ثناء على الكتاب
كراهية وصداقة وغزل وحب وزواج
الجسر العائم
قطع أثاث العائلة
راحة
نبات القراص
المقايضة
ما نتذكره
كويني
الدب صعد الجبل
ثناء على الكتاب
كراهية وصداقة وغزل وحب وزواج
الجسر العائم
قطع أثاث العائلة
راحة
نبات القراص
المقايضة
ما نتذكره
كويني
الدب صعد الجبل
كراهية وصداقة وغزل وحب وزواج
كراهية وصداقة وغزل وحب وزواج
تأليف
أليس مونرو
ترجمة
محمد عبد النبي
مراجعة
محمد فتحي خضر
ثناء على الكتاب
بعض القصص ... يمكنها أن تغير الطريقة التي نعيش بها حياتنا معا. لأكثر من ثلاثين عاما عكفت أليس مونرو على كتابتها الحرفية والغزيرة لحكايات بهذه الجودة ... هذا كتاب حافل بالمفاجآت، وزاخر بالحكمة التي يعد الحب جزءا لا يتجزأ منها، شأنها شأن كل الأكاسير السحرية.
وول ستريت جورنال
رؤية ثاقبة كالأشعة السينية على طريقة كتابات تشيخوف ... لا يدرك القارئ مدى استحواذ إحدى القصص وقدرتها على التغيير إلا في نهايتها؛ إذ تصبح العودة إلى العالم الحقيقي من جديد عندئذ مثل محاولة الخروج من سيارة متحركة.
نيوزويك
غير عادية على الدوام ... حتى أقل الحكايات سوف تغويك، وتتلاعب بك، وتفاجئك وتصدمك. لك أن تتوقع أن يكون هدفها هو التركيز على الدقائق الرتيبة للحياة العادية، تركيزا على نحو ساحق وقاطع؛ بحيث إن تلك الأوقات العادية في حد ذاتها تصير حية وتكاد تكون واقعا ملموسا.
سان فرانسيسكو كورنيكل
تغوص قصصها حتى المستوى الأعمق للتجربة ... إن ذخيرة تقنياتها واسعة النطاق وتشمل مشاهد ... بلغت درجة من الوضوح والحيوية بحيث تبدو كأنها ذكرياتنا الخاصة. إن لها تلك المصداقية التي تسعها لأن تكتب عن الحياة الآخرة بضمير المتكلم ونصدقها مع ذلك ... إن مونرو، الدقيقة فيما تراه، والمتشككة فيما تتعاطف معه، تتحدى التوقعات حتى عندما تفي بها تماما. في كتابها الجديد، تؤكد أنها قد صارت تتصدر خبراء عالمنا هذا في الروح الإنسانية ... إنها تتحسن وتتحسن ...
بولي شولمان، نيوزداي
كتابة جليلة ... فنية ومع ذلك عاطفية، متحفظة ومع ذلك ملهمة ... تنقب الكاتبة بدأب في الدوافع والعواطف الإنسانية البالغة التناقض وتجذبها للخروج إلى السطح، كاشفة عنها للقارئ بطرق مفاجئة وجديدة.
مجلة إيل
تظل قصص مونرو عالقة برأسك لأيام ... إنها تتقاسم مع الكاتب هنري جيمس تلك القدرة غير الشائعة على أن تستقطر في لحظة بعينها، ومن خلال أصغر اللفتات أو النظرات، كشفا لا رجعة عنه يمكنه أن يحول وجه الحياة، وكثيرا جدا ما يبعث القشعريرة في بدن القارئ.
فيلادلفيا إنكوايرر
تلك القصص التسع يتسق بعضها مع بعض بقوة بالغة وسرعان ما تغويك بحيث تظن، كما هي الحال مع كل عمل فني عظيم، أنها متاحة لأن توصف أو تلخص ... بيد أنك لا تستطيع إضافة كلمة أو حذفها منها. أحيانا تكون كتاباتها واضحة وحيوية بدرجة مذهلة ... وتستطيع هذه الكاتبة أن تنومك مغناطيسيا عن طريق وصفها للون وملمس شيء عادي جدا مثل صلصة الطماطم.
آن بياتي، جلوب آند ميل
إن أليس مونرو في هذا الكتاب بلغت درجة لم تصل إليها من قبل قط من صقل الحرفة والعمق، إنها من أرفع من مارسوا كتابة القصة القصيرة - وأحد ألمع الكتاب في جميع الألوان الأدبية قاطبة - في عالمنا اليوم.
ميلوكي جورنال سينتنل
بإحكام متقن ... تملك مونرو القدرة النادرة على أن تخلق عالما كاملا من الشخصيات والتجارب في مساحة لا تزيد عن العشرين صفحة ... إن قصصها ... مقنعة، بأسلوب بسيط ظاهريا، ولكنها ذات حبكات معقدة إلى حد الإعجاز وعامرة بتحولات القدر والحظ.
منيوبوليس ستار تريبيون
حكاءة قديرة بلغت ذروة الإتقان.
شيكاجو تريبيون
لا تشوبها شائبة ولا نظير لها ... مجموعة من القصص مفعمة بالجواهر ... حين يتعلق الأمر باستحضار تغيرات الحياة وحيرات الحب والرغبة المحظورة فإن مونرو تبرز في فئة وحدها ... إن قصصها المستفيضة تذكر بالروايات القصيرة والقصص التي كتبها كل من تولتسوي وهنري جيمس. وعلى غرارهما، فإن أعمالها السردية القصيرة ذات مجال فسيح وذكية ووافرة بالأحداث والتفاصيل الخاصة بالسياق. إن حبكاتها كبيرة النطاق وتطورات الشخصية ذات الطبقات العديدة تعكس التعقيد الذي لا يمكن اختصاره للطبيعة الإنسانية.
هيوستن كرونيكل
مجموعة هائلة ... إنها [مونرو] أحد سادة فن تشييد القصة القصيرة ... عندما نبتعد في النهاية عن تلك القصص ، وننظر إليها وراءنا، لا تبدو أقل من الحياة ذاتها ولو بأهون درجة.
مجلة فوج
تثبت هذه المجموعة القصصية أن مونرو أفضل كاتبة قصة قصيرة ما زالت حية ترزق في عالمنا اليوم ... إنها قديرة في مزج الفن بالروح.
ذا تايمز-بيكايون
لا يمكن لأي كاتب حديث أن يدخل إلى قلب المرأة كما تستطيع مونرو، ولا أحد آخر له هذه العين الصافية الرؤية أو القدرة العاطفية في تبحرها داخل أهواء الأفئدة.
ذا أوريجونيان
مونرو هي عميدة كتاب القصة القصيرة الأمريكيين ... فهي ترسم الشخصيات بعدسة ميكروسكوب، وتفعل ذلك بأسلوب نثري ناعم وصاف ... ومن خلال الحكايات وارتجاعات الماضي المتواشجة والأنيقة، تقدم التفاصيل المميزة الكثيفة بأسلوب مباشر رهيف، وهكذا فإن القصص تبدو وكأنها تنساب في سلاسة.
إنترتينمنت ويكلي
تكتب مونرو عن تعقيدات الحب، وعشوائية المقادير، ومتطلبات الأسرة وغموض الشخصية، تكتب عن ذلك كله وكأنه يتم تناوله للمرة الأولى في السرد الأدبي.
ذا سياتل تايمز
«مع خالص امتناني إلى سارة سكينر.»
كراهية وصداقة وغزل وحب وزواج
منذ سنين، قبل أن تتوقف القطارات عن المرور على كثير من الخطوط الفرعية، أتت إلى محطة السكك الحديدية امرأة ذات جبين مرتفع وعليه نمش، وشعر مجعد بني مشرب بحمرة، وسألت عن شحن الأثاث.
كثيرا ما أقدم ناظر المحطة على تحرش هين بالنساء، خصوصا غير الجميلات ممن كن يقدرن ذلك.
قال: «أثاث؟» كما لو أنها فكرة لم تخطر على بال إنسان من قبل. «حسن. عن أي نوع من الأثاث نتكلم؟»
مائدة حجرة طعام وستة مقاعد. طاقم غرفة نوم كامل، أريكة، منضدة قهوة، ومناضد جانبية مرتفعة، ومصباح طويل أرضي، وكذلك خزانة أطقم المائدة لأطقم الصيني، وبوفيه. «على رسلك. أتقصدين ملء بيت كامل؟»
قالت: «يجب عدم اعتبار هذا كثيرا إلى هذا الحد؛ فليس هناك أشياء للمطبخ وليس سوى أثاث يكفي غرفة نوم واحدة.»
كانت أسنانها محتشدة في مقدمة فمها، وبدت كما لو كانت متأهبة للجدال.
قال: «سوف تحتاجين إلى سيارة نقل.» «لا، أريد أن أرسلها بالقطار. سوف تتجه غربا، إلى ساسكاتشوان.»
كانت تتحدث إليه بصوت عال كما لو كان أصم أو أحمق، وكان هناك شيء غريب في طريقة نطقها للكلمات؛ لكنة ما. فكر في الهولنديين - كان الهولنديون يأتون للإقامة في هذه الأنحاء - غير أن لم يكن لها الوزن الثقيل للنسوة الهولنديات أو بشرتهن الوردية المحببة أو شعرهن الأشقر. قد تكون أقل من الأربعين، ولكن ما أهمية هذا؟ ليست ملكة جمال ... بالمرة.
حول انتباهه للعمل فقط. «أولا، سوف تحتاجين إلى سيارة نقل حتى تحضري الأثاث إلى هنا من المكان الذي تضعينه فيه. ويحسن بنا أن نتأكد إن كان ذلك المكان في ساسكاتشوان يمر به القطار، وإلا فسيكون عليك ترتيب أمر تسلم أغراضك في محطة ريجينا مثلا.»
قالت: «في جدينيا، القطار يمر بها.»
تناول دليلا مغطى بالزيت كان معلقا بمسمار وسألها كيف تتهجين تلك الكلمة. تناولت قلم رصاص كان معلقا بخيط أيضا، وكتبت على قطعة من ورق من محفظتها: «ج د ي ن ي ا». «أي جنسية تتبعها تلك المنطقة؟»
قالت إنها لا تدري.
أخذ منها قلم الرصاص ليتتبع المسار من خط قطار إلى آخر.
قال: «هنالك أماكن كثيرة تمتلئ بالتشيكيين أو المجريين أو الأوكرانيين.» خطر له حين قال هذا أنها قد تكون من هؤلاء. لكن ماذا في ذلك، فقد كان يقر أمرا واقعا وحسب. «ها هي، حسن، إنها على الخط.»
قالت: «نعم، أريد أن أشحنه يوم الجمعة؛ هل يمكنك فعل ذلك؟»
قال: «يمكننا شحنه، ولكنني لا أستطيع أن أحدد اليوم الذي سوف يصل فيه إلى هناك، المسألة كلها تعتمد على الأولويات. هل سينتظر شخص ما وصول الأثاث هناك؟» «نعم.» «قطار يوم الجمعة مختلط، ركاب وبضائع، يقوم في الساعة الثانية وثماني عشرة دقيقة مساء. لا بد أن تنقل السيارة الأثاث يوم الجمعة صباحا. هل تقيمين هنا في البلدة؟»
أومأت برأسها، ثم كتبت العنوان: 106 طريق المعرض.
لم تكن منازل البلدة قد رقمت إلا مؤخرا، ولم يتمكن من تحديد المكان بدقة، على الرغم من أنه كان يعرف أين يقع طريق المعرض. لعلها لو كانت ذكرت له اسم ماكولي في ذلك الحين لربما أبدى مزيدا من الاهتمام، ولربما انتهت الأمور إلى غير ما انتهت إليه. كانت هناك منازل جديدة في تلك المنطقة، أنشئت منذ الحرب، كانت تسمى «منازل أيام الحرب» افترض أن ذلك المنزل واحد منها.
قال لها: «تدفعين عند الشحن.» «وأريد أيضا تذكرة سفر لي على نفس القطار، عصر يوم الجمعة.» «مسافرة إلى المكان نفسه؟» «نعم.» «يمكنك أن تسافري على نفس القطار إلى تورونتو، وهناك سيكون عليك أن تنتظري القطار العابر للقارات، يقوم في العاشرة والنصف مساء. أتريدين عربة نوم أم عربة عادية؟ في الأولى يكون لك مقصورة خاصة بسرير، وفي العادية تجلسين في عربة النهار.»
قالت إنها ستجلس. «انتظري قطار مونتريال في سادبيري، لكنك لن تنزلي عن القطار هناك، فسوف يعملون تحويلة للقطار وحسب، وسيربطونه بعربات مونتريال. ومن هناك إلى بورت آرثر ومنها إلى كينورا. لا تنزلي عنه حتى تصلي إلى ريجينا، وهناك لا بد أن تنزلي لتلحقي بقطار الخط الفرعي.»
أخذت تومئ برأسها كما لو كان ينبغي عليه أن يسرع ويعطيها التذكرة.
قال، مبطئا من إيقاعه: «ولكني لا أتعهد لك بأن أثاثك سوف يصل عند وصولك أنت، لا أظن أنه سوف يصل إلا بعد ذلك بيوم أو يومين. إنها مسألة أولويات. هل سيأتي شخص ما للقائك؟» «نعم.» «جيد؛ لأنها ليست محطة بالمعنى المعروف. البلدات هناك لا تشبه كثيرا بلداتنا هنا. أغلب الأمور هناك بدائية تماما.»
دفعت ثمن تذكرة السفر، من لفة أوراق نقدية في كيس قماشي كان بحافظتها، مثل سيدة عجوز. أحصت الفكة المتبقية أيضا، ولكن ليس كما قد تحصيها سيدة عجوز؛ إذ أمسكت بها في كفها ومرت بنظرها عليها سريعا، ومع هذا فقد بدا مؤكدا أنها لم تغفل عن بنس واحد منها. عندئذ استدارت مبتعدة على نحو فظ، دون تحية.
صاح مخاطبا إياها: «أراك يوم الجمعة!»
في هذا اليوم الدافئ من أيام سبتمبر كانت ترتدي معطفا طويلا بهت لونه الزيتوني، وحذاء برباط يصدر أصوات قعقعة، وجورب قصير يصل إلى الكاحل.
كان يصب قهوة من الإبريق الحافظ للحرارة حين عادت وطرقت على الكوة.
قالت: «الأثاث الذي سوف أرسله كله أثاث جيد، مثل الجديد تقريبا. لا أريده أن يخدش أو يتكسر أو يتلف على أي نحو. ولا أريده أن يفوح برائحة المواشي أيضا.»
قال: «أوه، حسنا، السكك الحديدية تعرف كيف تشحن الأشياء. وهم لا يستخدمون لشحن الأثاث العربات نفسها التي تشحن الخنازير.» «أنا حريصة جدا أن يصل الأثاث إلى هناك في نفس الحالة الجيدة التي يذهب بها من هنا.» «حسنا، تعرفين شيئا، عندما اشتريت أثاثك ذلك، كان في المتجر، صحيح؟ ولكن هل سبق لك أن فكرت كيف وصل إلى هناك؟ فهو لم يتم تصنيعه في المتجر، صحيح؟ كلا، لقد صنع في مصنع ما في مكان ما، ثم شحنوه إلى المتجر، ومن المحتمل جدا أن يكونوا شحنوه بالقطار أيضا. إذا كانت هذه هي الحال، أفلا يعتبر هذا دليلا منطقيا على أنهم في السكك الحديدية على دراية بهذا الأمر؟»
ظلت ترنو إليه دون ابتسامة أو أي إقرار بحماقتها الأنثوية.
قالت: «أتمنى هذا، أتمنى أن يكونوا كذلك!» •••
كان بوسع ناظر المحطة أن يقول، دون تفكير في الأمر، إنه يعرف كل سكان البلدة؛ مما كان يعني أنه يعرف بالفعل نصفهم تقريبا. وأغلب من كان يعرفهم هم نواة البلدة وأساسها؛ أي إنهم «سكان» البلدة حقا، بمعنى أنهم لم يصلوا إليها أمس وليس لديهم أي خطط للانتقال إلى مكان آخر. لم يكن يعرف المرأة المسافرة إلى ساسكاتشوان لأنها لم تكن تصلي في الكنيسة نفسها التي يصلي فيها، أو تعلم أطفاله في المدرسة، أو تعمل في أي من المتاجر والمطاعم والمكاتب التي كان يتردد عليها. كما أنها لم تكن زوجة لأي رجل ممن عرفهم في إلكس أو أودفيلوز أو نادي الليونز أو الليجيون. وبنظرة منه إلى يدها اليسرى حين كانت تستخرج نقودها علم - ولم يندهش بما علم - أنها غير متزوجة من أي شخص. ومن حذائها ذلك، وجوربها القصير بدلا من الجوارب الحريمية الطويلة، وخروجها في ساعة الأصيل بلا قبعة أو قفازين، علم أنها قد تكون إحدى المزارعات. غير أنها لم تبد ذلك التردد الذي يميزهن عموما، وذلك الحرج. لم تكن لها أخلاق القرية، في الحقيقة، لم تكن لها أخلاق بالمرة؛ إذ تعاملت معه كما لو كان ماكينة معلومات. علاوة على أنها كتبت عنوانها في البلدة - طريق المعارض. لم تذكره حقا إلا براهبة في ثياب عادية غير رسمية كان قد رآها على شاشة التليفزيون وهي تتحدث عما أدته من عمل تبشيري في مكان ما بالأدغال، أغلب الظن أنهن خلعن ثياب الرهبانية هنالك لأن من شأن هذا أن يسهل عليهن السعي والتسلق هنا وهناك. •••
كان هناك أمر آخر انتوت جوهانا القيام به لكنها طالما أرجأته؛ إذ كان عليها أن تقصد متجر ثياب يدعى متجر ملادي وأن تشتري لنفسها ثوبا. لم يسبق لها بالمرة أن دخلت ذلك المتجر؛ فكلما اضطرت إلى شراء أي شيء - جورب قصير مثلا - كانت تذهب إلى متجر كالاجان لملابس الرجال والنساء والأطفال. كانت قد ورثت الكثير من الثياب عن السيدة ويليتس، أشياء مثل هذا المعطف الذي لن يبلى نسيجه أبدا. أما عن سابيتا - الفتاة التي تقوم برعايتها في منزل السيد ماكولي - فإن بنات عمها كن يمطرنها بأشيائهن الغالية الفائضة عن الحاجة.
في واجهة متجر ملادي تقف اثنتان من تماثيل المانيكان ترتدي كل واحدة طقم تايير بتنورة قصيرة وسترة مربعة قصيرة. أحد الطقمين كان لونه بنيا مذهبا قليلا والآخر كان لونه أخضر ناعما وعميقا. كانت أوراق شجر القيقب كبيرة ومبهرجة ومصنوعة من الورق، موزعة بين أقدام التمثالين وملصقة على الواجهة الزجاجية هنا وهناك. في هذا الوقت من العام، حين كان أغلب الناس منشغلين بكنس وجرف أوراق الشجر المتساقطة وحرقها، كانت تلك الأوراق ذاتها موضع احتفاء هنا. وعلقت على الزجاج لافتة أفقية مكتوبة بخط أسود مائل الحروف تقول: أناقة بسيطة، موضة الخريف.
فتحت الباب ودخلت المتجر.
أمامها مباشرة مرآة بطول القامة أظهرتها في معطف السيدة ويليتس، المعطف الممتاز من حيث الجودة لكنه طويل ومهلهل، يكشف عن بضع بوصات من ساقيها المنتفختين العاريتين فوق الجورب القصير.
لقد فعلوا ذلك عن عمد بكل تأكيد. وضعوا المرآة هناك بحيث يمكنك تكوين فكرة تامة عن عيوبك فورا؛ ومن ثم - كما يأملون - تقفزين إلى نتيجة مفادها أن عليك شراء شيء ما ليغير من هذه الصورة. حيلة مكشوفة تماما كانت من الممكن أن تدفعها لمغادرة المتجر، لولا أنها دخلت بنية سابقة، وهي تعرف ماذا يجب أن تشتري.
على طول أحد الجدران كان هناك حامل معلقة عليه فساتين السهرة، كلها ملائمة لحسناوات ذاهبات إلى حفلات راقصة، بأقمشة الشيفون والتافتاه، والألوان الرقيقة كالأحلام. ومن ورائها، وفي صوان زجاجي بحيث لا يمكن أن تصل إليها أي أصابع قد تدنسها، نصف دستة من أثواب العرس، من دانتيل هائش وناصع البياض أو من ساتان بلون الفانيليا أو شبيك مزخرف بلون العاج السمني، وكلها مطرزة بخرز فضي أو لآلئ صغيرة. الأجزاء المحيطة بأعلى الجسم دقيقة الحجم، وفتحات الصدر واسعة كالمراوح، وتنانير باذخة وواسعة. حتى حين كانت أصغر سنا ما كان بوسعها بالمرة أن تفكر في مثل ذلك الإسراف، ليست فقط مسألة نقود بل مسألة تطلعات، الأمل المستحيل في أن تتغير، وأن تهنأ بالسعادة.
مرت دقيقتان أو ثلاث دون أن يظهر أي شخص. ربما يكون لديهم عين سحرية يختلسون منها النظر إليها، اعتقادا منهم أنها لم تكن من نوعية زبوناتهم المعتادة، ويأملون أن تنصرف.
لن تنصرف. تحركت بعيدا عن انعكاس المرآة - وخطت فوق مشمع الأرضية القريب من الباب إلى سجادة كثيفة الوبر - وأخيرا فتحت الستارة الموجودة في مؤخرة المتجر وخرجت من ورائها السيدة ملادي بنفسها، مرتدية تاييرا أسود بأزرار لامعة. كانت تخطو على حذاء عالي الكعب، بكاحليها النحيفين يحيط بهما بإحكام جورب من النايلون كأنه قشرة فاكهة، وشعرها الذهبي ملموم إلى الخلف بعيدا عن وجهها المزين بالمساحيق. «فكرت أني قد أجرب التايير المعروض في الفاترينة!» هكذا قالت جوهانا بصوت سبق أن تدربت عليه، وأضافت: «الأخضر اللون!»
قالت المرأة: «آه، إنه تايير بديع، المعروض في الفاترينة مقاس عشرة. أما أنت فيبدو أن مقاسك ... ربما أربعة عشر؟»
تحركت بخطوات مزعجة إلى ما وراء جوهانا، نحو جانب من المتجر حيث علقت الثياب العادية، الأطقم وفساتين النهار. «أنت محظوظة. مقاس أربعة عشر موجود.»
كان أول ما فعلته جوهانا هو النظر إلى بطاقة السعر. أغلى بمرتين مما توقعته، ولم تكن تنوي التظاهر بعكس ذلك. «إنه غالي الثمن.»
قالت المرأة: «إنه من أفخر أنواع الصوف.» ثم راحت تنبش هنا وهناك حتى عثرت على بطاقة الصنف، ثم قرأت وصفا للخامة لم تعره جوهانا أذنا مصغية لأنها كانت مدت يديها إلى الحاشية لتفحص الصنعة. «ملمسه كالحرير، لكنه يتحمل كالحديد. يمكنك أن تري أنه مبطن جيدا في كل موضع، بطانة بديعة من حرير طبيعي وحرير صناعي رقيق. لن تجديه يتجعد ويتكسر في المقعد ولن يترهل كما يحدث للأطقم الرخيصة. انظري إلى مخمل طيات الأكمام والياقة والأزرار المخملية الصغيرة على الكم.» «أراها.» «هذه هي التفاصيل الصغيرة التي تدفعين مقابلها، لا يمكن الحصول عليها بطريقة أخرى. كم أحب لمسة المخمل! إنها موجودة فقط على الطقم الأخضر، تعرفين، الطقم المشمشي لا يتحلى بها، على الرغم من أنهما بنفس السعر تماما.»
في عيني جوهانا، كانت حلية المخمل في الكمين والياقة في الحقيقة هي ما أعطت الطقم لمسة الترف اللطيفة التي جعلتها ترغب في شرائه. لكنها لن تقول هذا. «ربما من الأفضل أن أجربه!»
هذا ما كانت قد جاءت وهي مستعدة للقيام به على كل حال. ثياب داخلية نظيفة وبودرة تلك طازجة تحت إبطيها.
كانت المرأة من الكياسة بما يكفي لأن تتركها وحدها في المقصورة الساطعة الضوء. تجنبت جوهانا النظر إلى المرآة كأنها السم إلى أن بسطت التنورة وزررت السترة.
في البداية اكتفت بالنظر إلى التايير. كان على ما يرام. كان المقاس ملائما، التنورة أقصر مما اعتادت عليه ولكن ما اعتادت عليه لم يكن على الموضة. لم يكن هناك مشكلة في الطقم ذاته، المشكلة كانت فيما ينتأ خارجا منه؛ رقبتها ووجهها وشعرها ويديها الكبيرتين وساقيها الغليظتين. «كيف الحال معك؟ أيمكنني إلقاء نظرة؟»
فكرت جوهانا قائلة: يمكنك إلقاء ما تشائين من نظرات ، فنحن أمام حالة نموذجية للفسيخ وكيف قد يصنع منه شراب حلو، كما سوف تكتشفين بنفسك في الحال.
جربت المرأة النظر من جانب واحد، ثم من الجانب الآخر. «طبعا سوف تحتاجين معه جوربا من النايلون وحذاء عالي الكعب. كيف تجدينه عليك؟ مرتاحة؟»
قالت جوهانا: «الطقم يبدو رائعا، المشكلة ليست في الطقم نفسه.»
تمعر وجه المرأة في المرآة، وتوقفت عن الابتسام. بدت خائبة الأمل ومرهقة، ولكن أكثر طيبة ولطفا. «أحيانا هذا ما يحدث تماما. لن تعرفي حقا بالمرة إلا بعد أن تجربي الشيء عليك. الأمر هو ...» ثم أضافت بنبرة جديدة تغشى صوتها، نبرة اقتناع معتدل: «الأمر هو أن تكوين جسمك جميل، ولكنه تكوين قوي. إنك تتمتعين بعظام كبيرة، وما المشكلة في هذا؟ لكن الأزرار الصغيرة المغطاة بالمخمل ليست هي الأنسب لك. لا تهتمي به أكثر من ذلك. اخلعيه وحسب.»
حين بلغت جوهانا ثيابها الداخلية من جديد كانت هناك طرقة خفيضة ويد من خلال الستارة. «ارتدي هذا، على سبيل التجربة لا أكثر.»
فستان صوفي بني اللون، مبطن، بتنورة كالمروحة محتشدة الطيات في أناقة، وبثلاثة أرباع كم وفتحة صدر دائرية بسيطة. الثوب كله من أبسط ما يكون، باستثناء حزام ذهبي رفيع للغاية. لم يكن غالي الثمن كالطقم الآخر، ومع ذلك ظل السعر يبدو لها مرتفعا، مع اعتبار ما بذل فيه.
على الأقل كان طول التنورة أكثر حشمة والقماش يدور في دوامة راقية حول ساقيها. تشجعت ونظرت إلى المرآة.
هذه المرة لم تكن تبدو كما لو كانت محشورة في الثوب على سبيل الدعابة.
أتت المرأة ووقفت إلى جانبها، وضحكت، ولكن في ارتياح. «إن للثوب نفس لون عينيك. أنت بغير حاجة إلى ارتداء المخمل، فإن لك عينين مخمليتين.»
كانت هذه المداهنة لإتمام البيعة من النوع الذي تتهكم منه جوهانا عادة، غير أن المداهنة بدت في هذه اللحظة وكأنها مجاملة صادقة.
لم تكن عيناها كبيرتين، ولو طلب منها أن تصف لونهما لقالت: «أظنه درجة من البني.» ولكن الآن، بدت عيناها وكأن لهما لونا بنيا عميقا حقا، ناعما ولامعا.
ليس الأمر أنها بدأت تعتقد فجأة أنها جميلة أو أي شيء كهذا، كل ما هنالك أن لعينيها لونا لطيفا، كما لو أنهما كانتا قطعة من قماش.
قالت المرأة: «والآن، أراهن أنك لا ترتدين أحذية رسمية كثيرا، ولكن يمكنك ارتداء الجوارب النايلون والاكتفاء بأبسط صندل حريمي، وأراهن أنك لا تضعين حليا، ومعك الحق تماما، فأنت لا تحتاجين إليها مع ذلك الحزام.»
لكي تقطع جوهانا وصلة المبيعات هذه قالت لها: «حسن، من الأفضل أن أخلعه كي يمكنك تغليفه.» شعرت بالأسف لأنها ستحرم من الثقل الناعم للتنورة ومن الشريط الذهبي الوقور حول خصرها. لم يسبق لها خلال حياتها كلها أن خامرها هذا الشعور الأحمق بأن يفتنها شيء ارتدته. «أتمنى أن يكون هذا الثوب من أجل مناسبة خاصة!» هكذا قالت المرأة من بعيد، بينما تعود جوهانا على عجل إلى ثيابها العادية التي تبدت لها الآن كئيبة الصورة.
قالت جوهانا: «المرجح أنه سيكون ثوب عرسي.»
فوجئت هي نفسها بما أفلت من فمها. لم يكن خطأ فادحا؛ فالمرأة لم تكن تعرف من هي، وأغلب الظن أنها لن تتحدث مع أي شخص يعرفها بالفعل. ومع ذلك، فقد كانت تنتوي أن تطوي الأمر في صدرها تماما. لا بد أنها شعرت أنها مدينة لهذه المرأة بشيء ما، وهما اللتان خاضتا معا في غمار كارثة الطقم الأخضر ثم اكتشاف الثوب البني، كانت تلك رابطة جمعتهما. غير أن كل هذا ليس إلا هراء فارغا؛ فالمرأة كانت تعمل في بيع الأثواب، وقد نجحت للتو في مهمتها تلك.
صاحت المرأة: «أوه، ما أروع ذلك!»
حسن، ربما يكون كذلك، هكذا فكرت جوهانا، ثم استدركت من جديد: وربما لا يكون. فربما تكون موشكة على الزواج من أي شخص؛ مزارع بائس يحتاج إلى حصان شغل بجانبه، أو عجوز أنفاسه تصفر ونصف مقعد ويبحث عن ممرضة. ليس لدى هذه المرأة أي فكرة عن الرجل الذي ستقترن به، وهذا ليس من شأنها على كل حال.
قالت المرأة وكأنها قد قرأت تلك الأفكار الساخطة: «أستطيع أن أخمن أنه زواج قائم على الحب. وهذا سبب لمعان عينيك في المرآة. لقد لففته كله في ورق التغليف الشفاف، كل ما عليك هو إخراجه وتعليقه وسوف ينسدل قماشه كأجمل ما يكون. مرري المكواة عليه خفيفا إذا شئت، ولكنك على الأغلب لن تحتاجي إلى ذلك.»
بعد ذلك جاءت مهمة دفع النقود. تظاهرت كل منهما بعدم النظر، لكن كلتيهما نظرت.
قالت المرأة: «يستحق ثمنه؛ فالمرأة منا لا تتزوج إلا مرة واحدة في العمر. وعلى الرغم من ذلك، هذا لا يصدق على كل الحالات دائما ...»
قالت جوهانا: «يصدق على حالتي أنا.» توهج وجهها بالسخونة؛ لأن الزواج، في حقيقة الأمر، لم يذكر بعد. ولا حتى في الرسالة الأخيرة. لقد أفضت إلى هذه المرأة بما تعقد عليه أملها، ولعل في فعلها ذلك ما يجلب النحس.
قالت المرأة بنبرة التهلل الملهوف نفسها: «أين التقيت به؟ ماذا عن موعدكما الأول؟»
قالت جوهانا صادقة: «من خلال الأسرة.» لم تكن تنوي قول أي شيء أكثر من ذلك، غير أنها سمعت نفسها تواصل، قائلة: «المعرض الغربي، في لندن.»
كررت المرأة: «المعرض الغربي، في لندن.» كان يمكنها أن تقول: «حفل القلعة.»
قالت جوهانا: «كنا نستضيف ابنته وصديقتها»، وقد فكرت أنه بطريقة ما سيكون من الأدق أن تقول إنها من كانت في ضيافته هو وسابيتا وإديث، كانت هي - جوهانا - ضيفتهم. «تعرفين، يمكنني أن أقول إن يومي لم يضع سدى؛ فقد وفرت ثوبا لترتديه امرأة وتصير فيه عروسا سعيدة. في هذا الكفاية لتبرير وجودي.» عقدت المرأة شريط زينة قرنفلي اللون بإحكام حول صندوق الثوب؛ مما أسفر عن زهرة كبيرة لا ضرورة لها، ثم شذبتها بالمقص في براعة.
قالت: «أنا موجودة هنا طوال النهار، وفي بعض الأحيان أجدني أتساءل عما أقوم به. أسأل نفسي: ماذا تعتقدين أنك تفعلين هنا؟ أغير المعروض في الواجهة وأقوم بهذا الشيء أو ذلك لأغري الناس بالدخول، ولكن تمر بعض الأيام - أيام كثيرة - ولا أرى روحا واحدة تمر عبر ذلك الباب. أنا أعرف، الناس يعتقدون أن تلك الثياب أغلى ثمنا من اللازم ، ولكنها ثياب جيدة. إنها لثياب جيدة. إذا أردت شيئا ذا جودة عالية فلا بد من دفع سعره.» «لا بد أنهم يأتون حين يريدون شيئا من هذه.» هكذا ردت جوهانا وهي تنظر نحو فساتين السهرة. «وإلا فإلى أي مكان آخر قد يذهبون؟» «هذا هو الأمر. فهم لا يأتون، بل يذهبون إلى المدينة، ذلك هو المكان الآخر الذي يذهبون إليه. يقودون سياراتهم خمسين ميلا، أو مائة ميل، ناهيك عن الوقود الذي يحرقونه، ويحدثون أنفسهم قائلين إنهم بهذه الطريقة يحصلون على شيء أفضل مما لدي هنا؛ ولا يحصلون عليه؛ لا جودة أفضل، ولا ذوق أفضل، لا شيء. كل ما هنالك أنهم سيخجلون إذا قالوا إنهم اشتروا فساتين الفرح من هنا، من البلدة. أو أنهم يأتون إلي ويجربون شيئا ويقولون إن عليهم التفكير بشأنه ... سنعود، هكذا يقولون. وأنا أفكر في نفسي: آه، نعم، أعلم ما معنى ذلك؛ معناه أنهم سيحاولون أن يجدوا الشيء نفسه بسعر أرخص في لندن أو كيتشنر، وحتى لو لم يجدوه أرخص فسوف يشترونه من هناك بعد أن يكونوا قد قادوا سياراتهم كل تلك المسافة وتعبوا من البحث.»
وأضافت: «أنا لا أدري، ربما لو أنني كنت واحدة من السكان المحليين لاختلفت الحال. الناس هنا منغلقون على جماعتهم، كما أرى. أنت لست من السكان المحليين، صحيح؟»
قالت جوهانا: «نعم.» «ألا ترينهم كذلك؟ منغلقين؟»
مجموعة منغلقة على نفسها. «ما أقصده أنه من العسير على شخص غريب عنهم أن ينفذ إليهم.»
قالت جوهانا: «لقد اعتدت أن أكون بمفردي.» «لكنك عثرت على شخص ما؛ لن تكوني بمفردك بعد الآن، أوليس هذا جميلا؟ في بعض الأيام أفكر كم سيكون ذلك رائعا، الزواج والبقاء في البيت. بالطبع، أنا كنت متزوجة، وكنت أعمل على أي حال. آه، حسن. ربما ذات يوم سوف يأتي الرجل الذي يسكن القمر ويدخل إلى هنا ويقع في غرامي وعندئذ كل شيء سيكون على خير ما يرام!»
كان على جوهانا أن تسرع، إن حاجة تلك المرأة للحديث أخرتها. كانت تسرع عائدة إلى المنزل، فلا بد أن تخفي ما اشترته بعيدا قبل أن تعود سابيتا من المدرسة.
ثم تذكرت أن سابيتا ليست هناك، وأن بنت عم أمها - عمتها روكسان - قد أخذتها يوم العطلة الأسبوعية لتعيش في تورونتو حياة تليق بفتاة ثرية، وتذهب إلى مدرسة تليق بالفتيات الثريات. ومع ذلك واصلت جوهانا سيرها بسرعة، بسرعة شديدة حتى إن شخصا متذاكيا استظرف وتشبث بجدار إحدى الصيدليات وصاح بها: «أين الحريق؟» فأبطأت سيرها لكيلا تلفت الانتباه.
كان صندوق الثوب محرجا لها، كيف كان عساها أن تعرف أن المتجر يملك صناديقه الخاصة من الورق المقوى القرنفلية اللون، واسم متجر ملادي مكتوب عليها بخط بنفسجي؟ إشارة تفضح ما كانت تنوي كتمانه.
شعرت بحماقتها لأنها ذكرت مسألة الزفاف، في حين أنه لم يشر إليه بالمرة وكان عليها أن تتذكر ذلك. عدا ذلك أفضى كل منهما بالكثير للآخر - بالكلام أو الكتابة - وبعد أن عبرا عن كل ذلك الولع والشوق، بدا وكأنهما غفلا عن أمر الزواج نفسه. على النحو نفسه الذي قد تتحدث فيه عن استيقاظك في الصباح ولا تذكر شيئا عن تناول الإفطار، على الرغم من أنك تنوي بكل تأكيد أن تتناوله.
على الرغم من ذلك كان عليها أن تطبق فمها على سرها.
رأت السيد ماكولي يسير في الاتجاه المقابل لها على الناحية الأخرى من الشارع. لم تجد ضررا في ذلك؛ فحتى لو أنه التقى بها مباشرة ما كان ليلحظ الصندوق الذي تحمله. كان سيكتفي برفع إصبع نحو قبعته ويمر بها مر الكرام، هذا بافتراض أنه انتبه إلى أنها كانت مديرة منزله، ولكن الأرجح أنه لن يلحظ هذا. كان عقله منشغلا بأمور أخرى، وبحسب ما يعرف الجميع عنه فلعله كان يتطلع نحو بلدة أخرى غير تلك التي يرونها هم. على مدار كل يوم من أيام العمل الأسبوعية - وأحيانا في أيام الأحد والإجازات، بفعل النسيان - كان يرتدي إحدى بدلاته ذات الصديري وفوقها معطفه الخفيف أو الثقيل، وقبعته الرمادية الضيقة الحواف، وحذاءه الملمع جيدا، ثم يسير من طريق المعرض صعودا نحو مكتبه الذي ما زال يحتفط به أعلى ما كان ذات يوم متجرا لسروج الخيل والحقائب الجلدية. كان مكتبه يعتبر مكتبا لبيع بوالص التأمين، على الرغم من أن وقتا طويلا قد مر منذ أن باع فعليا بوليصة تأمين. أحيانا يصعد الناس الدرج ليروه، وربما يسألونه سؤالا ما حول بوالص تأمينهم أو الأرجح سؤالا حول حدود ملكياتهم وأراضيهم، وتاريخ أحد العقارات في البلدة أو مزرعة في الريف المتاخم لها. كان مكتبه ممتلئا بالخرائط قديمها وجديدها، ولم يكن يطيب له شيء في الدنيا أكثر من أن يفردها أمامه ويستغرق في مناقشة سرعان ما تمتد فيما وراء موضوع السؤال المطروح. لثلاث أو أربع مرات في اليوم كان يخرج فجأة ويسير في الشارع، كما هو الآن. في أثناء الحرب كان قد ركن سيارته البويك-ماكلولين في المخزن، عارضا إياها للبيع، وراح يمشي في كل مكان ليكون قدوة للآخرين. وما زال يبدو أنه يقدم قدوة للآخرين، بعد خمسة عشر عاما. كان يبدو - ويداه معقودتان وراء ظهره - مثل مالك أراض يتفقد عقاراته أو مثل واعظ كنيسة يسره أن يراقب أبناء معموديته. وبطبيعة الحال، لم يكن لدى نصف من يقابلهم من الناس أي فكرة عمن يكون هذا الشخص.
لقد تغيرت البلدة، حتى عما كانت عليه حين أتت جوهانا إلى هنا. كانت المتاجر تنتقل إلى الطريق السريع؛ حيث تم افتتاح متجر جديد بأسعار مخفضة، ومتجر كنديان تاير للبيع بالتجزئة، وأيضا فندق صغير مزود بصالون للقاءات والراحة وراقصات عاريات الصدور. حاولت بعض متاجر البلدة أن تحسن من هيئتها بطلاء قرنفلي أو بنفسجي فاتح أو زيتوني، لكن هذا الطلاء تقشر عن الآجر القديم وصارت بواطن الجدران عارية في بعض المواضع. كان من المحتم تقريبا أن يحذو متجر ملادي حذو سابقيه.
لو أن جوهانا كانت هي مالكته، ماذا كان عساها أن تصنع؟ مبدئيا، لم يسبق لها بالمرة أن اقتربت من فساتين سهرة متقنة الصنع بهذا العدد. ماذا يمكنها أن تصنع بدلا من ذلك؟ فإن هي تحولت إلى الثياب الأرخص ثمنا فستضع نفسها في منافسة متجر كالاهانز والمتجر الآخر ذي الأسعار المخفضة، والأغلب أنه لن توجد حركة بيع وشراء كافية للاستمرار. ولكن ماذا لو أنها تعاملت في ثياب الرضع الجذابة، وثياب الأطفال، لتحاول أن تجذب إليها الجدات والعمات والخالات اللاتي لديهن من المال ما ينفقنه على مثل ذلك النوع من الأشياء؟ انسي الأمهات؛ فهن يذهبن إلى كالاهانز، بما لديهن من نقود أقل وعقول أرجح.
ولكن إذا كانت هي - جوهانا - في موضع المسئولية، فما كانت لتستطيع أن تجذب إلى معروضاتها أي إنسان. إنها بارعة في أن ترى ما يجب عمله، وكيف يجب إتمامه، وكانت تعرف كيف توجه الآخرين وتشرف عليهم حتى يتم العمل، ولكن لم يكن بوسعها بالمرة أن تجذب الأنظار أو تفتن الألباب. فلن يكون شعارها إلا: ما بين البائع والشاري يفتح الله! ولا شك أن الآخرين كانوا سيقولون: يفتح الله.
كان من النادر أن ينجذب إليها إنسان، وقد كانت على دراية بذلك لفترة طويلة. بالتأكيد لم تذرف سابيتا الدموع عند وداعها، على الرغم من أنه يمكن القول إن جوهانا كانت لسابيتا أقرب إلى الأم، منذ أن توفيت أمها. سوف يشعر السيد ماكولي بالضيق لرحيلها لأنها كانت تقدم خدمة جيدة وسيكون من العسير أن يجد من تحل محلها، غير أن ذلك سيكون كل ما يفكر فيه. كان هو وحفيدته مدللين وأنانيين. أما عن الجيران فلا شك أنهم سوف يبتهجون لرحيلها؛ فقد اشتبكت جوهانا في مشكلات مع كلا الجانبين من العقار. على أحد الجانبين كان كلب الجيران يحفر في أرض حديقتها، ليدفن مئونته من العظام ثم يستردها، وهو الأمر الذي كان ينبغي أن يفعله في بيته. وعلى الجانب الآخر كانت شجرة الكرز الأسود، وهي ضمن ملكية آل ماكولي، تحمل أغلب ثمارها من التوت على الفروع المعلقة فوق الباحة المجاورة. في الحالتين خاضت جوهانا شجارا، وانتصرت. تم ربط الكلب جيدا وترك الجيران الآخرون ثمار الكرز في حالها. إذا تسلقت السلم المتنقل كان يمكنها بلوغ الجزء الممتد فوق باحتهم، لكنهم ما عادوا يطردون الطيور بعيدا عن الفروع، وقد أثر هذا على مقدار ما تجمعه.
أما عن السيد ماكولي فقد كان يتركهم يقطفون ما شاءوا، وكان يترك الكلب يحفر. كان يترك نفسه يستغله الآخرون. جانب من الأمر أن هؤلاء كانوا أناسا جددا في منازل جديدة لذا فضل ألا يوليهم أي اهتمام. في وقت ما لم يكن هناك إلا ثلاثة أو أربعة منازل كبرى في طريق المعرض. وفي الجهة المقابلة لتلك المنازل كانت الأرض المخصصة للمعارض، حيث يقام معرض الخريف (المسمى رسميا بالمعرض الزراعي، ومن هنا جاء الاسم)، وما بين ذلك كانت أشجار الفاكهة، ومروج صغيرة. قبل اثني عشر عاما أو نحو ذلك بيعت تلك الأرض بمساحات منتظمة ثم بنيت المنازل؛ منازل صغيرة بطرز غير منسجمة؛ فهذا طراز بطوابق عليا وذلك من دونها، بعضها بدا باليا للغاية الآن.
لم يعد هناك إلا منزلان يعرف السيد ماكولي القاطنين فيهما ويحتفظ بمودتهم؛ الآنسة هود معلمة المدرسة وأمها، وكذلك منزل عائلة السيد شولتز، الذي كان يدير متجر إصلاح الأحذية. كانت ابنة عائلة شولتز، إديث، أقرب صديقات سابيتا، أو كانت كذلك بالأحرى. كان الأمر طبيعيا بسبب وجودهما معا في نفس الصف الدراسي بالمدرسة - على الأقل حتى العام الماضي، حين تراجعت سابيتا عاما دراسيا - والعيش إحداهما بالقرب من الأخرى. لم يمانع السيد ماكولي ذلك، وربما كان يعلم أن سابيتا سوف يتم إبعادها قبل مرور وقت طويل لكي تعيش حياة من نوع مختلف في تورونتو. لو خيروا جوهانا لما اختارت إديث صديقة لسابيتا، على الرغم من أن الفتاة ما كانت فظة قط، وما كانت مزعجة حين كانت تأتي للمنزل. أيضا لم تكن غبية. لعل تلك كانت المشكلة؛ فقد كانت ذكية وسابيتا لم تكن بالغة الذكاء. وقد جعلت من سابيتا شخصا ماكرا.
انتهى ذلك كله الآن. الآن ظهرت تلك العمة روكسان - أو السيدة هوبير - ولم تصبح ابنة شولتز سوى جزء من ماضي سابيتا وطفولتها.
سوف أرتب أمر إرسال أثاثك كله إليك على متن القطار بأسرع ما يمكنهم أخذه وسوف أدفع لهم مقدما بمجرد إبلاغي كم سيتكلف نقله. كنت أفكر أنك سوف تحتاج إليه الآن. أظن أنه ليس من المفاجئ لك أنني فكرت في أنك لن تمانع إذا سافرت أنا أيضا لأكون عونا بجانبك كما أتمنى أن أكون.
كانت هذه هي الرسالة التي أخذتها إلى مكتب البريد، قبل أن تذهب لتتم الإجراءات في محطة القطار. كانت الرسالة الأولى التي ترسلها إليه مباشرة، أما الرسائل الأخرى فكانت تنسل داخل الرسائل التي كانت تجعل سابيتا تكتبها. رسائله أيضا كانت تصل إليها بالطريقة ذاتها، مطوية بعناية وباسمها، جوهانا، مكتوبا بالآلة الكاتبة على ظهر الصفحة بحيث لا يقع أي خطأ. أبعد ذلك من يعملون في مكتب البريد من اكتشاف أمرهما، ولا ضرر أبدا من توفير طابع بريد. بالطبع كان يمكن لسابيتا أن تبلغ جدها، أو حتى أن تقرأ ما كان مكتوبا من أجل جوهانا، غير أن سابيتا كانت قد فقدت الاهتمام بالتواصل مع الرجل العجوز، فضلا عن فقدانها الاهتمام بالرسائل، سواء كتابتها أو تلقيها.
كان الأثاث مخزنا بالخلف في الحظيرة، التي كانت حظيرة خالية، وليست حظيرة حقيقية بحيواناتها وصومعتها لتخزين الغلال. حين ألقت جوهانا نظرة عليه قبل عام أو نحو عام وجدته مغطى بطبقة من الغبار وملوثا ببراز اليمام، وقد كومت قطع الأثاث بعضها فوق بعض دون تغطيتها بأي شيء. قامت بسحب ما استطاعت أن تحمله إلى خارج الحظيرة؛ مما أتاح لها مساحة في الحظيرة للوصول إلى القطع الكبيرة التي لم تتمكن من حملها؛ الأريكة والبوفيه وخزانة أطقم الطعام الصينية ومائدة الطعام. أما الهيكل الخشبي للسرير فقد استطاعت تفكيكه إلى أجزاء. مسحت على الأخشاب بقطع قماش ناعمة لإزالة الغبار، ثم بزيت الليمون، وحين أتمت المهمة كان الأثاث يبرق مثل قطع الحلوى، حلوى بلون العسل فيها تموجات الأخشاب. بدت في عينيها فاتنة، وكأنها ألحفة من الساتان وشعر أشقر. فاتنة وحديثة الطراز، وعلى العكس تماما من أثاث البيت الذي ترعى شئونه، بأخشابه الداكنة ونقوشه المزعجة. كانت تفكر فيه باعتباره أثاثه هو، وما زالت تعتقد ذلك حتى حين أرسلته في هذا الأربعاء. كانت قد فرشت ألحفة قديمة لتحمي كل قطعة مما سيوضع فوقها، وملاءات فوق ما وضع في الأعلى لحمايته من الطيور؛ ونتيجة لذلك لم يكن هناك إلا طبقة خفيفة من الغبار. نظفت كل شيء ومسحته بزيت الليمون قبل أن تعيده كما كان، محميا على النحو ذاته، في انتظار الشاحنة يوم الجمعة.
عزيزي السيد ماكولي
سوف أرحل في قطار هذا الأصيل (الجمعة). أدرك أنني أفعل هذا دون أن أعطيك إشعارا سابقا برحيلي كما يجب، لكنني سوف أتنازل عن آخر أجر لي، وهو ما سيكون قيمته ثلاثة أسابيع في يوم الإثنين المقبل. توجد طبخة خضار باللحم البقري على الموقد في قدر البخار ليست بحاجة إلا إلى تسخينها. هناك ما يكفي لثلاث وجبات أو ربما لوجبة رابعة. بمجرد أن تسخن وتأخذ منها كل ما تريد أعد الغطاء من جديد وضعها في الثلاجة. تذكر أن تضع الغطاء فوق القدر في الحال لكيلا تدع أي فرصة لأن تفسد. أطيب التمنيات لك أنت وسابيتا وسوف أتواصل معكما غالبا بمجرد أن يستقر بي المقام. جوهانا باري.
ملحوظة: لقد قمت بشحن أثاثه إلى السيد بودرو فقد يحتاج إليه. وتذكر عند إعادة تسخينك للطبيخ أن هناك ماء بما فيه الكفاية في الجزء السفلي من قدر البخار.
لم يجد السيد ماكولي أي مشقة في اكتشاف أن التذكرة التي اشترتها جوهانا كانت إلى جدينيا، في ساسكاتشوان. اتصل بالمحطة وسألهم. لم يستطع أن يصف لهم جوهانا - أتبدو عجوزا أم شابة، نحيفة أم بدينة إلى حد ما، ماذا كان لون معطفها؟ - غير أن ذلك كله لم يكن له ضرورة بمجرد أن ذكر أمر الأثاث.
عندما ورد هذا الاتصال كان ثمة بضعة أشخاص في المحطة ينتظرون قطار المساء. حاول ناظر المحطة أن يحتفظ بصوته خفيضا في البداية، لكنه سرعان ما أصبح منفعلا حين سمع بأمر الأثاث المسروق (كان ما قاله السيد ماكولي فعليا: «وأعتقد أنها أخذت معها بعض الأثاث.») أقسم الناظر أنه لو كان يعلم من كانت وما الذي كانت تنوي فعله لما سمح لها قط بأن تضع قدما على متن القطار. هذا القسم المؤكد تناهى إلى الأسماع وكررته الألسن وصدقه الناس، دون أن يتساءل أي شخص كيف كان عساه أن يوقف امرأة ناضجة دفعت ثمن تذكرتها، ما لم يكن لديه دليل ما في التو والحال على أنها كانت لصة. غير أن أغلب من رددوا كلماته آمنوا أنه كان بوسعه إيقافها وأنه كان يحق له ذلك؛ كانوا يؤمنون بسلطة نظار محطات السكك الحديدية وسلطة الرجال المسنين ممن يمشون منتصبي القامة مرتدين بدلات ذات ثلاث قطع أمثال السيد ماكولي.
كانت طبخة الخضار باللحم ممتازة، كما كان عهده بطبخ جوهانا على الدوام، غير أن السيد ماكولي وجد نفسه عاجزا عن ابتلاعها. تجاهل تعليماتها بخصوص الغطاء فترك القدر مكشوفا على الموقد ولم يكلف نفسه حتى مشقة أن يطفئ الموقد حتى تبدد جميع الماء الموجود في قعر قدر البخار ولم ينتبه إلا على رائحة المعدن الذي احترق حتى انبعث منه الدخان.
كانت هذه هي رائحة الغدر.
نصح نفسه بأن يشعر بالامتنان؛ فعلى الأقل هناك من يرعى سابيتا ولم يعد مضطرا لأن يقلق حيال ذلك. كانت قريبته تلك - ابنة عم زوجته في الحقيقة؛ روكسان - قد كتبت إليه لتخبره بأنها مما رأته من سابيتا خلال زيارتها الصيفية لبحيرة سيمكوي، تعلم أن الفتاة سوف تحتاج إلى معاملة خاصة. «بصراحة لا أظنك أنت وتلك المرأة التي وظفتها لديك ستكونان مستعدين لذلك عندما تبدأ قطعان الصبية في التجمع حولها.»
لم يبلغ بها الحد أن تسأله إن كان يريد أن يجد مارسيل أخرى بين يديه، بيد أن ذلك هو ما كانت تقصد قوله. قالت إنها سوف ترسل سابيتا إلى مدرسة جيدة؛ حيث يمكنها أن تتعلم آداب السلوك على الأقل.
أدار جهاز التليفزيون كوسيلة للتلهي، ولكن بلا جدوى.
كانت مسألة الأثاث هي ما أثار سخطه. كان الأثاث ملكا لكين بودرو.
والحقيقة أنه قبل ثلاثة أيام فقط - في ذلك اليوم ذاته الذي اشترت فيه جوهانا تذكرتها، كما أبلغه بذلك ناظر المحطة - تلقى السيد ماكولي رسالة من كين بودرو يطلب منه (أ ) بعض النقود على سبيل مقدم بضمان الأثاث الذي يخصه (كين بودرو) هو وزوجته الراحلة، مارسيل، والذي كان مخزنا في حظيرة السيد ماكولي، أو (ب) إن لم يجد وسيلة لفعل ذلك، أن يبيع الأثاث بأكبر سعر يمكنه التوصل إليه ثم يرسل المال بأسرع وقت ممكن إلى ساسكاتشوان. ذلك دون أن يذكر أي شيء عن القروض السابقة التي أقرضها الحمو لصهره، وكلها بضمان قيمة هذا الأثاث وتزيد قيمتها عن أفضل سعر يمكن أن يباع به. أيمكن أن يكون كين بودرو قد نسي كل ذلك؟ أم أنه ببساطة يأمل - وهو الاحتمال الأكثر ترجيحا - أن يكون حموه هو الذي نسي؟
كان الآن، على ما يظهر، مالكا لفندق. لكن الخطاب كان ممتلئا بالانتقادات اللاذعة ضد المالك السابق له، الذي خدعه فيما يخص تفاصيل شتى.
قال: «لو استطعت فقط أن أتجاوز هذه العقبة! من بعدها أنا واثق بأنني أستطيع إنجاح المشروع.» ولكن ماذا كانت العقبة؟ حاجته العاجلة إلى المال. غير أنه لم يقل إن كان هذا المال سوف يذهب إلى المالك السابق، أم إلى البنك، أم إلى شخص استدان منه برهن العقار، أم ماذا! كانت هي القصة القديمة ذاتها؛ النبرة اليائسة والمتملقة الممتزجة بشيء من العجرفة، وإحساس بأنه يطلب حقا له، بسبب ما ابتلي به من جراح، ما عاناه من خزي من جراء مارسيل.
على الرغم من هواجسه العديدة، تذكر أن كين بودرو كان على كل حال زوج ابنته، وقد خاض الحرب وعانى في زواجه ما لا يعلمه إلا الله من كروب؛ لذلك فقد جلس السيد ماكولي وكتب رسالة يخبره فيها أنه ليس لديه أي فكرة كيف عساه أن يحصل على أفضل سعر للأثاث، وأنه سيكون من العسير للغاية عليه أن يكتشف وسيلة لذلك، وأنه يرفق بالرسالة شيكا، وهو ما سيعتبره قرضا شخصيا محضا. وتمنى لو أن زوج ابنته يعتبره كذلك أيضا، وأن يتذكر عددا من القروض الشبيهة التي أقرضها له فيما مضى، وكما يعتقد، فإن مجملها يتجاوز أي قيمة للأثاث. أدرج أيضا قائمة بالتواريخ والمبالغ المالية. ففيما عدا خمسين دولارا دفعها صهره له قبل ما يقرب من العامين (مع وعد بأن يتبعها دفعات سداد منتظمة)، لم يتلق منه شيئا. وعلى صهره هذا أن يفهم بالطبع أنه نتيجة لكل تلك القروض من دون أي فائدة التي لم ترد فإن دخل السيد ماكولي قد انخفض، بما أنه كان يمكنه استثمار هذا المال لولا ذلك.
فكر أن يضيف: «أنا لست الأحمق الذي يبدو أنك تعتبرني إياه!» غير أنه أحجم عن ذلك، بما أن ذلك سيكشف عن سخطه وربما ضعفه.
وانظر الآن ما كان منه، لقد باغت غريمه وجند جوهانا - كان دائما قادرا على التعامل مع النساء - وحصل على الأثاث علاوة على الشيك. لقد دفعت ثمن الشحن من جيبها الخاص، كما أبلغه ناظر المحطة. قطع الأثاث الحديثة اللامعة المظهر والمصنوعة من خشب القيقب قد بولغ في قيمتها في المعاملات بينهما بالفعل ولا تستحق الكثير مقابلا لها، وخصوصا إذا وضع في الاعتبار كلفة النقل بالقطار. لو كان هذان الاثنان أكثر براعة لكانا أخذا شيئا من المنزل؛ إحدى الخزائن العتيقة أو أرائك ردهة الاستقبال غير المريحة لدرجة تنفر من الجلوس عليها، التي تم صنعها وشراؤها في القرن الماضي. كان ذلك بالتأكيد سيكون سرقة صريحة. ولكن ما فعلاه لم يبتعد عن ذلك كثيرا.
توجه للنوم في فراشه وقد عقد عزمه على مقاضاتهما.
استيقظ في المنزل وحيدا، دون رائحة قهوة أو إفطار تنبعث من المطبخ، بدلا من ذلك، كانت هناك نفحة متبقية ما زالت في الهواء من أثر احتراق القدر. لسعة برودة فصل الخريف استقرت في جميع الغرف العالية السقوف، المهجورة من أهلها. كان الجو دافئا حتى المساء السابق فقط أو في المساءات السابقة عليه؛ ذلك لأن نيران الفرن لم تكن قد انطفأت بعد، وحين قام السيد ماكولي بإشعاله كان الهواء الدافئ مصحوبا بهبة من رطوبة القبو، هبة من رائحة عفن وأرض وتحلل. اغتسل وارتدى ثيابه في بطء، مع وقفات من شرود اللب، ثم فرد بعضا من زبدة الفول السوداني على قطعة من خبز ليفطر. إنه ينتمي إلى جيل يقال إن رجاله غير قادرين حتى على غلي بعض الماء، وكان هو أحد هؤلاء. نظر عبر النوافذ الأمامية فرأى الأشجار على الجانب الآخر من مضمار السباق يلفها ضباب الصباح، الذي بدا وكأنه يزيد ويتقدم، لا يتراجع كما ينبغي أن يكون في هذه الساعة، عبر المضمار ذاته. بدا وكأنه يرى في الضباب الأبنية غائمة الصورة لأراضي المعرض القديم؛ أبنية حميمة ورحبة، وكأنها حظائر ضخمة. انتصبت تلك الأبنية لسنوات وسنوات دون أن تستخدم - طوال فترة الحرب - وقد نسي ما الذي حل بها في النهاية. هل حل بها الخراب، أم سقطت متهدمة؟ إنه الآن يمقت السباقات التي كانت تقام فيها، الحشود ومكبرات الصوت وشرب المسكرات غير القانوني والضجيج الجائح لأيام الآحاد في الأصياف. عندما تذكر ذلك تذكر ابنته المسكينة مارسيل، جالسة على سلم الشرفة تصيح على زميلاتها في المدرسة الناضجات بينما هن يخرجن من السيارات المركونة ويهرعن لمشاهدة السباقات. تذكر الضجة التي كانت تثيرها، والبهجة التي كانت تعرب عنها لرجوعها إلى البلدة، تبادل الأحضان معهن وتأخيرهن والتحدث بسرعة ميل في الدقيقة، والثرثرة دون التقاط الأنفاس حول أيام الطفولة وكيف أنها افتقدت جميع الناس هنا. كانت قد قالت إن الأمر الوحيد غير المثالي بشأن حياتها كان افتقادها لزوجها، كين، الذي سافر إلى الغرب لظروف عمله.
كانت تخرج إلى الشرفة وهي مرتدية منامتها الحريرية، وبشعرها الأشقر المصبوغ غير المصفف. كانت ذراعاها وساقاها نحيلة، لكن وجهها كان منتفخا إلى حد ما، وما زعمت أنه سمرة أضفتها الشمس عليها لم يكن إلا لونا بنيا يشي بالمرض، ربما مرض الصفراء.
أما الطفلة فقد بقيت بالداخل تشاهد التيلفزيون، برامج الرسوم المتحركة ليوم الأحد التي كانت كبيرة على مشاهدتها بكل تأكيد.
لم يستطع أن يعرف ما المشكلة، أو أن يكون على ثقة من وجود أي مشكلة أساسا. سافرت مارسيل إلى لندن لمعالجة مرض من أمراض النساء هناك، وتوفيت في المستشفى. وحين اتصل تليفونيا بزوجها ليخبره، قال كين بودرو: «ما الذي تناولته؟»
لو أن أم مارسيل كانت لا تزال على قيد الحياة، هل كانت الأمور ستختلف ولو قليلا؟ الحقيقة أن أمها، حين كانت لا تزال حية، كانت لا تقل عنه هو حيرة وارتباكا. كانت تجلس في المطبخ تبكي بينما كانت ابنتهما المراهقة، والمحبوسة في غرفتها المغلقة عليها، تنزل من النافذة وتنزلق إلى سطح الشرفة الخارجية حيث ترحب بها حمولة سيارة من الشباب.
