فقال بحزن: فاتت فرصة إقناعه!
ولكن لماذا قضي على إسماعيل الشيخ بالاعتقال؟ خفت أن يجيب على سؤالي - كما في الماضي - بالصمت، غير أنه قال مستأنسا بتغير الظروف والأحوال: كانت ليلة، وكعادتي في فصلي الربيع والصيف كنت أنام على أريكة في الفناء تاركا حجرتنا الوحيدة لوالدي، وكنت مستغرقا في النوم، عندما شعرت بنهار ينهمر على روحي كحلم، واستيقظت على هزة شديدة، فتحت عيني فضاع بصري في ضوء باهر يتدفق في عيني، جلست فزعا فإذا صوت يسأل: أين مسكن الشيخ؟
فقلت: هنا، ماذا تريد؟ أنا ابنه إسماعيل.
فقال بارتياح: عظيم.
وأطفأ الكشاف فساد الظلام، وبعد حين تبينت أشباحا: قم معنا. - من أنتم؟ - لا تخف ... نحن من رجال الأمن. - ماذا تريدون؟ - ستجيب على بعض أسئلة ثم تعود قبل طلوع النهار. - دعوني أخبر والدي وأرتدي بدلتي. - لا داعي لذلك ألبتة.
وقبضت يد على منكبي فاستسلمت، وسرت بينهم حافيا بجلباب النوم، ثم دفعوا بي داخل سيارة فجلست محاصرا باثنين، ومع أن الظلمة كانت كثيفة إلا أنهم عصبوا عيني وأوثقوا يدي، فسابت ركبتاي وتساءلت: لماذا تعاملونني هذه المعاملة وأنا بريء؟ - اصمت. - خذوني إلى مسئول وسترون! - إنك في الطريق إليه.
ركبني رعب مميت، مميت بكل معنى الكلمة، ورحت أتساءل عن التهمة المأخوذ بها، لست شيوعيا ولا من الإخوان ولا إقطاعيا، ولم يلفظ لساني بكلمة تنال هيبة العهد الذي أعده عهدي مذ وعيت ما حولي.
توقفت السيارة في مكان ما، أخرجت منها، ثم سرت معصوب العينين بين اثنين يقبضان على ذراعي، حتى دفع بي إلى مكان، انفكت القبضتان عن ذراعي. سمعت وقع الأقدام وهي تبتعد وصرير الباب وهو يغلق. كانت يداي قد تحررتا كما رفعت العصابة عن عيني، ولكنني لم أر شيئا كأنما قد فقدت البصر. تنحنحت فلم يجبني أحد. توقعت أن تخف الظلمة باعتياد النظر فيها، ولكنها لم تخف، ولم يند عن المكان صوت، ترى أي نوع من المكان هو؟! مددت ذراعي أتحسس المجال، تحركت بحذر شديد، سرت برودة الأرض في قدمي، لم أعثر بشيء إلا الجدران، لا يوجد في الحجرة شيء، لا كرسي ولا حصيرة ولا أي قائم، الظلام والفراغ والحيرة والرعب، والزمان في الظلام والصمت يتوقف تماما، وبخاصة وأنني لم أعرف متى ألقي القبض علي، ولا فكرة لي عن متى تنقشع الظلمة أو متى تبعث الحياة في تلك الجثة الشاملة. ولكن أحب أن أخبرك أن الإنسان يتحايل على المعاناة إذا تخطت حدودها، وأنه في أعماق العذاب يتوثب لطرح همه باستهتار يستوي أن تعده قوة أو يأسا، فاستسلمت للمقادير وقلت ليأت الشيطان إن كان مقدورا له أن يأتي، وليأت الموت أيضا. وكففت عن طرح الأسئلة التي لا جواب لها، ولكن طاب لي أن أذكر سلوك فيروس الإنفلونزا الذي يواجه مضادات الحيوية بخلق جيل جديد ذي مناعة ضد المضادات.
وسألته: لبثت واقفا؟ - عندما أنهكني الإرهاق قرفصت، ثم تربعت على الأسفلت، وبقدرة قادر نمت، هل تتصور ذلك؟ ولما استيقظت، وتذكرت، أدركت أنني فقدت موقعي من الزمن، أي وقت نمت؟ في أي لحظة أنا من ليل أو نهار، وتحسست ذقني، وقلت ستكون هي ساعتي الكسيحة. - تركت طويلا؟ - نعم. - والطعام؟ - كان الباب يفتح ويدفع إلي بطبق به جبن أو مادة مملحة ورغيف. - والضرورة؟ - في ساعة محددة يفتح الباب أيضا، فيدعوني عملاق كمصارعي السيرك، ويقودني إلى مرحاض في نهاية طرقة، فأتبعه مغمض العينين تقريبا تفاديا من ألم الضوء، وما إن يغلق الباب ورائي حتى يصيح بصوت كالرعد «أسرع يا بن الكلب ... هل تبقى النهار بطوله يا بن العاهرة؟» ولك أن تتصور حالي في الداخل. - ولا تدري كم يوما لبثت؟ - الله وحده يعلم فلحيتي عند كثافة معينة لم تعد تسعفني. - ولكنهم حققوا معك ولا شك؟
فقال متجهما: أجل ... وجدتني يوما أمام خالد صفوان!
صفحه نامشخص