما استشهدوا به من قوله تعالى {إن الله اشترى من المؤمنين} فقد قام الدليل على أن المراد به المجاز ولم يوجد مثل ذلك ههنا فكان محمولا على حقيقته وقال الله تعالى {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله}
صفحه ۳۹
والمراد التجارة وقال عز وجل {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم} يعني التجارة في طريق الحج وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن أطيب ما أكلتم من كسب أيديكم وإن أخي داود عليه السلام كان يأكل من كسب يده والمراد الاشارة إلى قوله تعالى {كلوا من طيبات ما رزقناكم}
وأقوى ما نعتمده أن الاكتساب طريق المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين وقد قررنا ذلك ولا معنى لمعارضتهم إيانا في ذلك بعيسى ويحيى عليهما السلام فقد بينا أن عيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه رضي الله عنها
ثم نقول إن الأنبياء عليهم السلام في هذا ليس كغيرهم فقد بعثوا لدعوة الناس إلى دين الحق وإظهار ذلك وكانوا مشغولين بما بعثوا لأجله ولم يشتغلوا عامة أوقاتهم بالكسب لهذا وقد اكتسبوا في بعض الأوقات ليبينوا للناس أن ذلك ما ينبغي أن يشتغل به المرء ولأنه لا ينفي التوكل على الله كما ظنه هؤلاء الجهال وقد بين ذلك عمر رضي الله عنه في حديثه حيث مر بقوم من القراء فرآهم جلوسا قد نكسوا رؤوسهم فقال من هؤلاء فقيل هم المتوكلون فقال كلا ولكنهم المتأكلون يأكلون أموال الناس
صفحه ۴۰
أنبئكم من المتوكل فقيل نعم فقال هو الذي يلقي الحب في الأوض ثم يتوكل على ربه عز وجل وفي رواية أخرى فقال يا معشر القراء ارفعوا رؤوسكم واكتسبوا لأنفسكم
ودعواهم أن الكبار من الصحابة رضوان الله عليهم كانوا لا يكتسبون دعوى باطل فقد روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان بزازا وعمر رضي الله عنه كان يعمل الأدم وعثمان رضي الله عنه كان تاجرا يجلب إليه الطعام فيبيعه وعلي رضي الله عنه كان يكتسب على ما روي أنه أجر نفسه غير مرة حتى آجر نفسه من يهودي في حديث فيه طول
ثم صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى سراويل بدرهمين وقال للوزان زن وأرجح فإنا معاشر الأنبياء هكذا نزن وباع رسول الله صلى الله عليه وسلم قعبا وحلسا يبيع من يزيد واشترى ناقة من أعرابي وأوفاه ثمنها ثم جحد الأعرابي وقال هلم شاهدا قال صلى الله عليه وسلم من يشهد لي فقال خزيمة بن ثابت رضي الله عنه أنا أشهد لك بأنك وفيت الأعرابي ثمن الناقة فقال صلى الله عليه وسلم كيف تشهد لي ولم تكن حاضرا قال يا رسول الله إنا نصدقك
صفحه ۴۱
فيما تأتينا به من خبر السماء أفلا نصدقك فيما تخبر به من إيفاء ثمن الناقة فقال صلى الله عليه وسلم من شهد له خزيمة فحسبه
ولا حجة لهم في قوله تعالى {وفي السماء رزقكم وما توعدون} فالمراد المطر الذي ينزل من السماء فيحصل به النبات فإن ذلك يسمى رزقا على ما نقل عن بعض السلف رحمهم الله يا بن آدم إن الله يرزقك ويرزق رزقك ويرزق رزق رزقك يعني ينزل المطر من السماء رزقا للنبات ثم النبات رزق الأنعام والأنعام رزق لبني آدم ولئن حملنا الآية على ظاهرها فنقول في السماء رزقنا كما أخبر الله تعالى ولكننا أمرنا باكتساب السبب ليأتينا ذلك الرزق عند الاكتساب بيانه في قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل عبدي حرك يدك أنزل عليك الرزق وقد أمر الله تعالى مريم عليها السلام بهز النخلة كما قال {وهزي إليك} الآية وهو قادر على أن يرزقها من غير هز بعناء كما كان يرزقها في المحراب قال عز وجل {كلما دخل عليها زكريا المحراب} الآية وإنما أمرها بذلك ليكون بيانا للعباد أنه ينبغي لهم أن لا يدعوا إكتساب
صفحه ۴۲
السبب وإن كانوا يتيقنون أن الله هو الرزاق