كان المنزل مفعما بشعور الهجران القاسي القلب، بالخداع. لا شك أنه كان هو وزوجته والدين طيبين، قادتهما مارسيل إلى قبول الأمر الواقع. وحين فرت بصحبة طيار، تمنيا لها أن تكون بخير. كانا كريمين مع الاثنين كما لو كانا يتعاملان مع زوجين شابين هما الأكثر مراعاة للأصول. لكن ذلك كله انهد وانهار. وعلى النحو ذاته كان كريما أيضا مع جوهانا باري، وانظروا كيف عاملته هي أيضا كأنه خصمها!
سار إلى وسط البلدة وتوجه إلى الفندق ليتناول إفطاره. قالت النادلة له: «لقد استيقظت باكرا نشطا هذا الصباح.»
وفيما كانت لا تزال تصب له قهوته شرع يخبرها كيف أن مدبرة منزله تركته ورحلت دون أي إنذار أو استفزاز، ولم تكتف بأن تترك وظيفتها دون إشعار سابق وحسب، بل إنها أخذت حمولة من الأثاث كانت تخص ابنته، ويفترض أنها الآن تخص زوج ابنته. ولكن هذا ليس صحيحا؛ فقد تم شراء هذا الأثاث بمال عرس ابنته. أخبرها كيف تزوجت ابنته من طيار، وسيم، كان يبدو شخصا مقبولا ولكن سرعان ما اتضح أنه ليس محلا للثقة.
قالت له النادلة: «اعذرني، لكم أود أن أثرثر قليلا، ولكن ينتظرني أناس لأقدم لهم إفطارهم. اعذرني!»
صعد الدرج إلى مكتبه، وهناك، كانت الخرائط القديمة التي كان يدرسها أمس مفرودة على مكتبه؛ إذ كان يحاول جاهدا أن يحدد بالضبط أول أرض تم استخدامها في دفن الموتى في البلدة (ثم هجرت في عام 1839 بحسب اعتقاده). أضاء النور وجلس، لكنه اكتشف أنه لا يمكنه التركيز. بعد زجر النادلة له - أو ما اعتبره هو زجرا - ما عاد بمقدوره تناول إفطاره أو الاستمتاع بقهوته. قرر أن يخرج من المكتب للتمشية حتى يهدأ.
لكنه بدلا من أن يسير على طول طريقه المعتاد، محييا الناس وهو مار يبادلهم كلمات معدودة، وجد نفسه ينطلق في خطب مطولة؛ ففي اللحظة ذاتها التي كان يسأله أي شخص عن حاله هذا الصباح يشرع هو في التحدث تلقائيا عن محنه وكروبه، بطريقة أبعد ما تكون عن شخصيته، بل حتى شائنة له، ومثل النادلة كان لدى أولئك الأشخاص شئون يعتنون بها فيومئون برءوسهم ويجرجرون أقدامهم وهم يبدون له الأعذار للإفلات منه. ولم يبد أن الصباح راح يصير أكثر دفئا على نحو ما هو معتاد في صباحات الخريف الكثيفة الضباب؛ ولم تكن سترته تدفئه بما يكفي؛ فالتمس الراحة في المتاجر.
كان أكثر الأشخاص ذهولا لسلوكه هذا هم من عرفوه لزمن أطول. لقد اتسم بالكتمان وقلة الكلام طول عمره؛ إذ كان ذلك السيد النبيل المراعي للأصول جيدا، عقله هائم في أزمنة أخرى، وكان تهذيبه اعتذارا بارعا عن تميزه (وهو ما كان مزحة من نوع ما؛ لأن التميز كان غالبا في ذكرياته وغير واضح للآخرين). لا بد أنه آخر شخص قد يجاهر بالإساءات أو يلتمس تعاطف الآخرين معه - لم يفعلها حين ماتت زوجته، أو حتى حين ماتت ابنته - ومع ذلك فها هو ذا يخرج من جيبه رسالة ما، ومتسائلا: أليس من العار على هذا الشخص أن يأخذ منه المال مرارا وتكرارا؟ وحتى الآن حين أخذته الشفقة مجددا بهذا الشخص فإنه تآمر مع مدبرة منزله لسرقة الأثاث. ظن البعض أنه كان يتحدث عن الأثاث الخاص به هو، فاعتقدوا أن العجوز قد ترك دون سرير أو مقعد في منزله، ونصحوه أن يتجه إلى الشرطة.
قال: «ذلك بلا فائدة، لا فائدة من ذلك. لن أحصل على شيء إلا بطلوع الروح.»
دخل إلى محل تصليح الأحذية وحيا هيرمان شولتز. «أتذكر ذلك الزوج من الأحذية الطويلة الرقبة الذي جددت لي نعليه، الحذاء الذي اشتريته من إنجلترا؟ جددتهما لي من أربع أو خمس سنوات!»
كان المحل أقرب إلى كهف، مزود بلمبات مؤطرة تتدلى فوق مواقع عمل متعددة. كان هواء المكان لا يطاق، غير أن تلك الروائح الرجولية كانت موضع ترحيب لدى السيد ماكولي، روائح الغراء والجلد والورنيش الملمع ونعال اللباد المقصوصة مؤخرا أو تلك القديمة البالية. هنا كان جاره هيرمان شولتز، حرفي خبير شاحب الوجه، بنظارة طبية، وكتفين محدبتين، مشغولا في جميع الفصول بدق مسامير حديدية وأخرى مدببة، وبسكين معقوفة بارعة يقطع من الجلد الأشكال المطلوبة. كان اللباد يقص بشيء يشبه منشارا دائريا منمنما. انبعث صوت حفيف من الفرش وصوت قشط خشن من عجلة السنفرة، وراح حجر التلميع على حافة الأداة يغني عاليا كأنه حشرة آلية وأخذت ماكينة الخياطة تثقب الجلد بإيقاع صناعي جاد. كل تلك الأصوات والروائح والنشاطات الدقيقة الخاصة بالمكان كانت قد صارت أليفة بالنسبة إلى السيد ماكولي على مدى سنوات، ولكنه لم يسبق له قط أن تأملها مدققا من قبل. الآن ينتصب أمامه هيرمان، في مريلة العمل الجلدية المسودة اللون، وفي إحدى يديه حذاء برقبة طويلة، ابتسم وأومأ برأسه، ورأى السيد ماكولي حياة الرجل بتمامها في هذا الكهف. تمنى لو أنه أعرب عن تعاطف أو إعجاب أو شيء أكثر من هذا لم يتمكن من فهمه.
قال هيرمان: «نعم أتذكر، كان حذاء لطيفا.» «بل حذاء رائع. أتعرف أنني اشتريته في أثناء رحلة زواجي؟ اشتريته من إنجلترا. لا أذكر من أين بالضبط الآن، ولكن ليس من لندن.» «أذكر أنك أخبرتني بذلك.» «لقد أتقنت العمل عليه. ما زال الحذاء في حالة جيدة. أحسنت صنعا هيرمان! أنت تحسن عملك هنا. تؤدي العمل في أمانة.» «هذا خير.» قالها هيرمان وهو يلقي نظرة سريعة على الحذاء الطويل الرقبة المرفوع على يده. عرف السيد ماكولي أن الرجل كان يريد العودة إلى عمله، ولكنه لم يكن بوسعه أن يدعه. «تلقيت للتو صدمة كاشفة.» «حقا؟»
أخرج العجوز الرسالة وبدأ يقرأ منها أجزاء بصوت عال، مع وقفات تعجب يضحك خلالها ضحكا كئيبا. «التهاب شعبي! يقول إنه مريض بالتهاب شعبي حاد. لا يعرف إلى أين يتوجه. لا أعرف إلى من أتوجه. الحقيقة أنه دائما يعرف إلى أين يتوجه. فعندما يجرب كل السبل يتوجه إلي أنا. بضع مئات فقط حتى أقف على قدمي من جديد. يتوسل ويتضرع إلي بينما يتآمر طول الوقت مع مدبرة منزلي. هل عرفت بذلك الأمر؟ لقد سرقت شحنة بحالها من الأثاث وفرت بها غربا. كانا متعاونين معا مثل يد في قفازها. هذا رجل هرعت لنجدته المرة تلو الأخرى، ولم يسدد بنسا مما عليه. لا، لا، علي أن أكون نزيها وأقول خمسين دولارا. سدد خمسين فقط من مئات ومئات الدولارات ... آلاف. تعرف أنه كان في القوات الجوية في أثناء الحرب. يتبخترون هنا وهناك معتقدين أنهم كانوا أبطال حرب! صحيح، أظن أنه لا ينبغي أن أقول ذلك، ولكني أعتقد أن الحرب قد أفسدت بعضا من أولئك، لم يعد بوسعهم التكيف مع الحياة بعدها قط. ولكن هذا ليس بالعذر الكافي لهم. صحيح؟ لا يمكنني التماس العذر له إلى الأبد بسبب الحرب.» «كلا، لا يمكنك.» «كنت أعلم أنه ليس محل ثقة من أول لقاء جمعني به. هذا هو الأمر العجيب! كنت أعلم ذلك وتركته يخدعني دونما اكتراث. ثمة أشخاص تلك طبيعتهم؛ تأخذك الشفقة بهم لمجرد كونهم لصوصا ومحتالين. لقد حصلت له على وظيفته في شركة التأمين هناك، كان لدي بعض الصلات. ثم أفسد الأمر طبعا. بيضة فاسدة! البعض تلك طبيعتهم.» «أنت محق في هذا.»
لم تكن زوجته السيدة شولتز في المحل ذلك اليوم. عادة ما تكون هي الواقفة أمام النضد، تتسلم الأحذية وتعرضها على زوجها وتعود لتبلغ الزبائن بما قاله، وتكتب قصاصات الورق، وتأخذ النقود عند تسليم الأحذية التي تم إصلاحها. تذكر السيد ماكولي أنها قد أجرت عملية جراحية ما خلال فصل الصيف. «زوجتك ليست هنا اليوم، أهي بخير؟» «رأت أن من الأفضل لها أن تستريح اليوم. معي ابنتي هنا.»
أومأ هيرمان شولتز نحو الأرفف إلى يمين النضد، حيث تعرض الأحذية التي انتهى العمل فيها. أدار السيد ماكولي رأسه ورأى إديث، الابنة، ولم يكن قد لاحظ وجودها لدى دخوله. فتاة نحيفة نحافة الأطفال، بشعر أسود ينسدل مستقيما، وكانت توليه ظهرها، تعيد ترتيب الأحذية. بتلك الطريقة ذاتها كان يبدو أنها تختفي عن النظر ثم تظهر فجأة كلما أتت إلى منزله باعتبارها صديقة سابيتا. لا يمكنك بالمرة أن ترى وجهها رؤية واضحة وتامة.
قال السيد ماكولي: «هل ستساعدين أباك هنا منذ الآن؟ هل أتممت المدرسة؟» «اليوم هو السبت!» هكذا قالت إديث بنصف التفاتة، وابتسامة لا تكاد تبين. «صحيح إنه السبت. حسن، إنه لأمر طيب أن تساعدي أباك على كل حال. لا بد أن تعتني بوالديك. لقد كدحا كثيرا وهما شخصان طيبان.» قال هذا بنبرة اعتذار طفيف، كما لو كان يعلم أنه بدأ يتكلم مثل الوعاظ. «أكرم أباك وأمك، فقد تطول أيامك في ...»
قالت إديث شيئا ما بصوت مهموس لم يسمعه. قالت: «في ورشة تصليح الأحذية.»
فقال السيد ماكولي: «أنا أضيع وقتكما، أفرض نفسي عليكما، لديكما عمل لتعتنيا به.»
قال والد إديث حين انصرف العجوز: «نحن في غنى عن تهكماتك!» •••
أمام وجبة العشاء أخبر أم إديث بكل ما جرى مع السيد ماكولي.
قال: «صار شخصا آخر، أصابه شيء ما.»
قالت: «لعلها جلطة طفيفة.» منذ أن أجرت عمليتها الجراحية - لاستئصال المرارة - أضحت تتحدث حول أمراض الآخرين بنبرة العارف وفي رضاء مطمئن.
الآن وقد ذهبت سابيتا، توارت بداخل نوع آخر من الحياة، الحياة التي كان يبدو أنها تنتظر سابيتا على الدوام، عادت إديث إلى طبيعتها، إلى الشخص الذي طالما كانت عليه قبل أن تأتي سابيتا إلى هنا؛ «أكبر من سنها»، مجتهدة، منتقدة. بعد أن مرت ثلاثة أسابيع في المدرسة الثانوية أدركت أنها سوف تتفوق في جميع المواد الجديدة، اللغة اللاتينية، وعلم الجبر، والأدب الإنجليزي. كما آمنت بأنهم سيميزون تفوقها ويمتدحونه وبأن مستقبلا له شأنه سوف يفتح لها أبوابه. أما حماقات العام الماضي بصحبة سابيتا فقد تبخرت كأن لم تكن.
وعلى الرغم من ذلك حين فكرت في رحيل جوهانا غربا سرت في بدنها رعدة من ماضيها؛ شعور بالذعر تملكها تماما. حاولت أن تضرب بغطاء قوي فوق ذلك، لكن الغطاء ما كان ليستقر في موضعه.
بمجرد أن انتهت من غسيل الأطباق انفردت بنفسها في غرفتها مع الكتاب الذي كان مقررا عليهم في صف الأدب؛ «ديفيد كوبرفيلد».
كانت طفلة لم تتلق من والديها بالمرة إلا أهون التوبيخات الشكلية - والدان أكبر سنا من أن يحظيا بطفلة في سنها، وهو ما كان يقال إنه وراء كونها بتلك الطبيعة - ومع ذلك فقد شعرت بمطابقة تامة بينها وبين ديفيد في وضعه البائس. شعرت بأنها قد تكون شخصا مثله، شخصا قد يكون يتيما أيضا؛ لأنها سوف تضطر إلى الهرب على الأرجح، الهرب ثم الاختباء في مكان ما، وسيكون عليها أن تعتني بنفسها، عندما تنكشف الحقيقة ويسد ماضيها السبل أمام مستقبلها. •••
بدأ كل شيء مع قول سابيتا، وهما في طريقهما إلى المدرسة: «علينا أن نمر بمكتب البريد. يجب أن أرسل رسالة إلى أبي.»
كانتا تذهبان إلى المدرسة وتعودان معا كل يوم. أحيانا تسيران بأعين مغمضة، أو بظهريهما للأمام ووجهيهما للخلف. أحيانا حين تلتقيان أناسا، كانتا تغمغمان بلغو بلا معنى؛ إرباكا للآخرين. أغلب أفكارهما الجيدة كانت من بنات أفكار إديث. الفكرة الوحيدة التي قدمتها سابيتا هي كتابة اسم أحد الأولاد في ورقة واسم إحداهما، ثم حذف كل الحروف المتكررة في الاسمين وإحصاء ما تبقى. ثم التأشير بالعدد المتبقي على الأصابع مع ترديد: كراهية، صداقة، غزل، حب، زواج، حتى الاستقرار على نتيجة لما يمكن أن يحدث بين الفتاة وذلك الفتى.
قالت إديث: «هذه رسالة سميكة.» كانت تلاحظ كل شيء، وتتذكر كل شيء؛ ففي لمح البصر كانت تحفظ صفحات كاملة من الكتب المدرسية بطريقة اعتبرها الأطفال الآخرون إثما وفسادا. «ألديك أشياء كثيرة تكتبينها لوالدك؟» هكذا قالت متعجبة؛ لأنها لا يمكنها تصديق هذا الاحتمال، أو على الأقل لا يمكنها تصديق أن تدون سابيتا على الورقة تلك الأشياء إن وجدت.
قالت سابيتا وهي تتحسس الرسالة: «لم أكتب إلا صفحة واحدة.»
قالت إديث: «حسن، فهمت.» «ماذا فهمت؟» «أراهنك أنها وضعت شيئا آخر فيه. أقصد جوهانا.»
كانت محصلة هذا أنهما لم تأخذا الرسالة مباشرة إلى مكتب البريد، ولكنهما احتفظتا بها وفتحتا المظروف بتعريضه للبخار في منزل إديث بعد المدرسة. كان بوسعهما القيام بمثل تلك الأمور في منزل إديث لأن أمها كانت تعمل طوال اليوم في ورشة تصليح الأحذية.
عزيزي السيد كين بودرو
خطر لي فقط أن أكتب إليك تعبيرا عن شكري لك من أجل الأشياء اللطيفة التي ذكرتها عني في رسالتك لابنتك. ليس عليك أن تقلق من أنني قد أرحل. تقول إنني شخص يعتمد عليه. ذلك هو المعنى الذي فهمته، وهو أمر صحيح في حدود علمي. أنا ممتنة لك، لقولك ذلك، بما أن بعض الناس يعتبر أن شخصا مثلي يعد دون المستوى، ما دام جاهلا بخلفيته وبيئته. وهكذا فكرت أن أخبرك بشيء عن نفسي. لقد ولدت في جلاسجو، غير أن أمي اضطرت للتخلي عني حين تزوجت. أخذت إلى إحدى دور الرعاية في الخامسة من عمري. كنت أنتظر عودتها غير أنها لم تعد، واعتدت على العيش هناك، ولم يكن القائمون على الدار بذلك السوء. في الحادية عشرة من عمري أرسلوني إلى كندا بحسب اتفاق عمل محدد، وعشت مع آل ديكسون للعمل في بساتينهم الصغيرة. كان من ضمن الاتفاق أن أذهب إلى المدرسة، غير أنني لم أحصل إلا على أقل القليل من التعليم. في الشتاء كنت أعمل في المنزل في خدمة السيدة، لكن الظروف دفعتني للتفكير في الرحيل، ولأنني ضخمة وقوية بالنسبة إلى عمري قبلوني للعمل في إحدى دور رعاية المسنين. لم أجد بأسا في العمل، ولكني تركته بحثا عن أجر أفضل وذهبت للعمل في مصنع مقشات. كان للسيد ويليتس مالكه أم مسنة زارت المصنع لترى كيف تسير الأمور، وقد انجذبت كل منا إلى الأخرى بطريقة ما. كان جو المصنع يسبب لي مشكلات في التنفس لذلك قالت إن علي أن آتي وأعمل لديها وهذا ما فعلته. عشت معها 12 سنة على بحيرة اسمها مورنينج دوف تقع في الشمال. لم يكن هناك إلا أنا وهي، ولكنني كنت أتولى رعاية كل شيء داخل المنزل وخارجه، حتى تشغيل الزورق الآلي وقيادة السيارة. تعلمت أن أقرأ قراءة سليمة؛ لأن ضعف عينيها كان يتزايد وكانت تحب أن أقرأ لها. توفيت في عمر 96. لعلك تقول أي حياة هذه بالنسبة إلى شابة، بيد أنني كنت سعيدة. كنا نأكل معا كل وجبة، ونمت في غرفتها خلال فترة العام والنصف الأخيرة. ولكن بعد موتها أمهلتني عائلتها أسبوعا واحدا لأرحل. كانت قد أوصت لي ببعض المال وأحسب أن ذلك لم يرق لهم. أرادت مني أن أنتفع به لأحصل على قسط من التعليم، غير أنني كنت سأحضر مع الأولاد الصغار. وهكذا حين رأيت الإعلان الذي نشره السيد ماكولي في صحيفة جلوب آند ميل أتيت لأستطلع الأمر. كنت أحتاج أن أعمل حتى أتغلب على شعوري بافتقاد السيدة ويليتس. أحسب أنني أضجرتك بهذا الحديث المطول حول تاريخي، ولست مضطرا لأن تطلع على ما جرى حتى لحظتنا الحاضرة. شكرا لك على رأيك الطيب في ولاصطحابي إلى المعرض، فعلى الرغم من أني لست الشخص الذي يهوى ركوب الألعاب وتذوق الأطعمة المختلفة، فقد كان من دواعي سروري دون شك أن أصحبكم.
صديقتك، جوهانا باري
قرأت إديث كلمات جوهانا عاليا، بصوت مستجد وتعبير تعيس. «لقد ولدت في جلاسجو، غير أن أمي اضطرت للتخلي عني بمجرد أن ألقت نظرة علي ...»
قالت سابيتا: «توقفي، سأتعب من كل هذا الضحك!» «كيف وضعت خطابها داخل رسالتك دون أن تعلمي؟» «أخذت مني رسالتي لتضعها في مظروف وتكتب عليه من الخارج العنوان لأنها تظن أن خطي ليس جيدا بما يكفي.»
كان على إديث أن تضع شريطا لاصقا على لسان الظرف من أجل لصقه، بما أنه لم يعد هناك ما يكفي من المادة اللاصقة عليه. قالت: «إنها متيمة به!» «آه، شيء مقزز!» هكذا قالت سابيتا وهي ممسكة بمعدتها، «لا يمكن لها ذلك. جوهانا العجوز!» «ما الذي قاله عنها على أي حال؟» «كلام عادي حول كيف يفترض بي أن أحترمها وأنه سيكون من السيئ للغاية إذا هي رحلت وتركتنا لأننا محظوظون بوجودها معنا، وأنه ليس لديه بيت ملائم لي، كما أن جدي لا يستطيع أن يرعى بنتا بمفرده، وإلى آخر هذا الهراء. وقال إنها سيدة راقية، قال إنه يستطيع أن يحكم على ذلك.» «لهذا إذن صارت «مطيمة» به؟»
بقيت الرسالة مع إديث ليلا، خشية أن تكتشف جوهانا أنها لم يتم إرسالها وأنها مغلقة بشريط لاصق شفاف. ثم أخذتاها إلى صندوق البريد في الصباح التالي.
قالت إديث: «الآن سوف نرى ما الذي سيكتبه ردا عليها. خذي حذرك!» •••
لم تصل أي رسالة لفترة طويلة. وعندما وصلت كانت محبطة. قامتا بفتحها على البخار في منزل إديث، ولكنهما لم يجدا بداخلها شيئا من أجل جوهانا.
عزيزتي سابيتا
يأتي عيد الميلاد هذا العام وأنا في ضائقة مالية نوعا ما، آسف لأنني لا أملك أكثر من ورقة بدولارين لأرسلها إليك! لكنني أتمنى أن تكوني في صحة جيدة وأن تنعمي بعيد ميلاد مبارك وأن تتابعي اجتهادك في المدرسة. أما عني فقد مررت بأزمة صحية؛ إذ أصابني التهاب شعبي حاد، وهو ما يصيبني كل شتاء على ما يبدو، ولكنها المرة الأولى التي يلزمني فيها الفراش قبل أعياد الميلاد. وكما ترين من خلال العنوان البريدي أنا الآن في مكان جديد. كانت الشقة في موقع صاخب ويمر بي فيها كثير من الناس أملا في احتفال. هذا بنسيون صغير، وذلك يناسبني كثيرا بما أنني لم أحسن قط لا التسوق ولا الطهي.
عيد ميلاد مبارك عليك مع حبي، والدك
قالت إديث: «المسكينة جوهانا! سوف ينفطر قلبها.»
فقالت سابيتا: «ومن يهتم؟»
قالت إديث: «إلا إذا فعلناها نحن.» «فعلنا ماذا؟» «أجبنا عليها.»
كان عليهما أن تكتبها رسالتهما على الآلة الكاتبة؛ لأن جوهانا كانت ستلحظ أن الخط ليس خط والد سابيتا. لكن النسخ على الآلة لم يكن أمرا صعبا، فقد كانت هناك آلة كاتبة في منزل إديث، موضوعة فوق منضدة مربعة للعب الورق في الغرفة الأمامية. لقد عملت أمها في أحد المكاتب قبل زواجها وما زالت تكسب مالا يسيرا من كتابة نوعية الرسائل التي يريد لها أصحابها أن تتخذ صبغة رسمية. كانت قد علمت إديث أساسيات النسخ على الآلة الكاتبة، على أمل أن إديث أيضا قد تحصل على وظيفة مكتبية ذات يوم.
قالت سابيتا: «عزيزتي جوهانا، آسف لأنني لا يمكنني أن أغرم بك بسبب كل تلك البثور البشعة على وجهك كله.»
قالت إديث: «سوف أكتب بجدية. أغلقي فمك.»
كتبت على الآلة: «كم سررت بتلقي الرسالة ...» وهي تنطق بالكلمات التي تؤلفها بصوت مسموع، متوقفة بينما تفكر في المزيد، فيما تتزايد نبرة الوقار والرقة في صوتها. تمددت سابيتا على الأريكة، وهي تقهقه. عند نقطة ما أدارت التليفزيون، غير أن إديث قالت لها: «أرجووووك. كيف أستطيع التركيز على «مشاااعري» مع تشغيل كل ذلك البراز؟»
كانت إديث وسابيتا تستخدمان مفردات مثل «براز» و«لبؤة»، و«بحق يسوع المسيح» حين تكونان معا وحدهما.
عزيزتي جوهانا
كم سررت بتلقي الرسالة التي وضعتها داخل خطاب سابيتا وأن أطلع على حياتك. لا بد أنها كانت حياة من الحزن والوحدة، على الرغم من أن السيدة ويليتس تبدو لي سعيدة الحظ لأنها عثرت عليك. لقد بقيت تكدحين دون شكوى، ولا بد لي أن أقول إنني معجب بك إعجابا كبيرا. أما حياتي أنا فقد شابها التنقل والتغير ولم يحدث لي قط أن نعمت بالاستقرار. لا أدري لماذا يعتريني ذلك الشعور الداخلي بالقلق والوحدة، يبدو أن هذا هو قدري وحسب. دائما ما ألتقي بالناس وأتحادث مع الناس، ولكني أحيانا أسأل نفسي: من هو صديقي؟ ثم أتت رسالتك وكتبت في نهايتها: صديقتك، ففكرت: أهي تعني ذلك حقا وصدقا؟ كم ستكون هدية عيد ميلاد رائعة لي إن أخبرتني جوهانا بأنها صديقتي! لعلك كنت فكرت أنها مجرد طريقة لطيفة لإنهاء رسالة وأنك لا تعرفينني معرفة وثيقة بما فيه الكفاية. عيد ميلاد مبارك عليك على كل حال.
صديقك، كين بودرو
عادت الرسالة إلى البيت حيث جوهانا. وانتهى الأمر بكتابة رسالة سابيتا أيضا من جديد على الآلة الكاتبة لأنه ما من سبب يدعو لكتابة إحداهما على الآلة الكاتبة دون الأخرى؟ اقتصدتا في البخار هذه المرة وفتحتا المظروف في حرص شديد بحيث لا تكون بهما حاجة للشريط اللاصق الفاضح.
قالت سابيتا، معتقدة أنها تستعرض ذكاءها: «لماذا لا نحضر مظروفا جديدا ونكتب عليه بالآلة أيضا؟ ألن يفعل ذلك هو نفسه إذا كان يكتب الرسائل على الآلة؟» «لأن المظروف الجديد لن يكون عليه ختم البريد يا أم العريف!» «ماذا لو أنها ردت عليه؟» «سنقرأ ردها.» «صحيح، ولكن ماذا لو أنها ردت عليه وأرسلت الرسالة مباشرة إليه.»
لم تحب إديث أن تبدو وكأنها لم تفكر في ذلك الاحتمال. «لن تفعل ذلك، إنها ماكرة ومتكتمة. على كل، عليك أن تكتبي له الرد بلا تأخير لتوحي إليها بفكرة أن تدس ردها في خطابك.» «كم أكره كتابة الرسائل الغبية!» «هيا، لن يقتلك هذا. ألا تريدين أن تري ماذا ستقول له؟»
صديقي العزيز
لقد سألتني إن كنت أعرفك معرفة وثيقة بما يكفي لأن أعتبرك صديقا، وإجابتي هي: نعم، أعتقد أنني أعرفك جيدا. لم أحظ خلال حياتي كلها إلا بصديقة واحدة؛ السيدة ويليتس التي أحببتها وكانت طيبة للغاية معي، غير أنها توفيت. كانت سنها أكبر من سني كثيرا، والمشكلة مع الأصدقاء الأكبر سنا هي أنهم يموتون ويتركونك. كان الكبر قد بلغ بها عتيا حد أنها كانت تناديني أحيانا باسم شخص آخر. ولم أكن أكترث مع ذلك.
سأخبرك بأمر غريب. تلك الصورة التي أمرت المصور الفوتوغرافي بالتقاطها في المعرض، لك أنت وسابيتا وصديقتها إديث وأنا معكم، لقد كبرتها ووضعتها في إطار وعلقتها في غرفة المعيشة. إنها ليست صورة رائعة ولا شك لأن المصور أخذ منك أكثر مما كانت تستحق، ولكنها خير من لا شيء. ثم حدث أول أمس بينما كنت أمسح الغبار من حولها أنني تخيلت أني أسمعك تقول مرحبا لي. لقد قلت: مرحبا، وتطلعت أنا إلى وجهك على نحو يمكنك أن تراه أنت أيضا في الصورة وقلت لنفسي: حسن، لا بد أنني أفقد عقلي، أو لعلها علامة على رسالة آتية. ما أنا إلا حمقاء؛ فأنا لا أومن جدية بأي من ذلك. ولكن أمس وصل خطابك. وهكذا ترى أنك لا تطلب ما هو أكثر من اللازم مني لأكون صديقتك. إنني أعرف على الدوام كيف أشغل وقتي، ولكن صديقا حقيقيا لهو شيء آخر تماما.
صديقتك، جوهانا باري
بالطبع لم يكن من الممكن أن يعاد وضع تلك الرسالة في المظروف من جديد؛ لأن والد سابيتا كان سيستريب لإشاراتها إلى رسالة لم يكتبها قط. كان لا بد من تمزيق رسالة جوهانا نتفا صغيرة وفتح الماء عليها في مرحاض منزل إديث. •••
حين ورد الخطاب الذي يتحدث بشأن الفندق كانت قد مرت شهور وشهور. كان الفصل صيفا، وكان من حسن الحظ فقط أن تلتقط سابيتا الخطاب بنفسها بما أنها كانت بعيدة عن المنزل لثلاثة أسابيع، مقيمة في بيت ريفي صغير كالكوخ يطل على بحيرة سيمكوي وملك عمتها روكسان وعمها كلارك.
أول ما نطقت به سابيتا تقريبا - بعد أن دخلت إلى منزل إديث - كان: «يا للقرف! رائحة هذا المكان نتنة.» «يا للقرف!» كان تعبيرا التقطته من بنات عمتها.
تنشقت إديث الهواء: «أنا لا أشم أي شيء.» «إنها مثل رائحة ورشة أبيك، فقط أقل بشاعة. لا بد أنهما يجلبانها على ثيابهما وهكذا.»
تولت إديث أمر تبخير الرسالة وفتحها. في طريقها من مكتب البريد اشترت سابيتا من متجر الحلوى والمخبوزات إصبعين من إكلير الشوكولاتة. كانت راقدة على الأريكة تأكل قطعتها.
قالت إديث: «رسالة واحدة فقط. من أجل خاطرك، يا مسكينة يا جوهانا العجوز! بالطبع هو لم يتلق فعليا أيا من رسائلها.»
قالت سابيتا في تسليم: «اقرئيها علي؛ فقد صارت يداي ملوثتين ودبقتين تماما.»
قرأته إديث بإيقاع عملي، ونادرا ما تتوقف عند نقاط نهايات الجمل.
حسنا يا سابيتا، لقد اتخذ حظي في الحياة منعطفا مختلفا، وهكذا كما ترين لم أعد في براندون ولكن في مكان يدعى جدينيا. ولم أعد موظفا لدى أرباب عملي السابق. لقد قضيت شتاء شاقا بصورة تفوق الوصف بسبب مشكلات صدري، وهم - أقصد أرباب عملي - اعتقدوا أن علي أن أعمل بالخارج على الطرقات حتى ولو كنت معرضا لخطر الإصابة بالتهاب رئوي، وهكذا أدى هذا إلى نزاع ما فاتفقنا جميعا على الفراق . غير أن الحظ شيء غريب؛ ففي نفس ذلك الوقت تقريبا صرت أمتلك فندقا. الأمر أكثر تعقيدا من أن أتمكن من شرحه تفصيلا بحذافيره، ولكن إذا أراد جدك أن يعرف فأخبريه بأن رجلا كان مدينا لي بالمال ولم يستطع السداد ترك لي هذا الفندق في المقابل. وها أنا ذا انتقلت من غرفة في بنسيون إلى مبنى فيه اثنتا عشرة غرفة نوم، ومن شخص لا يملك حتى السرير الذي ينام عليه إلى شخص يملك العديد من الأسرة. من الرائع للمرء أن يستيقظ في الصباح وهو يعلم أنه قد صار رب عمل نفسه. هناك بعض الإصلاحات التي علي القيام بها، الحقيقة أنها كثيرة، وسوف أشرع فيها بمجرد أن يدفأ الطقس. سأكون بحاجة إلى توظيف شخص ما لمساعدتي، وفيما بعد سوف أوظف طاهيا جيدا ليكون لدينا مطعم إلى جنب قاعة الشراب. أظن أن هذا سيكون رائجا شأن الكعك الساخن بما أنه لا يوجد مكان آخر لسوانا في البلدة. أتمنى أن تكوني بخير حال وتؤدين واجباتك المدرسية وتكتسبين عادات طيبة.
محبتي، والدك
قالت سابيتا: «ألديك بعض القهوة؟»
فقالت إديث: «قهوة سريعة، لماذا؟»
شرحت لها سابيتا أن القهوة المثلجة كانت هي ما يشربه الجميع في المنزل الريفي وكانوا كلهم مهووسين بها. كانت هي أيضا مهووسة بها. نهضت وعبثت في المطبخ قليلا، غلت الماء وقلبت القهوة مع الحليب ومكعبات الثلج. قالت: «ما يجب أن نتناوله بحق هو آيس كريم الفانيليا، آه يا ربي! أروع شيء في الدنيا. ألا تريدين قطعة الشوكولاتة؟» «آه يا ربي!»
فقالت إديث في لؤم: «نعم أريدها كلها.»
كل تلك التغيرات طرأت على سابيتا في غضون ثلاثة أسابيع فقط، في الوقت نفسه الذي كانت إديث فيه تعمل في الورشة وأمها تتعافى في المنزل من العملية الجراحية. كانت بشرة سابيتا قد بدأت تكتسب لونا بنيا ذهبيا، وقص شعرها فصار أقصر ومنفوشا للخارج حول وجهها. قصته لها بنات عمها وأكسبنه تجعيدة دائمة. كانت ترتدي طقما خفيفا من نوع ما، بسروالين قصيرين يبدوان على شكل تنورة وبصف من الأزرار في الأمام وكشكشة على الكتفين بلون أزرق يتدرج للأفتح. صارت أكثر امتلاء، وحين مالت لالتقاط كأس القهوة المثلجة، الذي كان على الأرض، أبدت شقا ناعما ولامعا فيما بين نهديها.
نهداها؛ لا بد أنهما بدآ في النمو قبل أن تسافر، غير أن إديث لم تلحظهما. ربما كانا من نوعية الأشياء التي تستيقظ الفتاة ذات صباح فتجدها لديها ... أو لا تجدها.
أيا كانت طريقة ظهورهما، فقد ظهرا كإشارة على ميزة تفوق ظالمة وغير مستحقة بالمرة.
كانت سابيتا كثيرة الحديث عن بنات عمتها والحياة في المنزل الريفي. كانت تقول: «اسمعي هذا، لا بد أن أخبرك بهذا، ضحك لحد الصراخ ...» ثم تتحدث بلا هدى حول ما قالته العمة روكسان للعم كلارك حين تشاجرا، وكيف كانت ماري جو تقود سيارة ستان المكشوفة (من هو ستان؟) بعد أن تخفض غطاءها دون أن يكون لديها رخصة قيادة، وتأخذهن كلهن في نزهة بالسيارة، أما الضحك حد الصراخ أو مقصد قصتها فإنه بطريقة أو بأخرى لا يتضح بالمرة.
ولكن بعد فترة جرت أمور أخرى؛ مغامرات الصيف الحقيقية. الفتيات الأكبر سنا - ومن بينهن سابيتا - كن يبتن ليلهن في الطابق العلوي من بيت الضيوف. أحيانا كن يخضن معارك دغدغة؛ فيتجمعن كلهن ضد إحداهن ويدغدغنها حتى تصيح بهن أن يرحمنها وتوافق على أن تنزل سروال بيجامتها ليرين إن كان لديها شعر. كن يروين الحكايات عن تلميذات المدرسة الداخلية اللاتي كن يقمن بأمور بمقابض فرش الشعر، أو فرش الأسنان. يا للقرف! ومرة قدمت فتاتان من بنات العم عرضا؛ فاعتلت إحداهما الأخرى وتظاهرت بأنها صبي ولفت كل منهما ساقيها بساقي الأخرى وراحت تئن وتلهث وتتمادى.
أتت شقيقة العم كلارك وزوجها في زيارة خلال شهر العسل، وقد شاهدوه وهو يضع يده داخل ثوب السباحة الخاص بها.
قالت سابيتا: «إنهما عاشقان حقا، هائمان هكذا ليلا ونهارا.» وضمت وسادة إلى صدرها: «لا يمكن للإنسان أن يمسك نفسه حين يكون عاشقا هكذا.»
كانت إحدى بنات العمة قد أتت ذلك الفعل حقا مع صبي. كان ممن يعملون صيفا في حدائق المنتجع الذي يقع على الطريق المقابل. اصطحبها في نزهة بقارب وهددها بأن يدفعها لتغرق حتى وافقت أن تدعه يفعل بها ما يشاء. وهكذا لم يكن الخطأ خطأها.
قالت إديث: «ألا يمكنها أن تسبح؟»
ضغطت سابيتا الوسادة ما بين ساقيها. قالت: «آااااه، ما ألطف هذا الإحساس!»
كانت إديث على علم بكل ما يخص اللوعات الممتعة التي كانت تحس بها سابيتا، ولكن ما أصابها بالذعر أن يقدم أي شخص على فعل ذلك علنا. وهي نفسها كانت تخشى تلك اللوعات. قبل سنوات، ودون أن تدري حتى ما الذي كانت تفعله، استغرقت في النوم وقد استقرت بطانية ما بين ساقيها، واكتشفت أمها الأمر وأخبرتها بأمر فتاة كان من المعروف أنها تقوم بمثل تلك الأمور طوال الوقت، وفي النهاية اضطروا لإجراء عملية جراحية لها لإصلاح المشكلة.
كانت أمها قد قالت لها: «اعتادوا أن يرشوا عليها الماء البارد، لكنه لم يعالجها؛ ولذلك كان عليهم اللجوء للقص.»
لو لم يفعلوا لكانت أعضاؤها التناسلية احتقنت وربما ماتت البنت.
قالت لسابيتا: «كفى.» ولكن سابيتا راحت تئن وتزوم في تحد وقالت: «هذا لا شيء. كنا جميعنا نفعل مثل هذا. ألم تحضري وسادة لك؟»
نهضت إديث وذهبت إلى المطبخ وملأت كوبها الفارغ من القهوة المثلجة بالماء البارد. وحين عادت وجدت سابيتا ترقد مسترخية على الأريكة، وهي تضحك، وقد سقطت الوسادة على الأرض.
قالت: «ما الذي ظننت أنني كنت أفعله؟ ألم تعرفي أنني كنت أمزح؟»
فقالت إديث: «كنت عطشى.» «شربت حالا كوبا ممتلئا بالقهوة المثلجة.» «كنت عطشى للماء.» «أليس من الممكن المرح معك أبدا؟» ثم انتصبت سابيتا في جلستها مضيفة: «ما دمت عطشى إلى هذا الحد فلم لا تشربينه؟»
جلستا في صمت متعكر قليلا حتى قالت سابيتا بنبرة استرضاء ولكن يشوبها الإحباط مع ذلك: «ألن نكتب رسالة أخرى إلى جوهانا؟ فلنكتب لها رسالة غرام وهيام.»
كانت إديث قد فقدت جزءا كبيرا من اهتمامها بأمر الرسائل، ولكن سرها أن ترى سابيتا لم تفقد اهتمامها بها بعد. عاد إليها بعض من إحساسها بالسلطة على سابيتا، على الرغم من بحيرة سيمكوي والنهدين. تنهدت، كما لو كانت تتمنع وتتردد، ونهضت ورفعت الغطاء عن الآلة الكاتبة.
قالت سابيتا: «جوهانا يا أعز الناس ...» «لا، هذا تعبير مقزز جدا.» «لن تراه هي كذلك.»
فقالت إديث: «بل ستراه كذلك.»
تساءلت في نفسها إن كان ينبغي عليها أن تخبر سابيتا بمخاطر احتقان الأعضاء التناسلية. قررت ألا تخبرها. من ناحية لأن تلك المعلومة تقع في فئة التحذيرات التي تلقتها عن أمها ولا تدري بالمرة إن كان يجب تصديقها أم لا. تلك التحذيرات لم تكن ضعيفة المصداقية، على غرار الاعتقاد بأن ارتداء المرء في المنزل للأحذية المطاطية الخارجية التي تحفظ الحذاء الداخلي من الماء قد يدمر قوة البصر، ولكن ليس هناك من وسيلة للتأكد، وربما تجد وسيلة ذات يوم.
من ناحية أخرى إذا أخبرتها فستضحك سابيتا عليها. إنها تضحك من التحذيرات، سوف تضحك حتى إن قال لها المرء إن أصابع إكلير الشوكولاتة تجعلها بدينة. «في رسالتك الأخيرة ما أسعدني كثيرا ...»
فقالت سابيتا: «رسالتك الأخيرة أفعمتني بالنشوة ...» «أسعدني كثيرا أن أومن بأن لي صديقا حقيقيا في هذا العالم، ألا وهو أنت ...» «يجافيني النوم طوال الليل بسبب شوقي لأن أحطم ضلوعك بين ذراعي ...» قالت سابيتا وهي تحتضن جسدها بذراعيها وتهتز للأمام والوراء. «كلا. كثيرا ما تستولي علي وحدة هائلة على الرغم من حياتي الاجتماعية السربية ولا أعرف لي ملجأ ...» «ما معنى «سربية»؟ لن تفهم لها معنى.» «بل ستفهم.»
أخرس هذا سابيتا وربما جرح شعورها. وهكذا قرأت إديث في النهاية: «لا بد أن أقول وداعا، والطريقة الوحيدة لأفعل ذلك هو أن أتخيلك تقرئين هذا ويتضرج وجهك ...» «أهذا أقرب إلى ما تريدين؟»
قالت سابيتا: «تقرئينه في الفراش وأنت مرتدية ثوب النوم.» ثم صححت سريعا: «وتفكرين كيف سأحطم ضلوعك بين ذراعي وأرضع من حلمتيك ...»
عزيزتي جوهانا
في رسالتك الأخيرة أسعدني كثيرا أن أومن بأن لي صديقا حقيقيا في هذا العالم، ألا وهو أنت. كثيرا ما تستولي علي وحدة هائلة على الرغم من حياتي الاجتماعية السربية ولا أعرف لي ملجأ.
على كل، لقد أخبرت سابيتا في رسالتي بشأن منعطف الحظ الطيب الذي وقع لي وكيف دخلت في مجال إدارة الفنادق. لم أخبرها في الحقيقة كم ساءت حالتي الصحية في الشتاء الماضي لأنني لا أريد أن أقلقها. ولا أريد أن أقلقك أنت أيضا، يا جوهانا العزيزة، أقول ذلك فقط لأخبرك أنني فكرت فيك كثيرا للغاية، واشتقت إلى رؤية وجهك الحلو الحبيب. حين أصابتني سخونة الحمى خيل إلي أنني حقا أراه قريبا مني وسمعت صوتك يخبرني بأنني سوف أتحسن قريبا وأحسست بيديك الطيبتين تسعفانني. كنت أنزل في بنسيون، وحين زالت عني الحمى كان في انتظاري الكثير من المشاكسات من نوع: من هي جوهانا تلك؟ لكنني كنت حزينا لأنني أفقت فلم أجدك هناك بجانبي. إنني لأتساءل حقا إن كان بوسعك أن تحلقي في الهواء لتكوني معي، حتى وإن كنت أعرف أن ذلك غير ممكن. صدقيني، صدقيني، إنني لا أرحب بأي إنسانة ولو كانت نجمة من نجمات السينما أكثر مما أرحب بك أنت. لا أدري إن كان علي أن أخبرك بالأشياء الأخرى التي تخيلتك تقولينها لي لأنها كانت في غاية العذوبة والحميمية، ولكن هذا قد يصيبك بالإحراج. لكم أكره أن أنهي هذه الرسالة لأنني أشعر الآن وكأنني أحيطك بذراعي وأنني أتحدث لك همسا في غرفة مظلمة تخصنا وحدنا أنا وأنت، ولكني لا بد أن أقول وداعا، والطريقة الوحيدة لأفعل ذلك هو أن أتخيلك تقرئين هذا ويتضرج وجهك. سيكون رائعا إذا كنت تقرئينه في فراشك وأنت مرتدية ثوب النوم وتفكرين كيف سأحطم ضلوعك بين ذراعي.
اح ... ك، كين بودرو
كان من المفاجئ على نحو ما ألا يكون هناك رد على هذه الرسالة. حين أتمت سابيتا كتابة نصف الصفحة الخاصة بها، وضعتها جوهانا في المظروف وعنونته وانتهى الأمر. •••
حين نزلت جوهانا عن القطار لم يكن يوجد أحد بانتظارها. لم تدع نفسها تقلق لهذا الشأن؛ فقد فكرت أن رسالتها ربما لا تصل، على كل حال، قبل أن تصل هي نفسها. (والحقيقة أن الرسالة وصلت، وكانت ترقد في صندوق البريد، لكن لم يتسلمها أحد؛ وذلك لأن كين بودرو، الذي لم تكن حالته الصحية في غاية السوء في الشتاء الماضي، مصاب الآن حقا بالتهاب شعبي حاد ولأيام عديدة لم يذهب لتسلم بريده. كان بريده في ذلك اليوم يضم مظروفا آخر، يحوي شيك السيد ماكولي. غير أن الأخير كان قد أوقف صرف الشيك من قبل.)
ما كان مقلقا أكثر لها هو أن المكان لم يظهر وكأنه بلدة. لم تكن المحطة سوى مأوى مسيجا بمقاعد طويلة على طول الجدران ومصاريع خشبية مسدلة على نافذة شباك التذاكر. كانت هناك سقيفة للشحن - افترضت هي أن هذه سقيفة شحن - ولكن الباب المنزلق المؤدي إليها لا يتزحزح من موضعه. اختلست نظرة من بين الألواح الخشبية إلى أن اعتادت عيناها على الظلمة بالداخل فرأت أن المكان خاو، بأرضية قذرة. لا صناديق حاوية ولا أثاث هناك. نادت: «هل من أحد هنا؟ هل من أحد هنا؟» مرات عديدة، ولكنها لم تتوقع إجابة.
وقفت على الرصيف وحاولت أن تملك زمام نفسها.
على بعد نصف ميل كان هناك تل هزيل، تلحظه العين مباشرة لأنه متوج بالأشجار. أما المسار الرملي المنظر الذي اتخذته، فقد اعتقدت، حين رأته من القطار من حارة خلفية مؤديا إلى حقل فلاح، أن هذا لا بد هو الطريق. الآن رأت الأشكال الخفيضة للمباني هنا وهناك ما بين الأشجار، وصهريج مياه بدا من بعيد وكأنه لعبة أطفال؛ جندي من الصفيح بساقين طويلتين.
التقطت حقيبتها - لن يكون هذا عبئا عسيرا عليها؛ فعلى كل حال قامت بحملها من طريق المعارض إلى محطة القطار الأخرى - ثم انطلقت تسير.
كانت هناك ريح تهب، ولكن اليوم كان حارا - أكثر حرارة من الطقس الذي خلفته وراءها في أونتاريو - وحتى الريح بدت حارة هي أيضا. فوق ثوبها الجديد كانت ترتدي المعطف القديم ذاته، والذي كان سيأخذ مساحة هائلة من حقيبة السفر. نظرت في اشتياق أمامها إلى الظل في البلدة، غير أنها حين بلغتها كانت الأشجار إما مدببة كأشجار الصنوبر، وكانت نحيلة وضيقة فلم تفرش أي ظل لها، وإما أشجار الحور القطني بأوراقها الرفيعة الشعثاء، التي تهتز مع الريح فتترك الشمس تتخللها على كل حال.
كان ثمة افتقار محبط للشكل الرسمي، أو أي نوع من التنظيم، لهذا المكان؛ فلا أرصفة مشاة ولا شوارع معبدة، لا مباني فخمة عدا كنيسة كبيرة تبدو أقرب إلى حظيرة من الآجر، وفوق بوابتها رسم زيتي يصور العائلة المقدسة بوجوه في لون الطمي وأعين زرقاء محدقة. كان تسمى تيمنا بقديس غير معروف؛ القديس فويتيتش.
لم يبد أن المنازل قد حظيت بقدر كبير من التدبر والتخطيط سواء من ناحية مواقعها أو تصميمها. كانت تطل بزوايا مختلفة على الطريق، أو الشارع، وأغلبها بنوافذ صغيرة ذات مظهر رديء ملصوقة هنا وهناك، بمداخل مسقوفة للحماية من الثلج بدت وكأنها صناديق تحيط بالأبواب. لم يكن هناك أي شخص بالخارج في باحات البيوت، ولماذا قد يخرجون؟ فلا وجود لشيء قد يعتنون به، فقط كتل من العشب البني وعشبة كبيرة من الرواند، ذبلت وجفت من عدم الاعتناء.
أما الشارع الرئيسي، إن صحت تسميته بذلك، فكان له ممشى خشبي مرتفع على أحد جانبيه، وفيه بعض المباني غير راسخة البناء، منها متجر بقالة (ويشمل مكتب البريد) ومرأب يبدو أنه الوحيد الذي يؤدي عمله. كان هناك مبنى من طابقين ظنت أنه قد يكون الفندق، ولكنها وجدته مصرفا، وكان مغلقا.
أول كائن بشري وقع بصرها عليه - على الرغم من أن كلبين قد نبحا عليها - كان رجلا أمام المرأب، منشغلا بتحميل جنازير حديدية في صندوق شاحنته.
قال لها: «الفندق؟ لقد ابتعدت عنه كثيرا.»
أخبرها أن الفندق بجانب محطة القطار، على الجانب الآخر من القضبان على مبعدة يسيرة، وأنه مطلي بالأزرق ولا يمكن أن يخطئه قاصده.
وضعت حقيبة السفر أرضا، ليس عن خيبة أمل ولكن لأنها كانت بحاجة إلى دقيقة راحة.
قال إنه يمكنه أن يقلها حتى هناك إن هي انتظرت دقيقة واحدة. وعلى الرغم من أنه كان شيئا جديدا بالنسبة إليها أن تقبل عرضا كهذا، فسرعان ما وجدت نفسها جالسة في الكابينة الحارة والملوثة بالشحم لشاحنته، وهي تهتز عائدة عبر الطريق القذر الذي قطعته للتو، مع تلك الجنازير التي تصدر قعقعة يائسة في الخلف.
قال لها: «إذن، من أين أتيت وجلبت معك هذه الموجة الحارة؟»
قالت: أونتاريو، بنبرة لا تعد بأنها ستقول أكثر من هذا.
قال بنبرة آسفة: «أونتاريو! حسن، ها نحن وصلنا ... فندقك.» ورفع يدا واحدة عن عجلة القيادة. مالت الشاحنة ميلا خفيفا مصاحبا لتلويحه بيده نحو مبنى مسطح السقف من طابقين لم تكن قد غفلت عنه، بل رأته من القطار وهم يدخلون المحطة. لقد ظنته بيت عائلة كبيرا، مهملا إلى حد ما، ولعله مهجور تماما. الآن وبعد أن رأت المنازل في البلدة، أدركت أنه كان عليها ألا تستبعده من احتمالها بهذه السرعة. كان مغطى برقائق من الصفيح مسكوكة بحيث تبدو كأنها أحجار آجر ومطلية بلون أزرق فاتح. كانت هناك تلك الكلمة الواحدة: «فندق»، بأنابيب من مصابيح النيون، لم تعد تضيء، مثبتة فوق المدخل. «ما أغباني!» هكذا قالت، وعرضت على الرجل دولارا مقابل التوصيلة.
ضحك، «احتفظي بنقودك. لن تعرفي أبدا متى ستحتاجين إليها.»
كانت هناك سيارة لا بأس بها متوقفة أمام الفندق، ماركة بلايماوث. كانت في غاية من القذارة، ولكن كيف يمكن تجنب ذلك، في وجود تلك الطرقات؟
على الباب علقت إعلانات تجارية عن ماركات من السجائر والجعة. انتظرت حتى رجعت الشاحنة من حيث أتت ثم طرقت الباب، طرقت لأن المكان لم يبد على أي نحو مفتوحا للعمل. ثم جربت الباب لترى إن كان مفتوحا، ودخلت إلى غرفة متربة صغيرة فيها سلم ثم إلى غرفة واسعة ومظلمة كان فيها منضدة بلياردو ورائحة سيئة لجعة وأرضية غير مكنوسة. ومن مسافة وفي غرفة جانبية رأت التماع مرآة، وأرففا خاوية، ونضدا. كانت مصاريع النوافذ في تلك الغرفة مسدلة بإحكام. الضوء الوحيد الذي رأته كان ينبعث من نافذتين مستديرتين صغيرتين، وقد ظهر أنهما في باب دوار بمصراعين. دخلت من ذلك الباب إلى المطبخ. كانت إضاءته أفضل بسبب صف من نوافذ عالية ولكن قذرة ، غير مغطاة، في مواجهة الجدار. وهنا وجدت أولى علامات الحياة؛ كان أحدهم قد تناول طعاما على المائدة وترك طبقا ملطخا بصلصة الطماطم المحفوظة وقد جفت الآن، وكوبا نصفه ممتلئ بقهوة سوداء باردة.
أحد أبواب المطبخ كان يؤدي إلى الخارج - هذا الباب كان مغلقا بمفتاح - وآخر يؤدي إلى خزانة كبيرة فيها العديد من علب الأطعمة المحفوظة، وآخر يؤدي إلى خزانة أدوات النظافة، وآخر إلى درج مسيج. صعدت الدرج، وحقيبة سفرها ترتج أمامها طوال الوقت نظرا لضيق المساحة. قبالتها مباشرة في الطابق الثاني رأت مقعد مرحاض مرفوع الغطاء.
كان باب غرفة النوم في آخر الردهة مفتوحا، وبالداخل وجدت كين بودرو.
رأت ثيابه من قبل أن تراه. سترته معلقة على حرف الباب وسرواله على مقبض الباب، بحيث كانت أطرافهما تتدلى على الأرضية. فكرت في الحال أن هذه ليست الطريقة الملائمة للاعتناء بثياب جيدة، وهكذا دخلت غرفة النوم في جرأة - وتركت حقيبة سفرها في الردهة - وقد فكرت أن عليها تعليق الثياب كما يجب.
كان في الفراش، وليس فوقه إلا ملاءة. كانت البطانية وقميصه ملقيين على الأرض. كانت أنفاسه مضطربة كما لو كان على وشك أن يصحو، فقالت: «صباح الخير، أو مساء الخير.»
كان ضوء الشمس الساطع يدخل من النافذة، يكاد يبلغ وجهه مباشرة. كانت النافذة مغلقة، والهواء فاسدا ينضح بروائح عدة من بينها منفضة سجائر ممتلئة كانت على المقعد الذي استخدمه كأنه منضدة جانبية للفراش.
لديه عادات سيئة، يدخن في السرير.
لم يوقظه صوتها، أو ربما استيقظ بدرجة طفيفة فقط. بدأ يسعل.
تعرفت في سعاله على حالة خطرة، إنه سعال رجل مريض. كافح ليرفع جسده قليلا، بعينين لا تزالان مغلقتين، فاقتربت من الفراش وسندته. بحثت عن منديل قماشي أو علبة مناديل ورقية، لكنها لم تر شيئا من هذا فتناولت قميصه من الأرض. أرادت أن تنظر عن قرب إلى ما بصقه.
عندما سعل بما يكفيه، غمغم بشيء وغاص مجددا في الفراش، وهو يلهث، ورأت الوجه الساحر المعتد بنفسه الذي تتذكره وهو يتجعد مشمئزا. أدركت من ملمس جسده أنه مصاب بحمى.
كان لون المادة التي بصقها أصفر مائلا للخضرة، دون وجود لخطوط البلغم الصدئ. حملت القميص إلى حوض الحمام، وهناك اندهشت لوجود قالب صابون، فغسلت القميص وعلقته على شماعة الباب، ثم غسلت يديها على أتم وجه. اضطرت لأن تجففهما في تنورة ثوبها البني الجديد. كانت قد ارتدت هذا الثوب في حمام آخر - حمام السيدات على متن القطار - قبل ما لا يزيد عن ساعتين أو نحو ذلك. وقد تساءلت حينذاك إن كان ينبغي عليها أن تضع على وجهها بعض مساحيق الزينة.
في خزانة الردهة عثرت على لفافة ورق حمام، فأخذتها إلى غرفة نومه من أجل المرة القادمة حين يغلبه السعال. التقطت البطانية من الأرض وغطته جيدا، وأسدلت مصاريع النافذة حتى الإطار ورفعت النافذة الصلبة بوصة أو اثنتين، مثبتة إياها مفتوحة بواسطة منفضة السجائر التي أفرغتها. ثم بدلت ثيابها، بالخارج في الردهة، فنضت عن نفسها الثوب البني وعادت إلى ثياب قديمة أخرجتها من حقيبتها. سيكون ارتداء ثوب لطيف أو وضع أي قدر من المساحيق الآن أمرا لا لزوم له.
لم تكن متأكدة من مدى سوء حالته، ولكنها مرضت السيدة ويليتس - وكانت هي الأخرى مدخنة شرهة - خلال نوبات عديدة من إصابتها بالتهاب شعبي، وفكرت أن بوسعها أن تتدبر أمرها لفترة دون الاضطرار لاستدعاء طبيب. في خزانة الردهة ذاتها وجدت كومة من مناشف نظيفة، على الرغم من أنها بالية وحائلة اللون، فبللت إحداها ومسحت ذراعيه وساقيه، في محاولة لتلطيف السخونة. وعند ذاك استيقظ بنصف انتباه وعاود السعال من جديد. رفعته وجعلته يبصق في ورق الحمام وتفحصت ما بصقه مرة أخرى ثم ألقت به في مقعد المرحاض وغسلت يديها. لديها الآن منشفة لتجفيفهما. نزلت إلى الطابق الأرضي ووجدت كوبا في المطبخ، كما وجدت أيضا زجاجة كبيرة فارغة من جعة الزنجبيل، فملأتها بالماء. ثم حاولت أن تجعله يشربه. احتسى النزر اليسير، متمنعا، وتركته يرقد. وبعد خمس دقائق أو نحو ذلك كررت المحاولة مجددا. واصلت القيام بهذا حتى اعتقدت أنه ابتلع أقصى ما يمكنه شربه دون أن يتقيأ.
بين الوقت والآخر كان يسعل فترفعه، وتمسك به بإحدى ذراعيها بينما تربت باليد الأخرى على ظهره لمساعدته على تحرير العبء الرازح على صدره. فتح عينيه عدة مرات وبدا كأنه يتقبل وجودها دون توتر أو اندهاش، أو حتى امتنان. مسحت جسده بإسفنجة مرة أخرى، حريصة على أن تغطي بالبطانية على الفور الجزء الذي رطبته للتو من جسده.
لاحظت أن المساء بدأ يحل، فنزلت إلى المطبخ، ووجدت زر النور. كانت الكهرباء تعمل وكذلك الموقد الكهربائي العتيق. فتحت علبة طعام محفوظ فيها حساء أرز بالدجاج فسخنته، ثم حملته إلى الطابق الأعلى وأنهضته. ابتلع القليل من الملعقة. استغلت فرصة يقظته المؤقتة لتسأله إن كانت لديه قارورة أقراص أسبرين. أومأ برأسه أن نعم، ثم صار متحيرا للغاية وهو يحاول أن يخبرها بموضعها. قال: «في سلة المهملات.»
قالت: «لا، لا، أنت لا تقصد سلة المهملات.» «في ال ... في ال ...»
حاول أن يوضح شكل شيء بيديه. صعدت دموع إلى عينيه.
قالت جوهانا: «لا عليك! لا عليك!»
انخفضت سخونته قليلا. نام لساعة أو أكثر دون سعال. ثم ارتفعت درجة حرارته من جديد. في ذلك الوقت كانت قد عثرت على قارورة الأسبرين - كانت في درج المطبخ إلى جانب أشياء من قبيل مفك براغي وبعض لمبات كهربائية وكرة من الليف المجدول - فأخذت قرصي أسبرين إليه. سرعان ما انتابته نوبة سعال عنيفة، ولكنها لم تعتقد أن معدته لفظت القرصين. حين رقد وضعت أذنها على صدره وأنصتت لتنفسه المجهد كالصفير. كانت قد بحثت من قبل عن خردل لتعد له لصقة به، ولكن كان واضحا أنه لا يوجد شيء منه. نزلت إلى الطابق الأرضي من جديد وسخنت بعض الماء وأحضرته في وعاء كبير. حاولت أن تجعله ينحني فوقه، وهي تظلل رأسه بمنشفة كأنها خيمة، بحيث يمكنه أن يستنشق البخار. استجاب لها لدقيقة لا أكثر، ولكن ربما ساعده؛ إذ سعل باصقا كميات من البلغم.
انخفضت درجة حرارته مرة أخرى ونام نوما أكثر هدوءا. جرت مقعدا كبيرا بذراعين وجدته في إحدى الغرف الأخرى ونامت هي الأخرى على نوبات خاطفة، فكانت تصحو وتتساءل أين هي، ثم تتذكر فتقوم وتمسه - بدا أن سخونته آخذة في الانخفاض - وتسوي البطانية جيدا عليه. أما لتغطية نفسها فقد استعانت بالمعطف الأزلي العتيق بقماشه من صوف التويد الخشن الذي كانت ممتنة للسيدة ويليتس من أجله.
استيقظ وقد مضى جزء من الصباح. قال بصوت خشن وضعيف: «ماذا تفعلين هنا؟»
قالت: «وصلت أمس، وأحضرت معي أثاثك. لم يصل إلى هنا بعد، ولكنه في الطريق. لقد كنت مريضا حين وصلت وبقيت مريضا أغلب الليل. كيف حالك الآن؟»
قال: «أفضل حالا.» وبدأ يسعل. لم يكن عليها أن ترفعه؛ إذ جلس معتمدا على نفسه. لكنها اقتربت من الفراش وربتت بقوة على ظهره. حين انتهى، قال لها: «أشكرك.»
كانت بشرته الآن باردة مثل بشرتها تماما. باردة وناعمة، بلا شامات خشنة، ولا دهون. كان بوسعها أن تلمس ضلوع صدره. كان أقرب إلى صبي رقيق مبتلى، وله رائحة مثل رائحة الذرة.
قالت له: «لقد ابتلعت البلغم، لا تفعل ذلك، هذا يضرك. إليك مناديل ورقية، يجب أن تبصق ما على صدرك. إذا ابتلعت البلغم فستؤذي كليتيك.»
قال: «لم أكن أعرف هذا من قبل. أيمكنك العثور على القهوة؟»
كانت مصفاة القهوة سوداء من الداخل. غسلتها بأفضل ما في وسعها وأعدت القهوة. ثم غسلت وجهها وهندمت نفسها، وهي تتساءل أي نوع من الطعام عليها أن تقدم له. في خزانة المعلبات وجدت علبة من مزيج طحين لإعداد البسكويت. في البداية ظنت أن عليها خلطه بالماء، لكنها عثرت على علبة من لبن البودرة كذلك. حين صارت القهوة جاهزة وضعت صينية البسكويت في الفرن. •••
بمجرد أن سمعها منشغلة في المطبخ، نهض عن فراشه وذهب إلى الحمام. كان أضعف مما ظن؛ واضطر لأن يميل ويستند بإحدى يديه على خزان الماء. ثم وجد بعض الثياب الداخلية في أرضية خزانة الردهة حيث كان يحتفظ بالثياب النظيفة. كان قد تبين الآن من كانت هذه المرأة. قالت إنها أتت لتحضر له أثاثه، على الرغم من أنه لم يطلب منها أو من أي شخص أن يفعل ذلك؛ لم يرسل في طلب الأثاث على الإطلاق، طلب نقودا وحسب. لا بد أنه يعرف اسمها، لكنه لم يستطع تذكره. لهذا السبب فتح محفظتها، التي كانت على أرض الردهة بجوار حقيبة سفرها. كان هناك اسم مخيط في البطانة من الداخل.
جوهانا باري، والعنوان هو عنوان حميه، في طريق المعرض.
كانت هناك أشياء أخرى؛ كيس من قماش بداخله بضع أوراق نقدية، سبعة وعشرون دولارا، وكيس آخر للعملات المعدنية، لم يهتم بإحصائها. ثم دفتر ادخار مصرفي أزرق لامع، فتحه دون تفكير، دون أن يتوقع أي شيء غير معتاد.
قبل أسبوعين استطاعت جوهانا أن تحول كل إرثها من السيدة ويليتس إلى حسابها المصرفي، علاوة على مبلغ المال الذي ادخرته. شرحت لمدير المصرف أنها لا تعلم متى ستكون بحاجة إليه.
لم يكن المبلغ مبهرا، ولكنه كان شيئا ما، أضفى عليها جوهرا ما. في عقل كين بودرو، أضفى هذا على اسم جوهانا باري غلافا خارجيا بالغ النعومة.
حين رجعت بصينية القهوة، قال لها: «أكنت ترتدين ثوبا بني اللون؟» «نعم، صحيح. حين وصلت إلى هنا في البداية.» «ظننت أنني كنت أحلم. لقد كنت أنت.»
فقالت جوهانا: «كما في حلمك الآخر!» وقد التمع جبينها المنقط بالنمش. لم يدر عم كانت تتحدث ولم يملك الطاقة الكافية ليستفسر. لعله حلم آخر أيقظه بينما كانت هي هنا في الليل؛ حلم لا يتذكره الآن. عاوده السعال على نحو أكثر اعتدالا، فناولته بعض المناديل الورقية.
قالت: «والآن، أين ستضع صينية قهوتك؟» دفعت للأمام قليلا المقعد الخشبي الذي حركته ليسهل عليها الوصول إليه. قالت: «ها هنا.» رفعته من تحت إبطيه وسندت ظهره بوسادة من ورائه، وسادة متسخة، دون كيس يغطيها، لكنها كانت قد غطتها ليلة أمس بمنشفة. «أيمكنك أن تري إن كان يوجد أي سجائر بالطابق الأرضي؟»
هزت رأسها نفيا، ولكنها قالت: «سأبحث لك. لقد وضعت بسكويتا في الفرن.» •••
كان في طبع كين بودرو عادة اقتراض النقود، وإقراضها سواء بسواء. أغلب المشكلات التي حلت به - أو لنقل إنه تورط فيها - كانت من جراء عدم قدرته على أن يرفض لصديق طلبا. الإخلاص. لم تتم معاقبته بالتسريح من القوات الجوية في زمن السلم، لكنه اضطر للاستقالة نتيجة لإخلاصه لصديق ناله التوبيخ لإقدامه على إهانة أحد الضباط الأعلى رتبة في حفل صاخب. في حفل كهذا، حيث يفترض بكل شيء أن يكون مجرد مزحة ولا يأخذ أحد الأمر على محمل الإساءة، لم يكن هذا إنصافا. ثم إنه فقد وظيفته في شركة الأسمدة لأنه أخذ إحدى شاحنات الشركة وعبر بها الحدود الأمريكية دون تصريح، في يوم إجازة، ليقل من هناك صاحبا له تورط في عراك وخاف من القبض عليه وتوجيه اتهام له.
جزء لا ينفصل بالمرة عن إخلاصه لأصدقائه كان صعوبة تعامله مع رؤسائه في العمل. كان يقر بأنه وجد صعوبة في الإذعان والطاعة. «نعم يا سيدي»، و«لا يا سيدي» لم تكن من العبارات الحاضرة في مخزونه اللغوي. لم يتم فصله من شركة التأمينات، غير أنهم تخطوه في الترقيات مرات عديدة للغاية بحيث بدا الأمر كما لو أنهم يتحدونه ليستقيل، وقد استقال في نهاية الأمر.
لا بد من الاعتراف بأن الشراب لعب دورا في ذلك كله، وكذلك فكرة أن الحياة لا بد أن تكون مغامرة بطولية أكثر مما كانت تبدو عليه في ذلك الوقت.
راق له أن يخبر الناس في لعبة بوكر بأنه امتلك الفندق. غير أنه لم يكن مقامرا بالمعنى الكامل، ولكن النساء كان يطيب لهن رنين عبارة كتلك. لم يعترف بأنه أخذ الفندق - دون حتى أن يلقي نظرة عليه - سدادا لأحد الديون. وحتى بعد أن رآه قال لنفسه إنه من الممكن أن يتم إنقاذه من الخراب. جذبته فكرة أن يكون هو سيد نفسه في العمل. لم ير فيه مكانا يصلح لإقامة الناس، اللهم إلا الصيادين في فصل الخريف. رأى فيه مكانا لاحتساء الشراب ومطعم. فقط إن استطاع توظيف طاه جيد. ولكن قبل أن يتمكن من إحراز أي شيء معقول لا بد من إنفاق بعض المال وإنجاز بعض العمل، أكثر مما يمكن له بمفرده القيام به، على الرغم من أنه لا يفتقد البراعة في الأعمال اليدوية. إن استطاع فقط أن يجتاز الشتاء، وأن ينجز أقصى ما يمكنه بمفرده، مبرهنا على نواياه الحسنة، فكر أنه ربما يكون بوسعه أن يحصل على قرض من البنك. ولكنه كان بحاجة إلى قرض أصغر حتى يمكنه تجاوز فصل الشتاء، وهذه هي اللحظة التي دخل فيها حموه إلى الصورة. كان يفضل أن يجرب اللجوء إلى شخص آخر، ولكن ما من أحد قد يتوافر لديه مال فائض بهذه السهولة.
اعتقد أنها فكرة جيدة أن يصوغ التماسه في صورة اقتراح ببيع الأثاث، وهو الأمر الذي كان يعلم أن العجوز لن يحرك قدميه أبدا للقيام به. كان مدركا، ليس على وجه تام التحديد، استدانته قروضا من الماضي ما زالت دون سداد، لكنه كان يعتبر أنه يستحقها تماما، من أجل مساندته لمارسيل خلال فترة السلوك السيئ (سلوكها هي، في وقت لم يكن هو قد بدأ يسلك مثلها) ومن أجل تقبله لسابيتا باعتبارها ابنته في حين كان لديه شكوكه الخاصة. كما أن آل ماكولي كانوا هم الأشخاص الوحيدين الذين يعرفهم ولديهم من المال ما لا يمكن لأي شخص على وجه الأرض الآن أن يكسبه. «أحضرت معي أثاثك.»
لم يكن بمقدوره أن يتبين ما الذي قد يعنيه ذلك بالنسبة إليه في الوقت الراهن. كان منهكا للغاية. كان يرغب في النوم أكثر من رغبته في الطعام حين عادت بالبسكويت (ومن دون سجائر). ولكي يرضيها أكل نصف واحدة، ثم أخذه النوم في الحال. استيقظ بنصف انتباه فقط حين أدارته على أحد جنبيه، ثم الآخر، لكي تستخرج الملاءة المتسخة من تحته، ثم تفرش أخرى نظيفة، وتديره عليها من جديد، كل ذلك دون أن تجعله ينهض من الفراش أو يستيقظ تمام اليقظة.
قالت له: «وجدت ملاءة نظيفة، لكن مهلهلة مثل خرقة، كانت رائحتها غير طيبة، فعلقتها على الحبل لوهلة.»
فيما بعد أدرك أن الصوت الذي سمعه لوقت طويل في حلمه لم يكن إلا صوت الغسالة. تساءل كيف أمكنها ذلك؛ فسخان الماء معطوب. لا بد أنها سخنت آنية من الماء على الموقد. وبعد ذلك أيضا، سمع الصوت المميز لسيارته تدور وتنطلق مبتعدة. لا شك أنها أخذت المفاتيح من جيب سرواله.
ربما تكون آخذة في الابتعاد الآن بالشيء الوحيد الذي يملكه وله قيمة ما، متخلية عنه، دون أن يكون بمقدوره حتى الاتصال بالشرطة للقبض عليها؛ فالهاتف بلا حرارة حتى لو استطاع النهوض والوصول إليه.
كان ذلك احتمالا قائما على الدوام - السرقة والفرار - ومع ذلك فقد أدار جسمه على الملاءة النظيفة، التي فاحت برائحة رياح مروج وعشب أخضر، وعاد لنومه، واثقا أنها فقط ذهبت لشراء بعض الحليب والبيض والزبد والخبز ومؤن أخرى - بل وسجائر أيضا - من ضرورات الحياة الكريمة، وأنها سوف تعود وتنهمك في مشاغلها بالطابق الأرضي وأن صوت نشاطها سوف ينسج من تحته شبكة، منحة من السماء، هبة من الواجب قبولها.
في حياته حاليا ثمة مشكلة تخص امرأة، امرأتين في الواقع، شابة وأخرى أكبر سنا (أي في مثل سنه تقريبا) وكل منهما تعلم بوجود الأخرى وكل واحدة مستعدة لاقتلاع شعر الأخرى. كل ما حصل عليه منهما مؤخرا كان العواء والشكوى، مع وقفات في الأثناء لتأكيدهما الغاضب بأنهما تحبانه.
ربما يكون قد وصل إلى عتبة داره حل لذلك أيضا. •••
حين كانت تشتري البقالة في المتجر سمعت جوهانا صوت قطار، وحين عادت بالسيارة إلى الفندق رأت سيارة متوقفة عند محطة القطار. وحتى من قبل أن توقف سيارة كين بودرو رأت حاويات الأثاث مكومة على الرصيف. تحدثت إلى ناظر المحطة - كانت هذه هي سيارته هناك - وكان مندهشا ومغتاظا لوصول كل تلك الحاويات الضخمة. حين استخلصت منه اسم رجل لديه شاحنة - شاحنة نظيفة، كما أصرت - يعيش على بعد عشرين ميلا وأحيانا يقوم بنقل الأشياء، استخدمت هاتف المحطة للاتصال بالرجل كي يحضر، بكلام نصفه رشوة ونصفه أمر. ثم ألحت على ناظر المحطة بأن عليه أن يبقى إلى جانب الحاويات حتى وصول الشاحنة. بحلول أول المساء كانت الشاحنة قد جاءت، وقام الرجل وابنه بإنزال كل الأثاث وحمله إلى داخل الغرفة الرئيسية للفندق.
في اليوم التالي ألقت نظرة متفحصة في أنحاء المكان. كانت تتدبر الأمر لتتوصل إلى قرار.
في اليوم التالي له ارتأت أن كين بودرو صار بمقدوره الجلوس والاستماع إليها، فقالت: «هذا المكان إسفنجة سوف تمتص المال كأنه الماء ولا تشبع. البلدة على وشك التداعي. ما يجب عمله هو استخراج أي شيء قد يجلب أي نقود وبيعه. لا أقصد بهذا الأثاث الذي تم شحنه، أقصد أشياء مثل منضدة البلياردو وموقد المطبخ. ثم علينا بيع المبنى لشخص يمكنه أن ينزع الصفيح عنه كي يبيعه خردة. هناك دائما طريقة للانتفاع بأشياء لم تكن تتخيل أن لها أي قيمة. بعد ذلك، ما الذي كنت تفكر في القيام به قبل أن تمتلك الفندق؟»
قال إنه ساورته فكرة ما للذهاب إلى كولومبيا البريطانية، تحديدا إلى سالمون آرم، حيث له صديق أخبره ذات مرة بأن بوسعه أن يحظى هناك بوظيفة في إدارة بساتين الفاكهة. ولكنه لم يستطع الذهاب لأن السيارة كانت بحاجة إلى إطارات جديدة وإصلاحات أخرى قبل أن يمكنه الشروع في رحلة طويلة، وكان ينفق كل ما يملك ليعيش. ثم وقع هذا الفندق بين يديه.
فقالت: «مثل طن من الحجارة. إن إصلاح السيارة وتزويدها بالإطارات سيكون استثمارا أفضل من ابتلاع هذا المكان لكل ما يرمى فيه. ستكون فكرة صائبة أن نسافر إلى هناك قبل سقوط الجليد. ونشحن الأثاث بالقطار مرة أخرى، لننتفع به حين نصل إلى هناك. لدينا كل ما يلزمنا لنؤثث بيتا.» «قد يتضح أنه لم يكن عرضا نهائيا.»
فقالت: «أعرف. لكن ستكون الأمور على ما يرام.»
فهم أنها كانت واثقة أنهما سيكونان على ما يرام، هكذا كان الأمر وهكذا سيكون. بوسعك القول إن حالة كحالته كانت أنسب ما يكون لها.
ليس معنى هذا أنه لن يكون ممتنا لها. كان قد بلغ نقطة لا يعد فيها الامتنان عبئا، بل كان طبيعيا؛ لا سيما حين لا يطالبنا به أحد.
كانت أفكار تجديد الدم قد بدأت تساوره . هذا هو التغيير الذي أحتاج إليه. كان قد قال ذلك من قبل، ولكن بالطبع كان هذا هو الوقت الذي سيصير فيه هذا القول حقيقة. «كل ما نحتاجه لنصنع بيتا.» •••
كان لديه كبرياؤه، هكذا فكرت. يجب وضع هذا في الحسبان. ربما يكون من الأفضل ألا تذكر بالمرة أمر تلك الرسائل التي كشف فيها عن دخيلته لها. قبل أن تسافر كانت قد تخلصت منها. في الحقيقة كانت تتخلص من كل رسالة منها بمجرد أن تقرأها مرات كافية لتحفظها عن ظهر قلب، ولم يكن هذا يستغرق وقتا طويلا؛ فالأمر المؤكد بالنسبة إليها هو ضرورة ألا تقع تلك الرسائل بين أيدي سابيتا وصاحبتها الداهية. وخصوصا الجزء الخاص بثوب نومها، وقراءتها للرسالة في فراشها. لم تكن هذه من قبيل الأشياء التي لا يمكن تقبلها، ولكن قد يكون من الفجاجة أو الحمق أو مدعاة للسخرية وضعها على الورق.
تشككت في أنهما قد يريان سابيتا كثيرا. ولكنها لن تعارضه أبدا، إذا كان هذا هو ما أراده.
لم تكن هذه تجربة جديدة حقا، هذا الشعور النشط بالتوسع والمسئولية. لقد شعرت بشيء مثل هذا تجاه السيدة ويليتس؛ شخص آخر طائش، جميل المظهر، في حاجة لمن يرعاه ويدبر شئونه. اتضح أن كين بودرو كان أكثر مما تهيأت له من هذا الناحية، وكانت هناك الفروق الواجب توقعها بالنسبة إلى رجل، لكن الأكيد أنه لم يكن فيه أي شيء لا يمكنها الاضطلاع به.
بعد السيدة ويليتس ظل فؤادها جافا، وحسبت أنه قد يظل هكذا دائما وأبدا. والآن جاء ذلك الاضطراب الدافئ، وتلك المحبة النشطة. •••
توفي السيد ماكولي بعد عامين من رحيل جوهانا. كانت جنازته هي آخر جنازة أقيمت في الكنيسة الأنجليكانية. حضر فيها جمع لا بأس به. سابيتا - التي أتت مع بنت عم أمها، سيدة تورونتو - وقد صارت الآن مكتفية بذاتها ونحيفة نحافة جميلة وملحوظة وعلى نحو غير متوقع. ارتدت قبعة سوداء متقنة الصنع ولم تتحدث إلى أي شخص قبل أن يبادرها هو بالحديث أولا. وحتى عندئذ، لم تكن تبدو أنها تتذكر أحدا.
خبر الوفاة الذي نشر في الجريدة قال إن السيد ماكولي شيعته حفيدته سابيتا بودرو وزوج ابنته كين بودرو، وزوجته السيدة جوهانا بودرو، بصحبة طفلهما عمر، وقد أتوا من سالمون آرم، كولومبيا البريطانية.
قرأت والدة إديث هذا الخبر بصوت مسموع؛ إذ لم تكن إديث تلقي نظرة بالمرة على الصحيفة المحلية. بالطبع لم يكن الزواج خبرا جديدا بالنسبة إلى أي منهما، أو بالنسبة إلى والد إديث، الذي كان في ركن الغرفة الأمامية يشاهد التليفزيون. لم يعرها أحد جوابا. الخبر الجديد كان عمر.
قالت أم إديث: «لقد أنجبت طفلا!»
كانت إديث تقوم بواجب الترجمة اللاتينية على مائدة المطبخ.
Tu ne quaesieris, scire nefas, quem mihi, quem tibi ...
في الكنيسة كانت قد احتاطت ألا تبادر سابيتا بالحديث أولا، ما لم تتحدث سابيتا إليها.
لم تعد خائفة، كما كانت، من انكشاف أمرهما، على الرغم من أنها ما زالت لا تفهم سبب عدم انكشافه. بطريقة ما، بدا الأمر الوحيد الملائم هو ألا تجتمع عجائب ذاتها السابقة بذاتها الراهنة بأي رابطة، ناهيك عن ذاتها الحقيقية التي كانت تتوقع أنها سوف تمسك بالزمام بمجرد أن تخرج من هذه البلدة وتبتعد عن جميع الناس الذين ظنوا أنهم قد عرفوها. ما أفزعها حقا هو المنعطف الكامل للعواقب؛ فقد بدا خياليا، ولكنه باهت وبليد كذلك، بل ومهين أيضا، مثل مزحة من نوع ما أو تحذير أحمق، يحاول أن يشبك خطاطيفه بداخل نفسها. فأين إذن في قائمة الأشياء التي خططت لإنجازها في حياتها، كان مخبأ أي ذكر لأن تكون مسئولة عن وجود نفس على هذه الأرض لصبي يدعى عمر؟
تجاهلت أمها، وكتبت الترجمة للجملة اللاتينية: «إياك وأن تسأل! فمن المحظور علينا أن نطلع ...»
توقفت قليلا وهي تمضغ قلم الرصاص، ثم أكملت الجملة برعدة من الرضا: «أن نطلع على ما خبأه القدر لي أو لك ...»
الجسر العائم
في مرة من المرات هجرته. السبب المباشر كان أمرا تافها إلى حد ما؛ إذ انضم إلى اثنين من الجانحين صغار السن (أو اليويو كما كان يطلق عليهم) في التهام سريع لكعكة خبز الزنجبيل التي كانت قد أعدتها بنية تقديمها بعد اجتماع ذلك المساء. ودون أن يلاحظها أحد - على الأقل نيل والشابان الجانحان - غادرت المنزل وجلست في كشك من ثلاثة جوانب على الشارع الرئيسي، حيث كانت تتوقف حافلة المدينة مرتين يوميا. لم يسبق لها أن جلست هناك، وكان لديها ساعتان أو نحوهما من الانتظار. جلست وقرأت كل ما كان مكتوبا أو منحوتا على تلك الجدران الخشبية. العديد من الحروف الأولى يحب بعضها بعضا إلى الأبد. لوري جي مصت قضيبا. دنك جيلتز مخنث. وأيضا كان هناك اسم السيد جارنر (معلم الرياضيات). «كلي خراء بقواعدك يا عصابة إتش دابليو. تزلج أو مت. الرب لا يرضى عن الدنس. كيفين إس. جيفة عفنة. أماندا دابليو جميلة وعذبة وأتمنى لو أنهم لم يسجنوها لأنني أفتقدها من كل قلبي. أريد مضاجعة في بي. هناك سيدات يجلسن هنا ويقرأن هذه الأشياء المقززة القذرة التي تكتبونها.»
بينما تنظر إلى خزان الرسائل الإنسانية هذا، وهي تفكر متحيرة خصوصا في أمر الجملة المكتوبة كتابة سليمة، ومن فؤاد مخلص، بشأن أماندا دابليو، تساءلت جيني هل كان هؤلاء الأشخاص بمفردهم عند كتابتهم تلك الأشياء. راحت تتخيل نفسها تجلس هنا أو في مكان ما مماثل، بانتظار الحافلة، بمفردها، كما ستكون حتما إن هي مضت قدما في تنفيذ الخطة التي هي بصددها الآن. هل ستشعر برغبة قاهرة لكتابة تصريحات كهذه على الجدران المشاع؟
أحست بأنها في اللحظة الراهنة مرتبطة بهؤلاء الأشخاص، وبطبيعة شعورهم حين توجب عليهم كتابة أشياء بعينها؛ ربطتها بهم مشاعر الغضب بداخلها، مشاعر الإساءة التافهة (ربما كانت تافهة؟) وبحماستها نحو ما كانت تفعله بنيل أن تجعله يدفع الثمن. غير أن الحياة التي كانت تحمل نفسها للدخول فيها قد لا تمنحها أي شخص لتغضب منه، أي شخص يدين لها بأي شيء، أي شخص من الممكن أن يتأثر حقا بأي شيء قد تفعله، أن يناله من فعلها ثواب أو عقاب. قد تصير مشاعرها غير مهمة لأي إنسان عداها هي نفسها، ومع ذلك فقد ينتفخ الآخرون بداخلها، ويخنقون قلبها وأنفاسها .
لم تكن على أي حال من النوع الذي يحتشد حوله الناس في العالم. ومع ذلك كانت انتقائية، على طريقتها الخاصة.
لم يكن قد ظهر للحافلة أثر حين نهضت وسارت إلى البيت.
لم يكن نيل هناك. كان يعيد الأولاد إلى المدرسة، وحين عاد هو كان أحدهم قد وصل من قبل مبكرا على موعد الاجتماع. أخبرته بما قد فعلت حين تجاوزت الأمر وكان من الممكن أن يتحول ما فعلت إلى مزحة. الحق أنه صار مزحة قالتها بصحبة الآخرين مرات عديدة؛ الخروج من البيت أو مجرد وصفها على وجه العموم للأشياء التي قد قرأتها على الجدران.
قالت لنيل: «ألم تفكر على الإطلاق في أن تأتي بحثا عني؟» «فكرت طبعا. في الوقت المناسب.» •••
كان لاختصاصي الأورام محيا القساوسة، والواقع أنه ارتدى قميصا أسود برقبة تحت سترة بيضاء واسعة؛ وقد أوحى ملبسه هذا بأنه أتى توا من أحد طقوس إعداد القرابين. كانت بشرته شابة وملساء، بدت مثل حلوى الزبد الشفافة. على قبة رأسه كان هناك بعض الشعر الأسود الخفيف، مجرد نبت رقيق، لا يختلف كثيرا عن الزغب الذي على رأس جيني نفسها، على الرغم من أن شعرها هي كان رماديا مائلا للبني، كأنه جلد فأر. في البداية كانت جيني قد تساءلت هل كان من الممكن أن يكون مريضا وكذلك طبيبا في الآن نفسه؛ ومن ثم، هل كان قد اتخذ هذا المظهر لكي يجعل مرضاه أكثر ارتياحا؟ الأكثر ترجيحا أنه كان شعرا مزروعا، أو لعلها فقط الطريقة التي يحب أن يصفف بها شعره.
ليس بالإمكان سؤاله. لقد أتى من سوريا أو الأردن أو مكان ما آخر حيث للأطباء هيبتهم. كان فاترا ومقترا في مجاملاته للآخرين.
وقد قال: «الحقيقة أنني لا أحب أن أعطي انطباعا خاطئا.» •••
خرجت من المبنى المكيف إلى وهج نور أصيل أغسطس في أونتاريو. أحيانا تسطع الشمس لا يحجبها شيء، وأحيانا تبقى محتجبة وراء سحب هشة؛ وفي الحالين كان الجو حارا بلا اختلاف. السيارات المتوقفة، الرصيف، آجر المباني الأخرى، بدا كل ذلك وكأنه يرشقها بالقنابل حرفيا، كما لو كانت جميعها حقائق منفصلة بعضها عن بعض ألقي بها عبثا في تعاقب سخيف. لم تكن مستعدة لأي تغييرات في المشهد المحيط بها في تلك الأيام، فقد أرادت أن يبقى كل شيء حولها مألوفا ومستقرا. والأمر نفسه كان يصدق مع أي تغيير في المعلومات.
رأت السيارة تنتزع نفسها من موضعها عند حافة الرصيف وتشق سبيلها على طول الشارع لتقلها. كان لونها أزرق فاتحا، يومض ويلمع، مقززا للنفس. الأجزاء الأفتح زرقة كانت هي مواضع الصدأ التي أعيد طلاؤها. على هيكلها ملصقات تقول: أعرف أنني أقود قطعة خردة، ولكن عليك أن ترى منزلي، واحترموا أمكم الأرض، و(كانت هذه أحدث عهدا) استخدموا مبيد الآفات، وتخلصوا من الأعشاب، وانشروا السرطان.
خرج نيل لمساعدتها.
قال: «إنها في السيارة.» وشى صوته بنغمة حماسة أوحت في غموض بالتحذير أو الاستعطاف. كان ثمة طنين يحيط به، توتر ما، وهو ما أنبأ جيني بأن الوقت غير مناسب لإطلاعه على ما لديها من أنباء، إذا كان يمكن أن نسميها أنباء. في وجود أشخاص آخرين كان مسلك نيل يتبدل، حتى ولو كان هناك شخص واحد آخر خلاف جيني، فيصير أكثر حيوية وحماسة واسترضاء. لم يعد أمرا مزعجا لجيني كما في السابق، وقد مضى عليهما معا واحد وعشرون عاما. هي نفسها تغيرت - كرد فعل، هكذا كانت تعتقد - فصارت أكثر تحفظا وميلا للتهكم ولو بدرجة طفيفة. كان وضع بعض الأقنعة التنكرية ضرورة لا غنى عنها، أو صار فقط عادة مستحكمة ليس بالوسع التخلص منها. على غرار مظهر نيل الذي صار عتيق الطراز إلى حد مضحك؛ الوشاح الذي يعصب به رأسه، ربطه لشعره على صورة ذيل حصان رمادي وخشن، الحلق الذهبي الصغير الذي يبرق في الضوء شأنه شأن الحواف الذهبية حول أسنانه، ثم الثياب المهملة الشبيهة بما يرتديه الخارجون على القانون.
بينما كانت في زيارتها للطبيب ذهب هو ليقل الفتاة التي سوف تعينهما في معيشتهما الآن. تعرف عليها في مؤسسة إصلاحية للجانحين الشباب، حيث كان معلما وكانت هي تعمل في المطبخ. كانت المؤسسة الإصلاحية على حواف البلدة التي يعيشان فيها، لا تبعد أكثر من عشرين ميلا عن هنا. استقالت الفتاة من وظيفتها في المطبخ منذ بضعة أشهر وعملت في وظيفة رعاية منزل ملحقة به مزرعة حيث كانت ربة البيت مريضة، وذلك في موضع ما غير بعيد عن هذه البلدة المدينة الأكبر. ولحسن الحظ هي الآن بلا عمل.
قالت جيني: «وماذا حدث للمرأة؟ هل ماتت؟»
فقال نيل: «دخلت المستشفى.» «سيان.» •••
كان عليهما أن يعتنيا بالكثير من الترتيبات العملية في وقت قصير للغاية؛ تنظيف الغرفة الأمامية في منزلهما من جميع الملفات والصحف والمجلات التي تحتوي على المقالات المهمة والتي لم يتم تخزينها بعد على أقراص مدمجة؛ وكانت تلك تملأ الأرفف المصطفة على طول جدران الغرفة حتى السقف. جهازا الكمبيوتر كذلك، والآلات الكاتبة القديمة، والطابعة، كان ينبغي إيجاد مكان لهذا كله - مؤقتا، ولو لم يقل أحد ذلك - في منزل شخص آخر. وهكذا أصبحت الغرفة الأمامية غرفة التمريض.
قالت جيني لنيل إن بوسعه الاحتفاظ بجهاز كمبيوتر واحد، على الأقل، في غرفة النوم، غير أنه رفض. لم يقلها صراحة، لكنها فهمت، رأى أنه لن يكون هناك وقت لذلك.
لقد قضى نيل وقت فراغه كله تقريبا، خلال السنين التي عاشتها معه، ينظم الحملات وينفذها. ليس فقط الحملات السياسية؛ فإلى جانب تلك كانت هناك جهود رامية إلى الحفاظ على مبان وجسور ومقابر لها كلها قيمتها التاريخية، ولمنع قطع الأشجار سواء على طول شوارع المدينة أو في البقع المعزولة من الغابة القديمة، ولإنقاذ النهر من انجراف المياه المسطحة إليه وتسميمه وإنقاذ أرض الميعاد من المقاولين وإنقاذ السكان المحليين من كازينوهات القمار. دائما وأبدا كانت هناك رسائل وعرائض لا بد من كتابتها، ودوائر حكومية لا بد من التأثير عليها، وتوزيع ملصقات، وتنظيم مسيرات احتجاجية. كانت الغرفة الأمامية هي المسرح الشاهد على ثورات الرفض والسخط (التي كانت تمنح الناس كثيرا من الرضا، وفقا لما ارتأته جيني) وعلى جدالات ومقترحات مرتبكة، وعلى ابتهاج نيل بذلك كله. والآن صارت خواء فجأة؛ مما دفعها لاستعادة أول مرة دخلت فيها المنزل، وقد أتت مباشرة من منزل أبويها بطوابقه المنفصلة وستائره المتدلية في طيات أنيقة، وفكرت في كل تلك الأرفف المحتشدة بالكتب، والمصاريع الخشبية على النوافذ، وتلك البسط الشرق أوسطية الجميلة التي كانت دائما ما تنسى اسمها الصحيح، على الأرضية الخشبية المورنشة. من غرفتها في الكلية كانت قد أحضرت معها نسخة من لوحة للرسام كاناليتو صارت الآن على الجدار الوحيد العاري. كان اسم اللوحة «يوم معركة اللورد مايور على نهر التيمز»، وقد علقتها بالفعل لكنها لم تعد تنتبه إليها.
قاما باستئجار سرير مستشفى، لم يكونا بحاجة حقيقية إليه بعد، غير أنه من الأفضل الحصول على واحد بينما يستطيعان ذلك لأنه غالبا ما يكون هناك نقص فيها. لقد فكر نيل في كل شيء. علق ستائر ثقيلة أخذها من غرفة عائلة في بيت صديق مستغن عنها، كان مطبوعا عليها نقش لأباريق وحلي نحاسية من التي تزين سروج الخيول، وقد اعتبرتها جيني في غاية من البشاعة. لكنها صارت تعرف الآن أنه يأتي وقت تتساوى فيه الأشياء البشعة والجميلة ويؤديان الغرض ذاته، حين يصير أي شيء يرنو إليه المرء مجرد مشجب يعلق عليه أحاسيس بدنه العنيدة، وخواطر عقله غير المنتظمة.
كانت في الثانية والأربعين من عمرها، وحتى وقت قريب كانت تبدو أصغر من سنها. وكان نيل يكبرها سنا بستة عشر عاما. كان قد خطر لها أنها في المسار الطبيعي للأمور ستكون في نفس الموضع الذي يشغله الآن، وأحيانا ما ساورها القلق بشأن سبيل التعامل مع هذا. ذات مرة حين كانت تمسك بيده في الفراش قبل أن يناما، يده الدافئة والحاضرة، فكرت أنها سوف تمسك بهذه اليد، أو تلمسها، مرة واحدة على الأقل، حين يكون قد مات. لم تجد أنها قادرة على الإيمان بهذه الحقيقة، حقيقة أن يكون ميتا لا حول له ولا قوة. ومهما طال وقت التنبؤ بهذه الحالة، فلم يكن بمقدورها الاطمئنان إليها. لم تستطع أن تصدق أنه، في موضع عميق بداخله، لم يسلم على نحو ما بهذه اللحظة؛ لحظتها هي. مجرد اعتقادها بأنه لم تساوره هذه الفكرة بخصوصها دفعها إلى دوار عاطفي، إحساس بسقوط فظيع.
ومع ذلك؛ كان هناك إحساس بالإثارة. تلك الإثارة التي يحسن السكوت عنها والتي يشعر بها المرء حين تبشره كارثة عجلى بتحرره من كل مسئولية عن حياته الخاصة. ثم يتوجب عليك - ويا للخزي! - أن تستجمع شتات نفسك وتبقى هادئا للغاية.
قال لها، حين سحبت يدها من يده: «إلى أين أنت ذاهبة؟» «لست ذاهبة. أستدير فقط.»
لم تعرف إن كان نيل قد ساوره مثل هذا الشعور، الآن وقد وقع ما وقع. سألته إن كان قد تقبل الفكرة بعد، فهز رأسه نافيا.
قالت: «ولا أنا.»
ثم قالت: «كل ما هنالك ألا تفتح الباب لمتخصصي العلاج النفسي من صدمة فقدان الأعزاء. أكاد أراهم يتربصون بنا، يريدون أن يهجموا ويوجهوا ضربة استباقية.»
قال بصوت فيه غضب نادر: «لا تضايقيني.» «آسفة.» «لست مضطرة على الدوام أن تلعبي دور مهون الشدائد.» «أعرف.» هكذا قالت، ولكن الحقيقة كانت أنه مع وجود الكثير مما يجري والأحداث الراهنة التي تستولي على أغلب انتباهها وجدت مشقة في أن تلعب أي دور على الإطلاق. •••
قال نيل: «هذه هي هيلين. هذه من سترعى شئوننا من الآن فصاعدا. وهي كذلك لن تتسامح مع أي مسلك سيئ أو تهاون.»
قالت جيني: «خير لها.» مدت يدها لها بمجرد أن اتخذت مجلسها. لكن يبدو أن الفتاة لم تلحظها، مع وضعها المنخفض ما بين المقعدين الأماميين.
أو لعلها لم تدر ماذا عليها أن تفعل. كان نيل قد قال إنها خارجة من أزمة لا تصدق، وتنتمي إلى أسرة همجية تماما. جرت أمور لا يمكن تخيلها تحدث في وقتنا الراهن. مزرعة معزولة، أم متوفاة وابنة متأخرة عقليا وأب عجوز مستبد، مخبول لا يتورع عن سفاح القربى، وابنتان. هيلين هي الابنة الكبرى، التي هربت في عمر الرابعة عشرة بعد مهاجمتها للعجوز. التجأت لبعض الجيران الذين اتصلوا بالشرطة، فأتت الشرطة وجلبت الأخت الصغرى وأودعت الطفلتين في جناح القاصرات في وحدة رعاية الأطفال. أما العجوز وابنته - وهما نفساهما والد ووالدة البنتين - فقد أودعا في مستشفى للأمراض العقلية. تعهد أب وأم بالكفالة بهيلين وشقيقتها، اللتين كانتا طبيعيتين عقليا وجسديا، وأرسلا الفتاتين إلى المدرسة حيث أمضتا وقتا بائسا هناك؛ حيث توجب عليهما أن تنالا أعلى الدرجات. لكن كلا منهما تعلمت ما فيه الكفاية لأن تحصل على عمل.
عندما أدار نيل السيارة قررت الفتاة أن تتكلم.
قالت: «لقد اخترتما يوما حارا للخروج فيه.» لعلها سمعت الناس يستعينون بعبارة كتلك لكي يبدءوا حديثا. تحدثت بنبرة فجة وبليدة تنضح بالخصومة والارتياب، ولكن يجب عدم اتخاذ هذا على محمل شخصي، كما تعلم جيني الآن. كانت تلك ببساطة طريقة بعض الناس في الحديث - وخصوصا أبناء الريف منهم - في هذا الجزء من العالم.
قال نيل: «إذا كنت تشعرين بالحر يمكنك تشغيل مكيف الهواء. إنه من الطراز القديم، كل ما عليك هو إغلاق النوافذ.»
لم يكن المنعطف الذي اتخذوه بالسيارة عند الناصية هو ما توقعته جيني.
قال نيل: «علينا الذهاب إلى المستشفى. لا داعي للذعر. شقيقة هيلين تعمل هناك ولديها شيء تريد هيلين أن تأخذه منها. أليس صحيحا يا هيلين؟»
فقالت هيلين: «صحيح، حذائي الجيد.» «حذاء هيلين الجيد»، هكذا قال نيل متطلعا نحو المرآة. «الحذاء الجيد الخاص بالآنسة هيلين وردي.»
قالت هيلين: «اسمي ليس هيلين وردي.» وبدا كما لو أنها لم تكن المرة الأولى التي تقول فيها هذا.
فقال نيل: «أنا أسميك هكذا لأن وجهك مثل الورد.» «غير صحيح.» «بل صحيح. أليس كذلك يا جيني؟ جيني متفقة معي، وجهك مثل الورد يا آنسة هيلين ذات الوجه الوردي.»
كان للفتاة حقا بشرة وردية رقيقة. لاحظت جيني أيضا حاجبيها ورموش عينيها التي تكاد تكون بيضاء، وشعرها الأشقر في نعومة شعر الأطفال، وفمها، الذي بدا شكله عاريا على نحو يثير الاستغراب، ليس مجرد الشكل المعتاد لفم دون طلاء شفاه. كان لها مظهر بيضة طازجة، كما لو أن ثمة طبقة من الجلد ما زالت مفقودة، وطبقة أخرى نهائية من شعر البالغين الأكثر خشونة. لا بد أنها ضحية سهلة للطفح الجلدي والإصابة بالعدوى، سرعان ما يظهر عليها أثر الحك والكدمات، والإصابة بالقرح حول فمها ودمامل الجفنين ما بين رموش عينيها البيضاء. ومع ذلك فلم تبد واهنة البنية. كان محيط كتفيها عريضا، وكانت نحيلة القوام ولكن ذات هيكل جسدي ضخم. ولم تبد غبية كذلك، على الرغم من تعبير وجهها الذي يجعل الرأس يبرز للأمام، كأنه تعبير عجل أو ظبي. كل شيء لا بد أن يطفو على السطح تماما لديها، انتباهها وكل ما يخص شخصيتها يوضع بين يديك مباشرة وفورا، في سلطة بريئة؛ سلطة كانت في نظر جيني ثقيلة الوطأة.
كانوا يصعدون بالسيارة تلا نحو المستشفى؛ المكان ذاته حيث أجرت جيني عمليتها الجراحية وقطعت الشوط الأول من العلاج الكيماوي. على الناحية الأخرى المواجهة لمباني المستشفى كانت هناك مقبرة. كان هذا طريقا رئيسيا وقد اعتادا المرور من هنا في الأيام الخوالي كلما أتيا إلى المدينة للتسوق أو للتسلية النادرة بمشاهدة فيلم، وقد اعتادت جيني حينذاك قول شيء ما، مثل: «أي منظر محبط هذا!» أو «لقد فهموا توفير وسائل الراحة بالمعنى الحرفي للكلمة.»
الآن بقيت صامتة. لم تزعجها المقبرة، أدركت أن الأمر لم يكن مهما.
لا بد أن نيل أدرك ذلك أيضا. قال ناظرا إلى المرآة: «كم تظنين عدد الموتى الموجودين في تلك المقبرة؟»
للحظة لم تحر هيلين جوابا، ثم قالت في شيء من التجهم: «وما أدراني أنا؟» «الموجودين في المقبرة كلهم موتى.»
قالت جيني: «إنه يضايقني بنفس الكلام أيضا. إنها مزحة من الصف الرابع.»
لم تجبها هيلين. ربما لم تصل قط إلى الصف الرابع.
توقفوا بالسيارة لدى الأبواب الرئيسية للمستشفى، ثم استداروا حول موقف السيارات بناء على إرشادات هيلين. كان الناس في المستشفى يرتدون المآزر، وبعضهم يجرجر وراءه أجهزة المحاليل المثبتة في عروقه، وقد خرج للتدخين.
قالت جيني: «أترى ذلك المقعد المستطيل؟ آه، لا يهم، لقد تجاوزناه الآن. كان عليه لافتة تقول «شكرا لعدم التدخين»، ولكنه موجود بالخارج أمام الناس للجلوس عليه حين يتجولون خارج المستشفى. ولماذا يخرجون منها؟ ليدخنوا. إذن هل ينبغي عليهم ألا يجلسوا؟ أنا لا أفهم ذلك.»
قال نيل: «أخت هيلين تعمل في المغسلة، ما اسمها يا هيلين؟ ما اسم أختك؟»
قالت هيلين: «لويز، توقف هنا. حسنا، هنا.»
كانوا في موقف السيارات وراء أحد أجنحة المستشفى. لم تكن توجد أي أبواب في الطابق الأرضي عدا باب جرار مخصص لنقل وتفريغ الشحنات وكان محكم الإغلاق. وفي الطوابق الثلاثة الأخرى كانت الأبواب مفتوحة على سلم الحريق الخارجي.
كانت هيلين تخرج من السيارة.
قال نيل: «أتعلمين كيف تجدين طريقك إليها؟» «بسهولة.»
كان سلم الحريق الخارجي يبدأ من فوق الأرض بنحو أربعة أو خمسة أقدام، لكنها تمكنت من الإمساك بالقضبان وأرجحة نفسها للأعلى، ربما بعد أن حشرت إحدى قدميها مقابل طوبة مخلخلة، وفي غضون ثوان كانت قد صعدت. لم تدر جيني كيف فعلت ذلك، أما نيل فكان يضحك.
قال: «هيا يا بنت، حطميهم جميعا.»
قالت جيني: «ألا يوجد أي طريق آخر؟»
كانت هيلين قد ركضت حتى الطابق الثالث واختفت.
قال نيل: «لو وجد لما استخدمت سلم الحريق.»
قالت جيني في إجهاد: «كلها نباهة.»
فقال: «لو لم تكن هكذا لما أفلحت في الفرار، كانت بحاجة إلى كل النباهة الممكنة.»
كانت جيني ترتدي قبعة من القش متسعة الحافة، فخلعتها عن رأسها وبدأت تستخدمها كمروحة.
قال نيل: «آسف. لا يبدو أن هناك أي ظل لنركن فيه. ستخرج من هناك سريعا.»
قالت جيني: «هل أبدو مريعة للغاية؟» اعتاد منها أن تسأل ذلك السؤال. «أنت بخير. لا يوجد أي شخص معنا هنا على أي حال.» «الرجل الذي رأيته اليوم لم يكن هو نفس الشخص الذي رأيته سابقا. أعتقد أن هذا شخص أكثر أهمية. الغريب أن فروة رأسه بدت تماما مثل رأسي. ربما يتعمد أن يفعل ذلك على سبيل طمأنة المرضى.»
أرادت أن تواصل وتخبره بما قاله الطبيب، ولكنه قال: «أختها تلك ليست في مثل نباهتها. ويبدو أن هيلين ترعاها وتوجه لها الأوامر والنواهي. ومسألة الحذاء هذه مثال نموذجي. أليس بمقدورها شراء حذاء خاص بها؟ إنها لا تقيم حتى في سكن يخصها، فما زالت تقيم مع الأسرة التي كفلتهما، في مكان ما من الريف.»
لم تواصل جيني حديثها، استنفد تحريك الهواء بالقبعة أغلب طاقتها. راقب هو المبنى.
قال: «أدعو الرب ألا يقبضوا عليها لأنها دخلت المكان من الطريق غير الصحيح. هذا خرق للقواعد. إنها ليست من الفتيات اللواتي وضعت من أجلهن القواعد.»
بعد دقائق عديدة أطلق صفيرا بفمه. «ها هي آتية الآن ... ها هي آتية، نازلة السلم في رحلة العودة إلى الوطن. فهل ستكون ... هل ... ستكون عاقلة بما يكفي للتوقف قبل أن تقفز؟ أو إلقاء نظرة تحتها قبل أن تثب؟ هل ستكون ... هل ستكون؟ لا، أبدا ... آاااه!»
لم يكن هناك أي حذاء بين يدي هيلين. وثبت إلى داخل السيارة وصفقت الباب تغلقه وقالت: «المعاتيه الحمقى! بمجرد أن صعدت إلى هناك اعترض طريقي هذا المغفل: أين شارتك؟ لا بد أن تعلقي شارتك. لا يمكنك الدخول هناك من دون شارة. لقد رأيتك تدخلين من عند سلم الحريق، لا يمكنك فعل ذلك. حسن، حسن، أريد أن أرى أختي. لا يمكنك رؤيتها الآن فهي ليست في وقت راحتها. أعلم ذلك؛ ولذلك دخلت من سلم الحريق، لا أريد إلا أن آخذ منها شيئا بسرعة. لا أريد أن أتحدث إليها ولن أضيع وقتها سآخذ فقط شيئا منها وكفى. لا يمكنك ذلك. بل يمكنني. لا يمكنك ... وهكذا بدأت أصيح: لويز، لويز! كل ماكيناتهم تعمل بالداخل على مائتي درجة هناك والعرق ينصب صبا على وجوه العاملين وأنا أنادي: لويز، لويز! لا أعرف أين هي وهل بوسعها أن تسمعني أم لا. لكنها تظهر وهي تبكي وبمجرد أن تراني تقول: آه، اللعنة، اللعنة علي، لقد ذهبت ونسيت. لقد نسيت أن تحضر لي حذائي. اتصلت بها على الهاتف ليلة أمس وذكرتها، لكن ها هي، آه، اللعنة، نسيت. كان يمكن لي أن أضربها. لكن ذلك الشخص يقول لي: والآن اخرجي من هنا، اذهبي من السلم واخرجي من المكان، ليس من سلم الحريق فهذا يخالف القانون. يا له من لعين!»
كان نيل يضحك ويضحك ويهز رأسه. «إذن هذا ما فعلته؟ نسيت حذاءك؟» «هناك في بيت جون ومات.» «يا للمأساة!»
قالت جيني: «هل يمكننا أن نتحرك بالسيارة الآن ونحصل على بعض الهواء؟ لا أعتقد أن استخدام القبعة كمروحة يجدي نفعا.»
قال نيل: «حسن.» ثم عاد إلى الوراء ودار بالسيارة، ومرة أخرى مروا بالواجهة المألوفة للمستشفى، ونفس المدخنين، أو آخرين مختلفين، يتنزهون في ثياب المستشفى الكئيبة وبأوعية المحاليل المثبتة في أوردتهم. «سيكون على هيلين أن تخبرنا أين نذهب؟»
نادى متوجها للمقعد الخلفي: «هيلين!» «نعم.» «أي طريق نسلكه الآن للذهاب إلى بيت هؤلاء الناس؟» «أي ناس؟» «حيث تعيش أختك، حيث يوجد حذاؤك. أخبرينا كيف نصل إلى بيتهم؟» «لن نذهب إلى بيتهم؛ لذا فلن أخبرك شيئا.»
استدار نيل عائدا من الطريق الذي أتوا منه. «سأقود السيارة على هذا الطريق وحسب حتى يمكن لك أن ترشديني للاتجاهات بوضوح. هل سيكون من الأفضل إذا خرجت إلى الطريق السريع؟ أم في وسط المدينة؟ من أين علي أن أبدأ؟» «لا تبدأ من أي مكان. لن نذهب.» «إنه ليس بعيدا للغاية، صحيح؟ ولماذا لا نذهب؟» «لقد قدمت لي خدمة واحدة وهذا كاف.» جلست هيلين مائلة للأمام بقدر ما وسعها ذلك، وهي تحشر رأسها ما بين مقعد نيل ومقعد جيني. «لقد أخذتني إلى المستشفى، أليس هذا بكاف؟ لست مضطرا لأن تقود هنا وهناك لتقدم لي الخدمات.»
أبطئوا السير، وانعطفوا إلى شارع جانبي.
قال نيل: «هذه سخافة! سوف تبتعدين عشرين ميلا وقد لا تعودين إلى هنا لفترة. وقد تحتاجين إلى ذلك الحذاء.»
لا جواب. حاول هو من جديد. «أم أنك لا تعرفين الطريق؟ ألا تعرفين الطريق من هنا؟» «أعرفه، ولكني لن أخبرك.» «إذن، فسوف نظل نقود السيارة هنا وهناك. نقود هنا وهناك إلى أن تصيري مستعدة لإخبارنا.» «حسن، لن أكون مستعدة؛ لذا لن أخبركما.» «يمكننا أن نرجع ونرى أختك، أراهن أنها سوف تخبرنا. لا بد أنه حان وقت انصرافها الآن، يمكننا توصيلها معنا إلى البيت.» «عندها وردية متأخرة؛ لذلك لن يفلح هذا.»
كانوا يمضون بالسيارة في جزء من هذه البلدة لم تره جيني من قبل. مضوا ببطء شديد واتخذوا منعطفات متكررة، وهكذا لم تكد تسري عبر السيارة ولو نسمة واحدة إلا نادرا. مصنع مغلق الأبواب بألواح خشبية، متاجر التخفيضات، مكتب رهونات. نقود، نقود، نقود، هكذا كانت تقول لافتة وامضة فوق النوافذ ذات القضبان. ولكن كانت هناك منازل أيضا، مبان ذات مستويين بالية المظهر وعتيقة، وذلك النوع من البيوت المبنية من الخشب فقط، التي شيدت على عجل خلال الحرب العالمية الثانية. باحة صغيرة الحجم للغاية من باحات البيوت كانت ممتلئة بأشياء للبيع؛ ثياب منشورة على حبل، مناضد كدست عليها الصحون والأغراض المنزلية. كان ثمة كلب يتشمم تحت منضدة ويمكنه أن يطرحها أرضا، ولكن المرأة التي جلست على الدرج الخارجي، تدخن وتعاين قلة الزبائن، لم يبد أنها تكترث لذلك.
قبالة متجر على ناصية كان بعض الأطفال يلعقون حلوى الآيس كريم الجاهز. ولد منهم كان على حافة المجموعة - لم يكن يتجاوز الرابعة أو الخامسة من عمره - رمى بحلواه نحو السيارة، رمية قوية مفاجئة. ارتطمت قطعة الحلوى بالباب المجاور لجيني، أسفل ذراعها مباشرة فأطلقت صرخة واهنة.
أخرجت هيلين رأسها من النافذة الخلفية. «أتحب أن ينكسر لك ذراع؟»
بدأ الطفل يعوي. لم يكن يتوقع هيلين، ولعله لم يكن يتوقع أيضا أن تذهب حلواه هكذا إلى الأبد.
تحدثت هيلين إلى نيل، وقد أعادت رأسها إلى الداخل. «أنت تبدد الوقود دون جدوى.»
قال نيل: «شمال البلدة؟ جنوب البلدة؟ شمال جنوب شرق غرب، أخبريني يا هيلين ما الخيار الأفضل؟» «لقد أخبرتك بالفعل. لقد قدمت لي أقصى ما يمكنك فعله اليوم.» «وأنا قلت لك، سوف تحصلين على هذا الحذاء الذي يخصك قبل أن نقصد البيت.»
بصرف النظر عن مقدار صراحة حديث نيل، فقد كان يبتسم. كان على وجهه تعبير من اليقظة والانتباه، ولكن قلة الحيلة، والسخف كذلك؛ أمارات على اجتياح الغبطة له. وقع كيان نيل بكامله تحت هذا الاجتياح، كانت نفسه تفيض برحيق الغبطة.
قالت هيلين: «أنت عنيد جدا.» «سوف ترين مقدار عنادي.» «وأنا أيضا، أنا عنيدة بقدر عنادك تماما.»
بدا لجيني أن بوسعها الإحساس باشتعال وجنة هيلين وهجا، وجنتها التي كانت قريبة للغاية من وجنتي جيني. كان يمكنها سماع صوت أنفاس الفتاة، خشنة ومثقلة بالحماس وتشي بأثر ما لداء الربو. كان حضور هيلين أقرب إلى حضور قطة منزلية أليفة لا ينبغي مطلقا وضعها في أي عربة، مشدودة الأعصاب للغاية بحيث لا تملك رشدها، ومتحفزة للغاية بحيث لا تنفلت من بين المقعدين.
تخلل نور الشمس السحب من جديد. كانت ما زالت عالية ولامعة كالنحاس في السماء.
أدار نيل السيارة نحو شارع تصطف فيه أشجار عتيقة مثقلة، ومنازله أكثر احتراما بطريقة ما.
قال لجيني: «أهنا أفضل؟ مزيد من الظل لأجلك؟» تكلم إليها بنبرة خفيضة واثقة، كما لو أن ما يجري بينه وبين الفتاة يمكن أن يوضع جانبا لدقيقة، كان كله هراء فارغا.
قال: «سنأخذ الطريق المفعم بالمناظر الجميلة.» رافعا صوته من جديد وهو يخاطب المقعد الخلفي. «نأخذ طريق المناظر الجميلة اليوم؛ إكراما للآنسة هيلين الوردية الوجه.»
فقالت جيني: «ربما علينا أن نذهب مباشرة وحسب، ربما علينا أن نعود إلى البيت وحسب.»
تدخلت هيلين، وهي تكاد تصيح: «لا أريد أن أمنع أي شخص من العودة إلى البيت.»
فقال نيل: «يمكنك إذن أن تعطيني بعض الإرشادات!» كان يحاول جاهدا أن يبقي صوته تحت سيطرته، أن يضفي عليه شيئا من الاتزان الاعتيادي، وأن يطرد ابتسامته، التي ما فتئت تتسلل عائدة إلى موضعها مهما حاول جاهدا ابتلاعها. «دعينا فقط نذهب إلى المكان وننته مما نريد ونعد إلى البيت رأسا.»
بعد قطع مسافة نصف مربع سكني، بدأت هيلين تزمجر.
قالت: «إذا كان لزاما علي، أحسب أنه ما باليد حيلة.» •••
لم يكن المكان الذي اضطروا إلى الذهاب إليه شديد البعد. مروا بمفترق طرق، وقال نيل متحدثا من جديد إلى جيني: «لا نبع أستطيع أن أراه، ولا عقارات أيضا.»
قالت جيني: «ماذا؟» «عقارات النبع الفضي. مكتوب على اللافتة.»
لا بد أنه قرأ لافتة لم ترها هي.
قالت هيلين: «در.» «يسارا أم يمينا؟» «عند مخزن السيارات المحطمة.»
مروا عبر باحة للحطام، حيث هياكل السيارات مخفية جزئيا بسياج من القصدير المنبعج. ثم صعدوا تلا وعبروا من بوابات تفضي إلى حفير مغطى بالحصى لم يكن إلا تجويفا هائلا في مركز التل. «ها هم هناك. هذا صندوق بريدهم القائم هناك» صاحت هيلين بإحساس ببعض الاعتبار، وحين اقتربوا بما يكفي قرأت الاسم عاليا. «مات وجون برجسون. هذان هما.»
من مدخل السيارات اقترب كلبان وهما ينبحان. كان أحدهما ضخما أسود اللون والآخر صغيرا بلون بني فاتح للغاية وكان أقرب إلى جرو. أخذا يزمجران حول العجلات وأطلق نيل نفير السيارة. ثم ظهر كلب آخر، منسلا من بين الأعشاب الطويلة، وكان هذا أمكر وأصلب عزما، بفرو أملس مرقط ببقع تميل إلى الزرقة.
صاحت هيلين بالكلاب أن تخرس، أن تنحط مكانها، أن تغرب عنهم.
قالت: «ليس عليكما القلق منها باستثناء بينتو، الاثنان الآخران جبانان جدا.»
توقفوا في مساحة فسيحة، غير محددة المعالم حيث بدا أنهم ألقوا ببعض الحصباء عليها. على أحد الجانبين كان هناك حظيرة وسقيفة لتخزين الأدوات، مغطاة بالقصدير، وهناك على جانبها، على حافة حقل ذرة، منزل ريفي مهجور قد سقط عنه أغلب الآجر كاشفا عن الجدران الخشبية الداكنة. أما المنزل المأهول في الوقت الراهن فلم يكن إلا عربة مقطورة، مثبت بلطف ومزود برواق ومظلة واقية، وخلفه حديقة ورد بدت كما لو أنها سياج في لعبة أطفال. بدت المقطورة وحديقتها ملائمة ومرتبة، بينما كان ما تبقى من العقار مهملا وتتناثر فيه أشياء قد تكون مفيدة أو ربما تكون قد تركت هناك لتصدأ.
وثبت هيلين خارج السيارة ولطمت الكلاب، التي ظلت مع ذلك تعدو خلفها، وتتقافز وتنبح على السيارة، حتى خرج رجل من سقيفة الأدوات ونادى عليها. لم تكن التهديدات والأسماء التي نادى بها الكلاب واضحة في مسمع جيني، غير أن الكلاب هدأت.
وضعت جيني قبعتها، وكانت تمسك بها في يدها طيلة الوقت.
قالت هيلين: «إنها تنبح للفت الانتباه ليس أكثر.»
كان نيل قد خرج هو الآخر من السيارة وأخذ يهدئ الكلاب بطريقة حازمة. توجه الرجل الخارج من السقيفة صوبهم. كان مرتديا تي-شيرت بنفسجيا قد ابتل بالعرق الذي التصق بصدره وبطنه. كان بدينا بما يكفي لأن يكون لديه ثديان، ويمكن للمرء أن يرى سرته بارزة للخارج كأنه امرأة حبلى، كانت سرته ظاهرة فوق كرشه وكأنها وسادة دبابيس عملاقة.
مضى نيل للقائه وقد مد يده ليصافحه. مسح الرجل يده في سروال العمل، وضحك وصافح نيل. لم تتمكن جيني من سماع ما قالا. خرجت امرأة من المقطورة وفتحت البوابة الدقيقة الحجم كاللعبة وأغلقتها من ورائها.
صاحت بها هيلين: «ذهبت لويز ونسيت أنها من المفترض أن تحضر حذائي، لقد كلمتها في التليفون وكل شيء، ولكنها ذهبت ونسيت على كل حال؛ لذا فقد أقلني السيد لوكير لآخذ الحذاء.»
كانت المرأة بدينة هي الأخرى، على الرغم من أنها لم تكن شديدة البدانة كزوجها. كانت ترتدي فستانا بيتيا واسعا منقوشا عليه شموس على طريقة رسوم قبائل الأزتيك وكان في شعرها خصلات ذهبية. سارت عبر ممر توقف السيارات تكتنفها روح من الرصانة وكرم الضيافة. التفت نيل إليها وعرف نفسه، ثم أخذها إلى السيارة وقدم لها جيني.
قالت المرأة: «يسرني لقاؤك، أنت السيدة التي ليست في تمام العافية؟»
فقالت جيني: «أنا بخير.» «حسن، ما دمت أتيت حتى هنا فمن الأفضل أن تدخلي، تعالي بعيدا عن هذا الحر.»
فقال نيل: «لقد مررنا بكم فقط.»
اقترب الرجل وقال: «عندنا مكيف للهواء بالداخل.» كان يتفحص سيارتهما وقد ارتسم على وجهه تعبير دمث، وإن كشف عن استهانة بها كذلك.
قالت جيني: «لم نأت إلا لنأخذ حذاءها.»
فقالت المرأة - جون - وهي تضحك كما لو أن فكرة عدم دخولهما مزحة فاحشة: «الآن وقد أتيتما حتى هنا سيكون عليكما أن تفعلا ما هو أكثر من ذلك، ادخلا واستريحا قليلا.»
قال نيل: «لا نريد إزعاجكما في وقت تناول الغداء.»
فقال مات: «تناولناه بالفعل، نحن نأكل مبكرا.»
فقالت جون: «ولكن أغلب يخنة الفلفل الحار متبقية، عليكما الدخول ومساعدتنا في التخلص من تلك الطبخة.»
قالت جيني : «ولكن، شكرا لكما. لا أظن أنني أستطيع تناول أي شيء. لا أشعر بالرغبة في أكل أي شيء عندما يكون الجو حارا هكذا.»
فقالت جون: «إذن فمن الأفضل أن تشربي شيئا بدلا من الأكل، لدينا جعة الزنجبيل والكوكا. لدينا بعض شراب الخوخ الكحولي أيضا.»
قال مات لنيل: «جعة، أتعجبك الجعة ماركة بلو؟»
لوحت جيني لنيل ليقترب من نافذتها.
قالت له: «أنا غير قادرة على هذا، أخبرهما وحسب أنني غير قادرة.»