وهذا نظير الخلق فإن الله تعالى هو الخالق قد يخلق لا من سبب ولا في سبب كما خلق آدم صلوات الله عليه وقد يخلق لا من سبب في سبب كما خلق عيسى عليه السلام وقد يخلق من سبب في سبب كما قال تعالى {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} الآية وقد أمر الله تعالى بالنكاح وطلب الولد لا ينفي يقين العبد بأن الخالق هو الله تعالى فكذا أمر الرزق ليعلم من يزعم أن حقيقة التوكل في ترك الكسب فهو مخالف للشريعة وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله للسائل الذي قال أرسل ناقتي وأتوكل فقال صلى الله عليه وسلم لا بل اعقلها وتوكل
ونظير هذا الدعاء فقد أمرنا به قال الله تعالى {واسألوا الله من فضله} ومعلوم أن ما قدر لكل أحد فهو يأتيه لا محالة ثم أحد لا ينظر بهذا إلى ترك السؤال والدعاء من الله تعالى والأنبياء عليهم السلام كانوا يسألون الجنة مع علمهم أن الله يدخلهم الجنة وقد وعد لهم ذلك وهو {لا يخلف الميعاد} وقد كانوا يأمنون العاقبة ثم كانوا يسألون الله تعالى ذلك في دعائهم
وكذا أمر الشفاء فالشافي هو الله تعالى وقد أمرنا بالمداواة قال صلى الله عليه وسلم تداووا عباد الله فإن الله تعالى ما خلق داء إلا خلق
صفحه ۴۳
له دواء إلا السام أو قال الهرم وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد حين داوى ما أصابه من الجراحة في وجهه
ثم إن اكتساب الكسب بالمداواة لا ينفي التيقن بأن الله تعالى هو الشافي فكذا اكتساب سبب الرزق بالتحرك لا ينفي التيقن بأن الله تعالى هو الرازق
والعجب من الصوفية أنهم لا يمتنعون من تناول طعام من أطعمهم من كسب يده وربح تجارته مع علمهم بذلك فلو كان الاكتساب حراما لكان المال الحاصل به حرام التناول لأن ما يتطرق إليه بارتكاب الحرام يكون حراما ألا ترى أن بيع الخمر للمسلم لما كان حراما كان تناول ثمنها حراما وحيث لم يمتنع أحد منهم من التناول عرفنا أن قولهم من نتيجة الجهل والكسل
ثم المذهب عند جمهور الفقهاء رحمهم الله من أهل السنة والجماعة أن الكسب بقدر مالا بد منه فريضة
وقالت الكرامية بل هو مباح بطريق الرخصة لأنه لا يخلو إما أن يكون فرضا في كل وقت أو في وقت مخصوص
والأول باطل لأنه يؤدي إلى أن لا يتفرغ أحد عن أداء هذه الفريضة ليشتغل بغيرها من الفرائض والواجبات
صفحه ۴۴
وثاني باطل لأن ما يكون فرضا في وقت مخصوص شرعا يكون مضافا إلى ذلك الوقت كالصلاة والصوم ولم يرد الشرع بإضافة الكسب إلى وقت مخصوص ثم لا يخلو إما أن يكون فرضا لرغبة الناس إليه أو للضرورة
والأول باطل فإن الرغبة ثابتة في جميع ما في الدنيا من الأموال وأحد لا يقول يفترض على كل أحد تحصيل جميع ذلك
والثاني باطل أيضا فإن ما يفترض للضرورة إنما يفترض عند تحقق الضرورة وبعد تحقق الضرورة يعجز عن الكسب فكيف يتأخر فرضيته إلى حال عجزه ولا يخلو إما أن يفترض جميع أنواعه أو نوع مخصوص منه
والأول باطل لأن ليس في وسع أحد من البشر مباشرة جميع أنواعه ولا يعلم ذلك فإن عمره يفنى قبل أن يتعلم ذلك
والثاني باطل لأن ليس بعض الأنواع بتخصيصه بالفريضة بأولى من بعض ولا يخلو إما يفترض على جميع الناس أو على بعضهم
والأول باطل فإن الأنبياء عليهم السلام ما اشتغلوا بالكسب في عامة أوقاتهم وكذا أعلام الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ومن بعدهم من الأخيار لا يظن بهم أنهم اجتمعوا على ترك ما هو فرض عليهم
والثاني باطل لأن ليس بعض الناس بتخصيصه بهذه الفريضة بأولى من البعض
فتبين أن الكسب ليس بفرض أصلا والدليل عليه أنه لو كان أصله فرضا لكان الاستكثار منه مندوبا إليه أو كان نفلا بمنزلة العبادات والاستكثار منه مذموم كما قال الله تعالى {إنما الحياة الدنيا لعب ولهو} إلى قوله تعالى {عذاب شديد } وبهذا الحرف يقع الفرق بينه وبين طلب
صفحه ۴۵
العلم بأن أصله لما كان فرضا كان الاستكثار مندوبا إليه