همس لها: «تعرفين أن هذا سيجرح مشاعرهما، إنهما يحاولان أن يكونا لطيفين معنا.» «ولكني لا أستطيع. ربما يمكنك أنت الدخول.»
انحنى إليها أكثر وقال: «تعرفين كيف سيبدو الأمر إن لم تدخلي معي. سيدو أنك تتعالين عليهما.» «ادخل أنت.» «ستتحسن حالتك بمجرد أن تصيري في الداخل. سيفيدك تكييف الهواء بالفعل.»
هزت جيني رأسها علامة للرفض.
رفع نيل قامته. «جيني تعتقد أنه سيكون من الأفضل لها أن تبقى وتستريح هنا ما دامت في الظل.»
فقالت جون: «ولكن أهلا بها وسهلا لتستريح في المنزل ...»
فقال نيل: «يمكنني شرب زجاجة بلو، فعلا.» أدار ظهره لجيني بابتسامة قاسية. بدا لها مهجورا وغضبان. قال بصوت مسموع لهما: «أواثقة أنك ستكونين بخير؟ أكيد؟ لا تمانعين في أن أدخل وأمكث برهة وجيزة؟»
فقالت جيني: «سأكون بخير.»
وضع يدا على كتف هيلين والأخرى على كتف السيدة جون، وسار مؤتنسا بهما نحو المقطورة. ابتسم مات ناظرا لجيني في فضول، ثم تبع الآخرين.
في هذه المرة حين نادى الكلاب لتتبعه استطاعت جيني أن تلتقط أسماءها.
جوبر. سالي. بينتو. •••
كانت السيارة أسفل صف من أشجار الصفصاف. كانت تلك الأشجار ضخمة وعتيقة، غير أن أوراقها كانت نحيلة فلم تعط إلا ظلا متذبذبا. لكن كان في وجودها بمفردها راحة كبرى.
في وقت سابق في هذا اليوم ذاته، بينما كانا يقودان السيارة على الطريق السريع من البلدة التي يعيشان فيها، كان عليهما التوقف عند كشك يقع على جانب الطريق وشراء بعض ثمار التفاح التي قطفت مبكرا عن أوانها. أخرجت جيني تفاحة من الحقيبة الموضوعة عند قدميها وقضمت منها قضمة صغيرة، لا لشيء إلا لتتبين إن كان بوسعها أن تتذوقها وتبتلعها وتحتفظ بها في معدتها. كانت بحاجة إلى شيء ما يعينها في مجابهة فكرة يخنة الفلفل الحار، وسرة مات العجيبة.
سار الأمر على نحو حسن. كانت التفاحة صلبة ولاذعة، ولكن ليست لاذعة بدرجة أكبر من اللازم، وإن هي أخذت منها قضمات صغيرة وأحسنت مضغها يمكنها إنجاز المهمة. •••
لقد رأت نيل على هذه الحال - أو على حال مشابهة لهذه - بضع مرات من قبل. كان الأمر خاصا بصبي في المدرسة. كان يأتي على ذكر اسم الصبي بطريقة عرضية، بل وفيها استهانة به. ثم ينظر تلك النظرة العاطفية حد اللزوجة، نظرة معتذرة ومع ذلك تقاوم قليلا من القهقهة بطريقة أو أخرى.
ولكن لم يسبق لها أن اضطرت للموافقة على وجود أي شخص معهما في المنزل، وربما كانت الأمور ستستمر هكذا إلى الأبد. كان وقت هذا الصبي أو ذاك ينتهي فينصرف.
لكن هذه المرة مختلفة. ينبغي ألا يكون لهذا أهمية.
كان عليها أن تتساءل إن كان الأمر أمس أقل أهمية مما هو عليه اليوم.
خرجت من السيارة، وتركت الباب مفتوحا بحيث يمكنها أن تستند إلى المقبض الداخلي للباب، لأن كل شيء بالخارج كان ساخنا لدرجة لا يمكن معها الاستناد إليه لأي وقت مهما قصر. كان عليها أن تكتشف إن كانت تستطيع أن تتوازن أم لا، ثم سارت قليلا في الظل. بعض أوراق أشجار الصفصاف كانت قد اصفرت بالفعل، وبعضها كان ساقطا على الأرض. نظرت حولها من الظلال إلى كل الأشياء التي توزعت في الباحة.
شاحنة نقل طرود منبعجة بلا مصابيح أمامية وقد أخفي الاسم المكتوب على جانبها بالطلاء. عربة أطفال مضغ الكلاب مقعدها حتى أخرجوه منها، حمولة مكومة من حطب الوقود غير مرصوصة باعتناء، كومة من إطارات ضخمة، عدد هائل من الأباريق البلاستيكية وبعض علب الزيت وقطع من أثاث رث وزوج من قطع من المشمع البلاستيكي برتقالي اللون منكمش بالقرب من جدار السقيفة. أما في السقيفة ذاتها فكانت هناك شاحنة نقل جي إم صغيرة وسيارة مازدا مضعضعة وجرار حديقة، جنبا إلى جنب معدات وتجهيزات كاملة أو مكسورة وعجلات مفكوكة، ومقابض، وقضبان معدنية قد تكون نافعة أو لا وفقا لما يمكنك أن تتخيله من نفع. ما أكثر الأشياء التي يجد الناس أنفسهم مسئولين عنها! كانت هي أيضا مسئولة عن كل تلك الصور الفوتوغرافية، والمكاتبات الرسمية، ووقائع الاجتماعات، وقصاصات الصحف، ألف فئة مختلفة من التصنيفات كان عليها تقسيمها ووضعها على قرص مدمج حتى اضطرت للذهاب إلى العلاج الكيماوي فأبعدوا كل شيء كأن لم يكن. وقد ينتهي الأمر بالتخلص من ذلك كله. كما سوف يتم التخلص من كل هذا الذي تراه الآن، إذا توفي مات.
كان المكان الذي أرادت بلوغه هو حقل الذرة. كانت عيدان الذرة أعلى من رأسها الآن، وربما أعلى من رأس نيل كذلك، وأرادت أن تأوي إلى ظلها. سلكت طريقها عبر الباحة وليس في ذهنها سوى هذه الفكرة وحدها. والحمد لله أنهم أخذوا الكلاب إلى الداخل.
لم يكن ثمة سياج. كان حقل الذرة ينتهي عند حدود الباحة. سارت وسطه مباشرة، على المسرب الضيق ما بين صفين. لطمت الأوراق وجهها برفق واحتكت بذراعيها فكانت كأنها رايات طويلة من قماش مشمع. اضطرت لأن تخلع قبعتها لكيلا توقعها الأوراق عن رأسها. كان لكل عود ذرة عرنوس وحيد، مثل رضيع في كفن. كان ثمة رائحة قوية، تكاد تثير الغثيان، رائحة نمو الخضار، رائحة النشا الأخضر والعصارة الحارة.
ما فكرت في فعله، ما إن صارت بالداخل هنا، هو أن ترقد. أن ترقد في ظل تلك الأوراق الكبيرة الخشنة وألا تخرج إلا حين تسمع صوت نيل يناديها. وربما لا تخرج حتى عندئذ. غير أن صفوف العيدان كانت شديدة القرب بعضها من بعض بحيث لا تتيح لها ذلك، ثم إنها كانت منشغلة بالتفكير في أمر آخر بما يمنعها من تحمل هذه المشقة. كانت غاضبة للغاية.
لم يكن غضبها يرجع إلى أي شيء مما حدث مؤخرا. كانت تستعيد كيف جلست مجموعة من الناس ذات مساء على أرضية غرفة معيشتها - أو غرفة الاجتماعات - يلعبون إحدى تلك الألعاب السيكولوجية الجادة. إحدى تلك الألعاب كانت تهدف إلى جعل الشخص أكثر صراحة ومرونة؛ كان على كل واحد منهم أن يقول أول ما يخطر على باله بمجرد النظر إلى كل شخص من الآخرين. قالت امرأة بيضاء الشعر، اسمها آدي نورتون، من أصدقاء نيل: «أكره أن أقول لك ذلك يا جيني، ولكن كلما نظرت إليك فإن كل ما يمكنني التفكير فيه هو «نيللي المحتشمة».»
لا تذكر أنها أبدت جوابا من أي نوع في حينها. ربما ليس من المفترض أن ترد. الجواب يتردد الآن في رأسها: «لماذا تقولين إنك تكرهين قول ذلك؟ ألم تلاحظي أن الناس كلما قالوا إنهم يكرهون قول شيء ما فإنهم في حقيقة الأمر يحبون ذلك؟ ألا تعتقدين أن علينا، وقد قررنا أن نكون في منتهى الصراحة، أن نبدأ بهذه الصراحة على الأقل؟»
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تقوم فيها بهذا الرد الذهني المتخيل. وفي ذهنها أيضا أوضحت لنيل كم كانت تلك اللعبة مجرد مسرحية هزلية! وحين أتى الدور على آدي تلك، هل جرؤ أحد منهم أن يقول لها أي شيء لا يسرها؟ آه، لا. كانوا يقولون: «حادة كالسيف»، أو «صريحة كأنك دش ماء بارد.» كانوا خائفين منها، هذا كل ما هنالك.
نطقت، عاليا الآن: «دش ماء بارد!» بصوت قارص.
آخرون قالوا لها أشياء أكثر طيبة: «هيبية حقيقية كطفلة الزهور»، أو «أميرة الينابيع الغزيرة»، وأحست أنه أيا كان من قال ذلك فلعله يقصد «الينابيع المريرة»، لكنها لم تقدم له أي تصحيح. كانت ساخطة لاضطرارها إلى أن تجلس هناك وتنصت إلى آراء الناس فيها. كانوا جميعا مخطئين. فلم تكن خجولة أو مذعنة أو طبيعية أو نقية كالينابيع.
وبعد أن يموت المرء، بالطبع، فإن كل ما يتبقى هو تلك الآراء الخاطئة.
وبينما يدور ذلك كله في عقلها فعلت أسهل ما يمكن فعله في حقل من حقول الذرة؛ ضلت الطريق. كانت قد خطت فوق صف من العيدان ثم آخر والمرجح أنها استدارت أيضا. حاولت أن ترجع من الطريق الذي أتت منه، لكن كان واضحا أنه ليس الطريق الصحيح. عادت السحب من جديد لتحجب الشمس وهكذا ما عاد بوسعها أن تعرف اتجاه الشرق. ولم تكن تدري أي الاتجاهات اتخذت حين دخلت الحقل، على أن هذا لن يكون عونا على أي حال. وقفت في موضعها ثابتة وهي لا تسمع شيئا سوى حفيف الذرة الهامس، وصوت سيارات تمر من بعيد.
كان قلبها يخفق بسرعة مثل أي قلب آخر ما زال أمامه سنوات وسنوات من الحياة.
ثم فتح باب، وسمعت الكلاب تنبح ومات يصيح بها ثم الباب يغلق بقوة. راحت تفتح طريقا لها عبر العيدان والأوراق في اتجاه تلك الضجة.
اتضح أنها لم تكن قد ابتعدت بالمرة. لقد كانت تتخبط في ركن واحد صغير من الحقل طوال الوقت.
لوح مات لها وحذر الكلاب لتبتعد.
صاح قائلا: «لا تخافي منها، لا تخافي.» كان متجها نحو السيارة مثلها تماما، ولكن من اتجاه آخر. وحين اقتربا أحدهما من الآخر تحدث إليها بصوت أخفض، وربما أكثر حميمية. «كان عليك أن تأتي وتطرقي الباب.»
لقد ظن أنها دخلت حقل الذرة لتتبول. «لقد قلت لزوجك إنني سأخرج لأتأكد من أنك بخير.»
قالت جيني: «أنا بخير. شكرا لك.» دخلت السيارة لكنها تركت بابها مفتوحا. ربما يشعر بالإساءة إذا هي أغلقته. وكذلك، شعرت بأنها أوهن قوة من أن تفعل ذلك. «بالتأكيد كان نهما لطبخة الفلفل تلك.»
عمن كان يتحدث؟
نيل.
كانت ترتجف وتتعرق وكان ثمة طنين في رأسها، كما لو أن سلكا مشدودا ما بين أذنيها. «يمكنني أن أحضر لك بعضا منه هنا لو أحببت!»
هزت رأسها، مبتسمة. رفع زجاجة الجعة في يده، وبدا أنه يقدم لها تحية. «شراب؟»
هزت رأسها من جديد، وما زالت مبتسمة. «ولا حتى شربة ماء؟ لدينا ماء طيب هنا.» «كلا، شكرا لك.»
إذا التفتت برأسها ونظرت إلى تلك السرة البارزة تحت التي-شيرت البنفسجي فلسوف يغلبها الضحك.
قال، بصوت مختلف، صوت متمهل وضحوك: «تعرفين، ذات مرة خرج ذلك الشاب الذي خرج من الباب ومعه برطمان فجل حار في يده. (الفجل الحار بالإنجليزية
horseradish ، والمقطع الأول من الكلمة
horse
بمعنى حصان.)
فسأله أبوه: إلى أين أنت ذاهب بهذا الفجل؟
أنا سوف أذهب لأحصل على حصان.
ولكنك لا تستطيع أن تمسك حصانا بالفجل الحار.
في الصباح التالي عاد الشاب، ومعه ألطف حصان يمكن رؤيته على الإطلاق.
انظر إلى حصاني الجميل هذا. ضعه في الحظيرة.» «أنا لا أحب أن أعطي انطباعا خاطئا. يجب ألا يجرفنا التفاؤل، ولكن يبدو أن بعض النتائج غير المتوقعة تحدث أحيانا.» «في الصباح التالي يرى الأب ابنه خارجا مرة أخرى. وتحت إبطه شريط لاصق مبطط. (شريط لاصق بالإنجليزية تعني
duct tape
وهي قريبة في النطق من كلمة
duck
بمعنى بطة.) ويسأله: إلى أين تذهب الآن؟
سمعت ماما تقول إنها تشتهي بطة حلوة على العشاء.
أنت إنسان غبي، هل تظن أنك تستطيع اصطياد بطة بشريط لاصق؟
انتظر وسترى.
في الصباح التالي عاد وتحت إبطه بطة حلوة سمينة.» «يبدو أن هناك تقلصا كبيرا جدا للورم. هذا ما كنا نتمناه طبعا ولكن صراحة لم نكن نتوقع حدوثه. لا أقصد بهذا أن المعركة قد انتهت، كل ما في الأمر أنها علامة طيبة.»
لم يدر الأب ماذا يقول. ببساطة لم يدر ماذا عساه أن يقول حول هذا. «في الليلة التالية، في الليلة التالية مباشرة، يرى ابنه خارجا من الباب وفي يده حزمة من الأغصان.» «علامة طيبة حقا. لا ندري إن كنا سنواجه المزيد من المشكلات في المستقبل أم لا، ولكن نستطيع أن نقول إننا متفائلون ذلك التفاؤل الحريص.» «ما هذه الأغصان التي تمسك بها في يدك؟
إنها من نبتة الست المستحية.
حسن، يقول الأب. انتظر هنا دقيقة واحدة فقط.
انتظر عندك دقيقة واحدة، سأحضر قبعتي، سأحضر قبعتي وآتي معك!»
هنا قالت جيني بصوت عال: «هذا أكثر من اللازم.»
كانت تخاطب الطبيب في ذهنها.
قال مات: «ماذا؟» وقد علت فجأة وجهه نظرة اغتمام طفولية بينما كان ما زال يقهقه. «ما الأمر الآن؟»
كانت جيني تهز رأسها، وهي تضغط بيدها فوق فمها .
قال: «ما هي إلا مزحة، لم أقصد قط الإساءة إليك.»
فقالت جيني: «لا، لا. أنا فقط ... لا.» «لا عليك، سوف أذهب للداخل. لن أهدر وقتك أكثر من ذلك.» ثم أدار لها ظهره، دون أن يكترث حتى لأن ينادي الكلاب.
لم تتفوه بشيء كهذا وهي تخاطب الطبيب. ولماذا ينبغي عليها ذلك؟ فالذنب ليس ذنبه. ولكن كان ذلك حقيقيا. كان هذا أكثر من اللازم. ما قاله جعل كل شيء أكثر صعوبة، جعل عليها أن تعود للبداية وأن تكرر هذا العام مرة أخرى من بدايته. استبعد بكلامه حرية مؤكدة، وإن كانت حرية من درجة دنيا. غشاء نسيجي واق، غشاء كسول لم تكن تعلم حتى بوجوده، انسحب مبتعدا وتركها بلا حماية. •••
حين أخبرها مات أنه ظن أنها دخلت إلى حقل الذرة لتتبول، أدركت أنها بالفعل كانت تريد التبول. خرجت من السيارة، ووقفت في انتباه وحرص، باعدت ما بين ساقيها ورفعت التنورة القطنية الواسعة. كان عليها ارتداء تنورات واسعة وتجنب السراويل في هذا الصيف لأن مثانتها لم تعد تحت السيطرة.
انساب منها إلى الحصباء خيط دافق داكن اللون. كانت الشمس قد انحدرت الآن؛ إذ صار المساء وشيكا. كانت تقف تحت سماء صافية، تلاشت منها السحب.
نبح أحد الكلاب دون حماسة ليعلن أن شخصا ما كان قادما، لكنه كان شخصا تعرفه الكلاب. لم تقترب منها الكلاب لتضايقها حين خرجت؛ إذ اعتادت عليها الآن. ركضت الكلاب لتقابل الشخص القادم، دون أي إنذار أو إثارة.
كان صبيا، رجلا شابا، يركب دراجة هوائية. انحرف تجاه السيارة واستدارت جيني لتقابله، واتكأت بيدها على المعدن الذي برد قليلا وإن كان لا يزال دافئا. حين خاطبها أرادت ألا تلفت انتباهه إلى بركتها الصغيرة، وربما لتشتت انتباهه عن النظر نحو الأرض بدأته بالحديث.
قالت: «أهلا، هل أتيت لتوصيل شيء ما؟»
ضحك، ووثب عن الدراجة بخفة وطرحها أرضا، كل ذلك بحركة واحدة.
قال: «أنا أعيش هنا، عدت إلى البيت من العمل للتو.»
فكرت أن عليها أن تشرح له من تكون، وأن تخبره كيف حدث أن تكون ها هنا ولكم من الوقت، لكن ذلك كله كان أشق من أن يمكنها احتماله. لا بد أنها بدت وهي تستند على السيارة هكذا بمظهر شخص خرج لتوه من تحت حطام كارثة.
قال: «نعم، أعيش هنا، ولكني أعمل في مطعم في المدينة. أعمل في مطعم سامي.»
نادل. القميص الناصع البياض والسروال القماشي الأسود كانا ثياب نادل، وكان له روح النادل من الصبر والانتباه.
قالت: «أنا جيني لوكير، إن هيلين. هيلين ...»
قال: «لا بأس فأنا أعرف. أنت التي سوف تعمل هيلين عندها. أين هيلين؟» «في المنزل.» «ألم يطلب منك أي منهم الدخول إذن؟»
كان في مثل عمر هيلين، هكذا فكرت، سبعة عشر أو ثمانية عشر عاما. نحيف وكيس ومعتد بذاته، ومفعم بحماسة بريئة لن تكفيه لبلوغ آماله على الأرجح. رأت بعضا ممن هم على شاكلته انتهى بهم الأمر في المؤسسات الإصلاحية.
ومع ذلك فقد بدا أنه يفهم الأمور. بدا أنه يفهم أنها كانت منهكة القوى وأنها واقعة في ارتباك من نوع ما.
قال: «هل جون هنا أيضا؟ جون هي أمي.»
كان لون شعره مثل لون شعر جون، خصلات ذهبية فوق لون داكن. كان قد أطاله وفرقه من المنتصف، وتركه يخفق متطايرا على كلا الجانبين.
قال: «ومات هنا أيضا؟» «نعم، وزوجي.» «يا للعيب!»
قالت: «لا، لا، لقد طلبوا مني ذلك. لكني قلت لهم إنني أفضل الانتظار هنا بالخارج.»
اعتاد نيل أحيانا أن يحضر معه إلى البيت زوجا من الشباب الجانحين، أو ممن كان يدللهم باسم اليويو، ليشرف عليهم وهم يقومون بجز العشب أو الطلاء أو أعمال نجارة بدائية. كان يظن أن هذا يفيدهم، أن يشعروا بأنهم موضع قبول وترحيب في بيت أحدهم. بين الحين والآخر كانت جيني تتغنج معهم، بطريقة لا يمكن أن تلام عليها. مجرد نبرة صوت رقيقة، أو طريقة تجعلهم ينتبهون بها لتنورتها الناعمة أو رائحة صابون التفاح التي تفوح منها. لم يكن هذا هو السبب وراء توقف نيل عن المجيء بهم؛ فقد أخبروه في المدرسة أن هذا مخالف للوائح. «إذن كم لك من الوقت تنتظرين؟»
قالت جيني: «لا أدري، ليس معي ساعة يد.»
قال: «حقا؟ ولا أنا معي. نادرا ما ألتقي بشخص غيري لا يرتدي ساعة يد. هل سبق لك أن ارتديت واحدة؟»
قالت: «كلا، مطلقا.» «ولا أنا، مطلقا مطلقا. لم أرغب في ذلك ببساطة، لا أدري لماذا. لم أرغب بها قط. بدا أنني على الدوام أعرف كم الوقت على أي حال، بفرق دقيقتين أو ثلاث، خمسة دقائق على الأكثر. وأعرف أيضا أين أجد كل الساعات الكبرى المعلقة. أقود الدراجة إلى العمل، وأفكر أنني سأتفقد الساعة، تعرفين، لمجرد أن أتأكد من الساعة على الحقيقة. وأعرف أول مكان حيث يمكنني أن أرى ساعة المحكمة ما بين المباني. دائما لا يكون فرق التوقيت بعيدا عما ظننته إلا بثلاث أو أربع دقائق. أحيانا يسألني أحد زبائن المطعم: هل تعرف كم الساعة، فأخبره بكل بساطة. إنهم لا يلاحظون حتى أنني لا أضع ساعة يد. أذهب لأتفقد الوقت بمجرد أن أستطيع، هناك ساعة في المطبخ. ولكني لم أضطر قط للعودة إلى الزبون من جديد لإخباره بأي توقيت مختلف عما أخبرته به.»
قالت جيني: «كنت قادرة على القيام بذلك أيضا، مرة كل حين، أظن أن المرء ينمي بداخله إحساسا بالوقت، إن هو لم يرتد ساعة يد.» «صحيح، هذا هو ما يحدث.» «إذن، كم تظن الساعة الآن؟»
ضحك وتطلع نحو السماء. «تقترب من الثامنة مساء. الثامنة إلا ست أو سبع دقائق؟ ولكن لدي ميزة تقف في صفي مع ذلك. فأنا أعلم متى غادرت العمل ثم ذهبت لشراء السجائر من متجر سفن إلفن، وبعدها تحدثت إلى بعض الأشخاص لبضع دقائق ثم ركبت الدراجة إلى البيت. أنت لا تعيشين في المدينة، صحيح؟»
قالت جيني: «نعم.» «إذن فأين تعيشين؟»
أخبرته. «أتشعرين بالتعب؟ أتريدين الرجوع إلى البيت؟ أتريدينني أن أدخل وأخبر زوجك برغبتك في الرجوع إلى البيت؟»
قالت: «لا، لا تفعل ذلك.» «حاضر، لن أفعل. أغلب الظن أن جون تقرأ لهم طالعهم بالداخل الآن على أي حال. إنها تعرف كيف تقرأ الكف.» «حقا؟» «طبعا. إنها تذهب إلى المطعم مرة أو مرتين كل أسبوع لتفعل ذلك. والشاي أيضا، تقرأ أوراق الشاي.»
التقط دراجته وجرها بعيدا عن طريق السيارة. ثم نظر إلى داخل السيارة عبر زجاج النافذة المجاورة لمقعد السائق.
قال: «لقد ترك المفاتيح فيها، إذن، هل تريدين مني أن أقلك بها إلى البيت أم ماذا؟ يمكنني أن أضع دراجتي في الخلف. أما زوجك فيمكنه أن يجعل مات يعيده إلى البيت هو وهيلين حين يصيران مستعدين للذهاب. أو إذا لم يرغب مات في ذلك يمكن لجون أن تفعل. جون أمي ولكن مات ليس أبي. إنك لا تقودين السيارات، صحيح؟»
قالت جيني: «لا أقودها.» لم تكن قد قادت سيارة لشهور. «لا. لا أظن ذلك. والآن إذن؟ أتريدينني أن أقلك؟ اتفقنا؟» ••• «ثمة طريق أعرفه. سوف أصل بك إلى هناك بسرعة الطريق السريع نفسه.»
لم يمرا بمفترق الطرق. الحقيقة أنهما توجها صوب الجهة الأخرى، وسلكا طريقا بدا أنه يلتف حول تلك الحفرة المجوفة من الحصى. على الأقل كانا يتجهان شرقا الآن، نحو الجانب الأكثر سطوعا من السماء. لم يكن ريكي - ذلك كان الاسم الذي أخبرها به - قد أنار مصابيح السيارة بعد.
قال: «ليست هناك خطورة في مقابلة أي شخص يقود من الناحية الأخرى. لا أظن أنني قد التقيت بسيارة واحدة على هذا الطريق، مطلقا. أترين؟ لا يعرف أغلب الناس هذا الطريق.»
وأضاف: «وإذا ما أضأت المصابيح، فسوف تعتم السماء ويبدو كل شيء داكنا ولن يستطيع المرء أن يعرف أين هو. ما علينا إلا أن نصبر أكثر قليلا، ثم حين تظلم يمكننا أن نرى النجوم، وعندئذ فقط نشعل مصابيح السيارة.»
كانت السماء تبدو مثل زجاج ملون تلوينا باهتا للغاية، بالأحمر أو الأصفر أو الأخضر أو الأزرق، وفقا للجزء الذي تتطلع إليه منها. «موافقة على ذلك؟»
فقالت جيني: «نعم.»
تحولت الأشجار الكبيرة والصغيرة إلى السواد ما إن أضيئت مصابيح السيارة. لم يكن هناك إلا أجمات سوداء على طول الطريق وأخذت كتل الأشجار المسودة تتجمع من ورائهما ، خلافا لذلك الثبات الفردي المميز لأشجار الراتينج والأرز والأوراق الشبيهة بالريش على هامات أشجار الأزرية الكندية وشجيرات البلسم بزهراتها التي تبدو مثل شظايا نيران تومض وتغيب. بدت الأشجار قريبة للغاية حتى يمكنهما لمسها بالأصابع، وكانا يتقدمان ببطء. أخرجت يدها من النافذة.
ليس بالإمكان بلوغها تماما، ولكن ما أقربها مع ذلك! بدا الطريق أعرض من السيارة بالكاد.
ظنت أنها رأت التماع قناة ري كاملة أمامهما.
قالت: «أيوجد ماء هناك؟»
قال ريكي: «هناك؟ نعم، هناك وفي كل مكان آخر. هناك ماء على كلا جانبينا والكثير من أماكن توافر المياه من تحتنا كذلك. أتحبين أن تريها؟»
أبطأ السيارة ثم توقف، وقال: «انظري إلى جانبك للأسفل، افتحي الباب وانظري للأسفل.»
حين فعلت ذلك رأت أنهما كانا على جسر، جسر صغير لا يزيد طوله عن عشرة أقدام، جسر من ألواح خشبية متقاطعة، دون سياج. ومن تحتهما كانت المياه لا تعتريها أي حركة.
قال: «الجسور على طول الطريق هنا، وحيث لا توجد جسور فهناك مجار سفلية لتسريب المياه؛ لأنها دائما ما تتدفق للأمام والوراء تحت الطريق، أو لأنها تسكن هنا ولا تتدفق نحو أي مكان.»
سألته: «ما مقدار عمقها؟» «ليست عميقة. ليس في هذا الوقت من العام. ليس قبل أن نبلغ البركة الكبيرة؛ فهي أعمق. وفي فصل الربيع تغطي المياه الطريق كله، لا يمكن لأحد أن يقود سيارته ها هنا، تصير المياه عميقة عندئذ. يصير هذا الطريق مسطحا لمسافة أميال وأميال، ويمضي مباشرة من طرف إلى الآخر. لا توجد حتى أي طرق تقطع المسار عرضا. هذا هو الطريق الوحيد الذي أعرفه عبر مستنقع بورنيو كله.»
كررت جيني: «مستنقع بورنيو؟» «هذا هو اسمه المفترض.»
قالت: «هناك جزيرة اسمها بورنيو، إنها في الجانب الآخر من العالم.» «لم أكن أعلم ذلك. كل ما سمعت به كان مستنقع بورنيو.»
كان هناك شريط من أعشاب معتمة الآن، نامية في منتصف الطريق.
قال: «حان وقت المصابيح.» أضاءها فوجدا أنهما صارا في نفق بداخل الليل المفاجئ.
قال: «ذات مرة قمت بذلك، أضأت المصابيح على هذا النحو، وكان هناك ذلك النيص. كان واقفا هناك في منتصف الطريق تماما. كان واقفا معتمدا على ساقيه الخلفيتين بدرجة ما وينظر إلي مباشرة، مثل رجل عجوز ضئيل الحجم. كان مذعورا حد الموت ولم يقدر على الحركة. كان بوسعي أن أرى أسنانه العجائز الصغيرة وهي تصطك.»
فكرت في نفسها، هذا هو المكان الذي يأتي بفتياته إليه. «إذن ماذا عساي أن أفعل؟ جربت أن أطلق نفير السيارة ولم يجد ذلك نفعا. لم أشعر بالرغبة في الخروج من السيارة وطرده بعيدا عن الطريق. كان مذعورا، ومع ذلك فهو ما زال نيصا ويمكنه مهاجمتي فجأة. وهكذا ظللت متوقفا في موضعي. كان لدي الوقت لأنتظر. وحين أضأت مصابيح السيارة من جديد كان قد ذهب.»
الآن صارت الأغصان شديدة القرب حقا وأخذت تحتك بالباب، لكن حتى لو كانت هناك أزهار فلن يكون بوسعها أن تراها.
قال: «سوف أريك شيئا، سوف أريك شيئا أراهن أنك لم يسبق لك رؤيته من قبل بالمرة.»
لو أن هذا كله كان يحدث في حياتها القديمة، الطبيعية، لكان من الممكن الآن أن يتسلل إليها الشعور بالخوف. لو عادت إلى حياتها القديمة، الطبيعية، لما وجدت نفسها ها هنا من الأساس.
قالت: «هل سوف تريني نيصا.» «لا، ليس ذلك. إنه شيء أكثر ندرة حتى من النيص. على الأقل في حدود علمي لا يوجد منه الكثير.»
بعد حوالي نصف ميل آخر أطفأ مصابيح السيارة.
قال: «أترين النجوم؟ لقد قلت لك. النجوم.»
أوقف السيارة. لأول وهلة كان ثمة صمت عميق في كل موضع. ثم بدأ هذا الصمت يمتلئ، على حوافه، بنوع ما من الهمهمة، من الطنين الذي يمكنه ألا يعدو كونه حركة المرور من مبعدة، وأصوات ضجيج واهنة تعبر بسرعة قبل أن يتسنى للمرء أن يسمعها، لعلها تصدر عن كائنات الليل من حيوان وطير وخفافيش.
قال: «لا بد أن تأتي إلى هنا في فصل الربيع، لن تسمعي أي شيء إلا نقيق الضفادع، حتى تعتقدي أنك سوف تصابين بالصمم بسبب الضفادع.»
فتح الباب المجاور له . «الآن. اخرجي ورافقيني.»
فعلت كما قال لها. سارت على طول أثر عجلات السيارة، وسار هو على الأثر الموازي. بدت السماء فوقهما أنضح بالنور وكان ثمة صوت مختلف؛ صوت يشبه حديثا سلسا وذا إيقاع منتظم.
استحال الطريق غابة واختفت الأشجار على الجانبين.
قال: «سيري بداخلها، هيا.»
اقترب منها ومس خصرها برفق كما لو كان يرشدها. ثم أبعد يده، فتركها تسير بمفردها على تلك الألواح الخشبية التي بدت مثل سطح القارب. ومثل سطح القارب كانت الألواح ترتفع وتنخفض. لكن هذا لم يكن بسبب حركة الموج، ولكن بسبب خطواتهما، خطواته وخطواتها، هذا ما أحدث هذه الحركة الطفيفة للغاية من الارتفاع والانخفاض للألواح من تحتهما.
قال: «الآن، أتعرفين أين أنت؟»
قالت: «على مرفأ؟» «بل على جسر. هذا جسر عائم.»
الآن أمكن لها أن تنتبه إلى ذلك الطريق الخشبي الممتد فوق المياه ببضع بوصات. جذبها نحو الجانب وأطلا للأسفل. كانت هناك نجوم تطفو على المياه.
قالت: «المياه معتمة للغاية، أقصد، إنها معتمة ليس فقط بسبب الليل؟»
قال متباهيا: «إنها معتمة طوال الوقت؛ وذلك لأنها مياه مستنقع. يوجد فيها نفس المواد التي توجد في الشاي وتمنحه ذلك المظهر الأسود الثقيل.»
كان بوسعها أن ترى خط الساحل، وشتلات القصب. المياه ما بين العيدان، حفيف المياه بالعيدان، كان ذلك هو ما يصدر ذلك الصوت. «حمض التانيك» نطقها فخورا كما لو كان اصطاد المفردة بشبكة من وسط الظلام حولهما.
الحركة الهينة للجسر جعلتها تتخيل أن كل الأشجار وأحواض القصب مثبتة على شرائح نحيلة من الأرض وأن الطريق ليس إلا شريطا عائما من الأرض، ومن تحت ذلك كله ليس سوى المياه. بدا الماء ساكنا للغاية، ولكن لا يمكن له أن يكون ساكنا حقا لأنك إن حاولت تثبيت عينيك على أحد النجوم المنعكسة، فسترى كيف يهتز ويتغير شكله وينزلق بعيدا عن النظر، ثم يعود من جديد واضحا، لكن قد لا يكون هو النجم ذاته.
لم تنتبه أن قبعتها ليست معها إلا في هذه اللحظة فقط. لم تكن تضعها على رأسها فقط ، بل لم تكن معها في السيارة أيضا. لم تكن ترتديها حين خرجت من السيارة لتبول وحين شرعت في الحديث مع ريكي. ولم تكن تضعها أيضا حين جلست في السيارة ورأسها يستند إلى المقعد وعيناها مغلقتان، حين كان مات يروي لها مزحته. لا بد إذن أنها أسقطتها في حقل الذرة، وفي نوبة ذعرها من الضياع تركتها هناك.
عندما كانت خائفة من أن تقع عيناها على سرة مات الناتئة أسفل التي-شيرت البنفسجي المبتل، لم يجد هو غضاضة في النظر إلى رأسها شبه العاري من الشعر.
قال ريكي: «من المؤسف أن القمر لم يظهر بعد. المكان لطيف حقا هنا حين يطلع القمر.» «وهو لطيف الآن أيضا.»
لف ذراعيه حولها بنعومة كما لو كان ما يفعله ليس موضع تساؤل بالمرة وكما لو كان بوسعه أن يأخذ كل الوقت الذي يشاء ليقوم بهذا. قبل فمها. بدا لها أن هذه كانت هي المرة الأولى على الإطلاق التي تتقاسم فيها قبلة تكون حدثا في حد ذاتها. الحكاية بكاملها، وحدها تماما. فصل تمهيدي رقيق، الضغط الفعال، الأخذ والعطاء بإخلاص يملأ الفؤاد، والشكر المتلكئ، والانسحاب بعيدا في شبع ورضا.
قال: «آه!»
أدارها، ثم سارا عائدين من حيث أتيا. «إذن، فهذه هي أول مرة تكونين فيها على جسر عائم؟»
قالت: «نعم، أول مرة.» «والآن ذلك ما تحصلين عليه حين تقفين عليه.»
أمسك بيدها وهزها ملوحا كما لو كان يود أن يقذف بها بعيدا. «وهي أول مرة أقبل فيها امرأة متزوجة.»
قالت: «أغلب الظن أنك سوف تقبل المزيد منهم قبل أن تكتفي.»
تنهد وقال: «صحيح!» مندهشا ومتأملا في انتباه فكرة ما يكمن أمامه، في مستقبله. «صحيح، أغلب الظن سأفعل.»
خطرت لجيني فجأة صورة نيل، عادت بسرعة إلى البر الصلب. نيل المتساهل والشكاك بطبعه، وهو يفرد كفه تحت العينين المحدقتين للمرأة ذات الشعر البراق، قارئة الطالع. يتأرجح على حافة مستقبله.
لا يهم.
ما أحست به كان حنانا من نوع خفيف الروح، كأنه ضحك أو يكاد. حفيف لمرح رقيق، هزيمة لكل قروحها وتجويفاتها الغائرة، ولو لوقت عابر.
قطع أثاث العائلة
كان اسمها ألفريدا، وكان أبي يدعوها فريدي. كان كلاهما ابني عمومة من الدرجة الأولى وعاشا في مزرعتين متجاورتين ثم عاشا لفترة في المنزل ذاته. وذات يوم كانا بالخارج في حقول محصودة حديثا يلعبان مع كلب أبي، كان اسم الكلب ماك. وعلى الرغم من أن الشمس كانت ساطعة في ذلك النهار، فإنها لم تذب الجليد في الأخاديد والشقوق. فراحا يخطوان بقوة على الجليد ويستمتعان بصوت طقطقته تحت أقدامهما.
قال أبي كيف يمكنها أن تتذكر أمرا كهذا؟ وقال أيضا إنها اختلقت الحكاية.
فقالت هي: «لم أختلق شيئا.» «بل فعلت.» «لم أفعل.»
فجأة سمعا أجراسا تقرع، وصافرات تنطلق. كان جرس البلدة وأجراس الكنائس كلها تدق. وصافرات المصانع كانت تدوي في المدينة على بعد ثلاثة أميال. كأن العالم انطلق يعبر فجأة عن بهجته، وانطلق الكلب ماك نحو الطريق لأنه كان واثقا من قدوم موكب ما. كانت نهاية الحرب العالمية الأولى. •••
كان يمكننا أن نقرأ اسم ألفريدا ثلاث مرات أسبوعيا في الجريدة. اسمها الأول فقط؛ ألفريدا. كانوا يطبعونه كما لو كان مكتوبا بخط اليد، مثل توقيع متدفق بقلم الحبر. جولة في المدينة، بصحبة ألفريدا. والمدينة المذكورة لم تكن تلك القريبة، بل مدينة تقع جنوبا، حيث كانت ألفريدا تعيش، وكانت تزورها أسرتي ربما مرة واحدة كل عامين أو ثلاثة. «الآن هو الوقت المناسب لكن جميعا يا عرائس المستقبل المقبلات على الزواج في شهر يونيو حتى تبدأن في اختيار محتويات دولاب الأطقم الصينية، ولا بد لي أن أخبركن أنني لو كنت سأتزوج قريبا - وهو ما ليس صحيحا وا أسفاه! - لكنت قاومت بشدة أطقم المائدة المزخرفة بالنقوش، مهما كانت فاتنة وفاخرة، ولفضلت عليها الأطقم البيضاء كاللؤلؤ، وأطقم الروزنتال الشديدة العصرية ...» «هناك طرق للتجميل قد تظهر وطرق أخرى للتجميل قد تختفي، ولكن أقنعة التجميل التي يكسون بها وجهك في صالون فانتان مضمونة النتائج - بمناسبة الحديث عن العرائس - وستجعل تلك الأقنعة جلدك يزدهر مثل زهرة البرتقال، وسيجعل أم العروس - وأيضا عماتها وحتى جدتها في حدود علمي - يشعرن وكأنهن غطسن في نبع الشباب ...»
لا يمكنك بالمرة أن تتوقع أن تكتب ألفريدا بهذا الأسلوب، بناء على طريقتها في الحديث.
كانت أيضا أحد شخصين يكتبان تحت الاسم المستعار: فلورا سيمبسون، في صفحة فلورا سيمبسون إلى ربات البيوت. كانت النساء من جميع أنحاء الريف يعتقدن أنهن يكتبن رسائلهن إلى تلك السيدة ريانة الجسد ذات الشعر الرمادي المجعد والابتسامة المتسامحة كما كانت تظهر في الصورة الموجودة على رأس الصفحة. غير أن الحقيقة - التي كان علي كتمانها - هي أن تلك التعليقات التي كانت تظهر أسفل كل رسالة من رسائلهن لم يكن يكتبها سوى ألفريدا نفسها ورجل كانت تدعوه بهنري الحصان، الذي كان يكتب باب الوفيات إلى جانب ذلك. كانت النساء يسمين أنفسهن في الرسائل بأسماء من نوعية نجمة الصباح وزنبقة الوادي والبستانية المعجزة وآني روني الصغيرة. وكانت بعض تلك الأسماء رائجة للغاية بحيث توجب إعطاء أرقام لتمييز صاحباتها بعضهن عن بعض؛ ذهبية الخصلات 1، ذهبية الخصلات 2، ذهبية الخصلات 3.
وكانت ألفريدا أو هنري الحصان يكتبان مثلا:
عزيزتي نجمة الصباح
الإكزيما آفة رهيبة، وخصوصا في هذا الطقس الحار الذي نعيشه، وأتمنى أن تكون لصودا الخبيز بعض الفائدة العلاجية. لا شك أن العلاجات المنزلية موضع احترام، ولكن لن يضر أبدا أن تسعي طلبا لنصيحة طبيبك. إنها لأخبار رائعة أن نسمع أن زوجك تعافى من وعكته ونهض على قدميه مرة أخرى. لا يمكن أن يكون من الممتع أن يمرض كلاكما ...
في كل المدن الصغرى من هذا الجزء من أونتاريو، كانت كل ربات البيوت المنتميات إلى نادي فلورا سيمبسون يقمن نزهة صيفية كل عام. وكانت فلورا سيمبسون دائما ما ترسل إليهن بتحياتها، ولكنها توضح لهن أنها تدعى إلى عدد هائل من المناسبات مما لا يتيح لها تلبية أي منها، وهي لا تريد أن تفضل دعوة على أخرى. قالت ألفريدا إنه جرى حديث بإرسال هنري الحصان إليهن وهو يضع باروكة ونهدين من وسائد صغيرة، أو ربما يمكنها هي نفسها الذهاب وهي تنظر إليهن شذرا وكأنها ساحرة بابل (لم يكن بمقدور أحد حتى هي أن تنقل عن الكتاب المقدس نصا، على مائدة والدي، فتقول «عاهرة» بابل) بينما السيجارة سيجي بو تتدلى من بين شفتيها. هكذا قالت: لا يمكن؛ فالجريدة سوف تغتالنا إن فعلنا ذلك. وعلى أي حال سيكون هذا فعلا شريرا للغاية.
كانت دائما ما تسمي سجائرها سيجي بو. حين كنت في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عمري مالت نحوي عبر المائدة وسألتني: «هل تحبين أن تجربي سيجي بو أنت أيضا؟» كنا قد انتهينا من تناول الطعام، وقد غادر المائدة أخي وأختي الأصغر مني. كان أبي يهز رأسه، وقد بدأ يلف سيجارة لنفسه.
قلت لها شكرا لك، وتركت ألفريدا تشعل لي واحدة ودخنت لأول مرة أمام والدي.
تظاهرا بأن الأمر كله لا يعدو كونه مزحة كبيرة.
قالت أمي لأبي: «آه، انظر ماذا تصنع ابنتك؟» وزاغت بعينيها وصفقت بيديها على صدرها وتحدثت بصوت مصطنع واهن: «سيغمى علي!»
فقال أبي، متظاهرا بالنهوض عن مقعده: «هل علي أن أجلب سوط التأديب؟!»
كانت هذه اللحظة سحرية، فكأن ألفريدا قد حولتنا جميعا فصرنا أشخاصا جددا. في الأحوال العادية كانت أمي ستقول إنها لم يكن يعجبها أن ترى امرأة ما تدخن. لم تكن تقول إن هذا يعد فعلا بذيئا، أو لا يليق بالسيدات؛ فقط إنه لم يعجبها. وحين كانت تقول بنبرة محددة إن أمرا ما لم يعجبها فلا يبدو عليها أنها تقدم اعترافا، بل كأنها تستمد معرفة من مصدر حكمة خاص بها، مصدر مسلم به ويكاد يكون مقدسا. وحين كانت تتحدث بهذه النبرة، مع التعبير المصاحب لها الذي يوحي بأنها تنصت إلى أصوات بداخلها، كنت أكرهها للغاية.
أما عن أبي، فقد كان يضربني، في هذه الغرفة ذاتها، ولكن ليس بالسوط كما قال بل بحزامه، لمخالفتي تعليمات أمي وجرح مشاعرها، ولردي عليها الكلمة بالكلمة. الآن بدت تلك الضربات كما لو أنها حدثت فقط في عالم آخر غير هذا.
كانت ألفريدا قد حاصرت والدي وحجمت نفوذهما - وأنا أيضا فعلت مثلها - ولكن رد فعلهما على ما حدث كان لعوبا ودمثا كما لو أن ثلاثتنا حقا - أنا وأبي وأمي - قد سمونا إلى مستوى جديد من الارتياح والثقة. في تلك اللحظة العابرة كان بوسعي أن أراهما - وعلى الخصوص أمي - قادرين على عيش هذه الحالة من خفة الروح وانشراح القلب، حالة نادرا ما كنت أراهما عليها.
كل ذلك بفضل ألفريدا.
دائما ما كان يشار إلى ألفريدا بوصفها فتاة عاملة. جعلها هذا تبدو أصغر سنا من والدي، على الرغم من أنه كان من المعروف أنها في نفس عمريهما تقريبا. وكان يقال أيضا إنها من قاطني المدينة. والمدينة، عند الحديث عنها بهذه الطريقة، يقصد بها المدينة التي عاشت هي واشتغلت فيها. ولكنها كانت تعني شيئا آخر كذلك؛ ليس مجرد تجمع مميز من المباني وأرصفة المشاة وخطوط الترام أو حتى احتشاد الناس معا في الزحام. كان يقصد بها شيء أكثر تجريدا بحيث يمكن الإشارة إليه مرارا وتكرارا، شيء مثل خلية النحل، هائج ولكن منظم، لا يمكن القول إنه غير مجد أو مخادع، بل مقلق وأحيانا يكون خطيرا؛ فالناس لا يذهبون إلى مكان كهذا إلا مضطرين ويكونون سعداء بالخروج منه. وعلى الرغم من ذلك، فالبعض ينجذب إليه، كما انجذبت ألفريدا بالتأكيد منذ وقت طويل، وكما أنجذب أنا الآن، بينما أنفخ دخان سيجارتي وأحاول أن أمسك بها بطريقة غير مبالية، على الرغم من أنها بدت وكأن حجمها راح يتضخم حتى صارت مثل مضرب البيسبول بين أصابعي. •••
لم تكن لأسرتي حياة اجتماعية اعتيادية؛ فلم يأت أشخاص إلى منزلنا لتناول العشاء، فضلا عن الحفلات؛ لعلها كانت مسألة طبقية. أما والدا الشاب الذي تزوجت منه، بعد نحو خمس سنوات من هذا المشهد على مائدة العشاء، فكانا يدعوان إلى حفلات عشاء أشخاصا لا يمتون لهما بصلة قرابة، وكانا هما أنفسهما يذهبان إلى حفلات ما بعد الظهر التي كانا يسميانها، دون أن يحرجهما هذا، حفلات الكوكتيل. كانت حياة تشبه تلك التي كنت أقرأ عنها في القصص بالمجلات، وبدت لي كأنها تضع حموي في عالم يشبه العالم المصور في كتب الحكايات.
ما كانت أسرتي تفعله هو وضع الأطعمة الوافرة على مائدة غرفة الطعام مرتين أو ثلاث مرات كل سنة لضيافة جدتي وعماتي - الشقيقات الكبيرات لأبي - وأزواجهن. كنا نفعل هذا في عيد الميلاد أو عيد الشكر، حين يأتي دورنا في الاستضافة، وربما أيضا كلما أتى لزيارتنا أحد الأقارب المقيمين في جزء آخر من الإقليم، ودائما كان هذا الزائر شخصا أشبه بعمتي وزوجيهما، ولم يكن يشبه - ولو بأهون درجة - ألفريدا.
كنت أنا وأمي نبدأ في إعداد وجبات العشاء تلك قبل موعد الزيارة بيومين؛ فنكوي مفرش المائدة الجيد، الذي كان ثقيلا كأنه لحاف، ونغسل أطقم الصحون الجيدة، التي كانت مستكينة في خزانة الأطقم الصينية فريسة الغبار، ونلمع أقدام مقاعد السفرة، إلى جانب إعداد سلطات الهلام، والفطائر والكعك، التي يجب أن تقدم إلى جانب ديك الحبش المشوي في مركز المائدة، أو لحم الخنزير المطبوخ وأوعية من الخضراوات. كان لا بد من توافر الطعام أكثر مما يمكن أكله بكثير، وأغلب الحديث على المائدة كان يتعلق بالطعام، حيث يبدي الضيوف الثناء على مقدار جودته، وحيث يحثهم المستضيف على تناول المزيد، فيتمنعون هم قائلين إنهم لن يستطيعوا ذلك، فقد أتخمت بطونهم، وعندئذ يلين زوجا العمتين للإلحاح، فيأخذان المزيد، أما العمتان فتأخذان أقل القليل وهما تقولان إنه ينبغي عليهما ألا تفعلا ذلك؛ لأنهما على وشك الانفجار.
ثم بعد ذلك هناك الحلوى.
نادرا ما كانت تطرح أي فكرة تخص الأحاديث العامة، وفي الحقيقة كان يسود شعور بأنه إذا تجاوز الحديث حدودا مفهومة بعينها، فقد يعد مثيرا للضيق أو بمنزلة تباه واستعراض. لم يكن من الممكن الاعتماد على فهم أمي لتلك الحدود، فأحيانا كانت لا تطيق الانتظار حتى يتوقف محدثها أو تحث الضيف على استكمال حديثه. وهكذا، إذا ما قال أحدهم: «لقد رأيت هارلي في الشارع يوم أمس.» فقد كانت في الأغلب تقول: «هل تظن أن رجلا مثل هارلي أعزب عن قصد وعمد؟ أم أنه فقط لم يلتق السيدة المناسبة له؟»
كما لو أنك، حين تذكر عرضا أنك رأيت شخصا ما، مطالب بأن تقول شيئا إضافيا إلى جانب ذلك، شيئا مثيرا للاهتمام.
عندئذ قد يحط الصمت، ليس لأن الأشخاص الجالسين إلى المائدة يقصدون أن يكونوا وقحاء معها؛ بل لأنهم وقعوا في حيرة. إلى أن يقول أبي بإحراج وتوبيخ موارب: «إنه يبدو على خير حال «وحديه».»
لو أن أقاربه لم يكونوا حاضرين، فأغلب الظن أنه كان سينطقها صحيحة «وحده».
ثم يواصل الجميع التقطيع بالسكاكين والغرف بالمعالق والازدراد، أمام بريق مفرش المائدة النظيف، والضوء الساطع الساقط علينا من النوافذ التي تم مسحها حديثا، فدائما ما كانت مآدب العشاء تلك تقام في منتصف النهار.
كان الجالسون إلى تلك المائدة قادرين تماما على الحديث، فبينما كانت العمتان تساعدان في غسل الصحون وتجفيفها، في المطبخ، كانتا تتحدثان بشأن من أصيبت بورم، وعفونة الحلق، وكمية سيئة من البثور. كانتا تتحدثان حول مدى كفاءة أجهزتهن الهضمية، والكلى، والأعصاب. لم يبد على الإطلاق أن ذكر شئونهن الجسدية الحميمة أمر في غير محله، أو موضع شك، مثل ذكر موضوع قرأه شخص في مجلة، أو موضوع من موضوعات الأخبار؛ كان من غير اللائق على نحو ما إبداء الاهتمام بأي شيء ليس في متناول اليد. وفي أثناء ذلك، وبينما كان زوجاهما يستريحان في الرواق الخارجي للمنزل، أو خلال تمشية قصيرة بالخارج للتمتع بالنظر إلى المحاصيل، قد تتبادلان معلومات بأن الشخص الفلاني يمر بضائقة وأزمة مع البنك، أو ما زال مديونا بالمال مقابل ماكينة باهظة الثمن، أو استثمر ماله بشراء ثور تبين أنه بلا نفع في العمل.
لعل الأمر أنهم كانوا يشعرون جميعا بأن رسميات غرفة السفرة تلجمهم؛ حضور تلك الصحون الصغيرة المخصصة للخبز والزبد ومعالق تناول الحلوى، في حين كان المعتاد في أزمنة أخرى هو وضع قطعة الفطيرة فوق طبق العشاء ذاته بعد تنظيفه بالخبز. (ومع ذلك، ستكون إهانة إن لم يتم تنظيم أدوات المائدة بهذه الطريقة اللائقة؛ ففي مثل تلك المناسبات كانوا يفعلون الأمر عينه في منازلهم، ويعاملون ضيوفهم بالطريقة اللائقة ذاتها.) وربما كل ما هنالك أن الأكل كان شيئا، والتحدث كان شيئا آخر.
أما حين كانت تأتي ألفريدا تصير القصة مختلفة كلية. نعم، نفرد المفرش الجيد على المائدة، ونخرج الصحون الجيدة كذلك، وتخوض أمي عناء كبيرا لإعداد الطعام وتكون متوترة بشأن النتائج، والأغلب أنها كانت تستبعد الفكرة المعتادة المتمثلة في ديك الحبش المحشو إلى جانب البطاطس المخفوقة، وتعد شيئا من قبيل سلطة الدجاج المطوقة بتلال صغيرة من الأرز المقولب مع شرائح الفلفل الحلو، ثم تتبع ذلك أطباق حلوى معدة من الهلام وبياض البيض والكريمة المخفوقة، وهي ما تحتاج لإعدادها لوقت طويل ومحطم للأعصاب؛ لأننا لم نكن نملك ثلاجة، ولا بد من تبريدها في الطابق التحتي الخاص بالقبو. لكن على المائدة ذاتها، لم يكن هناك وجود لذلك القيد الضاغط والجو الكئيب المخيم؛ فلم تكن ثمة حاجة لعرض حصة أخرى من الطعام على ألفريدا، فهي لم تكن فقط تقبلها ببساطة، بل كانت تطلبها بنفسها، وكانت تفعل ذلك دون انتباه له تقريبا. ودون انتباه كذلك كانت ترمي بعبارات المجاملة والاستحسان، كما لو أن مسألة تناول الطعام ليست سوى أمر ثانوي، وإن كان الطعام مستطابا، وكأنها لا تجلس هناك في الحقيقة إلا لتتحدث، وتشجع الآخرين على الحديث، وأي شيء تود الحديث عنه - أي شيء تقريبا - سيفي بالغرض.
دائما ما كانت تزورنا صيفا، وغالبا ما كانت ترتدي نوعا من فساتين الصيف الحريرية المقلمة، بلا أكمام، وبشريط يلتف حول الرقبة من الثوب فيترك ذلك ظهرها عاريا. لم يكن ظهرها جميلا، بل كان مبقعا بشامات صغيرة داكنة اللون، وكتفاها كانتا نحيفتين كالعظام، وصدرها يكاد يكون مسطحا. ودائما ما أبدى أبي ملاحظاته حول كيف كانت تأكل كثيرا، وعلى الرغم من ذلك تظل نحيفة. أو يبدل رأيه بسرعة بالانتباه إلى أن شهيتها انتقائية كما كانت على الدوام، ولكنها ما زالت غير معصومة من مراكمة الدهون. (لم يكن من غير اللائق في أسرتنا التعليق بشأن البدانة، أو النحافة، أو الشحوب، أو التورد، أو الصلع.)
كانت ترفع شعرها في لفائف فوق وجهها وعلى الجانبين، على صيحة تلك الفترة . كانت بشرتها تنضح بدرجة من اللون البني، مغزولة بشبكة رقيقة من التجاعيد. أما فمها، بشفته السفلى الغليظة، الساقطة تقريبا، فكانت تلونه بطلاء شفاه قوي اللون دائما ما يترك أثرا على فنجان الشاي وقدح الماء. وحين ينفتح فمها على اتساعه - وهو ما كان الحال على الدوام، سواء أكانت تتحدث أم تضحك - يمكن للمرء أن يرى أن بعض ضروسها في الخلف قد تم خلعها. لم يكن بوسع أحد القول إنها كانت جميلة - وبالنسبة لي فإن أي امرأة قد تعدت الخامسة والعشرين من عمرها قد تجاوزت تماما إمكانية أن تكون جميلة، وتكون قد فقدت الحق في أن تبدو جميلة، وربما حتى فقدت رغبتها في ذلك - غير أنها كانت متوهجة ومنطلقة. قال أبي في مراعاة إنها كانت مفعمة بالحيوية.
كانت ألفريدا تتحدث إلى أبي بشأن الأمور التي تجري في العالم من حولنا، بشأن السياسة. كان أبي يقرأ الصحف، ويستمع إلى الراديو، وله آراؤه الخاصة في تلك الأمور، ولكنه نادرا ما أتيحت له الفرصة ليتكلم عنها. أزواج العمات كانت لهم آراؤهم أيضا، ولكنها كانت مقتضبة وثابتة ومعربة عن شك أبدي في كل الشخصيات العامة، وعلى الخصوص جميع الأجانب. وهكذا، طوال الوقت لا يمكن أن تستخلص منهم أكثر من أصوات أنفية مزدرية. كانت جدتي صماء، ولا أحد يعرف مقدار ما كانت تعرف أو ما رأيها في أي شيء، أما العمات أنفسهن فقد كن فخورات تماما بمقدار عدم اطلاعهن أو عدم إبدائهن لأي اهتمام بتلك الشئون العامة. كانت أمي معلمة في مدرسة، وكانت على استعداد لأن تحدد مواقع جميع دول القارة الأوروبية على الخريطة، ولكنها كانت ترى كل شيء من خلال غلالتها الشخصية المسدلة على عينيها، حيث يتم تضخيم شأن الإمبراطورية البريطانية والعائلة الملكية لأقصى حد بحيث يبدو كل ما عدا هذا تافها بلا قيمة، ويلقى به إلى كومة أشياء مختلطة يسهل عليها أن تتجاهل وجودها.
لم تكن وجهات نظر ألفريدا تبتعد كثيرا عن تلك الخاصة بزوجي عمتي، أو هكذا بدا الأمر. ولكنها بدلا من إطلاق نخرات الاستهانة من أنفها وترك الموضوع يمر مر الكرام، كانت تطلق ضحكتها المستهزئة، وتروي نوادر بشأن رؤساء الوزراء والرئيس الأمريكي وجون إل لويس وعمدة مونتريال؛ نوادر كانوا يظهرون فيها جميعا بصورة سيئة. كانت تروي نوادر بشأن العائلة الملكية كذلك، ولكن هنا كانت تميز ما بين الأخيار مثل الملك والملكة والسيدة الجميلة دوقة كنت، وبين الأشرار مثل آل ويندسور والملك العجوز إيدي، الذي - كما قالت - يعاني داء ما، وقد ترك على عنق زوجته علامات من أثر محاولته لخنقها، وهو سر ارتدائها لعقود اللآلئ دائما وأبدا. كان هذا التمييز بين الأخيار والأشرار منهم يتفق إلى حد كبير مع آراء أمي، ولكنها نادرا ما كانت تتحدث بشأنها، ولهذا فلم تكن تعترض، على الرغم من أن الإشارة الضمنية إلى مرض الزهري جعلتها تجفل مرتاعة.
أما أنا فكنت أبتسم لهذا التلميح، عن دراية، بثقة طائشة.
كانت ألفريدا تطلق على الروسيين أسماء مضحكة؛ ميكويان-سكاي، والعم جوي- سكاي. كانت تؤمن بأنهم كانوا يخدعون الجميع لإلهائهم، وأن الأمم المتحدة مهزلة لن تفلح أبدا، وأن اليابان ستنهض من جديد، وأنه يجب الإجهاز عليها تماما عندما تسنح الفرصة. لم تكن تثق في مقاطعة كيبيك كذلك، أو في البابا. كانت لديها مشكلة مع السيناتور مكارثي؛ كانت تود أن تقف في جانبه، ولكن كونه كاثوليكيا كان عقبة أمامها. كانت تسخر من البابا، وكانت تستمتع بالتفكير في كل هؤلاء اللصوص والأنذال الذين يملئون العالم.
في بعض الأحيان كانت تبدو كما لو أنها تقدم مشهدا مسرحيا؛ استعراضا، ربما بغرض إغاظة أبي؛ لتكدير صفائه - كما قال هو نفسه - وإذكاء نيرانه، ولكن ليس لأنها لم تكن تحبه أو حتى أرادت مضايقته، بل على العكس تماما، فلعلها كانت تشاكسه كما تشاكس الفتيات الصغيرات الشبان في المدرسة، حين تصير الخلافات مصدرا غريبا للسرور لكلا الجانبين، والإساءات تتخذ سمت المغازلة. كان أبي يجادلها، بصوت لطيف وثابت على الدوام، ومع ذلك كان واضحا أنه كان يقصد استفزازها. أحيانا كان يتراجع ويحول مساره، ويقول إنها ربما تكون على صواب؛ فمع اعتبار عملها في صحيفة، قد يكون لديها من مصادر المعلومات ما لا يملكه هو. كان يقول لها: لقد صححت أفكاري، وإن كان لدي عقل فلا بد أن أكون ممتنا لك. فترد هي قائلة: لا تصب علي حمولة الهراء تلك. «آه منكما أنتما الاثنتين!» هكذا قالت أمي، بيأس متهكم وربما بقوى مستنزفة حقا، فتخبرها ألفريدا بأن تذهب وترقد قليلا، فهي تستحق ذلك بعد هذا العشاء الفاخر، على أن أعتني أنا وهي بغسل الصحون. كانت أمي معرضة للإصابة برعشة في ذراعها اليمنى، وتصلب في أصابعها، وكانت تعتقد أن هذا لا يصيبها إلا حين تكون منهكة تماما.
بينما كنا نعمل في المطبخ حدثتني ألفريدا عن المشاهير؛ الممثلين، وحتى نجوم السينما الثانويين، الذين اعتلوا خشبة المسرح في المدينة التي تعيش فيها. وبصوت خفيض، ومع ذلك تقطعه ضحكاتها المجلجلة المستهترة، كانت تروي لي حكايات عن سلوكياتهم السيئة، عن الشائعات التي تدور حول فضائحهم الخاصة التي لا تتسرب أبدا في المجلات. أتت على ذكر رجال لوطيين، وآخرين يصطنعون لهم نهودا، ومثلث من امرأة ورجلين يعيشون حياة منزلية عادية؛ كل تلك الأمور التي كنت أجد تلميحات إليها في قراءتي، ولكني أصاب بالدوار إذا سمعت عنها في الحياة الحقيقية، حتى ولو من مصدر غير مباشر.
دائما ما لفتت أسنان ألفريدا انتباهي؛ لذلك أحيانا ما كنت أشرد عما تقوله، حتى في أثناء روايتها لتلك الحكايات السرية. كان لكل سن من تلك الأسنان المتبقية في فمها، عند المقدمة، لون مختلف عن لون الأخرى اختلافا هينا، فما من اثنتين متماثلتين. بعضها بلون المينا القوي مع ميل نحو ظلال العاج الداكن، وبعضها كان براقا، مظللا بلون الليلك، ويشع بومضات سريعة من حواف فضية، وبين الحين والآخر بوميض ذهبي. نادرا ما كانت أسنان الناس في تلك الأيام تظهر متينة ومتناسقة كما هو الحال الآن، إلا إذا كانت أسنانا صناعية. ولكن أسنان ألفريدا تلك كانت ذات تفرد استثنائي، منفصلة بوضوح، وكبيرة الحجم. حين كانت ألفريدا تطلق إحدى تهكماتها، وخصوصا تلك المعيبة عن قصد، كانت أسنانها تبدو كما لو أنها تقفز إلى صدارة المشهد مثل حراس القصر، أو محاربين بالرماح ولكن ظرفاء.
قالت العمتان: «دائما ما كانت تعاني مشكلة مع أسنانها، لقد أصابها ذلك الخراج، تذكرن؟ سرى سمه في بدنها كله.»
وكنت أنا أفكر كيف لهن أن يضعن جانبا بضربة واحدة ذكاء ألفريدا وأناقتها، ثم يحولن أسنانها إلى أزمة مؤسفة.
قالتا: «لماذا لا تتخلص منها جميعا وترتاح؟» «غالبا لأنها لا تملك المال الكافي.» هكذا قالت جدتي، لتفاجئ جميع الحاضرين كما كانت تفعل أحيانا بإعلان أنها كانت تتابع الحديث طوال الوقت.
ولتفاجئني أنا بإلقائها هذا الضوء الجديد، الآتي من هموم الحياة اليومية، الذي تلقيه على حياة ألفريدا. كنت قد اعتقدت أن ألفريدا ثرية؛ أو على الأقل ثرية مقارنة ببقية العائلة. كانت تقيم في شقة - لم أرها قط، ولكن بالنسبة إلي كانت تلك على الأقل فكرتي عن حياة في غاية التحضر - وكانت ترتدي ثيابا ليست صناعة منزلية، وأحذيتها لم تكن من نوعية أكسفورد التي تكسي القدم وذات الأربطة مثل التي ترتديها فعليا جميع النساء البالغات اللاتي عرفتهن في حياتي، بل كانت ترتدي صنادل مفتوحة مصنوعة من شرائط لامعة من مادة البلاستيك الجديدة. كان من العسير أن أعرف إن كانت جدتي ما زالت تعيش في الماضي ببساطة، حين كان أمر إصلاح الأسنان المريضة يكلف ثروة ضخمة من مدخرات عمر كامل، أو إن كانت تعرف حقا عن حياة ألفريدا أمورا لم يسعني أن أخمنها قط.
لم تحضر بقية أفراد العائلة بالمرة على مائدة العشاء في منزلنا عند حضور ألفريدا. كانت تذهب لرؤية جدتي، التي كانت خالتها مباشرة. لم تعد جدتي تعيش في بيتها الخاص، ولكن بدلا من ذلك كانت تقيم عند إحدى عمتي، وكانت ألفريدا تقصد المنزل الذي يضم جدتي أيا كان الوقت، ولكنها لا تقصد المنزل الآخر لترى العمة الأخرى التي كانت بنت خالتها أيضا شأن أبي تماما. ولم تكن تتناول وجبتها قط مع أي منهما. في أغلب الأحوال كانت تمر بمنزلنا أولا، لتزورنا لبعض الوقت، ومن ثم تستجمع نفسها، كما لو كان على مضض، لتقوم بالزيارة الأخرى. وحين كانت تعود فيما بعد ونجلس لنأكل، لم يكن يقال أي شيء يحط من قدر عمتي أو زوجيهما، وبالطبع لا يقال أي شيء فيه ازدراء لجدتي. وفي الحقيقة كانت طريقة حديث جدتي عن ألفريدا، وقد شحن صوتها فجأة بالانتباه والاهتمام، بل حتى بلمسة من الخوف (وماذا عن ضغط الدم لديها؟ هل زارت الطبيب مؤخرا؟ وما الذي قاله لها؟) تلك الطريقة هي ما جعلتني أدرك الفرق؛ الفتور والتحفظ غير الودود الذي كانت تتفقد به أحوال الآخرين. ثم يكون هناك تحفظ مشابه في جواب أمي عليها، ووقار إضافي في جواب أبي - وقار كاريكاتوري إن صح القول - مما أظهر كيف أنهم جميعا قد اتفقوا على شيء لا يمكنهم قوله صراحة.
في ذلك اليوم حين دخنت السيجارة قررت ألفريدا أن تشتط إلى ما هو أبعد قليلا، فقالت في وقار: «وكيف حال آزا؟ أما زال كثير الكلام كما كان دائما؟»
هز أبي رأسه في أسى، كما لو كان الأمر أن ثرثرة هذا العم لا بد تثقل كواهلنا جميعا.
قال: «حقيقي، ما زال هكذا.»
ثم انتهزت فرصتي.
قلت: «يبدو أن خنازيره قد أصيبت بالديدان الشريطية. صحيح!»
فيما عدا كلمة «صحيح» كان هذا بالضبط ما كان يقوله عمي، وقد قاله على هذه المائدة ذاتها، مدفوعا بحاجة غامضة لكسر الصمت أو الإدلاء بشيء هام خطر على باله لتوه. وقد قلت ما قلته بنفس غنته المهيبة، ووقاره البريء.
ضحكت ألفريدا ضحكة كبيرة مستحسنة، أظهرت أسنانها المبهجة وقالت: «هذه هي، لقد عرفت كيف تقلده حقا.»
مال أبي على طبقه، كما لو كان يخفي أنه كان يضحك أيضا، ولكن بالطبع لم يكن يخفي ذلك تماما، وراحت أمي تهز رأسها وتعض شفتيها، مبتسمة. شعرت بنصر مبين. لم يطلب مني أن ألزم حدودي، ولم أوبخ لما كان يسمى أحيانا ميلي للتهكم، أو كوني نبيهة. عندما كانوا يستخدمون كلمة «نبيهة» معي، في نطاق الأسرة، قد يقصدون بها الذكاء الذهني، ومن ثم كانت تستخدم بشيء من النقمة - «آه، انظروا، إنها نبيهة بما يكفي ويزيد!» - أو ربما تستخدم بمعنى كوني مغترة بنفسي، ألتمس لفت الانتباه نحوي، وبغيضة، «لا تكوني نبيهة هكذا.»
أحيانا كانت أمي تقول لي وهي حزينة: «لديك لسان حاد لا يرحم.» وأحيانا أخرى - وهو ما كان أسوأ كثيرا - كان أبي يبدي اشمئزازه مني. «ماذا يجعلك تظنين أن لك الحق في ذم الناس المحترمين هكذا؟»
في هذا اليوم لم يحدث أي شيء كهذا؛ فقد بدا أنني أتمتع بحريتي التامة على المائدة مثل زائرة غريبة، تقريبا في مثل حرية ألفريدا، وأزدهر تحت راية شخصيتي. •••
ولكن فجوة ما كانت على وشك أن تنشق، وربما كانت تلك هي المرة الأخيرة، المرة الأخيرة تماما، التي جلست فيها ألفريدا إلى مائدتنا. ظللنا نتبادل بطاقات التهنئة بأعياد الميلاد، وربما حتى الرسائل - لطالما كانت أمي قادرة على التحكم بالقلم - وظللنا نقرأ اسم ألفريدا في الصحف، ولكني لا أستطيع أن أتذكر أي زيارات أخرى في أثناء العامين الأخيرين اللذين عشتهما في المنزل.
ربما يكون الأمر أن ألفريدا سألت إن كان بوسعها أن تحضر صديقها معها فرفض طلبها. لو كان هو الرجل الذي كانت تعيش معه بالفعل، لكان هذا سببا محتملا للرفض، ولو كان الرجل ذاته الذي حظيت به مؤخرا، فإن حقيقة كونه رجلا متزوجا تعد سببا إضافيا. لقد اتفق والداي حول هذا الأمر. كان الذعر ينتاب أمي تجاه الجنس حين يخالف القواعد، أو حين يكون عرضا للتباهي - ويمكن القول إنها ينتابها الذعر تجاه أي نوع من الجنس عموما لا يقع داخل نطاق العلاقة الزوجية اللائقة - وأبي أيضا كان يدين هذه المسائل إدانة صارمة في ذلك الوقت من حياته. ولعله كان لديه اعتراض خاص كذلك، ضد أي رجل يمكنه أن يحكم قبضته على ألفريدا ويتلاعب بها.
لقد رخصت نفسها في أعينهما. يمكنني أن أتخيل أحدهما أو الآخر يقول ذلك؛ ما كان عليها أن تذهب وترخص نفسها هكذا.
ولكن ربما ما كان عليها أن تطلب ذلك بالمرة، ربما كانت تعلم ما فيه الكفاية بحيث لا تفعل ذلك. في أثناء زياراتها السابقة والمنعشة ربما لم يكن هناك أي رجل في حياتها، وحين ظهر أحدهم، ربما يكون قد تحول اهتمامها تحولا تاما؛ ربما صارت شخصا مختلفا عندئذ، كما صارت فيما بعد دون شك.
أو لعلها صارت حذرة من الجو الخاص بالحياة العائلية حيث يوجد شخص مريض سوف تزداد حالته سوءا ولن يتحسن أبدا. كانت هذه حالة أمي، التي انضمت أعراض متاعبها الصحية بعضها إلى بعض، واجتازت نقطة اللاعودة، وبدلا من أن تكون مجرد قلق أو مضايقة صارت هي قدرها بكامله.
قالت العمتان: «مسكينة!»
بينما كانت أمي تتحول من أم إلى حضور مبتلى في أنحاء المنزل، فإن الأخريات من نساء العائلة، واللاتي كن محدودات للغاية في السابق، بدا وكأنهن يكتسبن شيئا من الحيوية والكفاءة المتزايدة في العالم. حصلت جدتي لنفسها على سماعات للأذنين؛ وهو شيء لم يقترحه عليها أحد. أحد زوجي العمتين - ليس آزا ولكن الآخر المدعو إرفين - توفي، والعمة التي كانت زوجا له تعلمت قيادة السيارة وحصلت على وظيفة في متجر ثياب، وما عادت تضع على رأسها الشبكة التي تجمع الشعر.
كانتا تأتيان لرؤية أمي، ورأتا الشيء ذاته على الدوام؛ أن المرأة التي كانت جميلة المظهر، والتي لم تدعهما تنسيان أنها كانت معلمة في مدرسة ما، كانت مع مرور كل شهر جديد تصير حركات أطرافها أبطأ وأصلب، ويصير كلامها أغلظ وأكثر إزعاجا، وأنه ما من شيء يمكنه مساعدتها.
أخبرتاني بأن أرعاها جيدا.
وذكرتاني قائلتين: «إنها أمك.» «المسكينة!»
ما كان بمقدور ألفريدا أن تقول مثل تلك الأشياء، ولعلها ما كانت لتستطيع أن تجد شيئا تقوله لو كانت في موضعهما.
لم أجد بأسا في عدم قدومها لزيارتنا. لم أكن أرغب أن يأتي الناس لزيارتنا بالمرة؛ إذ لم يكن لدي وقت من أجلهم، فقد صرت مهووسة بتدبير شئون المنزل؛ أشمع الأرضيات، وأكوي حتى مناشف الأطباق، وما كنت أفعل هذا كله إلا لأطرد خزيا من نوع ما (فقد بدا تدهور حالة أمي وكأنه خزي فريد أصابنا جميعا بعدواه). ما كنت أفعل هذا كله إلا ليبدو الأمر كما لو أنني كنت أعيش مع والدي وأخي وأختي حياة عائلية طبيعية في منزل عادي، ولكن في اللحظة نفسها التي يخطو فيها أحدهم من بابنا ويرى أمي، فإنه يدرك أن الأمر بخلاف ذلك؛ ومن ثم كانت تأخذه الشفقة بنا، وهو ما لم أستطع احتماله. •••
فزت بمنحة دراسية. لم أمكث في المنزل لرعاية أمي أو لرعاية أي شيء آخر، بل ذهبت إلى الكلية. كانت الكلية في المدينة ذاتها التي تعيش فيها ألفريدا. بعد بضعة أشهر طلبت مني المرور بها لتناول العشاء معها، ولكني لم أستطع الذهاب؛ لأنني كنت أعمل في كل مساء على مدى الأسبوع كله عدا أيام الآحاد فقط. كنت أعمل في المكتبة العامة الخاصة بالمدينة، في وسط البلدة، وفي مكتبة الكلية كذلك، وكلتاهما كانتا تفتحان للجمهور حتى التاسعة مساء. في وقت ما تال على ذلك، وخلال فصل الشتاء، كررت ألفريدا دعوتها لي، وفي هذه المرة كانت الدعوة في يوم أحد؛ فأخبرتها بأنني لن أستطيع زيارتها لأنني سأذهب لحضور حفل موسيقي.
فقالت: «آه، موعد غرامي؟» فقلت نعم، ولكن لم يكن ذلك حقيقيا حينها؛ كنت أذهب لحضور حفلات أيام الآحاد المجانية في قاعة الاستماع الخاصة بالكلية بصحبة فتاة أخرى، أو فتاتين أو ثلاث، حتى نجد شيئا ما نفعله، ويداعبنا الأمل الواهي في مقابلة بعض الشبان هناك.
قالت ألفريدا: «إذن سيكون عليك أن تحضريه معك في وقت ما، أنا أتحرق شوقا لمقابلته.»
قبيل نهاية العام كنت قد حظيت برفقة أحدهم لآخذه معي، وقد التقيته فعلا في إحدى تلك الحفلات الموسيقية، أو على الأقل، كان قد رآني هو في حفل موسيقي واتصل بي على الهاتف وطلب مني الخروج معا، لكني لم آخذه معي بالمرة لمقابلة ألفريدا، ولم أصطحب أيا من أصدقائي الجدد لمقابلتها على الإطلاق. كان أصدقائي الجدد من نوعية الأشخاص الذين قد يقولون لك: «هل قرأت «انظر باتجاه بيتك أيها الملاك»؟ آه، لا بد لك من قراءتها ... هل قرأت «آل بودنبروك»؟» كانوا من نوعية الأشخاص الذين أصحبهم لمشاهدة أفلام مثل «ألعاب محرمة» و«أطفال الجنة» عندما تقوم جمعية الفيلم بعرضها. أما الشاب الذي كنت أخرج بصحبته، والذي خطبت إليه فيما بعد، فقد كان يأخذني إلى المكتبة الموسيقية، حيث يمكنك الاستماع إلى التسجيلات في ساعة استراحة الغداء. وقد عرفني على موسيقى تشارلز جونود، وبسبب جونود أحببت فن الأوبرا، وبسبب الأوبرا أحببت موتسارت.
وحين تركت لي ألفريدا رسالة في مبيت الطلاب، تسألني أن أعاود الاتصال بها، لم أفعل ذلك بالمرة. بعد ذلك لم تتصل بي مرة أخرى. •••
كانت لا تزال تكتب للصحيفة، وبين الحين والآخر كنت أسترق نظرة سريعة إلى واحدة من مقالاتها الحماسية، حول التماثيل الخزفية الصغيرة لسيدات العائلة الملكية، أو نوع مستورد من بسكويت الزنجبيل، أو ثياب العرائس التحتية في شهر العسل. وأغلب الظن أنها كانت لا تزال ترد على الخطابات المرسلة من ربات البيوت في صفحة فلورا سيمبسون، ولا تزال تسخر منها ضاحكة. الآن وبعد أن أضحيت أعيش في المدينة، نادرا ما صرت ألقي نظرة على الجريدة التي كانت ذات مرة تبدو لي كأنها قلب الحياة في المدينة ونبضها؛ وحتى قلب حياتنا نحن أيضا على نحو ما، في منزلنا على بعد ستين ميلا. كانت مزحات أشخاص من نوع ألفريدا وهنري الحصان، ونفاقهم المضطرين إليه، قد صارا الآن يضايقانني مثل الحلي الزائفة؛ إذ أجدها رخيصة ومضجرة.
لم أكن قلقة من أن ألتقي بها مصادفة، حتى في هذه المدينة التي لم تكن، على كل حال، بهذه الضخامة. لم أذهب قط إلى المتاجر التي كانت تذكرها في عمودها، ولم يكن ثمة سبب بالمرة يجعلني أسير أمام مبنى الجريدة، كما أنها كانت تعيش بعيدا جدا عن مبنى مبيت الطالبات، في مكان ما من الجانب الجنوبي للمدينة.
كذلك لم أظن أن ألفريدا كانت من النوع الذي قد يظهر في المكتبة العامة، والأرجح أن الكلمة ذاتها «المكتبة» كانت ستجعلها تمط فمها الكبير للأسفل في ذهول متهكم، كما كانت تفعل حين ترى الكتب على خزانة الكتب في منزلنا - لم يتم شراء تلك الكتب على أيامي، وبعض منها فاز به والداي كجوائز مدرسية إبان مراهقتهما (وكان على بعض منها اسم أمي الخاص بها قبل زواجها، مكتوبا بخط يدها الجميل الذي فقدته) - كتب لم تبد لي كأشياء يمكننا شراؤها من أي متجر على الإطلاق، بل كيانات لها حضورها في المنزل شأنها شأن الأشجار أمام النافذة، التي لم تكن مجرد نباتات بل كيانات ذات حضور تضرب بجذورها في الأرض. «طاحونة على نهر فلوس»، «نداء البرية»، «قلب ميدلوثيان». قالت ألفريدا: «لديكم الكثير من المواد الممتازة للقراءة ها هنا، أراهن أنكم لا تفتحون تلك المجلدات إلا نادرا.» فيقول أبي لا، إنه لم يكن يفتحها، وقد وقع في فخ نبرتها الرفاقية الموحية بالاستبعاد أو حتى بالانتقاص، حتى إنه كان يكذب بقدر ما؛ لأنه كان بالفعل يفتح تلك الكتب ويتصفحها، ولو مرة كل فترة طويلة، كلما سنح له الوقت.
كان ذلك هو نوع الكذب الذي تمنيت ألا أضطر إليه من جديد، ذلك الانتقاص الذي تمنيت ألا أبديه، انتقاص من قدر أشياء تهمني حقا. ولكيلا أضطر للقيام بذلك، كان علي أن أبتعد تماما عن الأشخاص الذين كنت أعرفهم. •••
مع نهاية عامي الثاني كنت سأغادر الكلية؛ إذ كانت منحتي الدراسية لا تغطي إلا عامين دراسيين هناك. لم أكترث لذلك؛ فقد كنت أخطط لأن أكون كاتبة. وكنت أتأهب للزواج.
سمعت ألفريدا بهذه الأخبار، فعاودت الاتصال بي من جديد.
قالت: «أظن أنك كنت غارقة في المشاغل لذلك لم تستطيعي الاتصال بي، أو ربما لم يبلغك أحد برسالتي.»
فقلت إنها المشاغل على الأرجح، وربما لم يبلغني أحد برسالتها كذلك.
هذه المرة وافقت على زيارتها. زيارة واحدة لن تكلفني شيئا، بما أنني لن أعيش في هذه المدينة مستقبلا. اخترت يوم أحد، بعد انتهاء امتحاناتي النهائية مباشرة، بينما كان خطيبي سيسافر إلى أوتاوا لإجراء مقابلة توظيف. كان اليوم مشرقا مشمسا؛ كنا في مستهل شهر مايو تقريبا. قررت أن أذهب سيرا. نادرا ما تجاوزت جنوب شارع دونداس أو شرق منطقة آديلايد، وهكذا كانت هناك أجزاء من المدينة غريبة علي تماما. كانت الأشجار الظليلة على طول الشوارع الشمالية قد بدأت تورق وتزدهر، كما أن أزهار الليلك، وأشجار التفاح الحامض الخاصة بالزينة، وكذلك أصص التيوليب؛ كانت جميعها مزهرة ويانعة، حتى مساحات العشب كانت مثل سجاجيد جديدة منعشة. ولكن بعد وهلة وجدت نفسي أسير في شوارع لا يوجد فيها أي أشجار ظليلة، شوارع لا تبتعد منازلها عن أرصفتها بأكثر من مسافة ذراع واحدة، وفيها كانت زهور الليلك - ينمو الليلك في أي مكان ممكن - شاحبة كما لو أن الشمس قد بيضتها، ولم يكن ينبعث منها أي شذى أو عبير. في تلك الشوارع، وملاصقة للمنازل، كانت هناك مبان لشقق سكنية ضيقة، بارتفاع طابقين أو ثلاثة فقط، لبعض منها زينة بسيطة عبارة عن إطار من الآجر يدور حول أبوابها، وبعضها بنوافذ عالية وستائر لينة مسدلة حتى أطرها.
كانت ألفريدا تعيش في منزل، وليس في مبنى للشقق السكنية. كان الطابق العلوي كله من المنزل تحت تصرفها، أما الطابق الأرضي، على الأقل الجانب الأمامي منه، فقد تحول إلى متجر كان مغلقا يومئذ، لأنه يوم أحد. كان متجرا للأغراض المستعملة، وكان بوسعي أن أرى من خلال زجاج الواجهة الأمامية المتسخ، كثيرا من قطع الأثاث غير المتمايزة، مع أكداس من الصحون القديمة وأطقم من الأوعية في كل مكان. الشيء الوحيد الذي لفت نظري كان دلوا صغيرا لحفظ العسل، وكان يشبه تمام الشبه الدلو الذي كنت آخذ فيه طعام غدائي إلى المدرسة عندما كنت في السادسة أو السابعة من عمري، وكان مطبوعا عليه سماء زرقاء وقفير نحل مذهب اللون. ما زلت أتذكر قراءتي مرارا وتكرارا للكلمات المكتوبة على جانبه. «العسل الصافي فقط ينعقد حبيبات.»
لم يكن لدي أدنى فكرة عما تعنيه كلمة «حبيبات» ولكني أحببت رنين صوتها؛ بدت كلمة مزخرفة ولذيذة.
لزمني للوصول إلى هنا وقت أطول مما توقعت، وكنت أشعر بالحر الشديد. لم أظن أن ألفريدا، وقد دعتني لتناول الغداء، سوف تقدم لي وجبة مثل وجبات عشاء يوم الأحد في منزلنا، لكني شممت روائح لحم مطبوخ وخضراوات بينما أصعد الدرج الخارجي. «ظننت أنك ضللت الطريق.» هكذا صاحت ألفريدا من فوق رأسي. «كنت على وشك الاتصال بفريق إنقاذ.»
بدلا من الفستان الصيفي العاري الكتفين، كانت ترتدي بلوزة زهرية بعقدة كالفراشة على الرقبة، وقد دستها بداخل تنورة بنية اللون ذات ثنيات. لم يعد شعرها مرفوعا في لفافات ناعمة، بل صار مقصوصا قصيرا ومجعدا حول وجهها، ولونه البني الداكن فيه لمسة حادة من اللون الأحمر، ووجهها الذي كنت أتذكره نحيفا ومدبوغا بسمرة الشمس، صار أكثر امتلاء ومنتفخا مثل الجراب. كانت مساحيق زينتها تظهر بارزة على بشرتها مثل طلاء وردي-برتقالي في ضوء الظهيرة.
غير أن الاختلاف الأكبر الذي طرأ عليها كان أنها ركبت طقم أسنان، ذا لون موحد، يملأ فمها أكثر من اللازم قليلا، ويضفي روحا قلقة على التعبير القديم لوجهها؛ تعبير الحماس الطائش.
قالت: «حسنا، وزنك لم يزد، لقد كنت في غاية النحافة.»
كان هذا صحيحا، ولكن لم يرق لي سماعه. شأني شأن كل الفتيات في مبيت الطالبات، كنت أتناول طعاما رخيصا؛ وجبات كثيرة من مكرونة وأجبان محفوظة من نوع «كرافت دينرز»، وعبوات من البسكويت الممتلئ بالمربى. كان خطيبي يهتم بكل ما في صالحي إلى حد الهوس، وقد قال لي إنه يحب النساء الريانات الجسد، وإنني كنت أذكره بالممثلة جين راسل. لم أجد بأسا في قوله ذلك لي، ولكني غالبا ما شعرت بشيء من المهانة إن قال الناس أي شيء بشأن مظهري، وخصوصا إن كان صاحب التعليق شخصا مثل ألفريدا؛ شخصا لم تعد له أي أهمية في حياتي. آمنت بأن هؤلاء الأشخاص ليس لهم أي حق في التطلع إلي، أو تشكيل الآراء حولي، فضلا عن إبدائها صراحة.
كان هذا المنزل ضيقا من الأمام، ولكنه طويل من الأمام إلى الوراء. كانت فيه غرفة معيشة ينحني سقفها من الجانبين وتشرف نوافذها على الشارع، وغرفة سفرة أقرب إلى ردهة من دون أي نوافذ على الإطلاق لأنها محاطة بغرف النوم ذات النوافذ المائلة، ومطبخ، وحمام من دون نوافذ كذلك يدخل نور النهار من خلال لوح زجاجي في بابه، وفيما وراء خلفية المنزل توجد شرفة معرضة للشمس ومغلقة بالزجاج.
كانت الأسقف المائلة تجعل الغرف تبدو وكأنها مؤقتة، كما لو أنها تتظاهر فقط بكونها أي شيء آخر عدا غرف نوم. لكنها كانت مكتظة بقطع أثاث مهيبة - مائدة غرفة الطعام ومقاعدها، منضدة المطبخ والمقاعد، أريكة غرفة المعيشة ومقعد مريح لتمديد القدمين - كلها قطع معدة لغرف أوسع وملائمة. محارم الطعام على الموائد، مربعات من قماش أبيض مزركش تحمي ظهور وأذرع الأريكة والمقاعد، والستائر الشفافة المسدلة على النوافذ ومن الجانبين ذات الطيات المنقوشة بالزهور؛ كل ذلك بدا أقرب إلى بيتي عمتي أكثر مما اعتقدته ممكنا. وعلى جدار غرفة الطعام - ليس في الحمام مثلا أو في غرفة النوم ولكن في غرفة الطعام - علقت لوحة لفتاة تظهر مظللة تماما، وترتدي تنورة واسعة من تنورات الزمن القديم، وكلها مكونة من شرائط الساتان الوردية.
كانت قطعة طويلة من المشمع الخشن ممدودة على أرضية غرفة الطعام، على الطرقة التي تصل من المطبخ إلى غرفة المعيشة.
بدت ألفريدا وكأنها تخمن شيئا مما كنت أفكر فيه.
فقالت: «أعرف أن المكان هنا يكتظ بالأشياء، ولكنها أشياء والدي. إنها قطع أثاث العائلة، ولا يمكنني التخلي عنها.»
لم يسبق لي بالمرة أن فكرت في ألفريدا كشخص له والدان؛ فقد رحلت أمها عن الحياة منذ زمن طويل، وقد تعهدت بتربيتها جدتي، التي كانت خالتها.
قالت ألفريدا: «كلها أشياء تخص أبي وأمي، وحين رحل أبي احتفظت جدتك بكل الأشياء لأنها قالت إنه ينبغي أن تكون لي عندما أكبر، وهكذا ها هي هنا. ما كان لي أن أخيب أملها بعد أن تجشمت ذلك العناء.»
الآن يحضرني ذلك الجانب من حياة ألفريدا الذي كنت قد نسيته تماما؛ فقد تزوج والدها من جديد. ترك المزرعة وحصل على وظيفة في السكك الحديدة، وأنجب أطفالا آخرين، وراحت أسرته تنتقل من مدينة إلى أخرى، وأحيانا كانت تذكرهم ألفريدا وهي تسخر من كل هذا العدد من الأطفال الذين أنجباهم، وكيف اقترب بعضهم من بعض للغاية، وكم من المرات كان على الأسرة الانتقال من هنا إلى هناك.
قالت ألفريدا: «تعالي أعرفك إلى بيل.»
كان بيل بالخارج في الشرفة المغلقة بالزجاج. كان جالسا، كما لو كان ينتظر أن يستدعى، على أريكة منخفضة أو فراش ضيق للقيلولة مغطى ببطانية بنية منقوشة مربعات. كانت البطانية مجعدة - لا بد أنه كان راقدا عليها مؤخرا - وكانت مصاريع النوافذ جميعها مسدلة حتى الحواف. الضوء في الغرفة - ونور الشمس الساخن الذي تخلل المصاريع الصفراء المبقعة بالمطر - والبطانية المجعدة الخشنة والوسادة المنبعجة الناصلة اللون، حتى رائحة البطانية، والخف الرجالي، الخف القديم الذي فقد شكله وقالبه؛ ذكرني ذلك كله بمنزلي عمتي، بقدر ما فعلت محارم المائدة وقطع الأثاث الثقيلة الملمعة في الغرف الداخلية. هناك أيضا، كان يمكن للمرء أن يعثر على مخبأ خاص بالذكر بروائحه السرية ولكن الملحة، وبمظهره الخجول ولكن العنيد المناقض للمملكة الأنثوية.
نهض بيل واقفا وصافحني، وهو ما لم يقم به زوجا عمتي بالمرة مع فتاة غريبة، أو مع أي فتاة. لم يكن ما يثنيهما عن ذلك فظاظة خاصة بهما، ولكن الخوف من أن يظهرا رسميين أكثر من اللزوم.
كان رجلا طويل القامة له شعر رمادي متموج ولامع، ووجه ناعم البشرة وإن افتقد أمارات الشباب. رجل مليح، ولكن عنفوان ملاحته كان قد غاض وتبدد بطريقة ما؛ بسبب إهمال الصحة، أو لبعض الحظ العاثر، أو لافتقاده الألمعية، ولكنه كان لا يزال يحظى بكياسة عفا عليها الزمن، وبطريقته في الانحناء قبالة المرأة؛ مما أوحى بأن لقاءه بها مصدر سرور، لها وله.
وجهتنا ألفريدا إلى غرفة الطعام العديمة النوافذ حيث أضيئت المصابيح في منتصف هذا النهار المشرق. ساورني الانطباع بأن الوجبة كانت معدة منذ بعض الوقت، وأن وصولي المتأخر قد أربك نظامها المعتاد. قام بيل بتقديم الدجاج المشوي والصلصة المصاحبة، وقدمت ألفريدا الخضراوات. قالت ألفريدا لبيل: «حبي، ما الذي تراه بجانب طبقك؟» وهنا فقط تذكر أن يلتقط منديل المائدة.
لم يكن يتحدث كثيرا. عرض بعض المرق، وسألني إن كنت أريد نكهة المسطردة أو الملح والفلفل، وكان يتابع الحديث بإدارة رأسه نحو ألفريدا أو نحوي، وغالبا كان يصدر صوت صفير ضعيفا من بين أسنانه، صوتا مرتعشا بدا وكأنه يقصد به أن يكون لطيفا وممتنا، ولأول وهلة ظننت هذا الصفير تمهيدا لأن يبدي ملاحظة ما، لكنه لم يفعل بالمرة، ولم تلق ألفريدا بالا لذلك. سبق لي أن رأيت بعض مدمني الكحوليات الذين تعافوا من إدمانهم، يتصرفون بطريقة شبيهة لتصرفاته؛ يتفوهون فجأة بغمغمة استحسان دون أن تكون بوسعهم المواصلة لما وراء ذلك، ويكونون شاردي اللب بصورة لا حيلة لهم فيها. لم أعلم قط إن كان ذلك صحيحا فيما يخص بيل، الذي بدا وكأنه يحمل على كاهليه تاريخا من الهزيمة، تاريخا من أزمات تحملها ودروس تعلمها. كما كانت تحيط به هالة من تسليم الفرسان بمصائرهم، بكل الخيارات الخاطئة التي اتخذها أو الفرص التي أضاعها.
قالت ألفريدا إن تلك البازلاء والجزر كانا مجمدين. كانت الخضراوات المجمدة شيئا جديدا نوعا ما في ذلك الحين.
قالت: «إنها أفضل من المعلبات، عمليا هي في نفس جودة الخضراوات الطازجة.»
وهنا قال بيل تصريحا كاملا، قال إن الخضراوات كانت أطيب من الطازجة؛ اللون، والنكهة، وكل شيء كان أطيب من الطازجة. وقال إن ما يمكنهم فعله الآن أمر جدير بالإعجاب، وكذلك ما يمكن تحقيقه عن طريق تجميد الأشياء في المستقبل.
مالت ألفريدا نحو الأمام، مبتسمة. بدت وكأنها تحبس أنفاسها تقريبا، كما لو أنه كان طفلها، وهذه أولى خطواته دون دعم من أحد، أو أول جولة بدراجته وهو بمفرده تماما.
أخبرنا أيضا بأن هناك طريقة ما يستطيعون بها أن يحقنوا شيئا ما إلى داخل الدجاج؛ عملية جديدة تتيح لهم أن يجعلوا كل الدجاجات متماثلة تماما، سمينة ولذيذة. ما عاد هناك مخاطرة بوجود دجاجة غثة.
فقالت ألفريدا: «إن تخصص بيل هو الكيمياء.»
وحين لم أعقب على هذا بأي قول، أضافت: «كان يعمل في مصانع جودرهامز.»
لا تعقيب أيضا.
قالت: «صناع الخمور، ويسكي ماركة جودرهامز.»
لم يكن السبب وراء عدم قولي أي شيء هو أنني كنت وقحة أو ضجرة (أو أنني لم أكن أشد وقاحة مما كنت عليه في ذلك الحين، أو أشد ضجرا مما توقعته)، ولكن كان السبب أنني لم أفهم أنه يتوجب علي أن أطرح أسئلة، تقريبا أي أسئلة من أي نوع، كي أجر رجلا خجولا إلى الحديث، لأنفض عنه شروده وذهوله وأمنحه سلطة محددة؛ أي سلطة سيد الدار. لم أفهم لماذا كانت ألفريدا توجه إليه تلك النظرة المشجعة في ضراوة. لم تكن لدي خبرة بحضور المرأة مع الرجال، باستماع امرأة إلى رجلها، وهي تأمل وتأمل أن يثبت ذاته كشخص يمكنها أن تفخر به لسبب معقول، كانت خبرتي بذلك كله ما زالت في رحم الغيب. كل مراقبتي للأزواج والزوجات كانت هي ما رأيته من عمتي وزوجيهما وأبي وأمي، وهؤلاء الأزواج والزوجات كانت علاقاتهم تتسم بالجفاء والرسمية دون أن يظهر اعتماد أحدهما على الآخر.
واصل بيل تناول طعامه كما لو أنه لم يسمع أي ذكر لوظيفته أو لمحل عمله، فشرعت ألفريدا تسألني عن دراساتي. كانت لا تزال مبتسمة، غير أن ابتسامتها قد تغيرت، كأنما اعترتها لمحة طفيفة من نفاد الصبر والضيق، كأنها لا تطيق أن تنتظرني حتى أنتهي من شرحي لتقول في نهاية الأمر، كما كانت تقول بالفعل: «لا يمكنهم إقناعي بقراءة تلك الأشياء ولو دفعوا لي مليون دولار.»
قالت: «الحياة قصيرة للغاية. تعرفين، عندنا في الجريدة أحيانا يأتينا شخص خاض كل تلك التجربة. حاصل على شهادة في اللغة الإنجليزية، أو في الفلسفة. لا نعرف كيف عسانا أن نستفيد به؟!»
قالت لبيل: «ما يكتبونه لا يساوي نكلة. لقد أخبرتك بذلك، صحيح؟» فتطلع بيل إليها راسما ابتسامته المذعنة لها.
صمتت قليلا بعد ذلك.
ثم قالت: «وماذا تفعلين إذن للتفريج عن نفسك؟»
كانت مسرحية «عربة اسمها الرغبة» تعرض على أحد مسارح تورونتو في ذلك الوقت، فأخبرتها أنني قد ذهبت إلى هناك بالقطار لمشاهدتها بصحبة بعض الأصدقاء.
تركت ألفريدا سكينها وشوكتها يرتطمان بطبقها.
صاحت: «تلك القذارة!» برز وجهها أمام عيني فجأة، محفورا بالاشمئزاز. ثم تحدثت على نحو أهدأ ولكن ظلت على حالة من الانزعاج الخبيث . «تسافرين كل ذلك الطريق حتى تورونتو لمشاهدة تلك القذارة؟!»
أنهينا تناول الحلوى، واختار بيل تلك اللحظة ليسأل إن كنا نأذن له بالانصراف. سأل ألفريدا أولا، وبانحناءة طفيفة سألني. عاد مجددا إلى الشرفة الزجاجية، وما هي إلا برهة حتى أمكننا أن نشم رائحة دخان غليونه. بينما كانت ألفريدا تراقبه وهو يذهب، بدا أنها نسيت أمري والمسرحية كذلك. علا وجهها تعبير من الرقة الممزوجة بالوله بحيث ظننت، حين نهضت واقفة، أنها سوف تتبعه، لكنها ذهبت لإحضار سجائرها فحسب.
مدت لي يدها بالسجائر، وحين أخذت واحدة قالت في جهد متعمد لتبدو مرحة: «أرى أنك واصلت تلك العادة السيئة التي دفعتك لتبدئيها.» ربما تذكرت عندئذ أنني لم أعد بعد طفلة، وأنني لم أكن مضطرة للوجود في منزلها، وأنه لا معنى لاستعدائي. لم أكن سأجادلها؛ فلم أكن أكترث برأي ألفريدا في تينيسي وليامز أو برأيها في أي شيء آخر.
قالت ألفريدا: «أحسب أن هذا شأن يخصك أنت، يمكنك الذهاب إلى حيث تشائين.» ثم أضافت: «على كل حال، سوف تصيرين امرأة متزوجة قريبا جدا.»
مع النبرة التي قالت بها هذه العبارة، قد يكون معناها إما «علي أن أعترف بأنك صرت شخصا ناضجا الآن.» وإما «قريبا جدا سوف تسيرين على الخط المستقيم.»
نهضنا وبدأنا نجمع الأطباق. عملنا ونحن قريبتان إحدانا من الأخرى في المساحة الصغيرة ما بين منضدة المطبخ والنضد المجاور للحوض والثلاجة، ودون أن نتحدث سرعان ما انسجمنا في نظام وتناغم محددين من الغسل والرص وإفراغ بقايا الأطعمة في أوعية أصغر حجما للحفظ، وملء الحوض بالماء الساخن المصبن، ثم الانقضاض على أي قطعة من أدوات المائدة التي لم تمس ودسها في مكانها المحدد من الدرج المفروش بالقماش الأخضر المضلع في بوفيه غرفة الطعام. أحضرنا منفضة السجائر معنا في المطبخ، وبين الحين والآخر كنا نأخذ استراحة ونأخذ أنفاسا من السجائر ونحن متمهلتين في جدية. هناك أشياء إما تتفق عليها النساء وإما لا تتفق عليها في أثناء عملهن معا على هذا النحو - إن كان مسموحا لهن بالتدخين مثلا ، أو من الأفضل ألا يدخن لأن بعض الرماد المتطاير قد يجد سبيله ليحط على طبق نظيف، أو إن كان يجب غسل وتنظيف كل شيء مما كان موضوعا على المائدة حتى لو لم يتم استخدامه - واتضح أنني وألفريدا على وفاق حول مثل تلك الأمور. كما أن فكرة أنه سيكون بوسعي الفرار بمجرد الانتهاء من غسيل الأطباق، جعلتني أشعر بمزيد من الطمأنينة والسخاء. كنت قد قلت لها من قبل إن علي لقاء صديقة في ذلك الأصيل.
قلت: «ما أجمل تلك الأطباق!» كانت ذات لون كريمي، بدرجة صفراء خفيفة، تكتنف حوافها زهور زرقاء.
قالت ألفريدا: «الحقيقة أنها أطباق أمي، كانت في جهاز زفافها. كان ذلك معروفا آخر مما قدمته لي جدتك. لقد حزمت كل أطباق أمي وخزنتها في مأمن حتى يحين الوقت الذي يمكن لي استخدامها. جيني لم تعرف قط بوجود تلك الأطباق. ما كان لهذه الأطباق أن تظل كل ذلك العمر مع وجود تلك العصابة كبيرة العدد.»
جيني، العصابة؛ تقصد بهم زوجة أبيها وإخوتها وأخواتها لأبيها.
قالت ألفريدا: «تعرفين تلك الحكاية، أليس كذلك؟ تعرفين ماذا حدث لأمي؟»
بالطبع كنت أعرف؛ توفيت أمها عند انفجار مصباح في يديها - أي إنها ماتت بحروق أصابتها حين انفجر مصباح بين يديها - وكانت عمتاي وأمي يتحدثن عن هذا الأمر بمنتهى الاعتياد والبساطة. لا شيء يمكن قوله بشأن أم ألفريدا أو أبيها، والقليل للغاية يمكن قوله عن ألفريدا نفسها دون إقحام ذكر هذا الموت في الحديث وحشره فيه. كان هذا السبب وراء مغادرة والد ألفريدا للمزرعة (وهو ما اعتبر على الدوام خطوة للأسفل أخلاقيا، إن لم يكن ماليا). وكان هذا هو السبب أيضا وراء التعامل في حرص مستميت مع الكيروسين، وسببا لأن نكون ممتنين لاختراع الكهرباء، مهما كانت كلفتها باهظة. وكان أمرا مريعا بالنسبة إلى طفلة في عمر ألفريدا، مهما يكن (أي مهما يكن ما فعلته هي في نفسها منذ ذلك الوقت). «لو لم تهب تلك العاصفة الرعدية لما كانت قد حاولت إضاءة مصباح كيروسين في منتصف الظهيرة .» «ظلت حية طوال تلك الليلة واليوم التالي والليلة التالية، وكان من الخير لها إن لم تعش كل ذلك.» «وما هي إلا سنة واحدة بعد موتها حتى مرت على طريق بيتهم أسلاك الكهرباء الآتية من المولد المائي، ولم تعد بهم حاجة لمصابيح الكيروسين.»
نادرا ما كانت عمتاي وأمي تتشاركن الإحساس نفسه حيال أي شيء، غير أنهن تقاسمن إحساسا واحدا حيال هذه القصة، وكان ذلك الإحساس يطفو في أصواتهن كلما أتين على ذكر اسم والدة ألفريدا. بدت هذه القصة كما لو كانت كنزا فظيعا بالنسبة إليهن، شيئا يمكن لأسرتنا فقط أن تنسبه إليها حيث لا يمكن ذلك لأي شخص آخر، امتيازا خاصا لن يسقط بالتقادم أبدا. حين كنت أستمع إليهن دائما ما شعرت كما لو أن هناك شيئا من التآمر البذيء يجري بينهن، ولعا بتلمس كل ما كان مروعا وكارثيا. كنت أشعر بأصواتهن وكأنها ديدان تسعى وتدب في جوفي.
لم يكن الرجال هكذا، في حدود خبرتي. كان الرجال يشيحون بأبصارهم بعيدا عن الأحداث المخيفة بمجرد أن يستطيعوا ذلك، وبمجرد أن تنقضي يتصرفون على اعتبار أنه لا جدوى من ذكرها أو التفكير فيها بعد ذلك أبدا. لم يكونوا راغبين في نفخ الرماد عن الجمرات، لا بداخلهم ولا بداخل الآخرين.
وهكذا فكرت أنه إذا كانت ألفريدا ستتحدث عن هذا فمن الجيد إذن أن خطيبي لم يأت بصحبتي. من الجيد أنه لم يضطر إلى سماع حكاية أم ألفريدا، علاوة على اكتشاف أمور تخص أمي وإحدى أقارب أسرتي، أو ربما الفقر الذي لا يستهان به. كان معجبا بفن الأوبرا وبأداء لورانس أوليفييه لشخصية هاملت، غير أنه في الحياة العادية لم يكن يملك وقتا للمآسي، لحقارتها وقذارتها. كان والداه يتمتعان بالصحة والمظهر الجميل والرخاء (على الرغم من أنه قد قال بالطبع إنهما مملان)، وبدا كما لو كان غير مضطر لأن يعرف أي شخص لم تكن ظروف حياته مبهجة كشمس النهار. إخفاقات الحياة؛ إخفاقات الحظ، الصحة، الماليات، كل تلك الأمور تصدمه باعتبارها سقطات، أما تقبله النهائي لي أنا فلا يمتد ليشمل خلفيتي المتداعية.
قالت ألفريدا: «لم يسمحوا لي بالدخول عليها لرؤيتها، في المستشفى.» على الأقل كانت تقول هذا بصوتها العادي، دون أن تضفي عليه أي ورع خاص أو حماسة لزجة. «حسنا، لو كنت في موضعهم، فأغلب الظن أنني لم أكن لأسمح لي بالدخول أيضا. ليس لدي أدنى فكرة عما بدت عليه آنذاك، لعلها كانت ملفوفة في أربطة مثل مومياء. أو إن لم تكن فهذا ما كان ينبغي عليهم فعله. لم أكن هناك حين حدث ما حدث، كنت في المدرسة. أظلمت السماء بشدة وأضاءت المعلمة المصابيح - كان لدينا مصابيح كهربائية في المدرسة - وكان علينا جميعا أن نبقى هناك إلى أن تنتهي العاصفة الرعدية. أتت خالتي ليلي - أقصد جدتك - أتت لتقابلني وتأخذني إلى بيتها، ولم أر أمي بعد ذلك قط.»
ظننت أن هذا كل ما كانت ستقوله، لكن ما هي إلا دقيقة حتى واصلت حديثها، بصوت ينم فعلا عن درجة من الانشراح، كما لو كانت تتهيأ للضحك. «أخذت أصيح وأصيح حتى أوشك رأسي على الانفجار من الصياح، أصيح فيهم بأنني أريد أن أراها. واصلت الصياح دون توقف، وفي النهاية عندما عجزن عن إغلاق فمي قالت لي جدتك: «من الأفضل لك ألا تريها. لو علمت كيف يبدو شكلها الآن، لما رغبت في رؤيتها. إنك لا ترغبين أن تتذكريها على هذه الصورة.»
ولكن أتدرين ماذا قلت؟ إنني أتذكر ذلك، قلت: «ولكنها لو مكاني كانت ستود أن تراني. كانت ستود أن تراني».»
وعندئذ ضحكت حقا، أو أصدرت صوت نخير كان متملصا ومتهكما. «لا بد أنني كنت أعتبر نفسي في غاية الأهمية، أليس هذا صحيحا؟ كانت ستود أن تراني!»
كان هذا جزءا من الحكاية لم أسمعه من قبل قط.
وفي ذات اللحظة التي سمعته فيها حدث شيء ما، كان كما لو أن فخا انغلق مدويا فجأة، ليمسك بتلك الكلمات ويحبسها في أسى. لم أفهم بالضبط كيف يمكنني أن أنتفع بها. علمت فحسب أنها هزتني هزا وأنها حررتني، في التو والحال، بحيث أتنفس نوعا مختلفا من الهواء، غير متاح إلا لي أنا. «كانت ستود أن تراني.»
القصة التي كتبتها، ووضعت فيها هذه العبارة، لم تكتب إلا بعد ذلك بسنوات، حيث مضى من الوقت ما يكفي ليصير من غير المهم بالمرة أن أفكر بشأن من الذي غرس الفكرة في رأسي لأول مرة.
شكرت ألفريدا وقلت إن علي أن أذهب. ذهبت ألفريدا لتنادي بيل ليودعني، لكنها عادت لتبلغني أنه قد غلبه النعاس.
قالت: «سوف يشد شعر رأسه من الندم حين يستيقظ، فقد استمتع بلقائك.»
خلعت سترة المطبخ ورافقتني على طول السلالم الخارجية للمبنى. لدى نهاية السلم كان هناك ممر مفروش بالحصباء يؤدي إلى الرصيف. كانت الحصباء تصر تحت أقدامنا، فأخذت تتعثر في خفها المنزلي الرفيع النعل.
قالت: «أوه! اللعنة على ذلك!» وأمسكت بكتفي.
قالت: «وكيف حال أبيك؟» «إنه بخير.» «إنه يكدح في عمله.»
قلت: «لا بد من ذلك.» «آه، أعلم. وكيف حال أمك؟» «في نفس حالتها تقريبا.»
التفتت جانبا نحو واجهة المتجر. «من تظنينه يمكن أن يقدم على شراء هذه الخردة؟ انظري إلى دلو العسل ذلك، أنا وأبوك كنا نحمل غداءنا المدرسي في دلاء مثل ذلك الدلو تماما.»
فقلت: «وأنا أيضا.» «حقا؟» واحتضنتني. «أخبري أهلك أنهم لا يغيبون عن بالي، هل ستبلغينهم بذلك؟» •••
لم تحضر ألفريدا جنازة أبي. تساءلت إن كانت قد فعلت ذلك لأنها لم تكن ترغب في لقائي. في حدود ما علمت لم تكن قد صرحت على الملأ قط بسخطها علي؛ لم يعلم أي شخص بشأن ذلك. ولكن أبي كان يعلم. حين كنت في بيت العائلة أزوره وعرفت أن ألفريدا كانت تعيش غير بعيد عنا - في منزل جدتي، في الحقيقة، الذي ورثته عنها في نهاية المطاف - اقترحت عليه أن نذهب لزيارتها. كان هذا بعد فترة اضطراب مررت بها ما بين زيجتين، حين كنت في مزاج انبساطي، وقد تحررت حديثا وبمقدوري أن أمد الجسور نحو أي شخص أختاره.
قال أبي: «حسنا، أنت تعرفين، كانت ألفريدا منزعجة قليلا.»
صار يدعوها الآن ألفريدا، دون تدليل. متى بدأ ذلك ؟
لأول وهلة، لم يكن بوسعي أن أفكر ما الذي يمكن أن تكون ألفريدا منزعجة منه. كان على أبي أن يذكرني بالقصة، التي نشرت قبل سنوات عديدة. اندهشت، حتى أنني شعرت بنفاد الصبر وشيء من الغضب، لمجرد تفكيري في اعتراض ألفريدا على شيء بدا الآن وكأنه لا يكاد يمت لها بأي صلة.
قلت لأبي: «لم تكن ألفريدا بالمرة، لقد غيرت الأمور، أنا حتى لم أكن أفكر فيها هي. كانت مجرد شخصية في قصة. يمكن لأي شخص أن يرى ذلك.»
ولكن حقيقة الأمر كانت أن القصة احتوت مع ذلك على مصباح الكيروسين المنفجر، والأم الملتفة بالأربطة، والطفلة المتفجعة، الثابتة الجنان.
قال أبي: «لا بأس.» كان على وجه العموم مسرورا تماما لأنني قد صرت كاتبة، ولكن كانت لديه بعض التحفظات بشأن ما قد يسمى بشخصيتي، وبشأن حقيقة أنني قد أنهيت زواجي لأسباب شخصية - أي بلا سبب مقنع - وبشأن الطريقة التي رحت أبرر بها تصرفي، أو ربما - كما كان يعبر عن الأمر - طريقتي في التملص من المسئوليات. لم يقل ذلك حينئذ، فلم يعد له شأن بذلك.
سألته كيف علم بانزعاج ألفريدا مني؟
فقال: «رسالة.»
رسالة، على الرغم من أنهما لم يكونا يعيشان بعيدا أحدهما عن الآخر! شعرت حقا بالأسف عند تفكيري أنه اضطر لأن يتحمل وطأة ما يمكن اعتباره زلة طائشة مني، أو حتى خطأ اقترفته. كما بدا لي أنه هو وألفريدا الآن يتعاملان بطريقة رسمية. تساءلت ترى ما الذي لم يخبرني به؟ هل شعر أنه مضطر للدفاع عني في مواجهة ألفريدا، كما اضطر للدفاع عن كتابتي أمام أشخاص آخرين؟ كان بوسعه أن يفعل ذلك الآن، على الرغم من أن ذلك لم يكن أمرا يسيرا عليه قط. لعله قال شيئا قاسيا في معرض دفاعه القلق.
من خلالي أنا، تسربت إليه صعوبات غريبة عليه.
كان يتهددني خطر ما كلما عدت إلى بيت الأهل الحميم، خطر أن أرى حياتي من خلال عيون أخرى غير عيني. رؤية حياتي بوصفها رقاقة من الكلمات راحت تزيد وتتسع مثل سلك شائك، معقدة، ومحيرة، ولا راحة فيها؛ شيئا لا صلة له بالحياة المنزلية الهانئة للنساء الأخريات بمنتجاتها الغنية من الطعام، الزهور، والألبسة المحبوكة بإبر الكروشيه. صار من العسير علي أن أقول إن حياتي جديرة بالعناء.
جديرة بعنائي أنا، ربما، ولكن ما ذنب أي شخص آخر؟
قال أبي إن ألفريدا كانت تعيش بمفردها حاليا. سألته عما حدث لبيل، فقال إن ذلك كله ليس في نطاق صلاحياته، لكنه يعتقد أنه كانت هناك عملية إنقاذ من نوع ما. «إنقاذ لبيل؟ كيف ذلك؟ ومن أنقذه؟» «حسنا، أعتقد أنه كان متزوجا.» «لقد قابلته في بيت ألفريدا، وأعجبت به!» «يعجب به الناس، خاصة النساء.» •••
كان علي أن أتأمل احتمال أن انقطاع العلاقات بينهما لم يكن له أي علاقة بي؛ فزوجة أبي حرضت أبي على عيش حياة من نوع جديد. كانا يذهبان للعب البولينج ولعبة الكرة الجليدية، وينضمان بوتيرة منتظمة إلى أزواج آخرين لشرب القهوة وتناول الكعكات المحلاة في كافيتريا تيم هورتون. كانت قد ظلت أرملة لفترة طويلة قبل زواجها منه، وكان لها العديد من الأصدقاء من تلك الأيام صاروا أصدقاء جددا له. وما جرى بينه وبين ألفريدا ربما لا يعدو كونه أحد تلك التغييرات، الروابط القديمة التي تهرأ وتتلاشى، أمور استوعبتها أنا جيدا في حياتي ولكن لم أتوقع حدوثها في حيوات الآخرين، وخصوصا، كما قلت، حيوات أشخاص في موطن نشأتي.
توفيت زوجة أبي قبل وفاة أبي بفترة وجيزة. بعد زواجهما السعيد والقصير العمر، أرسلوهما إلى مقبرتين منفصلتين ليرقد كل منهما إلى جوار شريك حياته الأول، الشريك الأكثر جلبا للمتاعب. وقبل موت كل منهما كانت ألفريدا قد عادت من جديد للعيش في المدينة. لم تبع المنزل، فقط ابتعدت وتركته. كتب أبي لي: «يا لها من طريقة غريبة فعلا لإنجاز الأمور!» •••
كان هناك الكثير من الأشخاص في جنازة أبي، كثيرون منهم لم أكن أعرفهم. اجتازت إحدى النساء العشب في المقبرة لتتحدث إلي؛ لأول وهلة ظننت أنها إحدى صديقات زوجة أبي، ثم تبينت أن المرأة لم تكن تكبرني إلا بأعوام معدودة، لكن قوامها القصير الممتلئ، إلى جانب خصلات شعرها الشقراء المائلة للرمادي، وسترتها المنقوشة بالأزهار، كل ذلك جعلها تبدو أكبر سنا.
قالت: «لقد عرفتك من صورتك، كانت ألفريدا تتباهى بك على الدوام.»
قلت: «ألفريدا لم تمت بعد؟»
قالت المرأة: «أوه، لا!» وأخذت تخبرني بأن ألفريدا تقيم في دار رعاية للمسنين في بلدة تقع شمال تورونتو مباشرة. «لقد أشرفت على انتقالها إلى هناك، وهكذا يمكنني أن أتابعها وأطمئن عليها.»
الآن صار من السهل علي أن أعرف - حتى من صوتها - أنها كانت شخصا من نفس جيلي، وخطر لي أنها لا بد تنتمي إلى الفرع الآخر من الأسرة؛ أي إنها أخت غير شقيقة لألفريدا، ولدت حين كانت ألفريدا شابة بالغة تقريبا.
أخبرتني باسمها، ولم يكن بالطبع هو نفس لقب أسرة ألفريدا؛ فلا بد أنها تزوجت وأخذت اسم عائلة زوجها. ولم أستطع أن أتذكر إن كانت ألفريدا قد ذكرت على الإطلاق أي شخص من الفرع الثاني لأسرتها باسمه الأول.
سألتها عن حال ألفريدا، فقالت المرأة إن حالة نظرها سيئة للغاية، وأنها عمليا كف بصرها، وأنها تعاني مشكلة خطيرة في الكلى؛ مما يعني أن عليها أن تقوم بغسيل الكلى مرتين كل أسبوع. «وفيما عدا ذلك ...» هكذا قالت ثم ضحكت. فكرت أنا، نعم، إنها أختها؛ لأنني كنت أستطيع أن أسمع شيئا من ألفريدا في تلك الضحكة المتهورة المقذوفة.
قالت: «وهكذا فهي لا تستطيع أن تسافر، إلا إذا قمت أنا بإحضارها. ومع ذلك ما زالت تحصل على الصحف من هنا وأقرؤها أنا لها أحيانا. وهكذا رأيت نعي والدك.»
تساءلت بصوت مسموع، في اندفاع، إن كان علي أن أذهب لزيارتها في دار الرعاية. كان ما حرض على هذا الاقتراح هو المشاعر التي اكتنفت الجنازة؛ كل ذلك الدفء ومشاعر الطمأنينة والتصالح التي تفتحت بداخلي نتيجة لموت أبي عن عمر معقول. كان من العسير الوفاء بوعد كهذا؛ فلم يكن أمامي أنا وزوجي - زوجي الثاني - إلا يومان فقط نقضيهما هنا، قبل أن نأخذ طائرة عائدين إلى أوروبا لقضاء إجازة تم تأخير موعدها من قبل.
قالت المرأة: «لا أدري إن كنت ستجنين الكثير من ذلك. إنها تمر بأيام طيبة، ثم تمر بأيام سيئة. لا شيء مؤكد. أحيانا أظن أنها تفعل ذلك عامدة لتخدعنا؛ مثلا: قد تجلس هناك طوال اليوم، وأيا ما كان الكلام الذي يقوله لها أي إنسان، ترد عليه بنفس العبارة: «في أتم صحة وجاهزة للحب.» ذلك كل ما تقوله طوال اليوم كله. «في-أتم-صحة-وجاهزة- للحب.» يمكنها أن تدفع الإنسان للجنون. وفي أيام أخرى يمكنها أن تجيب محدثها على خير ما يرام.»
ومن جديد ذكرني صوتها وضحكتها بألفريدا فقلت: «تعرفين، لا بد أني التقيت بك، أتذكر ذات مرة حين زارنا والد ألفريدا وزوجته، أو ربما كان زوجها فقط وبعض أطفاله منها ...»
فقالت المرأة: «أوه، لا، لم تكن أنا، هل ظننت أنني أخت ألفريدا؟ رباه! لا بد أن علي الانتباه لسني!»
شرعت أقول إنني لم أكن أراها رؤية واضحة، وهو ما كان صحيحا؛ ففي وقت ما بعد الظهيرة من أكتوبر كانت الشمس قريبة، وتضرب أشعتها في عيني مباشرة. كانت المرأة تقف في مواجهة النور، وهكذا كان من العسير تبين ملامح وجهها أو تعبيره.
هزت منكبيها في توتر وجدية، وقالت: «ألفريدا هي أمي التي أنجبتني.»
عجبا، أم!
عندئذ حكت لي، دون أن تطيل علي أكثر من اللازم، الحكاية التي لا بد أنها كثيرا ما روتها، لأنها كانت تدور حول حدث مهم في حياتها، مغامرة كان عليها أن تخوضها بمفردها. كانت ابنة بالتبني لأسرة تعيش شرقي أونتاريو؛ كانت هذه هي الأسرة الوحيدة التي عرفتها مطلقا («وأحبهم من كل قلبي»)، ثم تزوجت وأنجبت أطفالها، وحين بلغوا أشدهم شعرت بحافز يدفعها للعثور على أمها. لم تكن مهمة سهلة، نظرا للحالة السيئة التي كانت عليها سجلات تلك الفترة، وللسرية كذلك («لقد بقي أمر ولادتها لي سرا بنسبة مائة بالمائة»)، ولكن قبل بضع سنين نجحت في تعقب أثر ألفريدا حتى وجدتها.
قالت: «وجدتها في الوقت المناسب تماما، أقصد أنه كان الوقت الذي تحتاج فيه لأن يذهب شخص ما إليها ليرعاها. بقدر ما أستطيع.»
قلت: «لم أعرف هذا قط.» «لا. في أيامنا هذه، لا أحسب أن كثيرا من الناس فعلوا ما فعلت. بل إن من حولك يحذرونك عندما تشرعين في مهمة بحثك، فقد تكون صدمة حقيقية لها حين تظهرين في حياتها فجأة. كبار السن ما زالوا واجبا ثقيلا. ومع ذلك، فلا أظنها تضايقت. لو كان حدث هذا في وقت أسبق، فلربما مانعت في هذا.»
كان ثمة إحساس بالانتصار يطوف بها، وهو ما لم يكن يصعب فهمه. فإذا كان لدى المرء شيء مدهش يود أن يقوله لشخص ما، ثم قاله بالفعل وأدهش الآخر، فلا بد أن تكون هناك لحظة منعشة من القوة. وفي هذه الحالة كانت تلك اللحظة في غاية من الكمال، حتى إنها شعرت بالحاجة لأن تعتذر. «اعذريني لأنني تحدثت كل هذا الحديث عن نفسي، ولم أقل كم أنا آسفة لرحيل والدك!»