وحجتنا في ذلك قوله تعالى {أنفقوا من طيبات ما كسبتم} والأمر حقيقة للوجوب ولا يتصور الإنفاق من المكسوب إلا بعد الكسب وما لا يتوصل إلى إقامة العبادة إلا به ولا يتوصل إلى إقامة الفرض إلا به يكون فرضا وقال تعالى {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض} الآية يعني الكسب والأمر حقيقة للوجوب
فإن قيل قد وري عن مجاهد ومكحول رحمهما الله أنهما قالا المراد طلب العلم قلنا ما ذكرنا من التفسير مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قال طلب الكسب بعد الصلاة المكتوبة هي الفريضة بعد الفريضة وتلا قوله تعالى {فإذا قضيت الصلاة} فلا يترك ذلك بقول مكحول ومجاهد رحمهما الله والظاهر يؤيد ما ذكرنا بدليل ما ذكر بعده {وإذا رأوا تجارة} الآية وكان قد انفضوا بذلك في حال خطبته فنهوا عن ذلك وأمروا به بعد الفراغ من الصلاة فإن قيل فالأمر بعد النهي يفيد الإباحة قلنا الأمر حقيقة للإيجاب ولو كان المراد هو الإباحة والرخصة لقال فلا
صفحه ۴۶
جناح عليكم أن تبتغوا من فضل الله كما قال تعالى في باب طريق الحج {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم} والدليل عليه أن الله تعالى أمر بالإنفاق على العيال من الزوجات والأولاد والمعتدات ولا يتمكن من الإنفاق عليهم إلا بتحصيل المال بالكسب وما يتوصل به إلى أداء الواجب يكون واجبا
والمعقول يشهد له فإن في الكسب نظام العالم والله تعالى حكم ببقاء العالم إلى حين فنائها وجعل سبب البقاء والنظام كسب العباد وفي تركه تخريب نظامه وذلك ممنوع منه فإن قيل فبقاء هذا النظام يتعلق بالتسافد بين الحيوانات وأحد لا يقول بفرضية ذلك قلنا نعم إن الله تعالى علق البقاء بتسافد الحيوانات وركب الشهوة في طباعهم فتلك الشهوة تحملهم على مباشرة ذلك الفعل فلا تقع الحاجة إلى أن يجعل ذلك فرضا عليهم لكيلا يمتنعون عن ذلك فإن الطبع أدعى إلى إفضاء الشهوات
فأما الاكتساب في الابتداء كد وتعب وقد تعلق به بقاء نظام العالم فلو لم يجعل أصله فرضا لاجتمع الناس عن آخرهم على تركه لأن ليس في طبعهم ما يدعو إليه الكد والتعب فجعل الشرع أصله فرضا لكيلا يجتمعوا على تركه فيحصل ما هو المقصود
وجميع ما ذكروا من التقسيمات يبطل بما أشار إليه محمد رحمه الله في قوله طلب الكسب فريضة كما أن طلب العلم فريضة فإن هذه التقسيمات تأتي في العلم ومع ذلك كان أصله فرضا بالاتفاق فكذا طلب الكسب
صفحه ۴۷
وكان معنى الفرضية ما بينا من بقاء نظام العالم به ولا يوجد ذلك في الاستكثا منه على قصد التكاثر والتفاخر وإنما ذم الله تعالى الاستكثار إذا كان بهذه فقال عز وجل {وتفاخر بينكم وتكاثر}
ثم ينبني على هذه المسألة مسألة أخرى وهي أنه بعدما اكتسب مالا بد له منه هل الاشتغال بالكسب أفضل أم التفرغ للعبادة قال بعض الفقهاء رحمهم الله الاشتغال بالكسب أفضل وأكثر مشايخنا رحمهم الله على أن التفريغ للعبادة أفضل
وجه القول الأول أن منفعة الاكتساب أعم فإن ما اكتسبه الزارع تصل منفعته إلى الجماعة عادة والذي يشتغل بالعبادة إنما ينفع نفسه لأن بفعله يتحصل النجاة لنفسه ويحصل الثواب لجسمه وما كان أعم نفعا فهو أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم خير الناس من ينفع الناس ولهذا كان الاشتغال بطلب العلم أفضل من التفرغ للعبادة لأن منفعة ذلك أعم ولهذا كانت الإمارة والسلطنة بالعدل أفضل من التخلي للعبادة كما اختاره الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم لأن ذلك أعم نفعا وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله العبادة عشرة أجزاء وقال صلى الله عليه وسلم الجهاد عشرة أجزاء تسعة منها طلب الحلال يعني طلب الحلال للإنفاق على العيال والدليل عليه أنه بالكسب يتمكن من أداء أنواع الطاعات من الجهاد والحج والصدقة وبر الوالدين وصلة الرحم والإحسان إلى الأقارب والأجانب
صفحه ۴۸