شكرتها. «تعرفين؟ لقد أخبرتني ألفريدا أنها ذات يوم كانت هي وأبوك سائرين من البيت إلى المدرسة، كان هذا أيام المدرسة الثانوية. لم يكن بوسعهما أن يسيرا طول الطريق معا، لأنهما في تلك الأيام كما تعلمين، ولد وبنت، سوف يتعرضان فقط لمضايقات فظيعة. وهكذا حين كان يخرج هو أولا، كان ينتظرها حيث يتقاطع طريقهما مع الطريق العام، أي خارج البلدة، وإذا خرجت هي أولا كانت تفعل الأمر ذاته، تنتظره. وذات يوم كانا يسيران معا فسمعا فجأة كل الأجراس وقد شرعت تدق، أوتعلمين ماذا كان ذلك؟ كانت نهاية الحرب العالمية الأولى.»
قلت لها إنني سمعت تلك القصة أيضا. «الاختلاف أنني كنت أظنهما طفلين وقتذاك.» «ولكن كيف يمكنهما أن يكونا عائدين من المدرسة الثانوية إذا كانا مجرد طفلين؟»
قلت إنني كنت أعتقد أنهما كانا يلعبان في الحقول. «كان بصحبتهما كلب أبي. كان يسميه ماك.» «ربما كان معهما الكلب فعلا. ربما خرج من البيت للقائهما. لا أظن أنها خلطت الأمور فيما كانت تحكيه لي؛ فقد كانت بارعة للغاية في تذكر أي شيء يتعلق بوالدك.»
أنتبه الآن لأمرين: أن أبي قد ولد في عام 1902، وأن ألفريدا كانت تقاربه في العمر للغاية. وهكذا فالاحتمال الأغلب أنهما كانا عائدين من المدرسة الثانوية إلى البيت وليسا طفلين يلعبان في الحقول آنذاك، وكان من الغريب أنني لم أفكر في هذا الاحتمال من قبل قط. لعلهما قالا إنهما كانا في الحقول، هكذا فحسب، عائدين من المدرسة عبر الحقول، وربما لم يقولا بالمرة إنهما كانا «يلعبان».
كما أن ذلك الإحساس بالاعتذار أو المودة قد تبدد، وتلك الوداعة الأليفة التي كنت شعرت بها لدى هذه المرأة قبل وهلة يسيرة لم يعد لها وجود الآن.
قلت: «الأشياء تتبدل مع الزمن.»
فقالت المرأة: «ذلك صحيح. يبدل الناس الأشياء في أذهانهم. هل تريدين أن تعرفي ماذا قالت ألفريدا عنك؟»
كنت أعلم أن ذلك سيأتي عاجلا أم آجلا. «ماذا؟» «قالت إنك كنت نبيهة، ولكن نباهتك كانت أقل مما تظنين.»
أجبرت نفسي على مواصلة التحديق في الوجه المعتم المواجه لنور الشمس.
نبيهة، نبيهة أكثر من اللازم، غير نبيهة بما يكفي.
قلت: «أهذا كل ما هنالك؟» «قالت إنك كنت طفلة من النوع المتحفظ المنزوي بعيدا عن الآخرين. ذلك كلامها هي، وليس أنا. ليس بداخلي أي شيء ضدك.» •••
في يوم الأحد البعيد ذلك، بعد تناولي عشاء الظهيرة في بيت ألفريدا، انطلقت سائرة على طريق عودتي إلى مبيت الطالبات. إذا قطعت الطريق سائرة ذهابا وإيابا، وفق حسابي، فسأكون قد قطعت مسافة عشرة أميال سيرا، وهو ما كان سيعوض تأثير الوجبة التي قد تناولتها. شعرت أني متخمة، ليس فقط بالطعام ولكن بكل شيء قد رأيته في الشقة أو أحسست به؛ الأثاث المحتشد، العتيق الطراز. نوبات صمت بيل الطويلة، ومحبة ألفريدا له، تلك المحبة المتعنتة مثل طين مترسب يثقل الخطوات، وبقدر ما استطعت أن أرى، فإن تلك المحبة اليائسة في الموضع غير الملائم؛ خوفا من أن تشيخ وحدها.
بعد أن سرت لبعض الوقت، لم أعد أشعر أن معدتي ثقيلة للغاية، وقطعت عهدا على نفسي ألا أتناول أي طعام على مدى الأربع والعشرين ساعة التالية. سرت باتجاه الشمال والغرب، الشمال والغرب، على طول شوارع المدينة الصغيرة المستطيلة في نظام. في وقت أصيل يوم الأحد، نادرا ما كانت تمر سيارات، باستثناء ما يمر على الطرق الرئيسية. أحيانا كان مساري يتوافق مع مسار حافلة لبضع مجموعات من المباني، وقد لا تقل الحافلة إلا شخصين أو ثلاثة. أشخاص لم أكن أعرفهم ولم يعرفوني، وتلك نعمة.
رقدت، لم يكن عندي مواعيد مع أي أصدقاء، كانوا جميعهم تقريبا قد رحلوا إلى بيوت عائلاتهم حيثما كانت، وخطيبي كان سيغيب حتى اليوم التالي؛ إذ كان في زيارة لوالديه، في كوبورج، بعيدا عن بيت العائلة في أوتاوا. لم يكن هناك أي شخص في مبيت الطالبات حين وصلت إلى هناك، أي شخص قد أضطر لتجشم مشقة التكلم معه أو الاستماع إليه، ولم يكن لدي ما أفعله.
خلال سيري لأكثر من ساعة، رأيت متجرا مفتوحا، دخلت إليه وأخذت قدح قهوة. كانت القهوة قد أعيد تسخينها، سوداء مريرة، بدا طعمها مثل مذاق الدواء، وهو ما كنت بحاجة إليه بالضبط. كنت قد شعرت بالارتياح من قبل ذلك، والآن بدأت أشعر بالسعادة. يا لها من سعادة أن أكون وحدي! أن أرى النور الحار في آخر النهار على الرصيف أمام المتجر، وفروع شجرة عارية من الأوراق تلقي بظلالها الشحيحة. أن أسمع من خلفية المتجر أصوات مباراة الكرة التي يستمع إليها على المذياع الرجل ذاته الذي قدم لي القهوة. لم أفكر آنذاك في القصة التي سوف أؤلفها حول ألفريدا - ليس في تلك القصة على الخصوص - ولكن في العمل الذي كنت أريد القيام به، الذي لم يبد مثل تأليف حكايات، بل أقرب إلى القبض على شيء غامض في الهواء. تناهت إلى سمعي صيحات جماهير المباراة وكأنها خفقات قلب كبيرة، مفعمة بالأحزان والأسى. موجات محببة ذات رنين رسمي، بهتافاتها المستحسنة أو الخائبة الرجاء، الآتية من بعيد، تكاد تكون غير بشرية.
هذا ما أردته، هذا ما فكرت أن علي الانتباه له، هذا ما أردت لحياتي أن تكونه.
راحة
كانت نينا تلعب التنس في وقت متأخر من الأصيل، في ملعب المدرسة الثانوية. بعد أن ترك لويس وظيفته في المدرسة كانت قد قاطعت الملعب لفترة، لكن ذلك كان منذ ما يقرب من عام، وقد استطاعت صديقتها مارجريت إقناعها باللعب هناك من جديد، ومارجريت معلمة أخرى متقاعدة، كان رحيلها عاديا واحتفاليا، على عكس رحيل لويس. «من الأفضل لك أن تقضي بعض الوقت بالخارج ما دمت تستطيعين ذلك.»
كانت مارجريت قد رحلت سابقا حين بدأت أزمة لويس، وقد كتبت رسالة من اسكتلندا مساندة له. لكنها كانت شخصا يسع تعاطفه للكثير، تتمتع بتفهم كبير وصداقات بعيدة المنال، بحيث إن رسالتها لم تعن الكثير، ليس أكثر من علامة على طيبة قلب مارجريت.
قالت: «كيف حال لويس؟» حين كانت نينا تقلها إلى البيت في ذلك الأصيل.
فقالت نينا: «في تدهور.»
كانت الشمس قد هبطت الآن، تكاد تلمس حافة البحيرة. بعض الأشجار التي ما زالت محتفظة بأوراقها كانت تتوهج بلون الذهب، غير أن الدفء الصيفي لذلك الأصيل قد اختطف بعيدا. كانت كل شجيرات الزينة الصغيرة قبالة منزل مارجريت ملفوفة بأقمشة غليظة كالخيش، فبدت كأنها مومياوات.
هذه اللحظة من النهار أعادت إلى نينا ذكرى نزهات السير التي اعتادت هي ولويس القيام بها بعد يوم العمل في المدرسة وقبل موعد العشاء. نزهات كانت قصيرة بالضرورة نظرا لأن السماء كانت تلملم نور النهار، على طول الأزقة المحيطة بالبلدة، وبمحاذاة أسوار السكك الحديدية. وعلى الرغم من قصرها، كانت تلك النزهات تحتشد بكل تلك الملاحظات المحددة - سواء عبر عنها أم لا - التي تعلمتها أو تشربتها من لويس. كل أشكال وألوان الحشرات والزواحف والديدان والبزاقات والطحالب وأعواد البوص على قنوات الري والفطر الأبيض الطالع وسط العشب، آثار أقدام الحيوانات، الكرز الأسمر الصغير الحبات، التوت البري الأحمر؛ إنه مزيج عميق يتقلب ويظهر بوجه مختلف في كل يوم. وكل يوم خطوة جديدة نحو الشتاء، انكماش متزايد، ذبول.
المنزل الذي كان لويس ونينا يعيشان به كان قد بني في أربعينيات القرن التاسع عشر، وكان شديد القرب من الرصيف على طراز ذلك الزمن. إذا كنت في غرفة المعيشة أو غرفة الطعام يمكنك أن تسمع وقع خطوات المارة، ليس هذا فحسب، بل أيضا أحاديثهم بالخارج. توقعت نينا أن يكون لويس قد سمع صوت إغلاق باب السيارة.
دخلت البيت وهي تصفر، بأفضل ما يمكنها ذلك، لحن أغنية «انظروا ها قد أتى البطل المغوار»: «أنا فزت، فزت. مرحبا.» •••
لكن بينما كانت بالخارج كان لويس يموت. بل كان ينتحر، في حقيقة الأمر. على المنضدة الصغيرة المجاورة للفراش كانت هناك أربع عبوات بلاستيكية صغيرة، مغلفة بورق مفضض، كانت كل عبوة منها تحتوي على قرصين من مسكن قوي المفعول. كانت هناك عبوتان إضافيتان ملقتان بجانب تلك، لم تمس، ما زالت الكبسولات البيضاء بارزة من تحت الغطاء البلاستيكي، وحين التقطتهما نينا لاحقا رأت أن إحداهما تحمل علامات فوق الورق المفضض، كما لو أنه قد بدأ ينبشها بظفره، ثم أقلع عن هذا وكأنه قرر أنه تناول ما فيه الكفاية بالفعل، أو أنه كان في تلك اللحظة قد بدأ يغيب عن الوعي.
كوب شربه كان فارغا تقريبا. لا يوجد أي ماء مسكوب.
كان هذا أمرا قد تحدثا حوله. اتفقا على الخطة معا، ولكن دائما باعتبارها أمرا قد يحدث - أو سوف يحدث - في المستقبل. افترضت نينا أنها ستكون حاضرة، وأنه سيكون هناك طقس ما على سبيل تقدير اللحظة؛ موسيقى، ترتيب الوسائد وسحب مقعد إلى جوار الفراش حتى يتسنى لها أن تمسك بيده. غير أنه فاتها أمران: نفوره المطلق من الطقوس بكل أنواعها، والعبء الذي كانت تلك المشاركة ستضعه على كاهلها. وقد أثيرت أسئلة، وجرى تبادل الآراء، بشأن اعتبارها شريكة في الفعل.
وبإنهائه للأمر على هذا النحو، لم يترك لها إلا أقل القليل مما يستحق التكفل به.
بحثت عن رسالة صغيرة منه. ماذا كانت تظن أنها ستقول؟ فلم تكن بحاجة إلى أي توجيهات، وبلا شك لم تكن بحاجة إلى تفسير، فضلا عن اعتذار. لم يكن هناك شيء يمكن أن تخبرها به الرسالة، شيء لم تكن تعرفه من قبل. حتى السؤال، لماذا تعجل في ذلك؟ كان سؤالا يمكنها أن تخمن إجابته بنفسها؛ فقد تحدثا - أو تحدث هو - حول تلك العتبة، عتبة لا يمكن التساهل معها، نحو العجز أو الألم أو الاشمئزاز من الذات، وكم كان من المهم التعرف على تلك العتبة، وعدم تجاوزها. وليكن هذا عاجلا وليس آجلا.
وعلى الرغم من ذلك كله، بدا من المستحيل أنه لم يعد لديه ما يقوله لها. بحثت أولا على الأرضية، ظنا منها أنه ربما يكون قد أطاح بالورقة فأوقعها عن المنضدة بكم منامته عندما وضع قدح الماء لآخر مرة، أو لعله حرص خصوصا على ألا يفعل ذلك. نظرت تحت قاعدة الأباجورة، ثم في درج الكومود، ثم تحت خفيه وبداخلهما. التقطت الكتاب وهزت صفحاته، كان الكتاب الذي يقرؤه مؤخرا حول علوم الحفريات، ويدور - على حسب ما اعتقدت - حول انفجار العصر الكمبري الذي أدى لظهور أشكال الحياة العديدة الخلايا.
لا شيء هناك.
بدأت تنبش بسرعة بين طيات أغطية السرير. نفضت اللحاف، ثم الملاءة العليا. ها هو راقد، في منامته الحريرية الغامقة الزرقة التي اشترتها له قبل أسبوعين. كان قد اشتكى من شعوره بالبرد - هو الذي لم تساوره البرودة في الفراش قبل ذلك قط - فذهبت واشترت أغلى المنامات التي وجدتها في المتجر؛ اشترتها لأن الحرير كان خفيفا ودافئا معا، ولأن كل المنامات الأخرى التي رأتها - بأقمشتها المقلمة، وإيحاءاتها المتقلبة أو البذيئة - جعلتها تفكر في رجال عجائز، والأزواج الذي يرسمون في الصور الهزلية بالصحف، مهزومين يجرون أقدامهم ببطء. كانت البيجامة بنفس لون الملاءات تقريبا، بحيث لم ينكشف لها منه إلا القليل: قدمان، كاحلان، عظام الساقين، يدان، رسغان، رقبة، رأس. كان راقدا على جنبه، موليا وجهه بعيدا عنها. ما زال تركيزها على الرسالة، حركت الوسادة، سحبتها بشدة من تحت رأسه.
لا شيء، لا.
عندما انتقل رأسه من الوسادة إلى الحشية أصدر صوتا محددا، صوتا كان أثقل مما توقعته. وكان ذلك الصوت، بقدر ما كان امتداد الملاءة الخالي، بدا وكأنه يقول لها إن بحثها بلا طائل.
حملته الأقراص إلى النوم، وأجهزت على جميع عملياته الحيوية خلسة، وهكذا لم تكن على وجهه تحديقة موت ولا التواء. كان فمه مفتوحا فتحة صغيرة، ولكنه جاف. الشهور القليلة الأخيرة غيرته بقدر كبير، غير أنها لم تر إلى أي حد كان قد تغير إلا الآن فقط. عندما كانت عيناه مفتوحتين، أو حتى عندما كان يأخذه النوم، كان يبذل بعض الجهد للحفاظ على وهم مفاده أن ما لحقه من ضرر كان شيئا مؤقتا، وأن الوجه ذا الحيوية ما زال هناك، وجه رجل في الثانية والستين من العمر فيه عدوانية محتملة على الدوام، ما زال هناك، تحت ثنايا البشرة التي ازرق لونها، وتحت اليقظة الحجرية للمرض. لم يكن التكوين العظمي لوجهه بالمرة هو ما يمنحه قوته وشخصيته المفعمة بالحياة، بل أتى ذلك كله من العينين اللامعتين الغائرتين والفم المختلج وسماحة التعبير، وعرض التجاعيد الذي سرعان ما يتغير بحيث يؤثر على تنويعة تعبيرات وجهه من السخرية، وعدم التصديق، والصبر المتهكم، ومعاناة الاشمئزاز. تنويعة تعبيرات كانت خاصة بالصف المدرسي، غير أن وجودها لم يكن قاصرا على حدود الصف.
لا مزيد، لا مزيد. الآن وبعد ساعتين من موته (لأنه ولا شك اندفع نحو المهمة بمجرد أن غادرت هي البيت، غير راغب في المجازفة بألا يكون قد انتهى الأمر تماما لدى رجوعها)، بات واضحا أن التبدد والتداعي قد انتصرا وانكمش وجهه انكماشا عميقا. كان محكم الإغلاق، نائيا، شائخا وطفليا معا، ربما مثل وجه طفل ولد ميتا.
كان للمرض ثلاثة أساليب مختلفة في الانطلاق. أحدها يتعلق باليدين والذراعين؛ إذ يسري الخدر في الأصابع فتصير بليدة وغبية، ويصير إمساكها بأي شيء مرتبكا، ثم يصبح مستحيلا. أو من الممكن أن يتسلل الوهن إلى الساقين أولا، وتبدأ خطوات القدمين في التعثر، وسرعان ما ترفض الارتفاع للأعلى أو حتى اجتياز حواف سجادة. النوع الثالث والأسوأ بينها كان هجمة موجهة نحو الحلق واللسان؛ يصبح البلع مهمة غير مأمونة، مخيفة، دراما الاختناق، والكلام يتحول إلى تيار متجلط من مقاطع لفظية مزعجة. كانت العضلات الإرادية هي المعرضة للتأثير، على الدوام، وفي البداية بدا ذلك بالفعل كأنه أهون الضررين. فلا إخفاقات تشغيل قد تنتاب القلب أو المخ، ولا إشارات عصبية تنحرف عن مسارها، ولا تغيرات خبيثة تطرأ على الشخصية. السمع والبصر والذوق واللمس، والأهم من ذلك كله الذكاء، كل ذلك بقي حيويا وقويا كالعهد به على الدوام. ظل المخ يعمل، مستغرقا في مراقبة كل الأعطال البعيدة عن المركز، والعد التنازلي لأعراض فقدان القدرة واستهلاك القوى. أكان من الصواب تفضيل ذلك الاحتمال عن الآخر حقا؟
بالتأكيد، هذا ما قاله لويس، ولكن فقط من أجل ما يتيحه ذلك من فرصة، فرصة اتخاذ خطوة.
كانت مشكلاته هو قد بدأت مع عضلات ساقيه. التحق بفصل تعليمي للياقة البدنية خاص بالمسنين (على الرغم من كراهيته للفكرة)، ليرى إن كان من الممكن بعث القوة في ساقيه من جديد. ظن أن ذلك يجدي نفعا، لأسبوع أو اثنين. ولكن عندئذ حدث التسارع المتهور، التخبط والوقوع، وقبل مدة طويلة، كان التشخيص النهائي. ما إن عرفوا ما يكفي حتى تحدثوا بشأن ما يجب القيام به عندما يحين الوقت. في وقت مبكر من هذا الصيف، كان يسير مستعينا بعكازين، وبحلول نهاية الصيف لم يعد بمقدوره السير بالمرة، غير أن يديه كان لا يزال بوسعهما أن تقلبا صفحات كتاب، والإمساك - في صعوبة - بشوكة أو ملعقة أو قلم. بدا لنينا أن قدرته على الحديث لم تتأثر تقريبا، ولو أن تردد الزوار كان يضايقه، فقرر منع تلك الزيارات على كل حال. تغير نظامه الغذائي، حتى يتسنى له البلع على نحو أسهل، وأحيانا كانت تمر أيام دون أي صعوبة من ذلك النوع.
كانت نينا قد استفسرت عن مقعد متحرك بعجلات. لم يعارض هذا. كانا قد توقفا عما سمياه «الإقفال الكبير»، إلى درجة أنها تساءلت في نفسها إن كانا قد دخلا - أو دخل هو وحده - إحدى المراحل التي قد قرأت عنها، مرحلة تغير يطرأ أحيانا على الأشخاص في منتصف إصابتهم بمرض مميت. مقدار من التفاؤل يتقدم ليحتل الصدارة، ليس لأن للتفاؤل ما يسوغه؛ بل لأن التجربة بكاملها قد أضحت واقعا ملموسا وليست فكرة مجردة، وصارت سبل التعايش مع المرض مسألة دائمة وليست إزعاجا عابرا.
هذه ليست النهاية. عش اللحظة الحاضرة. تشبث بكل يوم.
بدا لها ذلك النوع من التطور غريبا على شخصية لويس. لم تكن نينا تظن أنه قادر على أي خداع للذات، حتى إن كان خداعا سيفيده على أفضل نحو. لكنها أيضا لم تستطع قط أن تتخيله ينهزم تحت وطأة الانهيار الجسدي. والآن بعد أن حدث ذلك الأمر المستبعد، لماذا لا تقع الاحتمالات الأخرى؟ ألم يكن من الجائز أن التغييرات التي تطرأ على الأشخاص الآخرين قد تنتابه هو أيضا؟ الآمال السرية، تجنب الحقيقة والتملص منها، والمقايضات الخادعة.
لا.
التقطت دليل التليفون المجاور للفراش وبحثت فيه عن «حانوتية»، وهي كلمة لم تكن موجودة بطبيعة الحال. «متعهدو جنازات». السخط الذي أحست به بسبب ذلك كان من نوع السخط الذي كثيرا ما تقاسمته معه. حانوتية، بربكم، ما الخطأ في كلمة حانوتية؟ التفتت إليه ورأت كيف تركته، مكشوفا بلا حول ولا قوة. قبل أن تتصل بالرقم أعادت فرد الملاءة واللحاف عليه.
سألها صوت رجل شاب إن كان الطبيب هناك، هل وصل الطبيب بعد؟ «لم يكن بحاجة إلى طبيب. حين دخلت وجدته ميتا.» «متى كان ذلك إذن؟» «لا أدري، قبل ثلث ساعة.» «هل وجدتيه غائبا عن الوعي؟ إذن، من هو طبيبكم؟ سوف أتصل به وأرسله إليك.»
في أحاديثهما العملية حول مسألة الانتحار، وحسبما تتذكر هي، لم يتطرق كل من نينا ولويس بالمرة إلى ما إذا كان عليها إخفاء حقيقة الأمر أم إعلانه. من ناحيتها كانت على ثقة من أن لويس كان سيود أن تعلن الحقائق، كان سيريد أن يعرف الجميع فكرته عن الطريقة المشرفة والمعقولة للتعامل مع الأزمة التي وجد نفسه فيها. ولكن كانت هناك ناحية أخرى، إذا وضعها في الاعتبار فقد يفضل عدم القيام بكشف كهذا. ما كان ليريد أن يظن أي شخص أن هذا قد نجم عن فقدانه لوظيفته، معركته الخاسرة في المدرسة؛ فقد يدفعهم هذا للتفكير بأنه حبس نفسه هكذا نتيجة لهزيمته هناك، كان سيدفعه ذلك للجنون غضبا.
رفعت لفافات الأقراص عن الكومود، الممتلئة والفارغة كذلك، وفتحت عليها مياه المرحاض. •••
كان رجال الحانوتي صبية محليين ضخاما، طلبة سابقين، وكانوا منزعجين أكثر قليلا مما أرادوا أن يظهروا عليه. كان الطبيب شابا، هو الآخر، وغريبا؛ إذ كان طبيب لويس المعتاد في إجازة في اليونان. «رحمه الله، إذن!» هكذا قال الطبيب بعد أن انتهى من ملء الأوراق بالمعلومات الضرورية. اندهشت قليلا من سماعه يقر بهذا علانية، وفكرت بأن لويس، إن كان بوسعه أن يسمعه، قد يلمح في كلامه صبغة دينية ليس لها محل هنا. ما قاله الطبيب بعد ذلك كان أقل إدهاشا. «هل تودين التحدث إلى أي شخص؟ لدينا أشخاص الآن يمكنهم، كما تعلمين، مساعدتك في التعامل مع مشاعرك.» «كلا. كلا. شكرا لك، أنا بخير.» «هل عشتما هناك فترة طويلة؟ ألديك أصدقاء يمكنك استدعاؤهم؟» «نعم، نعم.» «هل ستتصلين بأحدهم الآن؟»
فقالت نينا: «نعم.» كانت تكذب؛ فبمجرد أن غادر المنزل كل من الطبيب، والحمالين الشباب، ولويس - الذي غادر محمولا كقطعة من الأثاث، ملفوفة جيدا لحمايتها من الرضوض والخبطات - كان عليها أن تتابع بحثها. بدا لها الآن أنها كانت حمقاء حين قصرت بحثها على المكان المجاور للفراش فحسب؛ وجدت نفسها تفتش في جيوب ثوب نومها، المعلق على باب غرفة النوم من الداخل. مكان ممتاز؛ لأن هذا كان ثوبا تضعه على جسدها كل صباح قبل أن تهرع لإعداد القهوة، وكانت دائما ما تتفقد جيوبه فتجد مناديل ورقية، إصبع طلاء شفاه. فيما عدا أنه كان سيضطر للنهوض من فراشه ويعبر الغرفة، هو الذي لم يكن قادرا على أن يخطو خطوة واحدة دون مساعدتها على مدى أسابيع.
ولكن أليس من الجائز أن تكون الرسالة قد كتبت ووضعت في مكان ما أمس؟ ألن يكون من المنطقي أن يكون قد كتبها وخبأها قبل أسابيع، خاصة وهو لم يكن يعلم المعدل الذي ستسوء به قدرته على الكتابة؟ وإذا كان هذا هو الحال فيمكن لتلك الرسالة أن تكون في أي موضع؛ في أدراج مكتبها ، حيث كانت تنقب بداخلها الآن، أو تحت زجاجة شمبانيا كانت قد اشترتها لشربها في عيد ميلاده ووضعتها على التسريحة، لتذكيره بذلك التاريخ بعد أسبوعين من الآن، أو ما بين صفحات أي من الكتب التي كانت تتصفحها في تلك الأيام. في الحقيقة كان قد سألها، قبل فترة قصيرة: «ما الذي تقرئينه وحدك الآن؟» كان يقصد ماذا تقرأ بمعزل عن الكتاب الذي كانت تقرؤه له؛ «فريدريش العظيم» لنانسي ميتفورد. اختارت أن تقرأ له الكتب التاريخية المسلية - لم يكن يستسيغ القصص الخيالية - وتركت الكتب العلمية له ليتدبر أمرها بنفسه. كانت قد أجابته: «فقط بعض القصص اليابانية.» ورفعت الكتاب في يدها. الآن كانت تلقي بالكتب جانبا لتتبين موضع ذلك الكتاب، ثم تقلبه وتهز صفحاته جيدا. كل كتاب كانت تدفعه بعيدا تلقى بعد ذلك المعاملة ذاتها. ألقت وسائد المقعد الذي اعتادت الجلوس عليه على الأرض، لترى ماذا وراءها. في النهاية صارت كل وسائد الأريكة متفرقة ومنتشرة على النحو ذاته. حتى حبوب القهوة هزت في علبتها المعدنية وأفرغت تماما؛ تحسبا لأن يكون (في نزوة عابثة؟) قد أخفى وداعا ما هناك.
أرادت ألا يوجد أي شخص معها، ألا يرى أحد عملية البحث هذه، التي كانت تجريها - مع ذلك - وجميع الأنوار مضاءة وكل الستائر مرفوعة. لم تكن تريد أن يذكرها أحد بأن عليها أن تمسك بزمام نفسها. كان الظلام قد حل منذ بعض الوقت، وأدركت أن عليها تحضير شيء ما لتتناوله. ربما تتصل بمارجريت، لكنها لم تفعل شيئا. نهضت لتسدل الستائر ولكنها بدلا من ذلك أطفأت الأنوار. •••
كان طول نينا يتعدى الستة الأقدام بقليل. حتى عندما كانت مراهقة، كان الجميع - معلمو صالة الألعاب الرياضية، ومختصو الإرشاد الاجتماعي، وأصدقاء أمها القلقون بشأنها - يلحون عليها لتفرد ظهرها وتتخلص من انحنائه. بذلت ما في وسعها، ولكن حتى الآن، حين تنظر إلى صورها الفوتوغرافية، كان الفزع ينتابها حين ترى إلى أي حد صارت قامتها متهدلة؛ الكتفان الغاطستان معا، والرأس المائل إلى الجانب، ووضعها الجسدي بكامله الذي يوحي بوصيفة مبتسمة. حين كانت شابة اعتادت على أن يرتب لها الآخرون لقاءات، أصدقاء يجمعونها مع شباب طوال القامة. بدا الأمر كما لو أنه ما من شيء آخر له أهمية في الرجل ما دامت قامته تتعدى الست أقدام، وهكذا لا بد أن يكون قرينا مناسبا لنينا. في حالات كثيرة للغاية كان الرجل يتجهم حيال هذا الموقف - فالرجل الطويل، على كل حال، يمكنه أن ينتقي ويختار - أما نينا، فتغرق في مستنقع الحرج، وهي لا تزال تتقوس وتبتسم.
والداها، على الأقل، تصرفا كما لو أن حياتها شأن خاص بها وحدها. كانا كلاهما طبيبين يعيشان في مدينة صغيرة في ميشيجان. عاشت نينا معهما بعد أن أنهت تعليمها قبل الجامعي. درست اللغة اللاتينية في مدرسة ثانوية محلية، وفي إجازاتها كانت تسافر إلى أوروبا مع صديقات الدراسة هؤلاء، اللاتي لم يتم بعد استخلاصهن من الدراسة كالقشدة من الحليب ليتزوجن ويتزوجن من جديد، وهو ما لم يحدث كثيرا. بينما كانت هي وفرقتها من البنات يتنزهن في جبل كارينجورمز، التقين بمجموعة شباب أستراليين ونيوزيلنديين، ينتمون بصفة مؤقتة للحركة الهيبية، وكان قائدهم هو لويس. كان يكبر الآخرين ببضعة أعوام، وأقل هيبية من جوال متمرس، وبلا ريب كان هو الشخص الذي يتم استدعاؤه كلما نشب خلاف أو ظهرت مشكلة ما. لم يكن طويلا بصورة ملحوظة؛ إذ كان أقصر من نينا بثلاث أو أربع بوصات. وقد ارتبط بها، مع ذلك، ونجح في إقناعها بأن تغير مسار رحلتها المحدد وأن تنطلق بصحبته، حتى هو نفسه قام عن طيب خاطر بترك زمرته بلا قيادة ليفعلوا ما يحلو لهم.
اتضح أنه كان قد مل التجوال هنا وهناك، وأنه أيضا حاصل على مؤهل دراسي في علم الأحياء، وشهادة لممارسة التدريس في نيوزيلندا. أخبرته نينا بمدينة على الساحل الشرقي من بحيرة هورون، في كندا، حيث كانت تزور أقاربها وهي لا تزال طفلة. وصفت له الأشجار السامقة بامتداد الشوارع، والمنازل العتيقة البسيطة المظهر، ومشاهد غروب الشمس على البحيرة؛ مكانا ممتازا ليعيشا حياتهما معا، وهو كذلك مكان قد يكون من الأسهل على لويس العثور فيه على وظيفة؛ نظرا للعلاقات ما بين دول الكومنولث. وبالفعل حصل كل منهما على وظيفة في المدرسة الثانوية، على الرغم من أن نينا أقلعت عن التدريس بعد بضع سنوات، حين ألغوا مقرر اللغة اللاتينية. كان بوسعها أن تتلقى دورات تدريبية للترقي، أو أن تعد نفسها لتدرس مادة أخرى، لكنها كانت سعيدة، سرا، بعدم اضطرارها للعمل بعد ذلك في نفس مكان عمل لويس، وفي نفس وظيفته. فبسبب قوة شخصيته، وأسلوبه المقلق في التدريس، اكتسب أصدقاء وأعداء كذلك، ووجدت نوعا من الراحة في عدم تورطها في ذلك.
لم يهتما بالإسراع إلى إنجاب طفل. وقد استرابت في أنهما كانا معتدين بنفسيهما أكثر من الحد المعقول، فلم ترق لهما فكرة أن يغلف كل منهما بهوية مضحكة قليلا، هوية الأم والأب. كان كلاهما - لا سيما لويس - موضع إعجاب الطلاب لكونهما مختلفين عن الكبار الآخرين في بيوتهم؛ كانا أكثر نشاطا، ذهنيا وجسديا، وأكثر تعقيدا وحيوية وقدرة على استخلاص كل ما هو طيب من قلب الحياة.
انضمت إلى جوقة إنشاد جماعي. كان أغلب حفلاتهم الموسيقية تقام في كنائس، وفي ذلك الحين علمت أي نفور عميق داخل لويس نحو تلك الأماكن. جادلته قائلة إنه في الغالب لا يوجد أي مكان آخر مناسب ومتاح، وليس معنى ذلك أنهم ينشدون موسيقى دينية (على الرغم من أن دفاعها هذا كان يصير أصعب قليلا حين كانوا ينشدون أنشودة المسيح). قالت إنه كان متشبثا بالطراز العتيق، وإنه لم يعد ثمة دين يسبب الأذى للناس في هذه الأيام. أشعل هذا فتيل شجار كبير. كان عليهما أن يهرعا إلى إغلاق مصاريع النوافذ بشدة، حتى لا يسمع العابرون على الرصيف صوتيهما المرتفعين في تلك الأمسية الصيفية.
كان شجار مثل هذا أمرا مذهلا، وكاشفا ليس فقط عن مدى قدرته على كسب العداوات، ولكن كم كانت هي أيضا غير قادرة على فض نزاع تصاعد إلى ثورة غضب. لم يتراجع أي منهما عن موقفه، وتشبث كل بمبادئه في مرارة أليمة.
ألا تستطيع أن تتسامح مع اختلاف الناس، لماذا تعطي الأمر كل هذه الأهمية؟
لو لم يكن هذا مهما، فلا أهمية لشيء.
بدا وكأن الهواء تشبع بالاشمئزاز والضيق، وكل هذا حول مسألة لا يمكن حلها بالمرة. خلدا إلى النوم دون كلام، وافترقا في الصباح التالي دون كلام، وفي أثناء النهار استحوذ عليهما الخوف؛ خوفها من أنه قد لا يرجع أبدا للبيت، وخوفه من أنه حين يرجع للبيت لن يجدها هناك. ومع ذلك، فقد كانا سعيدي الحظ. اجتمعا في آخر النهار شاحبين من الندم، مرتجفين من الحب، مثل شخصين نجيا بأعجوبة من زلزال وأخذا يسيران وسط خراب مكشوف.
لم تكن تلك هي المرة الأخيرة. تساءلت نينا، التي تربت على أن تكون مسالمة للغاية، إن كانت هذه تعد حياة طبيعية. لم تستطع مناقشة هذا معه؛ إذ كانت نوبات تصالحهما بعد الشجار مفعمة بالامتنان أكثر من اللازم، وكانت عذبة وحمقاء أكثر من اللازم كذلك. يدلل كل منهما الآخر بأسماء مضحكة، يناديها «الحلوة نينا هايينا» (أي نينا الضبعة)، وتناديه «لويس الجو الصحو». •••
بعد مرور بضع سنوات، بدأ نوع جديد من اللافتات في الظهور على جوانب الطرقات. على مدى زمن طويل كانت ثمة لافتات تحض على الرجوع للدين، وأخرى ذات قلوب وردية اللون بخطوط مستوية، كان يقصد بها إثناء الناس عن عمليات الإجهاض. ما بدأ في الظهور الآن كان نصوصا من سفر التكوين:
في البدء خلق الله السماوات والأرض.
وقال الله: «ليكن نور»، فكان نور.
فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه. ذكرا وأنثى خلقهم.
غالبا ما كان يرسم إلى جوار تلك الكلمات قوس قزح أو وردة أو رمز ما للمحبة الفردوسية.
قالت نينا: «ما معنى كل هذا؟ إنه تغيير على أي حال من «الله يحب خلقه».»
قال لويس: «إنه مذهب الخلقوية.» «أستطيع أن أتبين ذلك. أقصد، لماذا يضعونه هكذا على لافتات في كل موضع؟»
قال لويس إنه كان ثمة حركة لا لبس فيها الآن لتعزيز الإيمان بالنص الحرفي لنصوص الكتاب المقدس. «آدم وحواء، والحكايات القديمة ذاتها.»
لم يبد عليه أنه قد انتابه ضيق كبير بشأن هذا، أو أي درجة من الاستياء أكثر مما قد يشعر به عند رؤيته لمزود العلف (رمز ديني مسيحي، إشارة إلى مهد المسيح عند ولادته) الذي كان يتم وضعه في كل عيد ميلاد، ليس على واجهة كنيسة ولكن على مرج دار البلدية. قال إن مباني الكنيسة شيء ومباني البلدية شيء آخر. تلقت نينا تعليمها وفقا لمبادئ جمعية الكويكرز (الكويكرز أو جمعية الأصدقاء الدينية، هي مجموعة من المسيحيين البروتستانت نشأت في القرن السابع عشر في إنجلترا على يد جورج فوكس)، تلك المبادئ التي لم تكن تشدد كثيرا على قصة آدم وحواء. وهكذا فحين عادت إلى البيت أخرجت الكتاب المقدس نسخة الملك جيمس، وقرأت القصة بكاملها من الأول للآخر. أبهجها بشدة هذا التتابع المهيب للأيام الستة الأولى؛ الفصل بين المياه باليابسة، وتثبيت الشمس والقمر، وظهور المخلوقات التي راحت تدب على الرض وتطير في الهواء، وهكذا.
قالت: «هذا جميل. إنه شعر عظيم. لا بد أن يقرأه الناس.»
فقال إنه لا أفضل ولا أسوأ من أي حزمة كاملة من أساطير الخلق التي انبثقت في كل أركان الأرض الأربعة، وإنه قد أصابه السأم والقرف من هذا الشعر، ومن سماع عبارة كم كان هذا جميلا.
قال: «ما يقال عن الشعر ليس إلا دخانا لحجب الحقيقة، فهم لا يقيمون للشعر وزنا.»
ضحكت منه نينا وقالت: «كل أركان الأرض الأربعة. أهذا كلام يليق برجل علم مثلك؟ أراهن أنك اقتبستها من الكتاب المقدس!»
كانت تنتهز فرصة، بين الحين والآخر، لتغيظه حول هذا الموضوع. لكن كان عليها أن تأخذ حذرها حتى لا تشط في هذا وتتجاوز الحد المعقول. كان عليها أن تنتبه للنقطة التي قد يستشعر عندها التهديد المهلك؛ الإساءة المخزية. •••
بين الحين والآخر كانت تجد مطوية دعائية في البريد. لم تكن تهتم بقراءتها، ولفترة اعتقدت أن الجميع يتلقون بالتأكيد هذا النوع من الأشياء، إلى جانب البريد الدعائي العديم القيمة الذي يعرض قضاء إجازات في مناطق استوائية وشلالات مياه أخرى مبهرجة المنظر. ثم اكتشفت أن لويس كان يتلقى المواد ذاتها على بريده في المدرسة - «دعاية ترويجية للإيمان بخلق العالم» كما سماها - متروكة على مكتبه أو مدسوسة في العين المخصصة له لاستقبال بريده هناك.
كان قد قال لناظر المدرسة: «يستطيع الأولاد الدخول إلى مكتبي، ولكن من بحق جهنم يدس لي تلك الأشياء في صندوق بريدي هنا؟»
قال الناظر إنه لا يمكنه أن يعرف، فقد كان هو أيضا يتلقى تلك المطويات الدعائية. ذكر لويس اسم اثنين من المعلمين في فريق التدريس، اثنين من المسيحيين في الخفاء كما كان يدعوهم، وقال الناظر إن الموضوع أهون من أن يشغل باله به؛ إذ يستطيع دائما أن يتخلص من تلك الأشياء.
كانت هناك أسئلة في الفصل. بالطبع، دائما كانت هناك أسئلة، لا شك عندي في ذلك، هكذا قال لويس. فتاة ما ضئيلة وشاحبة شحوب القديسين، أو صبي متذاك يحاول أن يلغي نظرية التطور بجرة قلم. كانت لدى لويس طرقه المجربة والفعالة في التعامل مع هذا. كان يخبر من يقاطعه بأنهم إذا أرادوا التفسير الديني لتاريخ العالم فإن هناك مدرسة مسيحية تفصل البنين عن البنات في البلدة المجاورة، ويمكنهم الالتحاق بها على الرحب والسعة. صارت الأسئلة أكثر تواترا، فأضاف أنه توجد حافلات يمكنها أن تقلهم إلى هناك، إن استطاعوا جمع كتبهم ومغادرة الفصل في هذا اليوم وهذه الساعة إذا طاب لهم ذلك. «ورحلة موفقة لمؤ ...!» هكذا قال. فيما بعد كان ثمة خلاف بشأن إن كان قد قال بالفعل كلمة «مؤخراتكم» أم تركها معلقة في الهواء دون أن ينطقها. ولكن حتى لو يكن قد قالها فعلا فقد صرح بالإساءة بكل تأكيد؛ لأن الجميع كانوا يعرفون كيف يمكن أن تكتمل عبارته.
كان الطلاب يحاولون التسلل عبر باب جديد في تلك الفترة. «ليس الأمر أننا بالضرورة ننشد الرؤية الدينية للتاريخ، كل ما هنالك أننا نتساءل لماذا لا نمنحها وقتا مساويا للرؤية الأخرى؟»
ترك لويس نفسه ينجر إلى خلاف. «ذلك لأنني هنا لأدرس لكم العلم، وليس الدين.»
ذلك ما قال إنه قد قاله، وكان هناك أولئك الذين نقلوا عنه أنه قال: «لأنني هنا لأدرس لكم العلم، لا الخرافات.» وفعلا، فعلا، قال لويس، بعد المقاطعة الرابعة أو الخامسة لحديثه، وبعد طرح السؤال نفسه بطرق لا تكاد تختلف إلا قليلا («هل تظن أنه يضرنا أن نسمع الجانب الآخر من القصة؟ إذا تعلمنا الإلحاد، أفليس هذا شيئا أقرب إلى تعليم ديني من نوع ما؟») ربما أفلتت الكلمة من لسانه، وتحت وطأة هذا الاستفزاز لم يعتذر عن قولها. «يتصادف أنني أنا السيد في هذا الفصل الدراسي، وأنا من يقرر ما الذي سيتم تدريسه.» «أظن أن الرب هو سيدنا جميعا يا أستاذ!»
كان هناك طرد من الغرفة. وأتى أولياء الأمور للتحدث إلى ناظر المدرسة، أو ربما كان في نيتهم الحديث إلى لويس، ولكن الناظر كان حريصا على ألا يحدث هذا. سمع لويس بأمر تلك المقابلات فقط بعد أن تمت، من ملاحظات عابرة، ومازحة بهذا القدر أو ذاك، في غرفة طاقم التدريس.
قال ناظر المدرسة: «ليس عليك أن تقلق بشأن ذلك.» كان اسمه بول جيبنز، وكان أصغر سنا من لويس ببضع سنوات. «كل ما هنالك أنهم يحتاجون للشعور بأن هناك من ينصت إليهم. يحتاجون لقليل من الملاطفة والتهدئة.»
فقال لويس: «كان بودي أن ألاطفهم فعلا.» «حسن. ليس ذلك النوع من الملاطفة بالضبط ما أتحدث عنه.» «يجب أن يكون هناك لافتة مكتوب عليها ممنوع دخول الكلاب وأولياء الأمور.» «ليتنا نستطيع!» هكذا قال بول جيبنز، متنهدا في مودة وأضاف: «ولكني أفترض أن لهم حقوقهم.»
بدأت بعض رسائل القراء تظهر في الصحيفة المحلية. رسالة كل أسبوعين تقريبا، بتوقيع «أب قلق»، أو «دافعة ضرائب مسيحية»، أو «إلى أين سيقودنا ذلك؟» وكانت كلها مكتوبة باعتناء، منسقة الفقرات، وذات حجج بليغة، كما لو أنها جميعا ربما خرجت من تحت يد مندوب واحد عن الآخرين. أوضحوا نقطة أنه ليس كل أولياء أمور الطلبة يمكنهم تحمل مصاريف المدرسة المسيحية الخاصة، ومع ذلك فكلهم من دافعي الضرائب. وعلى هذا فإن من حقهم أن يعلموا أولادهم في مدارس حكومية، تعليما لا يسيء إلى إيمانهم ، أو يدمره عن عمد وقصد. وشرح البعض، بلغة ذات صبغة علمية، كيف أسيء فهم التاريخ، وكيف أن المكتشفات الحديثة التي بدا أنها تدعم نظرية التطور إنما هي تؤكد رواية الكتاب المقدس. ثم يتم الاستشهاد بنصوص الكتاب المقدس التي كانت قد تنبأت بالتعليم الزائف لوقتنا الراهن، وكيف قد يؤدي إلى التخلي عن جميع القواعد المحترمة للحياة.
وبعد فترة تبدلت النبرة؛ إذ صارت أشد غضبا وسخطا. إن المسئولين عن الحكومة والفصول الدراسية ما هم إلا وكلاء للمسيح الدجال. ومخالب الشيطان تمتد نحو أرواح أطفالنا، الذين يجبرون فعليا على ترديد العقائد الملعونة؛ من أجل اجتياز امتحاناتهم. «ما الفرق بين الشيطان والمسيح الدجال، أم أنهما الشيء نفسه؟» قالت نينا. «كان الكويكرز الذين أنشئوني دينيا مهملين للغاية بشأن هذا كله.»
فقال لويس إنه يفضل ألا تتعامل مع هذا كله باعتباره مزحة.
قالت في استفاقة: «عذرا، من تظنه يكتبها حقا؟ أحد القساوسة؟»
قال لا، لو كان قسا لكانت أكثر تنظيما وتنسيقا من ذلك. حملة لها عقل مدبر، مكتب مركزي في مكان ما، يزودهم بالرسائل التي يجب إرسالها من عناوين الأهالي المحليين. وشك في أن يكون أي من هذا قد بدأ هنا، في فصله الدراسي. لقد كان كل شيء مخططا له، المدارس كانت مستهدفة، وخصوصا في المناطق التي قد يوجد فيها أمل طيب بقدر ما في اكتساب تعاطف عام. «إذن؟ الأمر ليس شخصيا؟» «ليس في ذلك أي عزاء.» «حقا؟ ظننته عزاء بشكل ما.»
كتب أحدهم «نار جهنم» على سيارة لويس. لم تكتب بطلاء رشاش، بل مجرد إصبع مر بالحروف على الغبار.
بدأت أقلية من الطلاب تقاطع صفه الدراسي للسنة النهائية، جلسوا على الأرض بالخارج، مسلحين برسائل دعم من أولياء أمورهم. عندما بدأ لويس الشرح، بدءوا هم ينشدون:
كل الأشياء المشرقة والجميلة
كل المخلوقات الكبيرة والصغيرة
كل الأشياء الذكية والرائعة
الرب سيدنا خلقها كلها.
استمسك ناظر المدرسة بالقاعدة القائلة بعدم جواز الجلوس على أرضية الردهة، ولكنه لم يأمرهم بالرجوع إلى الصف. اضطروا للذهاب إلى غرفة الخزائن بجانب صالة الألعاب، حيث واصلوا هناك إنشادهم؛ فقد كانوا يحفظون ترانيم أخرى جاهزة كذلك. اختلطت أصواتهم في نشاز بالأوامر الخشنة لمعلم صالة الألعاب ووقع الأقدام على أرضية الصالة.
في صباح يوم إثنين ظهر التماس على مكتب ناظر المدرسة، وفي الوقت ذاته أرسلت نسخ منها إلى مكتب صحيفة البلدة. تم جمع توقيعات ليس فقط من أولياء أمور الأولاد، أصحاب الشأن، ولكن أيضا من رعايا كنائس متنوعة في البلدة؛ كان أغلبها من الكنائس الأصولية المتعصبة، ولكن كان هناك أيضا البعض من كنائس متحدة أو أنجليكانية أو مشيخية.
لم يذكر الالتماس نار جهنم، ولا شيء يمت بصلة إلى الشيطان أو المسيح الدجال؛ كل ما طلبه الالتماس هو أن يتم إعطاء رواية الكتاب المقدس الخاصة بالخلق وقتا مساويا، وأن تعطى الاعتبار والاحترام باعتبارها خيارا آخر. «نحن الموقعون أدناه نعتقد أنه قد تم تغييب الله عن المشهد لوقت أطول من اللازم.»
قال لويس: «كلام فارغ. إنهم لا يؤمنون بإعطاء أوقات متساوية؛ فهم لا يؤمنون بالخيارات الأخرى. ما هم إلا مستبدون بالرأي، فاشيون.» •••
ذهب بول جيبنز إلى منزل لويس ونينا؛ لم يشأ أن يناقش الأمر حيث يمكن لجواسيس أن يسترقوا السمع (إحدى السكرتيرات كانت عضوا في كنيسة الكتاب المقدس). لم يكن يعول كثيرا على إلانة رأس لويس، لكن كان عليه أن يحاول.
قال: «لقد أحكموا حصارهم الدامي من حولي.»
فقال لويس: «ارفتني، ووظف بدلا مني مغفلا مأفونا من أشياعهم.»
ابن الساقطة هذا يستمتع بالأمر، هكذا فكر بول، ولكنه سيطر على نفسه، وهو ما بدا أنه أكثر ما يفعله في تلك الأيام، السيطرة على نفسه. «لم آت إلى هنا لأتحدث بهذا الشأن. أعني أن كثيرا من الناس سوف يرون أن هذه الزمرة من الناس لديهم منطقهم. بما في ذلك أشخاص من مجلس الإدارة.» «إذن فلتسعد قلوبهم. ارفتني، وامض في ركاب آدم وحواء.»
أحضرت لهم نينا القهوة. شكرها بول وحاول أن ينظر في عينيها، ليتبين أين موقفها من هذا. لا جدوى.
قال: «نعم، طبعا، ولكن لا يمكنني فعل ذلك لمجرد أنني أريده. وأنا لا أريد. ستلاحقني النقابة حتى تنال مني. المسألة منتشرة في الإقليم كله، قد يؤدي الأمر إلى إضراب أيضا، علينا أن نفكر في صالح الأولاد.»
قد يظن المرء أن هذا قد يلين رأس لويس؛ التفكير في صالح الأولاد. لكنه كان كالمعتاد ربان سفينته الوحيد، ولا صوت يسمع عليها غير صوته. «امضوا في ركاب آدم وحواء ... بأوراق التوت أو من دونها.» «كل ما أطلبه منه هو إلقاء كلمة صغيرة يوضح فيها أن هذا ليس إلا تأويلا مختلفا، وأن بعض الناس يؤمن بتأويل ما وبعضهم يؤمن بتأويل آخر. اعرض قصة سفر التكوين لربع أو ثلث ساعة. اقرأها عليهم. فقط افعل ذلك بالاحترام الواجب. أنت تعرف ما تدور حوله كل هذه الضجة، أليس كذلك؟ الناس يشعرون أنهم موضع استخفاف. لا يحب الناس أن يشعروا بأن أحدا يستخف بعقولهم.»
ظل لويس جالسا في صمت بما يكفي ليخلق أملا - بداخل بول، وربما بداخل نينا أيضا، من يدري؟ - غير أنه اتضح أن سكونه هذا الذي طال كان مجرد وسيلة ليترك ما تلقاه من جور هذا الاقتراح يهدأ ويترسب بداخله.
قال بول في فضول: «ما رأيك؟» «سأقرأ سفر التكوين كله بصوت عال إذا شئت، وبعد ذلك سوف أعلن أنه ليس إلا مزيجا مختلطا من تضخيم للذات ينتمي للعشائر القديمة، ومفاهيم لاهوتية مستعارة في الأساس من ثقافات أخرى أفضل.»
قالت نينا: «أساطير! على كل حال أي أسطورة ليست زائفة، بل هي فقط ...»
لم ير بول أي نفع في أن يوليها انتباهه، أما لويس فلم يكن منتبها. •••
كتب لويس رسالة إلى الصحيفة. كان الجزء الأول منها معتدلا وعلميا، وصف فيه تكون القارات وكيف ظهرت واختفت بعض البحار، والبدايات المتعثرة لأشكال الحياة؛ الجراثيم العتيقة، محيطات دون أسماك وسماوات دون طيور؛ الازدهار والدمار، عصر البرمائيات، الزواحف، الديناصورات، تغير المناخ، أولى الثدييات الصغيرة الوضيعة. المحاولة والخطأ، ثم ظهور الرئيسيات المتأخرة وغير المبشرة في المشهد، ونهوض القردة الشبيهة للإنسان على قوائمها الخلفية واكتشاف النار، وشحذ الحجارة، وتمييز منطقة سكناهم، وأخيرا، وفي اندفاع متأخر، بناء القوارب والأهرام ثم صنع القنابل، ثم خلق اللغات والأرباب والتضحية وقتل الناس بعضهم بعضا، والصراع حول ما إذا كان إلههم يسمى يهوه أم كريشنا (هنا بدأت اللغة تحتد) أو ما إذا كان لا بأس من تناول لحم الخنزير، والركوع على الركبتين والصياح عاليا بالصلوات لعجوز غريب الأطوار في السماء يهتم كثيرا بمن سيكتب له النصر في الحروب والفوز في مباريات كرة القدم. وأخيرا، وعلى نحو مذهل وفاتن، يهتدي البشر إلى بضعة أمور، ويشرعون في التعرف على أنفسهم وعلى الكون الذي وجدوا أنفسهم فيه، ثم يقررون أنه من الأفضل التخلي عن كل تلك المعرفة المكتسبة بشق الأنفس، والعودة إلى العجوز الغريب الأطوار وإجبار جميع من حولهم على الركوع من جديد، وعلى تعلم اللغو القديم والإيمان به، لماذا لا نستعيد نظرية الأرض المسطحة بالمرة؟
المخلص بصدق، لويس سبيرس.
لم يكن محرر الصحيفة من سكان البلدة نفسها وقد تخرج مؤخرا في مدرسة الصحافة. كان سعيدا بالضجة المثارة وواصل نشر الردود («لا للسخرية من الله» وتحته توقيعات كل عضو من رعايا كنيسة الكتاب المقدس، «كاتب يستهين بالسجال» من قس الكنيسة المتحدة، المتسامح ولكن الحزين، الذي استاء من تعبيرات مثل «لغو» و«العجوز غريب الأطوار») إلى أن أعلن ناشر هذه الصحيفة أن هذا النوع من الجلبة كان عتيق الطراز وفي غير محله ويقلل من نسبة الإعلانات المنشورة في الصحيفة. فلنغلق هذا الباب، هكذا قال.
كتب لويس رسالة أخرى، وكانت هذه هي رسالة استقالته من وظيفته. تم قبولها في أسف وندم، وقد صرح بول جيبنز - وكان هذا أيضا مكتوبا على الورق - أن سبب الاستقالة هو سوء حالة لويس الصحية.
كان ذلك صحيحا، على الرغم من أنه لم يكن سببا يود لويس نفسه أن يعلن على الملأ. على مدى أسابيع عديدة كان يشعر بضعف في ساقيه. في الوقت نفسه الذي كان من المهم بالنسبة إليه فيه أن يقف منتصبا أمام صفه، ويسير قبالته جيئة وذهابا، كان قد شعر بنفسه يرتعش، ويشتاق للجلوس. لم يستسلم قط، ولكن أحيانا اضطر للتشبث بظهر مقعده، كما لو كان فقط يشدد على نقطة ما. ومن وقت لآخر كان يدرك أنه لا يعرف موضع قدميه؛ فلو كانت هناك سجادة لكان من الممكن أن يتعثر في أصغر ثناياها، وحتى في الفصل، حيث لا توجد سجاجيد، كان يمكن لقطعة طبشورة ساقطة، أو قلم رصاص، أن يؤديا إلى كارثة.
أشعل هذا الاعتلال نيران غضبه، ظنا منه أنه علة نفسية أثرت على حالته الجسدية. لم تساوره من قبل قط مشكلة عصبية قبالة تلاميذ صفه، ولا قبالة أي مجموعة من الناس. حين تلقى نبأ التشخيص الحقيقي، لدى اختصاصي الأعصاب، ما شعر به - كما أخبر نينا - كان ارتياحا مضحكا.
قال: «خشيت أن أكون عصابيا.» وشرع كلاهما يضحكان. «خشيت أن أكون عصابيا، ولكن كل ما هنالك أنني مصاب فقط بتصلب جانبي ضموري.» وضحكا، وهما سائران في تلكؤ في الممر الصامت المفروش بنسيج مخملي، ودخلا المصعد حيث حدق الآخرون فيهما باندهاش؛ فقد كان الضحك أكثر العملات ندرة في هذا المكان. •••
كانت دار جنازات «ليك شور» («شاطئ البحيرة») مبنى واسعا جديدا من الآجر مذهب اللون؛ جديدا إلى حد أن الحقل المحيط به لم يكن قد تحول بعد إلى باحات عشبية وشجيرات سياج. ولولا اللافتة التي تحمل اسم الدار، لكان بوسعك الظن أن المبنى عيادة طبية، أو مكتب لإحدى الإدارات الحكومية. ولم يكن اسم شاطئ البحيرة يعني أنها تطل على البحيرة، بل كان بدلا من ذلك إدماجا ماكرا للقب الحانوتي صاحب الدار؛ بروس شور. رأى البعض أن هذه التسمية تفتقر إلى الذوق. حين كان العمل يتم في أحد أكبر المنازل الفيكتورية الطراز في المدينة، وكان ملكا لوالد بروس، كانت الدار تحمل ببساطة اسم «دار جنائز شور». وكانت في الحقيقة دارا بمعنى الكلمة، ذات عدد كبير من الغرف الخاصة بالزوجين إد وكيتي شور وأطفالهما الخمسة في الطابقين الثاني والثالث.
لم يكن أحد يقيم في هذا المقر الجديد، ولكن كانت هناك غرفة نوم مع مطبخ مجهز، وغرفة استحمام. كان هذا تحسبا لأن يجد بروس شو أن من الأنسب له أن يقضي ليلته هناك، بدلا من قيادة سيارته خمسة عشر ميلا إلى المكان الريفي حيث كان هو وزوجته يربيان الخيول.
كانت ليلة أمس واحدة من تلك الليالي التي يبيتها في المقر بسبب الحادثة التي وقعت شمال المدينة، حيث اصطدمت سيارة ممتلئة بالمراهقين في دعامة جسر. هذا النوع من الحوادث - سائق حصل على رخصة القيادة للتو أو بلا رخصة على الإطلاق، والجميع سكارى شربوا حتى الثمالة - كان غالبا ما يقع في فصل الربيع مع اقتراب وقت تخرج الطلبة، أو في حالة الحماسة المصاحبة لأول أسبوعين من الدراسة في شهر سبتمبر. أما الوقت الحالي فهو وقت انتظار المزيد من حالات الوفاة بين الوافدين الجدد للبلاد - ممرضات وفدن حديثا من الفلبين في العام الماضي - حين تفتك بهم الثلوج الغريبة عليهم تماما.
وعلى الرغم من ذلك، في ليلة صافية وطريق جاف، صرع صبيان في السابعة عشرة من عمرهما، كلاهما من البلدة. وقبيل هذا، كانت قد أتت جثة لويس سبيرس. كانت يدا بروس مشغولتين تماما؛ إذ تعين عليه القيام بالكثير من العمل على جثتي الصبيين حتى يجعلهما في هيئة تصلح للرؤية، واقتضى منه هذا سهرة طويلة. اتصل بأبيه يطلب مجيئه. كان الوالدان، إد وكيتي، اللذان يقضيان فصول الصيف في البلدة، لم يرحلا بعد إلى فلوريدا، فأتى إد ليتولى العناية بجثة لويس.
كان بروس قد خرج لممارسة الركض، لينعش نفسه. لم يكن قد تناول إفطاره بعد كذلك، وكان لا يزال في ثياب الركض حين رأى السيدة سبيرز توقف سيارتها القديمة ماركة هوندا أكورد. أسرع إلى غرفة الانتظار ليفتح لها الباب.
كانت سيدة طويلة ونحيفة، شعرها رمادي ولكن في حركاتها سرعة مفعمة بحيوية الشباب. لم يبد عليها أنها في كامل حيويتها هذا الصباح، لكنه لاحظ أنها لم تهتم بارتداء معطف.
قال: «عذرا، عذرا. لقد عدت توا من تمرين صغير. للأسف، شيرلي لم تأت بعد. إننا بالطبع آسفون بشأن خسارتك.»
قالت: «نعم.» «لقد قام السيد سبيرز بالتدريس لي في الصفين الحادي عشر والثاني عشر مادة العلوم، وكان معلما لا يمكنني أن أنساه أبدا. هلا تفضلت بالجلوس؟ أعلم أنك بالتأكيد كنت مستعدة لهذا على نحو ما، ولكن يظل الموت تجربة لا يكون المرء مستعدا لها تماما عند وقوعها. هل تودين مني أن أنهي ملء الأوراق اللازمة معك الآن، أم تودين رؤية زوجك أولا؟»
قالت: «كل ما كنا نريده هو إحراق الجثة.»
أومأ برأسه. «نعم، سنتعهد بهذا.» «لا، كان من المفترض أن يتم إحراق جثته على الفور. هذا ما كان يريده. ظننت أنني آتية لأخذ رماده.»
قال بروس في صرامة: «حسنا، لم نتلق أي تعليمات كتلك. لقد أعددنا الجسد لكي يراه مودعوه. يبدو جيدا جدا، في الواقع، أظن أنك سوف تسرين لمرآه.»
وقفت وحدقت فيه.
قال: «ألا تودين الجلوس؟ لم تكن خطتك إعداد زيارة ما، أليس كذلك؟ نوع من طقوس العزاء؟ سيكون هناك أشخاص كثيرون لدرجة رهيبة يريدون التعزية في السيد سبيرز. تعرفين، لقد قمنا بمناسبات عزاء أخرى هنا من دون أي شعائر دينية. شخص ما يلقي تأبينا فحسب، بدلا من إحضار قس. أو إذا لم تريدي أن يكون الأمر رسميا، يمكن الاكتفاء بأن ينهض الناس ويقول كل منهم ما يجول بخاطره من أفكار. والقرار لك فيما إذا كنا سنترك غطاء التابوت الأعلى مفتوحا أم مغلقا. ولكن في بلدتنا هنا غالبا ما يميل الناس لتركه مفتوحا. عندما تقررين إحراق الجثة لا نستخدم نفس نوع التوابيت بطبيعة الحال. لدينا توابيت تبدو لطيفة للغاية، لكن لا تتكلف إلا أقل القليل.»
وقفت وحدقت.
واقع الأمر أن العمل كان قد تم بالفعل، وأنه لم توجه لهم أي تعليمات بألا يقوموا بعملهم. عمل شأنه شأن أي عمل آخر، لا بد أن يؤجر عليه. فضلا عما استخدموه من مواد. «إنني أتحدث فقط عما أظن أنك سترغبين فيه، حين يكون لديك الوقت للجلوس والتفكير. إننا هنا لتنفيذ رغباتك ...»
لعل قول ذلك كان مبالغة شطت عن الحد. «ولكننا مضينا في هذا الاتجاه لأننا لم نتلق أي تعليمات بالعكس.»
توقفت سيارة بالخارج ، انغلق باب سيارة، ودخل إد شور إلى غرفة الانتظار. شعر بروس بارتياح هائل؛ فما زال أمامه الكثير ليتعلمه بخصوص هذا العمل، مثل طريقة التعامل مع الطرف الذي نجا من الموت.
قال إد: «مرحبا يا نينا. رأيت سيارتك، ففكرت أن أدخل فقط لأبلغك بمدى أسفي.» •••
كانت نينا قد قضت الليلة في غرفة المعيشة. كان يفترض بها أن تنام، ولكنها نامت نوما خفيفا بحيث كانت واعية طوال الوقت بمكانها - على أريكة غرفة المعيشة - وبمكان لويس، في دار الجنازات.
حين حاولت أن تتحدث الآن، وجدت أن أسنانها ترتجف. كان في هذا مفاجأة تامة لها. «كنت أريد إحراق جسده في الحال.» ذلك ما كانت تحاول أن تقوله، وما بدأت قوله، معتقدة أنها كانت تتحدث بطريقة طبيعية. وعندئذ سمعت لهاثها، أو شعرت به، لهاثها وتأتأتها التي خرجت عن سيطرتها تماما. «كنت ... أريد ... هو ... أراد ...»
أمسك إد شور بأعلى ساعدها ووضع ذراعه الأخرى حول كتفيها. رفع بروس ذراعيه ولكنه لم يلمسها.
قال في غم: «كان علي أن أجعلها تجلس.»
فقال إد: «لا بأس، هل تودين الخروج حتى سيارتي يا نينا؟ من الخير أن تتنشقي بعض الهواء الطلق.»
قاد إد السيارة ونوافذها مفتوحة، صعودا في الجزء القديم من البلدة، وعلى شارع مسدود فيه منعطف يطل على البحيرة. في أثناء النهار كان الناس يقودون سيارتهم إلى هنا للتطلع إلى المنظر الطبيعي - أحيانا وهم يأكلون وجبات غداء سريعة - ولكن في الليل يصير المكان خاصا بالعشاق. لعل هذه الأفكار قد اتضحت تدريجيا في عقل إد، وفي عقلها هي أيضا، عندما أوقف السيارة.
قال: «هل ذلك هواء كاف لك؟ لا حاجة بك لالتقاط نزلة برد، وقد خرجت دون ارتداء معطف.»
قالت في حرص: «سيدفأ الجو، مثل أمس.»
لم يسبق لهما بالمرة أن جلسا معا في سيارة متوقفة، سواء بعد حلول الظلام أو في نور النهار، ولم يلتمسا قط مكانا كهذا ليكونا معا منفردين.
بدا التفكير في ذلك شيئا منافيا للذوق.
قالت نينا: «أنا آسفة، لقد فقدت السيطرة. ما قصدت إلا أن أقول إن لويس ... إننا معا ... أن يكون ...»
وبدأ الأمر ذاته يتكرر؛ من جديد أسنانها تصطك، الارتجاف، والمفردات التي تتمزق أشلاء، وما في ذلك كله من شفقة كريهة. لم يكن ذلك حتى تعبيرا عما كانت تشعر به حقا. ما شعرت به سابقا كان الغضب والإحباط، من التحدث إلى بروس أو الإنصات إليه. هذ المرة كانت تشعر بسكينة تامة واتزان - أو هكذا ظنت.
وهذه المرة، ولأنهما كانا معا على انفراد، لم يلمسها. أخذ يتحدث ببساطة. لا داعي لأن تقلقي بشأن ذلك كله، سوف أتولى رعاية الأمر بنفسي، على الفور. سأتأكد أن يجري كل شيء على ما يرام. أنا متفهم، إحراق الجثة.
قال لها: «تنفسي، خذي شهيقا. والآن احتفظي به بداخلك. والآن أطلقيه.» «أنا بخير.» «أنت بخير بكل تأكيد.» «لا أدري ما الأمر.» «إنها الصدمة» قال بنبرة إقرار الواقع. «أنا لست هكذا.» «انظري إلى الأفق. ذلك أيضا يساعد.»
كان يخرج شيئا من جيبه. أكان منديلا؟ لكنها لم تكن بحاجة إلى منديل. لم تبك. كل ما انتابها كان الارتجاف.
كان قطعة من الورق مطوية في إحكام.
قال: «احتفظت بهذه من أجلك. كانت في جيب منامته.»
وضعت الورقة في محفظتها، بعناية ومن دون أي حماسة، كما لو كانت مجرد وصفة طبية. وعندئذ أدركت كل ما كان يخبرها به. «أكنت هناك حين أحضروه؟» «لقد توليت أمره بنفسي. اتصل بي بروس. كانت هناك حادثة سيارة وكان الأمر أكثر قليلا مما يستطيع الاعتناء به بمفرده.»
لم تقل حتى أي حادثة؟ لم تهتم. كل ما كانت تريده الآن هو أن تنفرد بنفسها لتقرأ رسالتها.
جيب البيجامة! الموضع الوحيد الذي لم تبحث فيه، فهي لم تلمس جسده. •••
عادت بسيارتها إلى البيت، بعد أن أعادها إد إلى مكانها. وبمجرد أن لوح لها وغاب عن عينيها ركنت السيارة جانبا. وشرعت في إخراج الورقة بإحدى يديها حتى بينما كانت لا تزال تقود. قرأت ما كتب فيها، والمحرك يدور، ثم تابعت طريقها.
على الرصيف قبالة منزلها كانت هناك رسالة أخرى. «إرادة الله.»
كتابة بالطباشير ، متسرعة ومتشابكة كنسيج العناكب. كان من اليسير أن تمسحها.
ما كان لويس قد كتبه وتركه لها لتكتشفه لم يكن إلا قصيدة؛ عدة أبيات من شعر ساخر وقاس، كان عنوانها «معركة المؤمنين بسفر التكوين مع أبناء داروين على روح الجيل الخائر».
كان هناك معبد للعلم يقع
على شاطئ بحيرة هورون
حيث أتى كثير من
غلاظ العقول بليدي العيون
ليستمعوا إلى كثير من المملين. •••
وكان ملك المملين فتى وسيما حقا
ابتسامته واسعة من الأذن للأذن
أحمق، ليس في دماغه إلا
فكرة واحدة كبيرة ...
قل لهم كل ما يودون سماعه!
ذات شتاء خطرت لمارجريت فكرة تنظيم سلسلة من الأمسيات يمكن للأشخاص فيها التحدث - ليس حديثا مطولا - عن أي موضع هم مطلعون عليه ويهتمون بشأنه كثيرا، أيا كان. فكرت في أن يكون هذا للمعلمين («دائما ما يكون المعلمون هم من يقفون ويغمغمون بكلامهم أمام جمهورهم من الأسرى.» هكذا قالت. «إنهم بحاجة لأن يجلسوا ويستمعوا إلى شخص آخر يخبرهم بأمر ما، على سبيل التغيير»)، ولكن بعد ذلك قرروا أن الأمر سيكون أكثر إثارة للاهتمام إذا ما انضم إليها آخرون من غير المعلمين كذلك. سيحضر الجميع أطباقا من إعدادهم لتناولها على العشاء، ونبيذا أيضا، وكانت أول مرة في منزل مارجريت.
وهكذا وجدت نينا نفسها، ذات ليلة باردة صافية، تقف خارج باب مطبخ مارجريت في الردهة المظلمة والمزدحمة بأشياء أبناء مارجريت من معاطف وحقائب مدرسية وعصي لعبة الهوكي، كان ذلك فيما مضى حين كانوا ما زالوا جميعا يقيمون هنا. في غرفة المعيشة - التي لم يعد يصل منها إلى مسامع نينا أي صوت - كانت كيتي شور تواصل عرض موضوعها المختار، الذي كان عن القديسين. كان كل من كيتي وإد شور من بين «الناس العاديين» المدعوين إلى الحلقة، كما كانا أيضا جيرانا لمارجريت. كان إد قد تحدث في ليلة أخرى، عن رياضة تسلق الجبال، كان قد مارسها بعض الشيء، في سلسلة جبال روكي، لكنه أغلب الوقت كان يتحدث حول بعثات تسلق تتسم بالخطورة والمأساوية كان قد قرأ عنها. (قالت مارجريت لنينا وهما يحضران القهوة في تلك الليلة: «كنت قلقة نوعا ما من أنه قد يتحدث عن تجهيز الموتى.» وضحكت نينا ضحكة صغيرة وقالت: «ولكن ذلك ليس الشيء المفضل لديه، إنه ليس هوايته. لا أظن أنه يوجد الكثير من هواة تجهيز الموتى.»)
كان إد وكيتي زوجين جميلي الطلعة. اتفقت مارجريت ونينا، سرا فيما بينهما، أن إد رجل مثير بصورة ملحوظة، لولا مهنته تلك. كانت يداه الطويلتان والماهرتان شاحبتين لدرجة استثنائية من الفرك والدعك مما يجعل المرء يتساءل: أين كانت تلك اليدان؟ غالبا ما كانت كيتي الريانة الجسد تشير إليه بكلمة «حبيبي». كانت قصيرة، عامرة الصدر، دافئة النظرات، سوداء الشعر، وذات صوت مليء بالحماس، حماس تجاه زواجها، وأطفالها، والمواسم والفصول، والبلدة، وخصوصا تجاه دينها. في الكنيسة الأنجليكانية التي كانت تنتمي إليها لم يكن المتحمسون أمثالها نوعا شائعا، وسرت أقوال أنها كانت ابتلاء حقيقيا، بتزمتها وخيالها وميلها إلى الطقوس السرية العتيقة مثل مباركة النساء بعد الولادة. كانت نينا ومارجريت تريان أيضا أن من الصعب التعامل معها، أما لويس فقد اعتبرها سما فتاكا. غير أن أغلب الناس كانوا مسحورين.
هذا المساء كانت ترتدي فستانا من الصوف الداكن الحمرة، وفي أذنيها حلق صنعته لها إحدى بناتها هدية في عيد الميلاد. جلست في ركن الأريكة وساقاها مطويتان تحتها. كان حديثها لا بأس به ما دام أنه اقتصر على الجانب التاريخي والجغرافي من حياة القديسين، لا بأس بالنسبة إلى نينا، التي كانت تتمنى ألا يرى لويس داعيا لشن هجمة عليها.
قالت كيتي إنها اضطرت إلى استبعاد جميع القديسين من أوروبا الشرقية والتركيز في الأساس على قديسي الجزر البريطانية، وعلى وجه الخصوص أولئك المنتمين إلى كورنوال وويلز وأيرلندا؛ أي القديسين السلتيين ذوي الأسماء الرائعة، ممن كانوا من المفضلين لديها. عندما شرعت تتحدث عما تحلوا به من قدرات على الشفاء والإتيان بالمعجزات، وخصوصا حين بدأ صوتها يتلون بالابتهاج ويجلجل حلقها، ازداد تخوف نينا وارتقابها لوقوع مكروه. قالت كيتي إنها تعلم أن الناس قد يرون طيشا منها أن تتحدث عن أحد القديسين في حين أنها كانت كارثة في الطبخ، ولكن ذلك ما آمنت بأنه السبب الحقيقي وراء وجود القديسين؛ فهم لم يكونوا أسمى وأعظم من الاهتمام بجميع تلك المحن والابتلاءات الدنيوية، وتفاصيل حياتنا اليومية التي قد ينتابنا الخجل من أن نتوجه بها إلى رب الكون كله. عن طريق الإيمان بالقديسين، يمكن للإنسان الاحتفاظ جزئيا بعالم الطفل في داخله، بأمل الطفل في تلقي العون والعزاء. «عليكم أن تصيروا مثل أطفال صغار!» ثم أليست تلك المعجزات الصغيرة هي التي تهيئنا لتلقي المعجزات الكبرى؟ بالتأكيد هي تلك المعجزات الصغيرة.
والآن، هل هناك أي أسئلة؟
طرح شخص ما سؤالا حول تماثيل القديسين في إحدى الكنائس الأنجليكانية، في كنيسة بروتستانتية.
قالت كيتي: «حسنا، إذا راعينا الدقة في الحديث، فإنني لا أعتقد أن الأنجليكان كنيسة بروتستانتية، ولكنني لا أريد الخوض في ذلك. عندما نقول في العقيدة المسيحية: «إني أومن بالكنيسة الكاثوليكية المقدسة.» فإنني أعتبر معنى ذلك الكنيسة المسيحية الكونية الكبرى. ثم نقول: «إنني أومن بمجمع القديسين.» بالطبع لا يوجد لدينا تماثيل في الكنيسة، على الرغم من أنني شخصيا أظن أنه سيكون من الجميل لو كان لدينا.»
قالت مارجريت: «قهوة؟» وهكذا فهم الحاضرون أن الجزء الرسمي من الأمسية قد انقضى. غير أن لويس نقل مقعده مقتربا من كيتي وقال بلطف تقريبا: «إذن؟ هل نفهم من ذلك أنك تؤمنين بتلك المعجزات؟»
فضحكت كيتي قائلة: «دون أدنى شك. لا يمكنني أن أوجد لو لم أكن أومن بالمعجزات.»
عندئذ علمت نينا ما سيتبع ذلك حتما. اقتراب لويس وتضييق الخناق في هدوء ودون رحمة، ثم رد كيتي بقناعتها المبتهجة إلى جانب ما كانت تظنه تناقضات أنثوية ساحرة. بلا شك، كان إيمانها ينصب على ذلك، على سحرها الخاص؛ غير أن لويس لا يسحر. كان يريد أن يعرف، على أي صورة يوجد هؤلاء القديسون في اللحظة الراهنة؟ في الجنة، هل يشغلون المنطقة ذاتها التي يشغلها الموتى العاديون، الأسلاف ذوو الفضيلة؟ وكيف يتم اختيارهم؟ هل يتم ذلك عن طريق المعجزات المؤكدة، المعجزات الثابتة ؟ وكيف يمكنك إثبات معجزات شخص كان يعيش منذ خمسة عشر قرن مضت؟ أو كيف يمكن إثبات أي معجزة، على كل حال؟ في حالة تضاعف عدد الأرغفة والأسماك مثلا، سيكون ذلك بإحصاء عددها، ولكن أيكون ذلك إحصاء حقا، أم إدراكا مباشرا؟ الإيمان؟ آه، نعم. وهكذا ينتهي الأمر بكامله بالإيمان. في الشئون اليومية، كما في حياتها بكاملها، كانت كيتي تعيش بالإيمان!
هكذا كانت.
ألا تعول على العلم بأي طريقة؟ بالطبع لا. حين يمرض أطفالها لا تعطيهم دواء؛ إنها لا تكترث حتى بتموين سيارتها بالوقود، فلديها إيمانها.
أحاديث عديدة انبثقت من حولهما. ومع ذلك، ونظرا لشدة الأمر وخطورته، كان صوت كيتي الآن يتقافز مثل عصفور على سلك، قائلة له: كف عن سخافاتك، هل تظن أنني معتوهة تماما؟ ويزداد استفزاز لويس لها ويمضي أكثر في استخفافه بها إلى حد مميت، وتسري هذه المحادثة إلى مسامع الآخرين، في جميع الأوقات، في كل مكان من الغرفة.
أحست نينا بطعم مرير في فمها. ذهبت إلى المطبخ لتساعد مارجريت. مرت كل منهما بالأخرى، مارجريت تحمل القهوة، ونينا تعبر المطبخ مباشرة لتخرج إلى الردهة. وعبر اللوح الزجاجي الصغير في الباب الخلفي تحدق في الليلة المظلمة، وأكوام الجليد على طول الشارع، والنجوم. تريح وجنتها الساخنة على الزجاج.
ثم رفعت قامتها بمجرد أن انفتح الباب المؤدي إلى المطبخ، تستدير وتبتسم وتوشك أن تقول: «أتيت فقط لأتفقد حالة الجو.» ولكنها ترى وجه إد شور في مواجهة الضوء، في الدقيقة السابقة على إغلاقه الباب تفكر بأنها غير مضطرة لقول ذلك. يحيي كل منهما الآخر تحية مقتضبة واجتماعية، تشوبها بدرجة طفيفة ضحكة اعتذار وتبرؤ، وبتلك التحية تم تبادل الكثير من الأشياء بينهما، وتم تفهمها كذلك.
إنهما يهجران كلا من كيتي ولويس. ولبرهة قصيرة، لن يلاحظ هذا لا كيتي ولا لويس. لويس لن يفقد قوة الدفع اللازمة للاستمرار، وكيتي سوف تجد طريقة ما - وقد تكون إحدى الطرق شعورها بالأسف نحو لويس - لكي تخرج من فخ يهدد بأن تكون ضحية للافتراس. لن ينتاب كلا من كيتي ولويس الضجر من نفسيهما.
أذلك ما كان يشعر به إد ونينا؟ الضجر من الاثنين الآخرين، أو على الأقل الضجر من المجادلة والقناعات الراسخة، التعب من تلك الشخصيات المناضلة غير المستعدة أبدا لتخفيف الوطء والتروي.
لا يستطيعان أن يقولا ذلك بالضبط. يمكن أن يقولا فقط إنهما ضجرا.
وضع إد شور ذراعا حول نينا، ثم قبلها، ليس على فمها، ولا على وجهها، بل على عنقها. ربما في الموضع الذي يخفق فيه نبضها المضطرب، في حلقها.
كان رجلا ممن يضطرون للانحناء ليفعلوا ذلك. مع كثير من الرجال الآخرين، قد يكون هذا الموضع مكانا طبيعيا لتقبيل نينا، وهي واقفة، ولكنه كان طويلا بما فيه الكفاية لأن ينحني وهكذا يقبلها متأنيا وقاصدا في ذلك الموضع المكشوف والهش.
قال: «ستصابين بالبرد هنا بالخارج.» «أعرف. سأدخل.» •••
حتى ذلك اليوم لم يسبق لنينا بالمرة أن مارست الجنس مع أي رجل غير لويس، ولا حتى شيئا قريبا من هذا. «مارست الجنس»، «أن تمارس الجنس مع»، لوقت طويل لم تستطع أن تقول كلمات كتلك. كانت تقول «ممارسة الحب»، أما لويس فلم يكن يقول أي شيء. كان شريك فراش نشطا ومبتكرا، وبمعنى مادي، لم يكن غافلا عنها. ليس من النوع غير المراعي لرغبات الآخر، لكنه كان حذرا تجاه أي شيء قد يتاخم اللعب على العواطف، وقد كان هناك الكثير من الأشياء التي تفعل ذلك، من وجهة نظره. وصارت هي بالغة الحساسية نحو نفوره هذا، وكادت أن تقاسمه إياه.
وعلى الرغم من ذلك كله، فإن ذكرى قبلة إد شور أمام باب المطبخ صارت بالفعل كنزا، وكلما أنشد إد منفردا المقاطع الخاصة بصوت التينور من أنشودة المسيح في عرض جمعية الكورال كل عيد ميلاد، كانت تلك اللحظة تعود إليها. كانت عبارة «فتحل الراحة بقومي» تخترق حلقها مثل الإبر. بدا كما لو أن كل شيء يتعلق بها صار مميزا عندئذ، مكرما ومتأججا باللهب. •••
لم يتوقع ناظر المدرسة بول جيبنز أي مشكلات من ناحية نينا. كان اعتقاده على الدوام أنها إنسانة دافئة، ولو بطريقتها المتحفظة . ليست كاوية كشأن لويس، ولكنها ذكية.
قالت: «كلا، ما كان ليريد ذلك.» «نينا. كان التدريس كل حياته. لقد أعطى الكثير. هناك الكثير للغاية من الأشخاص، لا أعلم إن كنت تفهمين كم عدد هؤلاء الذين يذكرون الجلوس في صفه الدراسي وهم ينصتون إليه مسحورين. أغلب الظن أنهم لا يتذكرون من المدرسة الثانوية أي شيء بقدر ما يتذكرون لويس. كان لديه حضوره الخاص يا نينا. الإنسان إما أن يحظى بهذا الحضور وإما أن يحرم منه، ولويس حظي بحضور مفرط.» «أنا لا أعارضك في هذا.» «إذن، لدينا كل هؤلاء الأشخاص الذين يريدون أن يقولوا وداعا له، بطريقة ما. جميعنا نريد أن نقول وداعا، ونريد تكريمه أيضا. تعلمين ما أقوله؟ بعد كل هذه الأمور. خاتمة ما.» «نعم، ها أنا أسمعها. خاتمة.»
ثمة نبرة بذيئة، هكذا فكر، غير أنه تجاهل الأمر. «لسنا مضطرين لأن يكون هناك أي إلماح له صبغة دينية بشأن ذلك. لا صلوات، لا دعاء. إنني أعرف بقدر ما تعرفين تماما كم كان سيكره ذلك.» «طبعا.» «أعرف. أستطيع أن أدير الحدث كله كرئيس تشريفات من نوع ما، إن لم يخني التعبير. لدي فكرة جيدة جدا عن نوع الأشخاص الأنسب لأن نطلب منهم إبداء كلمة تقدير صغيرة. ربما ستة منهم أو نحو ذلك، وينتهي الأمر ببضع كلمات من عندي. «كلمات تأبين»، أظن أن تلك هي الكلمة، ولكني أفضل أن أقول «تقدير».» «ما كان لويس ليميل إلى أي شيء من هذا.» «ويمكننا أن نحظى بمشاركة منك بالدرجة التي تختارينها أنت.» «بول. اسمع ... اسمعني الآن.» «بالطبع. أنا منصت.» «إذا مضيت في هذا فسوف أشارك.» «حسن. هذا جيد.» «حين مات لويس ترك ... ترك قصيدة، في الحقيقة. إذا أصررت على هذا فسوف أقرؤها.» «نعم؟» «أعني أنني سوف أتلوها هناك، عاليا. وسوف أقرأ شيئا منها عليك الآن.» «لا بأس، تفضلي.»
كان هناك معبد للعلم يقع
على شاطئ بحيرة هورون
حيث أتى كثير من غلاظ العقول بليدي العيون «يبدو مثل لويس بالفعل.»
ليستمعوا إلى كثير من المملين.
وكان ملك المملين فتى وسيما حقا
ابتسامته واسعة من الأذن للأذن «نينا. حسنا، حسنا. إذن هذا هو ما تريدين، صحيح؟ تريدين فضيحة مدوية على غرار أغنية هاربر فالي بي تي إيه؟» «هناك المزيد.» «أنا واثق من هذا. أعتقد أنك في غاية الانزعاج يا نينا. لا أظنك تتصرفين على هذا النحو لو لم تكوني منزعجة بشدة. وعندما تشعرين بتحسن سوف تندمين على ما بدا منك.» «كلا.» «أعتقد أنك سوف تندمين. سوف أغلق الخط الآن. سأقول لك وداعا الآن.» •••
قالت مارجريت: «عجبا، وكيف استقبل ذلك؟» «قال إن عليه أن يقول وداعا.» «هل تريدين مني أن آتي إليك؟ يمكنني أن أرافقك قليلا.» «لا. شكرا لك.» «ألا تريدين بعض الرفقة؟» «لا أظن. ليس الآن.» «أكيد؟ هل أنت بخير؟» «أنا بخير.»
الحقيقة أنها لم تكن مسرورة من نفسها إلى هذه الدرجة، بخصوص ذلك الاستعراض على الهاتف. كان لويس قد قال لها: «كوني حريصة على أن تقفي في وجههم إذا ما أرادوا أي سخافات مقيتة مثل حفلات التأبين وتلك الأشياء. ذلك الرجل المعسول المداهن قادر على ذلك.» لذلك كان من الضروري أن تمنع بول بطريقة ما، ولكن السبيل الذي اتبعته لذلك بدا لها مسرحيا حد الفجاجة. كان الغضب العارم مسئولية لويس وحده، والانتقام تخصصه، وكل ما كان يمكنها القيام به هو اقتباس كلماته.
كان مما يتجاوز قدرتها أن تفكر كيف ستعيش، ولا شيء معها إلا عاداتها المسالمة القديمة. باردة وبكماء، ومحرومة منه. •••
في وقت ما بعد حلول الظلام طرق إد شور على باب البيت الخلفي. كان معه علبة الرماد وباقة ورود بيضاء.
أعطاها الرماد أولا.
قالت: «آه. لقد تم الأمر.»
شعرت بدفء ينبعث من العلبة الكرتونية الثقيلة. لم ينبثق هذا الدفء على الفور، بل تسرب إليها تدريجيا، مثل دفء الدم عبر جلد الإنسان.
أين عساها أن تضع هذا؟ ليس على طاولة المطبخ، إلى جانب عشائها المتأخر، الذي لم تكد تلمسه. بيض مخفوق بالصلصة، خلطة كانت دائما تميل إليها في الليالي التي يتأخر فيها لويس بالخارج لسبب ما، فيتناول طعاما مع المعلمين الآخرين في نادي تيم هورتون أو في الحانة. أما الليلة فقد ثبت أنها خيار سيئ.
ولا على نضد المطبخ كذلك، فسوف تبدو العلبة مثل عبوة ضخمة من البقالة. وليس على الأرض، حيث سيكون من الأسهل تجاهلها ولكن سيبدو أنها تنزلها منزلة دنيا؛ كما لو كان ما بداخلها مجرد مهد قطة وليدة أو سماد للحديقة، شيء يجب ألا يقترب كثيرا من الأطباق والطعام.
ما أرادته، حقا، أن تأخذها إلى غرفة أخرى، أن تضعها في مكان ما بغرف المنزل الأمامية غير المضاءة. ويكون من الأفضل أن تضعها على أحد الأرفف داخل خزانة. ولكن كان من المبكر للغاية هذا الاستبعاد. أيضا، مع الوضع في الاعتبار أن إد شور كان واقفا يشاهدها، قد يبدو الأمر كما لو كان عملية تنظيف سريعة وقاسية، كما لو أنها تدعوه إليها بطريقة سوقية.
أخيرا وضعت العلبة على منضدة الهاتف الخفيضة.
قالت: «لم أقصد أن أدعك واقفا هكذا، اجلس، أرجوك تفضل.» «لقد قاطعت وجبتك.» «لم أشعر برغبة في إكمالها.»
كان ما زال ممسكا بالزهور. قالت: «أتلك من أجلي؟» صورته مع الباقة، صورته مع علبة الرماد والباقة، عندما فتحت له الباب، بدت لها مخيفة وغريبة، وبعد أن فكرت في الأمر، وجدت أيضا أنها مضحكة إلى حد رهيب. كان هذا من نوع الأمور التي قد تصيبها بالهيستريا، عندما تحكيها لشخص ما. عندما تحكيها لمارجريت. تمنت ألا تحكي ذلك أبدا.
أتلك من أجلي؟
قد تكون بسهولة شديدة من أجل المتوفى. زهور من أجل منزل المتوفى. بدأت البحث عن مزهرية، ثم ملأت براد الماء، وهي تقول: «كنت سأعد بعض الشاي قبل قليل.» ثم عادت لمحاولة تصيد مزهرية حتى عثرت عليها، وملأتها بالماء، ووجدت مقصا تحتاجه لتقليم السيقان، وأخيرا أراحته من حمل الزهور. عندئذ لاحظت أنها لم تشعل الموقد تحت البراد. كانت بالكاد تسيطر على نفسها. شعرت كما لو أنها تستطيع بكل بساطة أن ترمي الزهور، وأن تحطم المزهرية، وأن تعتصر البقايا المتجلطة في طبق عشائها بين أصابعها. لكن لماذا؟ فهي لم تكن غاضبة؛ كل ما في الأمر ذلك المجهود المجنون، مواصلة القيام بأمر بعد آخر. الآن سيكون عليها أن تدفئ وعاء تقديم الشاي، سيكون عليها أن تعاير مقدار الشاي.
قالت: «هل قرأت الورقة التي وجدتها في جيب لويس؟»
هز رأسه نافيا، دون أن ينظر إليها. عرفت أنه كان يكذب. كان يكذب، كان مصدوما، إلى أي مدى كان ينوي التدخل في حياتها؟ لماذا لا تنهار وتخبره بما شعرت به من ذهول - لماذا لا تقولها، قشعريرة البرد التي أحاطت بقلبها - حين رأت ما كان لويس قد كتبه؟ حين رأت أن ذلك كان كل ما كتبه.
قالت: «لا عليك، كانت فقط بعض أبيات من الشعر.»
كانا شخصين لا توجد بينهما أرض وسيطة، لا شيء بين الرسميات المهذبة والحميمية الغامرة. ما كان بينهما، عبر كل تلك السنوات، ظل متوازنا بفضل العلاقة الزوجية لكل منهما على حدة. كانت زيجتاهما هي المحتوى الحقيقي لحياتيهما؛ فزواجها من لويس، الذي كان أحيانا حادا ومربكا، كان محتوى حياتها الذي لا استغناء عنه. وقد اعتمد هذا الأمر الآخر على زيجتيهما، من أجل عذوبته ووعده بالسلوى. كان أمرا من المستبعد أن ينهض ويواصل حياته قائما بذاته، حتى لو كان كل منهما حرا. ومع ذلك فقد كان شيئا ما، يكمن الخطر فقط في تجربته، ورؤيته يتحطم أشلاء ثم التفكير في أنه لم يكن شيئا مذكورا.
أشعلت الموقد، أعدت براد الشاي ليدفأ. قالت: «لقد كنت في غاية الطيبة ولم أشكرك حتى. لا بد أن تتناول بعض الشاي.»
قال: «سيكون ذلك لطيفا.»
وحين جلسا إلى المائدة، وصب الشاي في القدحين، وقدم الحليب والسكر - في اللحظة التي يفترض بها أن تصاب بالهلع - خطر لها خاطر في غاية الغرابة.
قالت: «ما طبيعة ما تقوم به في الحقيقة؟» «طبيعة ماذا؟» «أقصد، ما الذي قمت به معه، ليلة أمس؟ أم أنه من النادر أن يسألك أحد عن ذلك؟» «ليس بهذا التفصيل.» «هل تمانع؟ لا تجبني إن كنت لا تريد.» «السؤال مفاجئ.» «أنا نفسي مندهشة أنني سألتك.» «حسنا إذن، لا بأس.» هكذا قال، وهو يعيد قدحه إلى صحنه الصغير. «بشكل أساسي لا بد أن نقوم بتصفية الأوعية الدموية وكذلك ما بالجوف، وبهذا يمكن الاهتمام بمشكلات التخثرات، وهكذا أقوم بما يجب القيام به لتجاوز تلك المشكلة. في أغلب الحالات يمكن الاستعانة بحبل الوريد، ولكن أحيانا يتوجب القيام ببزل للقلب. وكذا نستخلص محتويات جوف البدن باستخدام شيء يسمى مبزلا، وهو أقرب إلى إبرة طويلة ورفيعة على أنبوب مرن. ولكن بالطبع يختلف الأمر كله إذا حدث تشريح للجثة وتم استخراج أعضائها؛ يضطر المرء عندئذ لوضع حشوة بشكل ما، من أجل استعادة المحيط الخارجي الطبيعي للجسم ...»
ظل ناظرا إليها طوال الوقت وهو يخبرها بهذا، متابعا في حذر. لم يكن ثمة مشكلة بالنسبة إليها؛ فما شعرت به يستيقظ في داخلها لم يكن إلا فضولا ممتدا وباردا. «أهذا ما كنت تريدين معرفته؟» «نعم.» هكذا ردت في ثبات.
رأى أنه ليس ثمة مشكلة، فاستراح. استراح وربما شعر بالامتنان لها؛ فلا بد أنه كان معتادا على أن ينفر الناس نفورا تاما مما قام به، أو يطلقون النكات بشأن ذلك. «وبعد ذلك نحقن الجسم بالسائل، وهو محلول من الفورمالدهايد والفينول والكحول، وكثيرا ما نضيف إليه بعض الصبغة من أجل اليدين والوجه. يعطي الجميع أهمية خاصة للوجه وهناك كثير مما يجب عمله فيه، مع جراب العين وخياطة اللثة. هذا علاوة على التدليك والاهتمام بالرموش وإضافة مساحيق زينة من نوع خاص. لكن الناس يهتمون كثيرا بالأيدي ويريدونها ناعمة وطبيعية وغير مجعدة عند أطراف الأنامل ...» «قمت بكل ذلك العمل!» «لا بأس. لم يكن ما تريدينه. ما هي إلا أمور تجميلية نقوم بها، في معظم الأحوال. ذلك ما نحرص عليه في أيامنا هذه أكثر من أي تدابير لحفظ الجسد على مدار فترة طويلة. حتى لينين العجوز، كما تعلمين، كان عليهم الاستمرار في ذلك وإعادة حقن الجثة حتى لا تتفسخ أو تفقد لونها، لا أدري إن كان هناك من لا يزال يقوم بذلك حتى الآن.»
شيء ما في صوته دفعها للتفكير في لويس، شيء من الاتساع، أو الطمأنينة، مصحوبا بالجدية. ذكرها ذلك بلويس في الليلة قبل الأخيرة، وهو يتحدث إليها في ضعف ولكن في رضا عن الكائنات وحيدة الخلايا - لا نواة، ولا كروموسومات مزدوجة، ولا أي شيء آخر؟ - كان هذا هو الشكل الوحيد من أشكال الحياة الذي وجد على الأرض لما يقرب من ثلثي تاريخ الحياة على الأرض.
قال لها إد: «أتعرفين أن المصريين القدامى كانوا يعتقدون أن روح الإنسان تذهب في رحلة ما، رحلة لا تكتمل إلا بعد ثلاثة آلاف سنة، ثم تعود الروح إلى جسدها، ولا بد أن يكون الجسد في حالة جيدة إلى حد معقول. وهكذا انصب اهتمامهم الأساسي على التحنيط لحفظ الجسد، ولا نستطيع حتى يومنا هذا بلوغ أي درجة قريبة منه.»
لا بلاستيدات خضراء ولا ... ميتوكوندريا.
قالت: «ثلاثة آلاف سنة، ثم تعود!»
فقال: «حسن، هذا وفقا لهم.» وضع قدحه الفارغ وأبدى أنه من الأفضل له الذهاب للمنزل. «شكرا لك.» قالت نينا، ثم أضافت في عجلة: «هل تؤمن بذلك الشيء ... بالأرواح؟»
نهض واقفا ويداه مفرودتان على طاولة مطبخها. تنهد وهز رأسه وقال: «نعم.» •••
بعد وقت قصير من مغادرته أخرجت الرماد ووضعته على المقعد المجاور لمقعد السائق في السيارة. ثم عادت إلى البيت لإحضار مفاتيحها ومعطفها. قادت السيارة لمسافة ميل تقريبا خارج البلدة، إلى مفترق طرق، ثم توقفت وخرجت وسارت على جانب الطريق، وهي تحمل العلبة. كان الليل هادئا باردا وساكنا تماما، على الرغم من القمر العالي في السماء.
يمر هذا الطريق في البداية بأرض موحلة حيث كانت تنمو نباتات البوط، التي كانت الآن جافة، وطويلة وذات مظهر شتوي. كما كانت هناك أيضا أعشاب الصقلاب، بتويجات خاوية، تلمع مثل أصداف. كان كل شيء مميزا تحت القمر. كان بوسعها أن تشم رائحة خيول. نعم، كان هناك حصانان بالقرب منها، وظهرا لها هيكلين أسودين صلبين فيما وراء نباتات البوط وسياج المزرعة. وقفا هناك يحكان جسديهما الكبيرين أحدهما بالآخر، ويشاهدانها.
فتحت العلبة ووضعت يدها في الرماد البارد ثم ألقته أو أسقطته - مع أجزاء أخرى من الجسد، متناهية الصغر استعصت على الحرق - بين تلك النباتات الطالعة على جانب الطريق. وعند القيام بذلك أحست وكأنها تخوض في بحيرة لأول مرة في شهر يونيو. في البداية صدمة يقشعر لها البدن، ثم دهشة أنك ما زلت تتحرك، يرتفع بك تيار من العزم الفولاذي؛ هادئا تطفو فوق سطح حياتك، وقد نجوت، ومع هذا يستمر ألم البرودة في التسرب إلى بدنك.
نبات القراص
في صيف عام 1979، دخلت إلى المطبخ في بيت صديقتي، صني، القريب من أوكسبريدج في أونتاريو، فرأيت رجلا واقفا لدى النضد، يعد لنفسه شطيرة من صلصلة الطماطم المتبلة.
قدت السيارة حول التلال شمال شرق تورونتو، بصحبة زوجي - زوجي الثاني، وليس ذلك الذي كنت قد تركته في ذلك الصيف - وبحثت عن المنزل، في عزم يشوبه الفتور، محاولة أن أحدد موقع الطريق الذي كان يقع عليه المنزل، لكني لم أفلح في ذلك بالمرة. أغلب الظن أن المنزل كان قد هدم. باعته صني وزوجها بعد بضع سنوات من زيارتي لهما. كان البيت شديد البعد عن أوتاوا، حيث أقاما، لكي يكون منزلا صيفيا ملائما. وقد رفض أطفالهما، حال تحولهم إلى مراهقين، الذهاب إلى هناك. كان هناك قدر كبير من أعمال الصيانة والرعاية التي يتوجب على جونستن - زوج صني الذي كان يفضل قضاء إجازاته الأسبوعية في لعب الجولف - القيام بها.
عثرت على مضمار الجولف، أعتقد أنه المضمار الصحيح، على الرغم من أن الأطراف غير المستوية كانت قد نظفت وكان هناك مبنى ناد أفخم. •••
في الريف حيث عشت طفولتي، كانت الآبار تجف في فصل الصيف. كان هذا يحدث مرة كل خمس أو ست سنوات، حين لا يسقط ما يكفي من المطر. كانت تلك الآبار حفر محفورة في الأرض. كان بئرنا حفرة أعمق من أكثر الحفر، ولكننا كنا بحاجة إلى مئونة جيدة من الماء من أجل حيواناتنا الحبيسة - كان أبي يربي الثعالب الفضية والمنك - وهكذا ذات يوم وصل نقاب الآبار مع معدات مبهرة، ومدت الحفرة لأسفل وأسفل بعمق في باطن الأرض حتى وجدت المياه في الصخور. ومنذ ذلك الحين، صار بوسعنا أن نستخرج بالضخ مياها نقية باردة، مهما كان الوقت من السنة ومهما بلغ جفاف الجو. كان ذلك شيئا نفخر به. كان ثمة إبريق من الصفيح يتدلى من الطلمبة، وحين كنت أشرب منه في نهار حارق، كنت أتخيل صخورا سوداء حيث تجري المياه متلألئة مثل قطع الألماس.
نقاب الآبار - كان أحيانا يسمى حفار الآبار، كما لو أن أحدا ما كان سيهتم بأن يكون دقيقا حول طبيعة عمله، وكان الوصف الأقدم له مريحا بدرجة أكبر - رجل يدعى مايك ماكالوم، كان يعيش في البلدة على مقربة من مزرعتنا، لكنه لم يكن يملك منزلا هناك؛ كان يقيم في فندق كلارك، وقد قدم إلى هناك في فصل الربيع، وكان يمكث حتى ينتهي تماما من أي مهام عمل يكلف بها في هذا الجزء من الريف، ثم ينتقل إلى مكان آخر.
كان مايك ماكالوم أصغر سنا من أبي، ولكن كان لديه ابن أكبر مني بسنة وشهرين. أقام هذا الصبي مع أبيه في غرف الفنادق أو الأنزال التي توفر غرفا وطعاما لعدد محدود من النزلاء، حيثما كان والده يعمل، وكان يذهب إلى أي مدرسة قريبة. كان اسمه هو أيضا مايك ماكالوم.
أعرف كم كان عمره على وجه التحديد لأن ذلك شيء يكتشفه الأطفال على الفور، فهو أحد تلك الأمور الأساسية التي يحددون على أساسها إمكانية أن يصيروا أصدقاء من عدمها. كان في التاسعة من عمره وكنت في الثامنة، كان يوم ميلاده في أبريل ويوم ميلادي في يونيو. وعندما يصل إلى منزلنا بصحبة أبيه يكون قد مضى شوط كبير من إجازات الصيف.
كان والده يملك شاحنة لونها أحمر قاتم، دائما ملوثة بالوحل أو مغبرة. كنت أنا ومايك نهرع إلى مقصورة القيادة حين تمطر السماء. لا أذكر هل كان أبوه يدخل حجرة مطبخنا عندئذ ليدخن سيجارة ويتناول كوب شاي، أم كان يقف تحت شجرة، أم يمضي قدما في عمله. غسل المطر نوافذ المقصورة وأحدث جلبة أشبه بسقوط أحجار على السطح. بالداخل، كانت الرائحة لرجال ؛ ثياب العمل والأدوات والتبغ والأحذية الطويلة المتسخة والجوارب التي لها رائحة الجبن النتن. كانت هناك أيضا رائحة كلب مبتل طويل الشعر؛ لأننا كنا اصطحبنا معنا الكلب رنجر. كنت لا أقدر رنجر حق قدره، فقد كنت معتادة على أن يتبعني هنا وهناك، وأحيانا كنت آمره دون أي سبب وجيه بأن يبقى في المنزل، أو يذهب إلى الحظيرة، أو أن يتركني بمفردي. أما مايك فقد كان مولعا به ودائما يحدثه باسمه وفي طيبة، فيحكي له خططنا، وينتظره حين كان رنجر ينطلق إلى أحد مشاريعه الكلبية، مثل مطاردة أرنب أو خلد أرض. ولأن مايك كان يعيش مع أبيه على ذلك النحو، لم يك بمقدوره قط أن يمتلك كلبا له وحده.
ذات يوم حين كان رنجر في رفقتنا، طارد ظربانا، فاستدار الأخير وأطلق عليه ريحه الخبيثة، وعددت أنا ومايك مسئولين عما حدث بدرجة ما. اضطرت أمي لأن تتوقف عما كانت تقوم به أيا كان، وتقود السيارة إلى البلدة لتشتري العديد من علب عصير الطماطم المعدنية الكبيرة. استطاع مايك إقناع رنجر بالنزول في حوض كبير وصببنا عليه عصير الطماطم وفركنا به شعره؛ بدا الأمر كما لو كنا نغسله بالدم. كم شخصا يقتضي الأمر لتوفير كل هذا القدر من الدم؟ تساءلنا. كم من الأحصنة؟ من الفيلة؟
كنت أشد دراية من مايك بالدماء وبقتل الحيوانات. اصطحبته إلى ركن المرعى القريب من بوابة الحظيرة ليرى الموضع الذي كان أبي يطلق فيه الرصاص على الأحصنة، التي كانت تطعم للثعالب والمنك ويقطعها. كانت الأرضية هناك جرداء وموطوءة ويظهر أن بها بقعة دم داكنة. اصطحبته بعد ذلك إلى بيت اللحوم في الحظيرة حيث كانت تعلق ذبائح الخيول قبل فرمها لتصير غذاء. كان بيت اللحوم مجرد سقيفة بجدران من شبكات الأسلاك، وكانت تلك الجدران مسودة بالذباب الثمل برائحة الجيف. أحضرنا ألواحا خشبية وأردينا بها الذباب قتيلا.
كانت مزرعتنا صغيرة؛ مساحتها تسعة فدادين، كانت صغيرة بما يكفي لأن أكون قد استكشفت كل جزء منها، وكل جزء كان له مظهر وشخصية خاصان، الأمر الذي ما أمكنني أن أعبر عنه بالكلمات. من اليسير رؤية الخصوصية الكامنة في سقيفة من أسلاك متشابكة، وما تحويه من هياكل الخيول الشاحبة المتطاولة، المتدلية من خطاطيف شرسة، أو في الأرض المطروقة المشربة بالدم التي كانت تتبدل فيها حالها من أحصنة حية إلى مئونة اللحم تلك. ولكن كانت هناك أشياء أخرى، مثل الحجارة على جانبي ممر الحظيرة، مما كان يعني لي الكثير بالقدر ذاته، على الرغم من أنه ما من شيء جرى هناك جدير بالبقاء في الذاكرة. على أحد الجانبين كان هناك حجر كبير ناعم ناصع البياض يبرز ناتئا ومهيمنا على سائر الأحجار، وهكذا كان ذلك الجانب بالنسبة إلي هواء فسيحا ومشاعا، وكنت دائما ما أختار الصعود منه وليس من الجانب الآخر، حيث كانت الحجارة أدكن لونا وملتصقة بعضها ببعض بما يوحي بالأذى والخسة، كما أن كل شجرة في المكان لها وضعية وحضور يخصها وحدها؛ فشجرة الدردار بدت مطمئنة وادعة والسنديانة مهددة، وأشجار القيقب ودودة وحميمة، والزعرور البري عجوزا متعكر المزاج. حتى الحفر على سهل النهر - حيث تخلص أبي من كل الحصباء قبل سنوات - كان لكل منها شخصيتها المتميزة، وربما كان من الأسهل تبين ذلك التمايز عند رؤيتها ممتلئة بالمياه عند تراجع فيوض فصل الربيع. كانت هناك الحفرة التي كانت صغيرة ومستديرة وعميقة وكاملة لا عيب فيها؛ والأخرى التي كانت ممتدة مثل الذيل؛ وتلك الواسعة غير الثابتة الشكل، التي وضعت دائما فوقها قطعة خشب لأن الماء كان ضحلا للغاية.
رأى مايك كل تلك الأشياء من زاوية مختلفة. وأنا أيضا كذلك، الآن وأنا معه. أراها بطريقته وبطريقتي، وكانت طريقتي بطبيعتها كتومة، وهكذا كان لا بد أن تبقى طي الكتمان. كانت طريقته هي التمتع اللحظي المباشر؛ فالحجر الشاحب الكبير في الممر كان منصة للوثب من فوقه، بعد شوط ركض قصير وضار، ثم يلقي كل منا بنفسه في حضن الهواء، مبعدين الحجارة الأصغر من المنخفض بالأسفل، ثم نهبط على الأرض الممهدة بجانب باب الإسطبل. كنا نتسلق كل الأشجار، وعلى وجه الخصوص شجرة القيقب المجاورة للمنزل؛ لأن أحد فروعها كان يتيح لنا الزحف عليه، ومن ثم يتيح لنا إلقاء أنفسنا على سطح الرواق الخارجي. كما كنا نقفز في حفر الحصباء جميعها، مع إطلاق صيحات حيوانات تثب على فرائسها، بعد نوبة ركض هائجة عبر الأعشاب الطويلة. قال مايك لو كان الوقت مبكرا قليلا من العام، حيث تمتلئ تلك الفجوات بالماء، لكان بوسعنا أن نعوم فيها طوفا صغيرا.
وضعنا مشروعه هذا محل تأمل، مع تنفيذه في النهر. ولكن النهر في شهر أغسطس كان أقرب إلى طريق حجري منه إلى مجرى مائي، وبدلا من محاولة الطفو على سطحه أو السباحة فيه كنا نخلع أحذيتنا ونخوض فيه، قافزين من صخرة إلى أخرى من تلك الصخور المكشوفة والبيضاء كالعظام، ومنزلقين على الصخور ذات الزبد والريم تحت السطح، ناقلين أقدامنا بصعوبة عبر أبسطة من زنابق الماء المفرودة الأوراق ونباتات مائية أخرى لا يمكنني الآن تذكر أسمائها أو لم أعلم بأسمائها بالمرة (الجزر الأبيض، وشوكران الماء!) تلك النباتات كانت تنمو بكثافة بالغة حتى تبدو كما لو أنها تصل بجذورها إلى الجزر، إلى الأرض اليابسة، لكنها كانت في الحقيقة تنمو في وحل النهر، وتلتف حول سيقاننا بجذورها الأفعوانية.
كان هذا النهر هو نفسه الذي يجري ممتدا عبر البلدة عموما، وحيث كنا نسير مع مجراه صعودا كنا نستطيع أن نرى جسر السيارات ذا الدعامتين. حين كنت وحدي أو مع رنجر فقط، لم أكن أبلغ هذا الحد بالقرب من الجسر قط؛ لأنه غالبا ما يكون هناك أناس من أهل البلدة. كانوا يأتون لصيد السمك على جانب الجسر، وحين يكون مستوى الماء مرتفعا بما يكفي كان الصبية يقفزون من فوق السياج. لم يكونوا يقومون بذلك الآن، غير أنه من المرجح وجود بعض منهم يخوضون في الماء، متشدقين بالكلام الصاخب وعدوانيين كما كان أطفال البلدة على الدوام.
كان هناك احتمال آخر يتمثل في المتشردين. لكنني لم أقل شيئا من هذا لمايك، الذي مضى قدما وسبقني كما لو كان الجسر مقصدا عاديا لنا ولا يوجد ما نقلق بشأنه أو ما هو محظور علينا. تناهت إلينا الأصوات، كما توقعت كانت أصوات صبية يتصايحون، يظن المرء كما لو أن الجسر ملك لهم. كان رنجر قد تبعنا حتى هذا الحد، بغير حماسة، ولكنه الآن انحرف عن المسار وتوجه نحو الضفة. كان كلبا عجوزا في ذلك الحين، ولم يكن قط مولعا بالأطفال على وجه العموم.
كان هناك رجل يصطاد السمك، ليس من فوق الجسر ولكن من الضفة، وقد سب ولعن بسبب الحركة المرتعشة التي قام بها رنجر لينفض الماء عن جسده، وسألنا لماذا لم نحتفظ بهذا الكلب اللعين في البيت. واصل مايك سيره إلى الأمام كما لو أن هذا الرجل لم يفعل شيئا إلا التصفير استحسانا، ثم عبرنا إلى ظل الجسر نفسه، الموضع الذي لم أبلغه في حياتي قط.
كانت أرضية الجسر هي سقفنا، مع شرائط من نور الشمس تظهر من بين الألواح الخشبية. مرت سيارة من فوقه بصوت راعد فسحبت بمرورها الضوء. وقفنا ثابتين لأجل هذا الحدث، ناظرين للأعلى. كان ما تحت الجسر مكانا له خصوصيته، وليس مجرد امتداد قصير للنهر. حين مرت السيارة وأضاءت الشمس من جديد عبر الشقوق، نشر انعكاسها على المياه موجات من الضوء، فقاعات غريبة من الضوء، وعاليا على عواميد الأسمنت. صاح مايك ليختبر الصدى، وفعلت كما فعل، ولكن في تردد وفتور؛ لأن الأولاد، الغرباء عني، على الجانب الآخر من الجسر أخافوني أكثر مما قد يخيفني المتشردون.
كنت أذهب إلى مدرسة القرية التي تقع فيما وراء مزرعتنا، وكانت نسبة تسجيل التلاميذ هناك قد تضاءلت إلى النقطة التي صرت فيها الطفلة الوحيدة في صفي الدراسي. لكن مايك كان يذهب إلى مدرسة البلدة منذ فصل الربيع، ولم يكن هؤلاء الصبية غرباء عليه. الأرجح أنه كان سيلعب معهم هم وليس معي أنا، إن لم توات والده فكرة اصطحابه معه إلى الأشغال التي يتولاها، بحيث يتمكن من مراقبته، بين الحين والآخر على الأقل.
لا بد أن بعض كلمات التحية مرت، ما بين مايك وأولئك الأولاد من البلدة.
مرحبا. ماذا تفعل هنا ؟
لا شيء. وأنت، ماذا تفعل هنا؟
لا شيء. من هذه التي معك.
لا أحد. إنها بنت.
ها ها. إنها بنت!
كانت هناك لعبة تجري في الحقيقة، وكانت تستولي على انتباه الجميع، بما في ذلك البنات - كانت هناك بنات على مسافة على الضفة، مستغرقات في شئونهن الخاصة - على الرغم من أننا جميعا قد تجاوزنا السن التي نتقاسم فيها اللعب معا على نحو عادي كمجموعات من الأولاد والبنات. ربما تكون البنات قد تبعت الأولاد من البلدة حتى هنا - وهن يتظاهرن بغير ذلك - أو قد يكون الأولاد هم من أتوا وراءهن، بنية التحرش بهن، ولكن حين اجتمعوا كلهم راحت هذه اللعبة تتشكل بحيث لزم مشاركة الجميع فيها، وهكذا انكسرت القيود المعتادة. فكلما زاد عدد المشاركين فيها، صارت اللعبة أفضل، وهكذا كان من السهل على مايك أن يشارك، ويدخلني فيها من بعده.
كانت لعبة حرب. قسم الأولاد أنفسهم إلى جيشين يحارب كل منهما الآخر من وراء حواجز أعدت كيفما اتفق من غصون الشجر، وكذلك من داخل ملتجأ مصنوع من أعشاب غليظة وحادة، ومن عيدان البردي وأعشاب الماء التي كانت أعلى من رءوسهم. كانت الأسلحة الأساسية كرات من الطمي، كرات الطين، في حجم كرات لعبة كرة السلة تقريبا. وصادف أنه كان هناك مصدر خاص للطمي، حفرة رمادية مجوفة، تخفي الأعشاب نصفها، تقع على الضفة غير بعيد (ولعل هذا الاكتشاف هو ما أوحى باللعبة)، وفي هذا الموضع لدى الحفرة كانت البنات تعمل في إعداد الذخيرة. كانت الواحدة منا تمسك بالطمي اللزج فتضغطه بحيث يصير كرة بقدر المستطاع - يمكن إضافة بعض الحصى في داخل الكرات، ومزج بعض المواد الأخرى كالعشب وأوراق الشجر وقطع الأغصان الرفيعة مما يكون في متناول اليد، ولكن غير مسموح بإضافة الحجارة عمدا - ولا بد من توفير عدد كبير من تلك الكرات؛ لأن كل كرة لا نفع لها إلا لرمية واحدة فقط. لم تكن هناك إمكانية لالتقاط الكرات التي طاشت ولصق بعضها ببعض وإعادة قذفها من جديد.
كانت قواعد الحرب بسيطة؛ إذا ضربتك إحدى الكرات - وكان الاسم الرسمي لها هو القذائف - في وجهك، رأسك، أو جزعك، فلا بد أن تسقط ميتا. أما إذا أصبت في الذراعين والساقين فلا بد أن تسقط أرضا، ولكن تكون جريحا فحسب. وهنا يظهر عمل آخر كان على البنات القيام به، وهو الخروج زحفا وسحب الجنود الجرحى للخلف حيث مكان ممهد كان هو المستشفى. كانت ضمادات جروحهم هي أوراق الشجر، وكان يجب عليهم الرقاد ساكنين حتى ينتهوا من العد للرقم مائة، وحين ينتهون يصير بوسعهم النهوض وخوض الحرب من جديد. أما الجنود الموتى فلا يفترض بهم النهوض حتى تنتهي الحرب تماما، ولم تكن تنتهي إلا بعد أن يموت جميع الجنود على أحد الجانبين.
كانت البنات أيضا مثل الأولاد ينقسمن إلى فريقين، ولكن بما أن عددهن لم يكن قريبا من عدد الأولاد فلم يكن بوسع إحدانا أن تعمل في إعداد الذخيرة والتمريض لجندي واحد فقط. وعلى الرغم من ذلك، كانت هناك تحالفات؛ فكل فتاة كان لديها كومتها الخاصة من الكرات، وتعمل لصالح جنود محددين، وحين يسقط أحد الجنود جريحا كان ينادي باسم واحدة من البنات، بحيث يمكنها أن تسحبه بعيدا وتعالج جراحه بأسرع ما يمكن. كنت أصنع الأسلحة من أجل مايك، وكان اسمي هو الاسم الذي يناديه مايك. كان هناك قدر كبير من الضجيج يدور حولنا - صيحات متواصلة من «أنت ميت» إما منتصرة وإما غاضبة (غاضبة لأن الأشخاص الذين كان يفترض بهم أن يكونوا موتى بالطبع دائما ما يحاولون التسلل عائدين إلى القتال)، وأيضا نباح كلب (ليس رنجر) اختلط في معمعة العراك بطريقة ما - ضجيج هائل بحيث ما كان يمكن على الدوام الانتباه لصوت الصبي الذي ينادي باسم الفتاة. كان ثمة انتباه قاطع عند سماع الصيحة، تيار كهربي يمر مجلجلا عبر البدن بكامله، شعور متطرف بالإخلاص والولاء. (على الأقل، كان هذا صحيحا بالنسبة إلي، فقد كنت - على عكس البنات الأخريات - أكرس خدماتي لمحارب واحد فقط.)
لا أظن كذلك أنه قد سبق لي على الإطلاق أن لعبت في مجموعة على هذا النحو . كانت بهجة حقيقية أن أكون جزءا من مغامرة ضخمة ومستهترة هكذا، وأن أكون مستقلة بنفسي، وإن كنت بداخل مجموعة، وأن أتعهد في الأساس بخدمة مقاتل. حين كان مايك يجرح لم يكن يفتح عينيه قط، فقط كان يرقد خامدا ساكنا بينما أستعمل أنا أوراق الشجر الكبيرة المبللة قليلا في تمسيد جبينه ورقبته، ثم أرفع قميصه قليلا، وأمسد بطنه الشاحبة الملساء، ذات السرة الحلوة البارزة قليلا.
لم يفز أحد. انتهت اللعبة في فوضى، بعد وقت طويل، في الجدل والخلافات والانبعاث من الموت بالجملة. حاولنا أن نزيل عنا بعضا من الطين، ونحن في طريقنا للمنزل، عن طريق الرقاد بجسد ممدد في ماء النهر. كان كل من سروالينا القصيرين وقميصينا قذرا ومشربا بالمياه.
كان الوقت في آخر النهار، ووالد مايك يتأهب للانصراف.
قال موبخا: «بحق المسيح!»
كان لدينا عامل أجير بدوام جزئي يأتي ليعاون أبي حين يكون هناك جزارة للخيول أو بعض المهام الإضافية. كان له مظهر كهل، ونظرة صبيانية، وأنفاس ذات صفير تنم عن مرض الربو. كان يحب أن يجذبني ويدغدغني حتى أشعر أنني سأختنق. لم يعترض أحد على هذا. لم يرق الأمر لأمي، ولكن أبي أخبرها بأنه مجرد مزاح.
كان هناك في الباحة، يساعد والد مايك.
قال: «أنتما الاثنان تمرغتما معا في الوحل، فلتعلما إذن أنه لا بد أن تتزوجا.»
سمعت أمي ذلك من وراء الباب الشبكي (لو علم الرجلان بوجودها هناك لما جرؤ أي منهما على قول ما قاله). خرجت وقالت شيئا ما للعامل، بصوت خفيض وزاجر، قبل أن تقول أي شيء عن المظهر الذي عدنا به.
سمعت طرفا مما قالته.
مثل أخ وأخت.
نظر العامل الأجير نحو حذائه الطويل الرقبة، وهو يبتسم بلا حول.
لكنها كانت مخطئة. وكان العامل الأجير أقرب منها إلى حقيقة الأمر؛ فلم نكن مثل أخ وأخته، أو مثل أي أخ وأخته قد رأيتهما أنا في أي وقت. كان أخي الوحيد يكاد يكون طفلا رضيعا، وهكذا لم يكن لدي أي تجربة خاصة بي في هذا الأمر. لم نكن أيضا مثل أي زوج وزوجة ممن عرفتهم، فقد كانوا من ناحية كبارا في السن، وكان كل طرف يعيش في عالمه المنفصل عن الآخر، بحيث بدا أنهما يتعرفان أحدهما على الآخر بشق الأنفس. كنا أقرب إلى محبين تجمعها رابطة أليفة ومتينة، رابطة لا تحتاج إلى الكثير من التعبير الخارجي عنها. وبالنسبة إلي على الأقل كانت تلك الرابطة مهيبة ومشوقة.
كنت أعلم أن العامل كان يتحدث عن الجنس، على الرغم من أنني لا أظن أنني كنت أعرف وقتذاك كلمة «الجنس»، وقد كرهته لذلك فوق ما كنت أكرهه عادة. لكنه كان مخطئا؛ فلم نكن نخوض في أي إظهار للمستور أو تبادل للاحتكاك أو أي أشياء حميمية آثمة؛ لم يكن هناك أي من ذلك البحث المزعج عن المواضع الخفية، ولا المتعة التافهة والإحباط والخزي الساذج والمباشر. مثل تلك المشاهد كنت أراها تجري بين صبي من أبناء العم وفتاتين أكبر سنا قليلا، أختين، كانوا يذهبون إلى مدرستي. كنت أنفر من رفاق اللعبة هؤلاء قبل الحدث ومن بعده، وكنت أنكر في غضب، حتى في عقلي، أن أيا من تلك الأمور قد وقع. مثل تلك الفعال الطائشة لا يمكن حتى التفكير فيها بالمرة، مع أي شخص أشعر نحوه بأي ولع أو تقدير، فقط مع أشخاص يثيرون اشمئزازي، تماما كما كانت تلك الاحتكاكات المقيتة الشبقة تجعلني أشمئز من نفسي.
أما من حيث مشاعري نحو مايك، فكانت فقط الروح الشريرة القابعة بداخلي تتحول إلى إثارة منبسطة وحنان يسري في كل موضع تحت الجلد، لذة للبصر والسمع، وشبع له وخز خفيف، في حضور الطرف الآخر. كنت أصحو كل صباح وبي نهم لرؤيته، بي عطش لسماع صوت شاحنة نقاب الآبار وهي آتية ترتج وتصر على طول الزقاق. ومن دون أن أبدي أي أمارة تشي بما بي، كنت أوشك أن أعبد شكل مؤخرة عنقه، ورأسه، وعبوس حاجبيه، وأصابع قدميه الطويلة المكشوفة ومرفقيه القذرين، وصوته المرتفع الواثق النبرة، ورائحته. تقبلت عن طيب خاطر، بل عن ولاء ورع، توزيع الأدوار ما بيننا الذي لم نضطر لتفسيره أو إعداده مسبقا، ووفقا لهذا كنت أنا أساعده وأعجب به، وكان هو يوجهني ويقف متأهبا لحمايتي. •••
ذات صباح لم تأت الشاحنة. ذات صباح، بالطبع، كان العمل كله قد تم. غطي البئر، وأعيد تركيب الطلمبة، وتدفق منها الماء العذب كالأعجوبة. قل عدد مقاعد مائدة وجبة الظهيرة إلى مقعدين، فقد كان كل من مايك الكبير والصغير يتناولان معنا تلك الوجبة دائما. لم نتحادث أنا ومايك الصغير على المائدة أو نتبادل النظر إلا بالكاد. كان يحب أن يضع صلصلة الكاتشب على خبزه، وكان أبوه يتحدث إلى أبي، ويدور أغلب حديثهما حول الآبار، والحوادث، ومجاري المياه. كان والدي يقول: رجل جاد، ذهنه كله في شغله. ومع ذلك فقد كان - والد مايك - ينهي كل جملة له تقريبا بضحكة؛ ضحكة لها دوي الوحدة، كما لو كان ما زال هناك، في قاع البئر.
لم يأتيا. انتهى العمل، ولم يكن هناك ما يدعوهما للمجيء ثانية بعد ذلك أبدا. واتضح أن هذه كانت المهمة الأخيرة التي يجب على نقاب الآبار القيام بها في الجزء الذي نقيم فيه من البلدة. كانت لديه مهام عمل أخرى تنتظره في مكان آخر، وأراد أن يصل إلى هناك بأسرع ما يمكنه، ما دام الطقس لا يزال طيبا. وبطريقة العيش التي يتبعها؛ الإقامة في فندق، كان كل ما عليه عمله هو حزم الأمتعة والرحيل. وهذا ما فعله.
لماذا لم أفهم ما كان يجري؟ لم تكن هناك تحية وداع، لا وعي بأنه حين يصعد مايك إلى الشاحنة في ذلك الأصيل الأخير، فقد كان يمضي إلى الأبد؟ لا تلويح باليد، لا رأس تستدير نحوي - أو لا تستدير نحوي - عندما تبدأ الشاحنة، المثقلة الآن بكل المعدات عليها، تترنح متمايلة على طول زقاقنا للمرة الأخيرة؟ عندما انبثق الماء دفاقا - أتذكر حين انبثق للخارج، واجتمع الكل لشرب الماء - لماذا لم أفهم كل ما كان قد انتهى، بالنسبة إلي؟ أتساءل الآن إن كانت هناك خطة مقصودة لعدم الاحتفال المبالغ فيه بالمناسبة، من أجل استبعاد تحيات الوداع، بحيث لا ينتابني - أو ينتابنا - ما يفوق الاحتمال من حزن أو مشقة.
لا يبدو الأمر في الأغلب أنهم كانوا يحسبون كل هذا الحساب لمشاعر الصغار في تلك الأيام. كانوا يتركون لمشاعرهم، لمعاناتها أو كبتها.
لم أعان مشقة؛ فبعد الصدمة الأولى لم أدع أي شخص يلحظ علي شيئا. العامل الأجير كان يغيظني كلما لمحني (يقول: «هل هجرك حبيبك ورحل؟») لكنني لم أنظر نحوه قط.
لا بد أنني كنت أعلم أن مايك سوف يرحل، تماما كما كنت أعلم أن رنجر كلب عجوز وأنه سرعان ما سيموت. توقعت الغياب المستقبلي، كل ما هنالك أنني لم أملك أدنى فكرة، حتى اختفاء مايك، عما عساه أن يكون ذلك الغياب، وكيف ستتبدل الأرض التي أقف عليها تماما، كما لو أن انهيارا باطنيا قد سرى بداخلها وامتص منها كل معنى عدا فقدان مايك. لم أستطع بعد ذلك قط أن أتطلع إلى الحجر الأبيض في الممر دون أن أفكر فيه، وهكذا كان ينتابني شعور بالكراهية نحو ذلك الحجر. الشعور نفسه انتابني كذلك نحو جذع شجرة القيقب، وحين قطعها أبي لاقترابها الشديد من البيت ظل يساورني الشعور نفسه نحو ما تبقى منها كالندبة في الأرض.
بعد ذلك ببضعة أسابيع، كنت أرتدي كامل ثيابي ومعطفي، وأقف بالقرب من باب متجر أحذية بينما تجرب أمي قياس زوج أحذية، حين سمعت امرأة تنادي: «مايك!» مرت راكضة أمام المتجر، وهي تصيح: «مايك!» وفجأة استحوذ علي اقتناع بأن هذه المرأة التي لا أعرفها لا بد أن تكون والدة مايك، وأنهم قد رجعوا إلى البلدة لسبب أو لآخر، فقد كنت أعلم من قبل ذلك - وإن لم يكن من خلاله مباشرة - أنها كانت منفصلة عن أبيه، وليست متوفاة. لم أفكر فيما إن كانت عودتهم تلك مؤقتة أم دائمة، كل ما فكرت فيه - بينما كنت أركض خارجة من المتجر - أنني بعد دقيقة واحدة سوف أرى مايك.
كانت المرأة تمسك بولد في سن الخامسة تقريبا، كان قد شرع يأكل تفاحة تناولها من صندوق تفاح كان موضوعا على الرصيف أمام محل البقالة المجاور.
توقفت وحدقت في هذا الطفل غير مصدقة، كما لو كان قد وقع أمام عيني أمر خارق للمألوف، تبديل ظالم بفعل سحر.
اسم شائع. طفل بوجه مسطح وغبي وله شعر أشقر متسخ.
كان قلبي يدق بضربات ثقيلة، وكأنها أصوات عويل في صدري. •••
انتظرت صني وصول حافلتي في أوكسبريدج. كانت امرأة كبيرة العظام، مشرقة الوجه، لها شعر بني ذو ظل فضي ومتموج تمسكه إلى الوراء بأمشاط صغيرة متنوعة الأشكال على جانبي وجهها. وحتى حين كانت تزداد وزنا - وهو ما حدث عندئذ - لم تتخذ مظهرا أموميا، بل كانت تبدو صبية صغيرة في جلال ملوكي.
أقحمتني إلى داخل حياتها كما كانت تفعل على الدوام، وهي تخبرني كيف ظنت أنها ستتأخر عن موعد استقبالي لأن كلير دخلت بقة في أذنها ذلك الصباح نفسه، وكان لا بد من أخذها إلى المستشفى لغسل الأذن وطرد البقة، ثم إن الكلبة تقيأت في عتبة المطبخ، غالبا لأنها كرهت الانتقال والمنزل والبلدة كلها، وحين غادرت - صني - لترافقني كان جونستن يجعل الأولاد ينظفون العتبة لأنهم هم من أرادوا امتلاك كلبة، وكانت كلير تشكو من أنها لا تزال تسمع شيئا يطن في أذنها.
قالت: «وهكذا أحسب أن علينا الذهاب إلى مكان لطيف هادئ، ونأخذ شرابا ولا نعود إليهم أبدا. ومع ذلك فنحن مضطرتان للعودة؛ فقد دعا جونستن صديقا له سافرت زوجته وأولاده إلى أيرلندا، ويريدان أن يذهبا للعب الجولف.»
نشأت صداقتنا أنا وصني في فانكوفر. كانت فترات حملنا تتوافق في لطف، بحيث استطعنا أن نتبادل ثياب الحوامل دون عناء. كنا نجلس في مطبخي أو مطبخها، مرة كل أسبوع أو نحو ذلك، مشوشتي الرءوس بسبب أطفالنا، وأحيانا دائختين من قلة النوم، فنزود نفسينا بالقهوة القوية والسجائر وننطلق إلى الخارج في نوبات هائجة من الكلام المتدفق، عن الزواج، والمشاجرات، ونقاط ضعفنا الشخصية، عن حوافزنا المثيرة والمشينة، وآمالنا المهدرة. قرأنا كتابات يونج في الوقت نفسه، وحاولنا أن نتتبع أحلامنا. في تلك الفترة من حياتنا، التي كان يفترض بها أن تخصص فقط لدوار التناسل وتربية الأطفال، حين يغوص عقل المرأة في مستنقع من عصارات الأمومة، كنا - أنا وهي - ما زلنا مدفوعتين دفعا لأن نناقش أعمال سيمون دي بوفوار وآرثر كوستلر ومسرحية حفل الكوكتيل.
أما عن زوجينا فلم يكونا معنا في هذا الإطار العقلي مطلقا، وحين كنا نجرب التحدث عن مثل تلك الأمور معهما كانا يقولان: «آه، كلها قصص وروايات.» أو «يبدو حديثك مثل فصول مبادئ الفلسفة.» •••
الآن غادرت كلتانا فانكوفر. غير أن صني كانت قد انتقلت منها بصحبة زوجها وأطفالها وأثاث بيتها، بالطريقة العادية ولسبب مألوف؛ إذ حصل زوجها على وظيفة أخرى. انتقلت أنا لسبب غير مألوف لم يحظ بالموافقة إلا في بعض الدوائر الخاصة؛ إذ تركت زوجي والمنزل وكل الأشياء المكتسبة بالزواج (باستثناء الأطفال طبعا، الذين أخذتهم معي) على أمل أن أصنع حياة يمكن أن تعاش بلا رياء أو حرمان أو خزي.
كنت أعيش عندئذ في الطابق الثاني بأحد المنازل في تورونتو. كان ساكنو الطابق الأرضي - وهم ملاك المنزل أيضا - قد وفدوا من ترينيداد منذ نحو عشرة أعوام. وعلى امتداد طرفي الشارع، كانت المنازل ذات القرميد القديم بشرفاتها ونوافذها العالية الضيقة - التي كانت فيما سبق بيوت البروتستانت المنهجيين والتابعين للكنائس المشيخية، وكانت لهم أسماء من قبيل هندرسون وجريشام وماك أليستر - صارت كلها مكتظة الآن بأناس ذوي بشرة زيتية أو بنية يتحدثون الإنجليزية بطريقة غير مألوفة لي، إن كانوا يتحدثونها على الإطلاق، وقد ملئوا الهواء من حولهم في كل ساعة من اليوم برائحة طهيهم الغارق في التوابل الحلوة. كنت سعيدة بهذا كله؛ إذ جعلني أشعر بأنني صنعت تغييرا حقيقيا، رحلة طويلة المدى وضرورية بعيدا عن منزل الزوجية. ولكن كان من الزائد عن الحد أن أتوقع من ابنتي، في سن العاشرة والثانية عشرة من عمرهما، أن تشعرا بنفس مشاعري. كنت قد غادرت فانكوفر في الربيع، وأتيتا هما إلي في بداية العطلة الصيفية، بحيث تبقيان طوال الشهرين كاملين. وجدت الفتاتان روائح الشارع مثيرة للغثيان والضجيج مخيفا. كان الجو حارا ولم تستطيعا النوم حتى مع وجود المروحة التي اشتريتها. اضطررنا لإبقاء النوافذ مشرعة، وكانت الحفلات الساهرة في الباحات الخلفية للمنازل تتواصل أحيانا حتى مطلع الفجر.
أخذتهما في رحلات استطلاعية إلى مركز العلوم الطبيعية وإلى برج سي إن، وإلى المتحف وحديقة الحيوان، ولتناول أطايب الطعام في مطاعم لطيفة الجو تقع في المراكز التجارية المتعددة الأغراض، ورحلة بالقارب إلى جزيرة تورونتو، غير أن ذلك كله لم يفلح في تعويض غياب صديقاتهما أو أن يعزيهما عن المأوى الذي أوفره لهما، والذي كان أقرب إلى محاكاة ساخرة لبيت حقيقي. افتقدتا قططهما، ورغبت كل منهما في غرفتها الخاصة، وفي العيش في حي سكني يتيح لهما الحرية، وفي قضاء أوقاتهما في المنزل كيفما بدا لهما.
لفترة لم تصدر عنهما أي شكوى. سمعت الكبرى تقول للصغرى: «دعي أمي تظن أننا سعيدتان، وإلا ساءها ذلك.»
ثم أخيرا جاء الانفجار. اتهامات، اعترافات بالتعاسة (بل حتى مبالغات في قدر التعاسة). قالت الصغيرة في عويل: «لماذا لا تعيشين معنا في مدينتنا فحسب؟» وردت الكبيرة في مرارة: «لأنها تكره أبانا.»
اتصلت بزوجي، الذي طرح علي السؤال نفسه تقريبا، وقدم من تلقاء نفسه الجواب نفسه تقريبا. غيرت تذاكر السفر وساعدت ابنتي على حزم أمتعتهما وأخذتهما إلى المطار، وطوال الطريق أخذنا نلعب لعبة سخيفة عرفتنا بها البنت الكبيرة. كانت كل واحدة منا تختار رقما - 27 أو 42 مثلا - ثم تتطلع من النافذة وتحصي الرجال الذين تراهم، والرجل رقم 27 أو 42، أو أيا كان الرقم، يكون هو الرجل الذي لا بد أن تتزوج منه. وحين رجعت بمفردي أخذت أجمع كل ما تخلف عنهما - رسوما كارتونية رسمتها الصغرى، مجلة جلامور كانت قد اشترتها الكبرى، وقطعا متنوعة من الحلي والثياب التي كان يمكنهما ارتداؤها في تورونتو ولكن ليس حيثما تعيشان - وحشرت ذلك كله في كيس من أكياس القمامة، وكنت أفعل الأمر ذاته تقريبا كلما فكرت فيهما؛ أغلق عقلي بسرعة وإحكام. كانت هناك تعاسات يمكنني تحملها - تلك المرتبطة بالرجال - وتعاسات أخرى - تلك المرتبطة بالأطفال - لا أطيق تحملها.
عدت أعيش حياتي كما كانت عليه قبل أن تأتي ابنتاي. توقفت عن إعداد وجبة الإفطار وكنت أخرج كل صباح لأتناول القهوة واللفائف طازجة من محل بقالة إيطالي. سحرتني فكرة أن أتحرر إلى هذا الحد من حياة المنزل وتدبير شئونه، لكنني انتبهت الآن إلى أمر لم أكن أنتبه إليه آنذاك، إنها النظرة البادية على وجوه بعض الجالسين كل صباح على المقاعد العالية إلى نضد الخدمة وراء الواجهة الزجاجية للمحل، أو إلى المناضد الموزعة على الرصيف بالخارج. أناس لم يجدوا في قيامهم بهذا أي شيء رائع أو خلاب، ولكنها فقط العادة الفاترة الطعم لحياة تغلفها الوحدة.
بعد ذلك كنت أعود إلى البيت، فأجلس وأكتب لساعات جالسة إلى طاولة خشبية تحت نوافذ كانت فيما سبق شرفة مغلقة بالزجاج وصارت الآن مطبخا مؤقتا. كنت أتمنى أن أكسب عيشي ككاتبة. سرعان ما كانت الشمس تسخن الغرفة الصغيرة، فتلتصق ساقاي من الخلف بالمقعد، وكنت أرتدي سراويل قصيرة. كان بوسعي أن أشم الرائحة المميزة والمعبقة بحلاوة كيمائية لصندلي البلاستيكي وهو يمتص عرق قدمي. أحببت ذلك، كانت رائحة حرفتي، وكما كنت آمل، رائحة إنجازي. ما كتبته لم يكن بأي درجة أفضل مما كنت أتدبر كتابته قبل ذلك في حياتي القديمة في أثناء طهي البطاطس، أو أثناء تخبط الغسيل مرارا في دورته الأوتوماتيكية. كل ما هنالك أنني كنت أكتب المزيد، ولم تكن كتابتي أسوأ كذلك.
في وقت لاحق من اليوم كنت آخذ حماما، وغالبا ما أخرج للقاء صديقة أو أخرى. نحتسي النبيذ على موائد الرصيف قبالة أحد المطاعم الصغيرة في شارع كوين أو شارع بالدوين أو شارع برونزويك ونتحدث عن حياتينا، وبالأخص عن عشاقنا، ولكننا كنا نشعر بالنفور من استخدام كلمة «عشيق»؛ ولذا كنا نسميهم «الرجال الذين نرتبط بهم». وأحيانا كنت أقابل الرجل الذي كنت أرتبط به. تم استبعاده حين كانت البنتان معي، على الرغم من أنني كسرت هذه القاعدة مرتين، تركت فيهما ابنتي في دار عرض أفلام قارسة البرودة.
كنت أعرف هذا الرجل قبل أن أتخلى عن زواجي، وكان هو السبب المباشر وراء هذا التخلي، على الرغم من أنني تظاهرت بغير ذلك أمامه، وأمام كل شخص آخر. حين كنت أقابله كنت أحاول أن أكون خالية البال، وأن أظهر روحا مستقلة. كنا نتبادل أخبارنا - وقد حرصت أن تكون لدي أخباري الخاصة - ونضحك، ونذهب للتمشية في الوادي المنحدر، ولكن ما كنت أريده حقا هو أن أغويه لممارسة الجنس معي؛ لأنني اعتقدت أن الحماسة العالية للجنس تجمع أفضل ما في الطرفين معا. كنت غبية بشأن تلك الأمور، غبية إلى حد مهدد بالخطر، وخصوصا بالنسبة إلى امرأة في سني. مرت أوقات كنت أشعر فيها بسعادة بالغة بعد لقاءاتنا - مبهورة وآمنة - ومرت أيضا أوقات أخرى حين كنت أرقد مثل حجر، مثقلة بالهواجس والشكوك. وحين كان يسحب نفسه ويذهب، كنت أشعر بدموع تنحدر من عيني قبل أن أنتبه إلى أنني أبكي، وكان هذا بسبب ظل ما لمحته فيه أو شيء من التعجل وعدم الاهتمام، أو تحذير موارب قدمه لي. وبينما تحل العتمة، خارج النوافذ، كانت حفلات الباحات الخلفية تبدأ، مع موسيقى وصياح واستفزازات قد تتطور لاحقا إلى مشاجرات، وكنت أخاف، ليس من أي عمل عدائي، وإنما من شيء يشبه العدم.
في واحدة من تلك الحالات المزاجية اتصلت بصني على الهاتف، ودعتني لقضاء عطلة نهاية الأسبوع معهم في الريف. •••
قالت: «المكان جميل هنا.»
غير أن الريف الذي كنا نقود السيارة عبره لم يعن أي شيء لي؛ كانت التلال سلسلة من المنحنيات الخضراء، في بعضها أبقار. وكانت هناك جسور أسمنتية منخفضة فوق مجار مائية مختنقة بالأعشاب. وكان القش يحصد بطريقة جديدة، بلفه في أسطوانات وتركه في الحقول.
قالت صني: «انظري حتى تري المنزل. إنه خرابة! كان هناك فأر في أنابيب صرف المياه ... ميت، وكانت تتسرب إلينا مع ماء الاستحمام تلك الشعيرات. ولكننا تعاملنا مع ذلك كله الآن، ولكن لا تعرفين أبدا ما الذي سيحدث تاليا.»
لم تسألني - لا أدري، عن حساسية أم استنكار - بشأن حياتي الجديدة. ربما لم تكن تدري فحسب من أين تبدأ، أو لم تستطع تخيل ذلك. لو كانت سألت لأخبرتها بأكاذيب، أو أنصاف أكاذيب . لقلت: «كان الانفصال صعبا ولكن كان لا بد منه. أفتقد طفلتي افتقادا رهيبا ولكن هناك دائما ثمن يجب على المرء أن يدفعه. إنني أتعلم أن أترك الرجل حرا وأن أكون أنا أيضا حرة. أتعلم أن أتعامل مع الجنس بخفة، وهو أمر صعب ولكني أتعلم.»
فكرت في عطلة نهاية الأسبوع. بدت لي فترة طويلة للغاية.
كان هناك أثر ندب على حجارة المنزل حيث تمت إزالة شرفة. كان ولداها يتشاجران في الباحة.
قال أكبرهما، جريجوري، وهو يصيح: «مارك أضاع الكرة.»
فأمرته صني أن يقول لي مرحبا. «مرحبا. مارك رمى الكرة فوق السقيفة والآن ضاعت منا.»
أتت البنت ذات السنوات الثلاث، التي كانت قد ولدت بعد آخر مرة رأيت فيها صني، راكضة من باب المطبخ ثم توقفت فجأة، مندهشة لرؤية غريبة. ولكنها استجمعت نفسها بسرعة وقالت لي: «طارت إلى داخل رأسي بقة أو شيء كهذا.»
رفعتها صني عاليا وأمسكت أنا بحقيبة أغراضي ودخلنا المطبخ، حيث كان مايك ماكالوم واقفا هناك يفرد صلصلة الكاتشب على قطعة من الخبز. ••• «أنت!» قلناها أنا وهو، في نفس واحد تقريبا. ضحكنا بينما اندفعت إليه، وتحرك هو ناحيتي. تصافحنا.
قلت: «لقد حسبتك والدك.»
لا أدري إن كان بلغ بي التفكير حد تذكر نقاب الآبار الأب، ولكني فكرت: من ذلك الرجل الذي يبدو مألوفا لي؟ رجل خفيف الجسد، كما لو كان لا يفكر في شيء سوى النزول إلى الآبار والطلوع منها. شعره كان قصيرا مقصوصا، وقد مال إلى الرمادي قليلا، وعيناه غائرتان فاتحتا اللون. له وجه نحيل، بروح حلوة ولكن دون غلو. كان تحفظه معتدلا مقبولا، وليس منفرا.
قال: «غير ممكن، فقد مات.»
جاء جونستن إلى المطبخ ومعه حقائب لعب الجولف، وحياني، وأخبر مايك بأن يسرع، فقالت صني: «يعرف كل منهما الآخر يا حبيبي. كان كل منهما يعرف الآخر. من كان يتخيل؟»
قال مايك: «حين كنا أطفالا.»
فقال جونستن: «حقا؟ ذلك شيء مميز.» وفي اللحظة نفسها قلنا معا ما كان على طرف لسانه. «الدنيا صغيرة.»
أنا ومايك كنا لا نزال ينظر أحدنا إلى الآخر ونضحك، بدا الأمر وكأننا نؤكد لأنفسنا أن هذا الاكتشاف، الذي اعتبره كل من صني وجونستن مميزا، ليس شيئا بالنسبة إلينا أكثر من وهج شعلة من المصادفة الحسنة، شعلة تعشي البصر على نحو هزلي مازح.
بينما كان الرجلان غائبين طوال وقت الأصيل كنت مفعمة بطاقة مبتهجة. أعددت فطيرة خوخ لعشائنا، وقرأت قصصا لكلير لكي تهدأ وتأخذ غفوة الظهيرة، في حين أخذت صني الولدين لصيد السمك في جدول ماء يغشاه الزبد والقمامة، دون أن يحالفهم أي نجاح. ثم جلسنا أنا وهي على الأرض في الغرفة الأمامية ومعنا زجاجة نبيذ، واستعدنا صداقتنا من جديد، نتبادل الحديث حول الكتب بدلا من الحياة. •••
كان ما تذكره مايك يختلف عما تذكرته أنا. تذكر سيرنا فوق قمة ضيقة لأحد أساسات البناء الأسمنتية القديمة ونحن نتظاهر بأنه في علو أعلى الأبنية، وأننا إذا ما تعثرنا فسوف نسقط موتى في الحال. قلت إن ذلك قد يكون حدث معه في مكان آخر، ثم تذكرت أساسات بناء مرأب سيارات تم صبها حينئذ، ولكن المرأب لم يبن قط، حيث كان يلتقي زقاقنا بالطريق العام. هل سرنا فوق تلك؟
حدث هذا بالفعل.
تذكرت رغبتي في الصياح بصوت أعلى تحت الجسر، وكيف منعني من ذلك خوفي من صبية البلدة. لم يتذكر هو أي جسر.
تذكر كل منا قذائف الطمي، والحرب.
كنا نغسل الأطباق معا، بحيث استطعنا أن نتحدث على راحتنا بمفردنا دون أن نكون وقحين مع الآخرين.
حكى لي كيف توفي أبوه. لقي مصرعه في حادثة طريق، وهو عائد من مهمة عمل بالقرب من بانكروفت. «هل أهلك ما زلوا على قيد الحياة؟»
قلت له إن أمي ماتت، وإن أبي تزوج مرة أخرى.
عند نقطة ما من الحديث أخبرته بأنني انفصلت عن زوجي، وأنني كنت أعيش في تورونتو. قلت إن طفلتي كانتا معي لفترة لكنهما الآن في إجازة مع أبيهما.
أخبرني بأنه يعيش في كينجستون، ولكنه لم يذهب إلى هناك منذ فترة طويلة. كان قد التقى بجونستن مؤخرا، من خلال عمله . كان هو أيضا مهندسا مدنيا مثل جونستن. كانت زوجته فتاة أيرلندية، ولدت في أيرلندا ولكنها كانت تعمل في كندا عندما التقى بها. كانت ممرضة، والآن عادت إلى أيرلندا، في مقاطعة كلير، تزور أسرتها، وقد أخذت الأولاد معها. «كم عددهم؟» «ثلاثة.»
حين انتهينا من غسل الأطباق ذهبنا إلى الغرفة الأمامية وعرضنا أن نقوم بلعب سكرابل مع الولدين، بحيث يمكن لصني وجونستن أن يخرجا للتمشية. كنا سنلعب دورا واحدا، ثم كان يجب أن يذهب الصغار للفراش، ولكنهما أقنعانا بأن نبدأ دورا آخر، وكنا لا نزال نلعب حين عاد والداهما.
قال جونستن: «ماذا قلت لكما؟»
فقال جريجوري: «إنه الدور نفسه، أنت قلت إننا نستطيع أن ننهي الدور، وهذا هو نفس الدور.»
قالت صني: «أشك في هذا.»
قالت إنها كانت ليلة بديعة، وإنها هي وجونستن يشعران بالتدليل، بما أن لديهما من يجالس الأولاد بدلا منهما. «ليلة أمس في الحقيقة ذهبنا معا للسينما وبقي مايك مع الأولاد. كان فيلما قديما؛ جسر فوق نهر كواي.» «على ...» قال جونستن، «على نهر كواي».
قال مايك: «أنا رأيته على أي حال. منذ سنين.»
قالت صني: «وهو فيلم جيد جدا. عدا أنني لم أتفق مع النهاية؛ رأيت أن النهاية كانت خطأ. تعلمان، حين يرى أليك جينيس السلك في الماء، في الصباح، ويدرك أن أحدهم سوف يفجر الجسر، فيجن غضبا وعندئذ تتعقد الأمور كلها ويقتل الجميع وكل ذلك. حسن، أعتقد أنه كان لا بد بعد أن يرى السلك ويعلم ما سيحدث أن يبقى على الجسر وينفجر معه. أعتقد أن تلك هي طبيعة شخصيته وهكذا تتصرف، وسيكون لهذا تأثير درامي أوقع.»
قال جونستن، بنبرة من خاض هذا الجدال من قبل: «لا، غير صحيح. أين التشويق؟»
قلت: «أنا أتفق مع صني، أتذكر أنني اعتقدت أن نهاية الفيلم معقدة أكثر من اللازم.»
قال جونستن: «وأنت يا مايك؟»
قال مايك: «أظن أن النهاية جيدة جدا، جيدة جدا كما هي عليه.»
قال جونستن: «الرجال ضد النساء. الرجال يفوزون.»
ثم طلب من الولدين أن يجمعا لعبة السكرابل فأطاعاه. لكن جريجوري خطر له أن يطلب رؤية النجوم، فقال: «هذا هو المكان الوحيد الذي يمكننا فيه أن نراها. في المنزل السماء كلها أضواء وهراء.»
قال والده: «فلترها!» ولكنه أردف: حسنا إذن، خمس دقائق، سوف نخرج جميعا ونتطلع إلى السماء. بحثنا عن النجم القائد، القريب للغاية من النجم الثاني في كوكبة الدب الأكبر. قال جونستن: إذا استطعت أن ترى ذلك النجم فإن نظرك يكون سليما بما يكفي للالتحاق بالقوات الجوية، أو على الأقل هكذا كان الحال في أثناء الحرب العالمية الثانية.
قالت صني: «حسنا، أستطيع رؤيته. ولكني كنت أعلم من قبل بأنه موجود هناك.»
قال مايك إن الأمر ذاته يصدق عليه.
قال جريجوري هازئا: «أستطيع رؤيته. أستطيع رؤيته سواء أكنت أعلم بوجوده هناك أم لا.»
قال مارك: «أنا أيضا أستطيع رؤيته.»
كان مايك يقف أمامي قليلا على أحد الجانبين. كان فعليا أقرب إلى صني مما هو إلي. لم يكن هناك أحد خلفنا، أنا وهو، فأردت أن أحتك بجسده، خفيفا للغاية ودون تعمد، أن أحتك بذراعه أو كتفه. وعندئذ إذا لم يتحرك مبتعدا - إذا اعتبر بدافع اللياقة أن لمستي مجرد حركة عارضة بريئة - أردت أن أضع إصبعا على رقبته المكشوفة. أكان ذلك ما سيفعله هو، إذا ما كان واقفا خلفي؟ أكان ذلك ما سينصب تركيزه كله عليه، بدلا من النجوم؟
على الرغم من ذلك راودني الشعور بأنه كان رجلا نزيها لا يتساهل مع نزقه، وأنه كان سيمتنع عن فعل كذلك.
ولذلك السبب نفسه، بالتأكيد، لم يأت إلى فراشي في تلك الليلة. كان في الأمر مجازفة حتى يكاد يكون مستحيلا، على أي حال. في الطابق العلوي كانت هناك ثلاث غرف نوم، وكانت كل من غرفة الضيوف وغرفة الوالدين تفتحان على غرفة كبيرة ينام بها الصغار. وأي شخص يتوجه إلى أي من الغرفتين الصغريين كان عليه المرور أولا بغرفة الأطفال. مايك، الذي بات في غرفة الضيوف ليلة أمس، انتقل الليلة إلى الطابق الأرضي، حيث نام على أريكة قابلة للطي والتمديد بحيث تصير فراشا في الغرفة الأمامية. أعطته صني ملاءات نظيفة بدلا من تغيير ملاءات السرير الذي تركه لي.
قالت لي: «هو شخص نظيف للغاية، وعلى كل حال، فهو صديق قديم لك.»
لم يجعلني رقادي في تلك الملاءات ذاتها أنعم بليلة هانئة. وفي أحلامي - لكن ليس في الواقع - كانت لها رائحة أعشاب الماء، وطمي النهر، وعيدان البوص في الشمس الساخنة.
كنت أعلم أنه لن يأتي إلي مهما كانت المجازفة بفعل ذلك هينة. كان ذلك فعلا يوحي بالدناءة والابتذال، في منزل أصدقائه، الذين سيكونون أصدقاء زوجته كذلك، إن لم يكونوا كذلك بالفعل. وكيف عساه أن يتأكد من أن ذلك ما أريده أنا أيضا؟ أو أن هذا ما كان يريده هو حقا؟ حتى أنا لم أكن متأكدة من ذلك. حتى الآن، كان بمقدوري على الدوام أن أعتبر نفسي امرأة مخلصة للشخص الذي تنام معه في أي فترة بعينها.
كان نومي خفيفا، واتسمت أحلامي بطابع شهواني بإيقاع رتيب، وبقصص فرعية مثيرة للغيظ ومزعجة. في بعض الأحيان كان مايك مستعدا للتجاوب، ولكننا واجهنا عقبات. وأحيانا يتشتت انتباهه بأمور أخرى، مثلا حين أخبرني بأنه قد اشترى لي هدية، ولكنه أضاعها، وكان العثور عليها أمرا ذا أهمية كبرى بالنسبة إليه. أخبرته ألا يهتم بذلك، وأنني لا أكترث بالهدية؛ لأنه هو نفسه هديتي، الشخص الذي أحببته وكنت دائما أحبه، قلت له ذلك. ولكنه كان منشغل البال. وأحيانا لامني وعاتبني.
طوال الليل - أو على الأقل كلما استفقت من نومي، وهو ما حدث كثيرا - كانت صراصير الحقل تنشد خارج نافذتي. أول الأمر حسبتها طيورا، جوقة من طيور ليلية لا تكل ولا تهدأ. كنت قد عشت في المدن وقتا طويلا بما يكفي لأن أنسى كيف يمكن لصراصير الحقل أن تصنع شلالا مثاليا من الضجيج.
لا بد من القول أيضا إنني أحيانا حين كنت أستيقظ أجدني قد جنحت إلى أرض صلبة، قاحلة كالقبور. صفاء في الذهن غير مرحب به. ماذا تعرفين حقا عن هذا الرجل؟ أو ما الذي يعرفه هو عنك؟ ما الموسيقى التي يحبها ، ما هي آراؤه السياسية؟ ماذا يتوقع من طرف النساء؟ •••
قالت صني: «كيف كان نومكما؟»
فقال مايك: «غرقت في النوم مثل حجر في بئر.»
وقلت: «لا بأس. جيد.»
كنا جميعا مدعوين إلى تناول الطعام في ذلك النهار بمنزل بعض الجيران ممن كان لديهم حمام سباحة. قال مايك إنه يفضل الذهاب للعب الجولف قليلا، إن لم يمانع أحد في ذلك.
قالت صني: «لا مانع طبعا.» ونظرت إلي. قلت: «حسنا، لا أدري إذا كنت ...» فقال مايك: «أنت لا تلعبين الجولف، صحيح؟» «لا ألعبه.» «ومع ذلك، يمكنك المجيء ومساعدتي في اللعب.»
قال جريجوري: «سآتي أنا وأساعدك.» كان متأهبا للانضمام إلى أي رحلة أو حملة خاصة بنا، فالأكيد أننا كنا بالنسبة إليه أقل تزمتا وأكثر تسلية من والديه.
رفضت صني قائلة: «أنت ستأتي معنا. ألا تريد أن تلعب في حمام السباحة؟» «كل الأولاد يبولون في ذلك الحمام. أتمنى أن تعرفوا ذلك!» •••
حذرنا جونستن قبل أن نغادر بأنه من المحتمل سقوط أمطار، فقال مايك إننا سنجرب ونجازف. أعجبني قوله «إننا»، وأحببت الركوب إلى جواره، في مقعد الزوجة. شعرت بلذة في فكرة وجودنا معا كثنائي، وكنت أعرف أنها لذة طائشة كأنها لصبية مراهقة. أغواني مجرد خاطر أن أكون زوجة، كما لو أنني لم أكن زوجة من قبل قط، ولم يحدث هذا بالمرة مع الرجل الذي كان آنذاك حبيبي الفعلي. هل بوسعي حقا أن أستقر بصحبة حب حقيقي، وأن أتخلص بطريقة ما من تلك الأجزاء بداخلي غير المتوافقة مع ذلك التصور، وأن أحظى بالسعادة؟
لكننا الآن وقد صرنا وحدنا، كان هناك قيد ما.
قلت: «أوليس الريف هنا جميلا؟» واليوم كنت أقولها حقا وصدقا. بدت التلال أنعم وأرق، تحت هذه السماء البيضاء ذات السحب، أكثر مما كانت عليه أمس في الشمس النحاسية اللاهبة. كان للأشجار، في نهاية الصيف، هامات مشعثة، والكثير من أوراقها قد بدأ يصدأ ويجف عند الحواف، وبعضها قد تبدل لونه بالفعل إلى البني والأحمر. تعرفت على أوراق شجر مختلفة الآن. قلت: «أشجار البلوط!»
فقال مايك: «هذه تربة رملية، طوال الطريق من هنا، يسمونها تلال البلوط.»
قلت إنني أفترض أن أيرلندا بلد جميل. «بعض أجزائها قاحلة حقا. صخر عار.» «هل نشأت زوجتك هناك؟ ألديها تلك اللكنة المحببة؟» «كنت ستلاحظين لكنتها إذا سمعتيها تتحدث، ولكنها حين تعود إلى هناك يقولون لها إنها قد فقدت لكنتها. يقولون لها إنها تتحدث كأنها أمريكية. أمريكية، هذا ما يقولونه دائما، فالكنديون لا يثيرون اهتمامهم.» «وأطفالكما، أحسب أنهم لا يبدون أيرلنديين بالمرة؟» «لا.» «ما هم على أي حال، أولاد أم بنات؟» «ولدان وبنت.»
يحرضني الآن شيء ما على أن أخبره بشأن حياتي، بشأن تناقضاتها، وأشكال الأسى والحرمان فيها؛ فقلت: «أنا أفتقد ابنتي.»
لكنه لم يقل شيئا، لا كلمة متعاطفة، ولا تشجيعا. لعله ارتأى أنه من غير اللائق أن نتحدث عن شركاء حياتنا أو عن أطفالنا، في حالتنا هذه.
ما هي إلا برهة وجيزة بعد أن توقفنا في المكان المخصص للسيارات بجانب مبنى النادي حتى قال في حيوية، كما لو كان يعوض عن جموده السابق: «يبدو أن الذعر من المطر حبس لاعبي جولف يوم الأحد في بيوتهم.» لم تكن هناك إلا سيارة واحدة فقط متوقفة هناك.
خرج وذهب إلى المكتب ليدفع رسم الدخول الخاص بالزائرين من غير الأعضاء.
لم يسبق لي أن ذهبت إلى مضمار جولف قط. رأيتهم يمارسون اللعبة على شاشة التليفزيون، مرة أو اثنتين، ولكن لم يكن ذلك عن خيار مقصود قط، وكانت لدي فكرة غامضة عن أن بعض مضارب الجولف تسمى بالحديدية، وأن هناك مضارب تسمى بالخشبية، وأن المضمار نفسه يسمى بالمسارات. وحين أخبرته بهذا، قال مايك: «ربما سيصيبك ملل رهيب.» «إذا مللت فسأذهب لأتمشى.»
بدا أن هذا قد سره. أراح ثقل يده الدافئة على كتفي وقال: «ستفعلين، أيضا.»
لم يكن هناك بأس من جهلي باللعبة - بالطبع لم أقم بدور مساعده حقا - ولم أصب بالملل؛ كل ما كان علي القيام به هو أن أتبعه هنا وهناك، وأن أراقبه. لم يكن علي حتى أن أراقبه؛ كان يمكنني مراقبة الأشجار على حواف المضمار - كانت أشجارا طويلة برءوس مسننة كالريش وجذوع نحيلة، ولم أكن أعرف اسمها على اليقين، أهو أكاسيا؟ - وكانت الرياح بين الحين والآخر تعكر هدوءها، رياح لم يكن بوسعنا نحن الشعور بها تهب هنا بالأسفل على الإطلاق. كما كانت هناك أسراب من الطيور، لعلها شحارير أو زرازير، تتطاير معا بحس من الإلحاح الجماعي، ولكنها تطير فقط من رأس شجرة إلى أخرى. تذكرت الآن أن الطيور كانت تفعل ذلك في أغسطس أو حتى في أواخر شهر يوليو حين تبدأ اجتماعاتها الكبرى الصاخبة تلك؛ استعدادا للهجرة جنوبا.
تحدث مايك بين الحين والآخر، ولكن نادرا ما كان حديثه موجها إلي، ولم يكن علي أن أجيب حديثه هذا، والحقيقة أنه ما كان بوسعي ذلك. ومع ذلك، فقد شعرت أنه كان يتحدث أكثر مما يتحدث به الرجل حين يلعب هنا بمفرده تماما. كانت كلماته غير المترابطة تتراوح ما بين توبيخات وتهنئات محتاطة وتحذيرات لنفسه، هذا إذا نطق بكلمات مفهومة على الإطلاق؛ إذ كان يتفوه بنوع من الغمغمة يقصد بها أن تنقل معنى ما، وكانت تنقل بالفعل معنى ما، ولكن فقط في حالة العلاقة الحميمة الطويلة الأمد بين شخصين عاشا على مقربة طوعا لا كرها.
كان هذا ما يفترض بي أن أفعله عندئذ؛ أن أمنحه فكرة مضخمة وموسعة عن نفسه، فكرة أكثر مدعاة للارتياح، ربما تكون إحساسا مطمئنا ببطانة إنسانية تحيط بعزلته. لم يكن يتوقع هذا كما حدث بالضبط، أو يطلبه بشكل طبيعي ويسير إلى هذا الحد، لو أنه كان رجلا آخر، أو لو أنه كان بصحبة امرأة لم يشعر معها بشيء من الرابطة الراسخة.
لم أتأمل في كل هذا طويلا. كان ذلك كله مندمجا فيما شعرت به من سرور يغمرني ونحن نسير حول مسارات الجولف. أما الشهوة التي كانت قد رمتني بزخات من الألم في الليل فقد تطهرت كلها الآن وهذبت لتصبح لسان لهب هادئا ومهندما، يقظا وأنثويا. تبعته وهو يتجهز ويختار ويفكر وينظر مقدرا ويتمايل متأرجحا، وراقبت مسار الكرة، الذي بدا لي دائما صائبا تماما، لكن بالنسبة إليه كانت فيه مشاكل غالبا، ثم كنت أتبعه إلى موقع تحدينا التالي، مستقبلنا القريب.
لم نكد نتحدث بالمرة ونحن سائران هناك. تساءلنا: هل ستمطر؟ هل تحسين بقطرة مطر؟ ظننت أنني أحسست بذلك. ربما لا. لم يكن هذا حديث طقس مما تمليه اللياقة، بل كان كله في سياق اللعبة. هل سننهي دورة الجولف أم لا؟
وكما اتضح فإننا لم ننهها؛ فقد سقطت قطرة مطر، قطرة مطر لا شك فيها، ثم أخرى، ثم رذاذ خفيف. نظر مايك على طول امتداد المضمار، إلى حيث كان السحاب قد تبدل لونه، فازرق زرقة داكنة بعد أن كان أبيض، ثم قال دون انزعاج خاص أو خيبة أمل: «ها هو طقسنا أتى أخيرا.» وبدأ يجمع الأشياء في نظام وترتيب ويحزم حقيبته.
كنا في تلك اللحظة في أبعد نقطة ممكنة عن مبنى النادي. زادت حركة الطيور واضطرابها، وكانت تدور من فوقنا وهي قلقة مترددة. كانت هامات الأشجار تتمايل، ثم كان هناك صوت - بدا كما لو أنه يصدر من فوقنا - مثل صوت موجة ممتلئة بالأحجار تتحطم على الشاطئ. قال مايك: «لا بأس إذن. من الأفضل أن ندخل إلى هنا.» وأخذني من يدي وأسرع راكضا عبر العشب المجزوز إلى الشجيرات والأعشاب الطويلة النامية ما بين المضمار والنهر.
كان للشجيرات القائمة على حافة مرج العشب المستوي أوراق داكنة ومظهر رسمي تقريبا، كما لو كانت سياجا موضوعا هناك عن قصد، ولكنها بدت متكتلة معا وكأنما نمت على نحو بري دون اعتناء. كما بدت أيضا مصمتة لا يمكن الدخول إليها، ولكن حين اقتربنا منها وجدنا فتحات صغيرة، طرقا ضيقة اصطنعتها حيوانات أو أشخاص بحثا عن كرات الجولف. كانت الأرض منحدرة هونا نحو الأسفل، وبمجرد أن يتجاوز المرء جدار الشجيرات غير المنتظم، يمكنه أن يرى جزءا من النهر، ذلك النهر الذي كان في الحقيقة السبب وراء لافتة البوابة، وعليها اسم النادي؛ «نادي جولف شاطئ النهر». كان الماء رماديا لامعا كالفولاذ، وبدا كأنه يتدفق ولا يتكسر إلى مزق صغيرة كما قد يكون عليه ماء بركة، في نوبة الطقس الحادة هذه. بيننا وبين الماء، كان هناك مرج من الأعشاب المتنوعة، وقد بدت جميعا مزهرة؛ عشبة عصا الذهب، والبلسم بأجراسه الحمراء والصفراء، وشيء آخر ظننت أنه نباتات مزهرة من القراص الشائك بعناقيدها البنفسجية القرنفلية، وزهراتها النجمية البرية. كانت هناك كرمة عنب أيضا، تتشبث وتصعد على أي شيء تجده في طريقها، وتتشابك في الأسفل. كانت التربة ناعمة، لكنها ليست ثخينة تماما. حتى النباتات رقيقة المظهر، ذات السيقان الأشد رهافة كانت قد نمت عاليا في مستوى رأسينا، أو أعلى منهما. حين وقفنا وتطلعنا عبرها، كان بوسعنا أن نرى الأشجار على مسافة يسيرة تهتز كأنها مجرد باقات من الزهر. كان هناك شيء ما يقترب، من اتجاه السحابات السوداء؛ كان المطر الحقيقي آتيا نحونا، من وراء هذا الرشاش الخفيف الذي يصيبنا برذاذه، غير أنه بدا أكثر من مجرد مطر. بدا كما لو كان قطعة هائلة من السماء قد انتزعت نفسها وأخذت تهبط، في ضجيج وعزم ثابت، متخذة شكلا لا يمكن تحديده ولكنه شكل حيوي كأنه ذو روح. كانت ستائر من مطر - ليست غلالات خفيفة وإنما ستائر غليظة حقا تضرب بوحشية - تسبقها وتمهد لها. كان بوسعنا أن نراها بكل وضوح تقترب، على الرغم من أن كل ما كنا نشعر به، حتى حينذاك، ليس إلا تلك القطرات الخفيفة والكسولة. بدا الأمر تقريبا كما لو كنا نتطلع عبر نافذة، من دون أن نصدق تماما أن النافذة سوف تتحطم، إلى أن تحطمت بالفعل، وضربتنا الأمطار والريح معا في اللحظة ذاتها، وارتفع شعري كمروحة قائما حول رأسي. أحسست كما لو أن جلدي قد يفعل بالمثل بعده.
حاولت أن أستدير عندئذ، ساورتني نزوة، لم أشعر بها فيما سبق، بأن أخرج راكضة من بين الشجيرات متوجهة صوب مبنى النادي. ولكني لم أستطع حراكا؛ كان مجرد الوقوف صعبا بما فيه الكفاية، أما هناك خارج الشجيرات فقد تقتلعك الريح لتطرحك أرضا في لمح البصر.
اقترب مايك مني حتى صار قبالتي، منحني الظهر، ناطحا برأسه الأعشاب في مواجهة الريح، وهو يمسك بذراعي طوال الوقت. ثم واجهني تماما، واضعا جسده بيني وبين العاصفة. لكن ذلك لم يكن له أي تأثير إلا ما قد يكون لعود تنظيف الأسنان. قال شيئا، أمام وجهي مباشرة، لكني لم أسمعه. كان يصيح، ولكن لم يمكن لأي صوت صدر عنه أن يبلغ مسمعي. أمسك الآن بكلتا ذراعي، ثم أنزل يديه نحو معصمي وأحكم الشد عليهما بقوة. سحبني لأسفل - كان كلانا يترنح بمجرد أن نحاول أن نغير من وضعنا ولو بأهون درجة - بحيث صرنا جاثمين متكورين كأقرب ما يكون إلى الأرض، ومنضمين معا للغاية بحيث لا يستطيع أحدنا رؤية الآخر؛ فلم يكن بوسعنا إلا النظر للأسفل، حيث الأنهار الصغيرة التي بدأت تشق الأرض من حول أقدامنا بالفعل، والنباتات المسحوقة، وأحذيتنا المنقوعة بالمياه. وحتى إننا ما كنا لنرى هذا كله إلا من وراء شلال يهطل نزولا على وجهينا.
ترك مايك معصمي وأحكم قبضتي يديه على كتفي. كانت لمسته أقرب إلى كابح مقيد منها إلى سند مريح.
بقينا هكذا حتى مرت الريح. ربما لم يستغرق هذا أكثر من خمس دقائق، ربما دقيقتين أو ثلاث. ما زال المطر يسقط، ولكنه الآن كان مطرا غزيرا عاديا. أبعد يديه عني، ووقفنا مزعزعين. سرعان ما التصقت الثياب بجسدينا. تدلى شعري على وجهي مثل عريشة طويلة فوق رأس حيزبون شريرة، وكان شعره قد انبسط مسطحا على جبينه في ذيول داكنة قصيرة. حاولنا أن نبتسم، لكننا كنا بالكاد قادرين على ذلك، ثم تبادلنا قبلة وتحاضنا معا لبرهة وجيزة. كان هذا طقسا، اعترافا بالنجاة، أكثر من كونه إقرارا بميل جسدينا. انزلقت شفاهنا بعضها على بعض، ملساء وباردة، وجعلنا ضغط العناق نشعر بقشعريرة طفيفة، إذ نضحت ثيابنا ماء عذبا نقيا.
مع كل دقيقة، كان المطر يصير أخف وأهدأ. شققنا سبيلنا، ونحن نتمايل هونا ما، عبر الأعشاب نصف المستوية بسطح الأرض، ثم بين الشجيرات الكثيفة المنقوعة بالمياه. كانت أفرع كبيرة من الشجر ترتمي على مضمار الجولف، ولم أفكر إلا فيما بعد في أن أي فرع منها كان يمكنه أن يطرحنا قتيلين.
سرنا في المسارات المفتوحة، دائرين حول الأغصان المتساقطة. توقف المطر تقريبا، واعتدل الهواء. كنت أسير برأس محني - بحيث يسقط الماء من شعري أرضا وليس على وجهي - وشعرت بسخونة الشمس تمس كتفي قبل أن أتطلع نحو نورها الذي أشرق كالعيد.
وقفت بلا حراك، تنفست عميقا، وهززت شعري بعيدا عن وجهي. الآن حان الوقت، حين كنا مبللين بالمياه تماما وآمنين وقابلنا الشعاع الدافئ. الآن لا بد من قول شيء ما. «هناك شيء لم أقله لك.»
فاجأني صوته، مثل الشمس. ولكن في الجهة المعاكسة. كان صوتا مثقلا، منذرا، وتصميما يحفه الاعتذار.
قال: «شيء بخصوص أصغر أبنائنا. لقد لقي أصغر أبنائنا حتفه الصيف الماضي.»
آه!
قال: «صدمته السيارة. كنت أنا من صدمه بالسيارة، وأنا أخرج بها، راجعا للخلف، من ممر السيارات في منزلنا.»
توقفت من جديد. توقف معي. راح كلانا يحدق أمامه. «كان اسمه برايان، كان ابن ثلاثة أعوام.
كنت أظن أنه بالطابق الأعلى في فراشه. كان الآخرون ما زالوا ساهرين، ولكنه كان قد حمل إلى فراشه لينام، لكنه بعد ذلك نهض من جديد.
ومع ذلك، كان علي أن أنظر. كان علي أن أنظر بمزيد من الحرص.»
فكرت في اللحظة التي خرج فيها من السيارة. الضجة التي لا بد أنها وقعت. لحظة اندفاع أم الطفل من المنزل راكضة. هذا ليس هو، هو ليس هنا، هذا لم يحدث.
بالطابق الأعلى، في فراشه.
شرع يسير من جديد، دخل ساحة إيقاف السيارات. سرت خلفه بقليل، ولم أقل أي شيء، ولا كلمة طيبة، شائعة، عاجزة. غضضنا الطرف عن ذلك فورا.
لم يقل كانت غلطتي ولن أتجاوز الأمر أبدا. لن أسامح نفسي ما حييت. ولكني أبذل أقصى ما أستطيع.
أو زوجتي تسامحني، ولكنها لن تستطيع هي أيضا تجاوز ما جرى.
علمت ذلك كله. صرت أعلم الآن أنه شخص ممن بلغوا الدرك الأسفل من البؤس، الحضيض. شخص قد أدرك - كما لم أدرك أنا، أو أقارب ذلك حتى - كيف يبدو على وجه التحديد قاع الحضيض هذا. نزلا إليه معا ، هو وزوجه، وقد ربط هذا أحدهما بالآخر، كما قد يفعل أمر كهذا فإما أن يفرقكما مدى الحياة، أو يجمعكما مدى الحياة. لا يعني ذلك أنهما سيعيشان حياتيهما في هذا القاع، ولكنهما سيتقاسمان معرفتهما الحميمة به، تلك المساحة الوسطى الباردة، الخاوية، المغلقة.
أمر قد يحدث لأي إنسان.
نعم، ولكن لم يبد على هذا النحو. يبدو كما لو أنه يحدث لهذا الشخص أو ذاك، في هذا الزمان والمكان، واحد منهم في كل مرة.
قلت: «ليس هذا عدلا.» كنت أتحدث عن تلقي تلك العقوبات العديمة الجدوى، تلك الضربات الخبيثة المخربة. وهي حين تقع هكذا، ربما تكون أسوأ وقعا مما يكون عليه الأمر حين تقع وسط محن عديدة، في الحروب أو الكوارث التي تحل بالأرض. والأسوأ من ذلك كله ما يحل بذلك الشخص الذي قام بذلك الفعل، ذلك الفعل غير المقصود في الغالب، غير أن المسئولية تقع على عاتقه وحده على الدوام.
ذلك ما كنت أتحدث عنه، ولكني قصدت أيضا أن هذا ليس عدلا، فما شأننا نحن بهذا الأمر؟
كان احتجاجا قاسيا للغاية حتى إنه يكاد يبدو بريئا، خارجا من جوهر الذات الفج. احتجاجا بريئا فقط، إذا كنت أنت الشخص الذي صدر عنه، وإذا لم يتم إبداؤه علانية.
قال في هدوء: «لا بأس.» العدل غير موجود، لا هنا ولا هناك.
قال: «صني وجونستن لا يعلمان بذلك، لا أحد يعلم ممن التقينا بهم منذ انتقالنا. بدا أن هذا قد يكون أفضل. حتى الأولاد الآخرون نادرا ما يذكرون اسمه. لا يذكرون اسمه بالمرة.»
لم أكن من بين الأشخاص الذين التقوا بهم منذ انتقالهم. لست واحدة من الناس الذين سوف يصنعون بينهم حياة جديدة، حياة عادية وشاقة. كنت شخصا عرفه فيما قبل، ذلك كل ما في الأمر، شخصا كان يعرفه، هو بمفرده.
قال: «ذلك غريب.» ونظر حوله قبل أن يفتح صندوق السيارة ويضع فيه حقيبة الجولف. «ماذا حدث للشخص الذي كان قد أوقف سيارته هنا من قبل؟ ألم تري سيارة أخرى كانت متوقفة هنا حين دخلنا؟ ولكني لم أر قط شخصا آخر في المضمار. اكتشفت هذا الآن فقط. أرأيت أنت أحدا؟»
فقلت: لا.
قال: «لغز!» ثم أضاف من جديد: «لا بأس.»
لا بأس، كانت تلك كلمة اعتدت سماعها كثيرا حين كنت طفلة، منطوقة بتلك النبرة ذاتها من الصوت. كأنها جسر ما بين شيء وآخر، أو ختام كلام، أو طريقة لقول شيء لا يمكن قوله أو التفكير فيه، على نحو أتم من هذا. «البئر مجرد حفرة في الأرض.» كان هذا جوابا مازحا. •••
أنهت العاصفة حفل حمام السباحة. كان عدد الأشخاص أكبر من أن يسعهم المنزل، واختار أغلب هؤلاء الذين اصطحبوا أطفالهم العودة لبيوتهم.
بينما كنا عائدين بالسيارة أنا ومايك، أحس كل منا بحرقة أو حكة شائكة، على المواضع المكشوفة من أذرعنا، وعلى ظهور أيدينا، وحول كواحلنا، وأفصحنا عن هذا. كانت تلك هي المواضع التي لم تكن تحميها ثيابنا حين جثمنا في وسط الأعشاب. تذكرت نباتات القراص اللاسعة.
حين جلسنا في مطبخ صني ببيت المزرعة، نرتدي ثيابا جافة، حكينا لهم مغامرتنا وأريناهم الطفح على جلدنا.
كانت صني تعلم ما عليها أن تفعل لنا؛ فلم تكن رحلة أمس مع طفلتها كلير إلى غرفة الطوارئ بالمستشفى العام هي الأولى من نوعها لهذا الأسرة؛ ففي وقت سابق من الإجازة كان الصبيان قد نزلا إلى حقل موحل القاع ذي أعشاب وراء الحظيرة، وعادا ببشرة تغطيها بقع وعلامات كأنها آثار ضرب. قال الطبيب إنهما لا بد قد تعرضا لبعض نباتات القراص الحارقة، لا بد أنهما تدحرجا فيها، كان هذا ما قاله. وصف لهم الكمادات الباردة، ودهانا مضادا للحساسية، وأقراصا. كان بعض الدهان لا يزال موجودا في زجاجته لم يستخدم بعد، كما كان هناك بعض الأقراص؛ لأن مارك وجريجوري قد شفيا سريعا.
رفضنا تناول الأقراص؛ فلم تبد حالتنا خطيرة لهذا الحد.
قالت صني إنها تحدثت إلى إحدى النساء هناك على الطريق السريع، كانت تضع الوقود في سيارتها، وقد قالت لها هذه المرأة إن هناك نباتا تعد أوراقه أفضل كمادات ممكنة لعلاج طفح نبات القراص. لست بحاجة إلى كل الأقراص وتلك القمامة، قالت المرأة. كان اسم ذلك النبات شيئا من قبيل قدم العجل. أم تراها القدم الباردة؟ أخبرتها المرأة بأنها يمكنها العثور عليه في ناحية معينة من الطريق، لدى الجسر.
كانت متحمسة للقيام بذلك، أحبت فكرة الاعتماد على العلاج الشعبي. كان علينا أن نؤكد لها أن لديها الدهان بالفعل، وأنها قد دفعت ثمنه.
استمتعت صني بمهمة تمريضنا. في الحقيقة، أدخلت محنتنا هذه الأسرة كلها في حالة مزاج جيد، وأبعدت عنهم كآبة اليوم الغارق في المطر والخطط الملغاة. بدت فكرة أننا اخترنا الانطلاق معا ثم خضنا هذه المغامرة - مغامرة تركت برهانها على جسدينا - وكأنها تثير صني وجونستن وتدفعهما لمشاكستنا وإغاظتنا. هو بنظرات وتعبيرات ساخرة ماكرة، وهي بقلقها البشوش علينا. إن كنا قد عدنا إليهما بأمارات تدل على أننا أسأنا التصرف حقا - علامات على الردفين مثلا، أو خطوط حمراء على الفخذين والبطن - لما كانا سيفتنان ويتسامحان معنا إلى هذا الحد بالطبع.
اعتبر الأطفال أنه أمر مضحك أن يرونا هكذا جالسين وأقدامنا في أحواض الماء، وأذرعنا وأيدينا ملفوفة بلفافات من الأقمشة الثخينة. كانت كلير على الأخص مبتهجة بمنظر أقدام الكبار، أقدامهم الغبية المكشوفة. راح مايك يرقص لها أصابع قدميه الطويلة، فانفجرت في نوبات من القهقهة المدوية.
لا بأس. سيتكرر الأمر القديم ذاته، لو التقينا من جديد، أو إذا لم نلتق. الحب الذي لم يكن صالحا للاستعمال، الذي يعرف موضعه. (سيقول البعض إنه غير حقيقي، لأن ذلك الحب لا يخاطر أبدا بانفصام رقبته، أو بأن يتحول إلى نكتة بائخة، أو ينفد في أسى.) لا يخاطر بشيء ومع ذلك يبقى على قيد الحياة، مثل دفق ضعيف لماء عذب، أو نبع تحت وجه الأرض، وفوقه عبء هذا السكون الجديد، هذا الختم.
لم أسأل صني بعد ذلك قط عن أخباره، ولا سمعت خبرا منه، طوال كل سنوات صداقتنا التي راحت تنكمش. •••
لم تكن تلك النباتات ذات الزهور الكبيرة الأرجوانية نباتات القراص، اكتشفت أنها تدعى عشبة جوباي. لا بد أن النباتات اللادغة التي تعرضنا لها كانت أقل شأنا، لها زهرة أرجوانية أشحب لونا، وسيقان ذات مظهر شرير، وأشواك رفيعة حارقة تلذع الجلد وتوخزه. كانت تلك النباتات هناك هي أيضا، مختبئة لا تلحظها العين، في كل موضع مزدهر من المرج المجدب.
المقايضة
حكى لهما ليونيل كيف ماتت أمه.
كانت قد طلبت منه أن يحضر مساحيق زينتها. أمسك لها ليونيل بالمرآة.
قالت: «ما هي إلا ساعة تقريبا.»
كريم الأساس، بدرة الوجه، قلم رسم الحواجب، المسكرة، قلم تخطيط الشفاه، طلاء الشفاه، حمرة الوجه. كانت بطيئة ومرتعشة، ولكنها أتمت عملا جيدا.
قال ليونيل: «لم يستغرق منك ذلك ساعة.»
فقالت لا، إنها لم تكن تقصد ذلك.
كانت تقصد، ساعة ثم تموت.
سألها إذا كانت تريده أن يتصل بأبيه. أبوه، زوجها، كاهنها.
فقالت: ولأي سبب؟
وفقا لنبوءتها، كان قد تبقى لها خمس دقائق فقط أو نحوها. •••
كانوا جالسين وراء المنزل - منزل لورنا وبريندان - على شرفة صغيرة تشرف على خليج بورارد وأضواء حي بوينت جراي. نهض بريندان ليحرك رشاشات الماء إلى بقعة أخرى من العشب.
كانت لورنا قد التقت بوالدة ليونيل منذ أشهر قليلة فقط. سيدة جميلة ضئيلة الحجم بيضاء الشعر ذات سحر جسور، كانت قد أتت إلى فانكوفر من بلدة تقع في سلسلة جبال روكي، لتشاهد فرقة الكوميدي فرانسيز في جولتها الفنية. طلب ليونيل من لورنا أن ترافقهما. بعد انتهاء العرض، وبينما كان ليونيل يمسك المعطف المخملي الأزرق مفتوحا لترتديه أمه، قالت الأم للورنا: «أنا سعيدة جدا بمقابلة صديقة ابني الجميلة.» (ونطقت ذلك الوصف بالفرنسية.)
فقال ليونيل: «ليتنا لا نفرط في استعمال اللغة الفرنسية!»
لم تكن لورنا حتى متأكدة من معنى الوصف. صديقة جميلة؟ عشيقة؟
رفع ليونيل حاجبيه ناظرا إليها، من وراء رأس والدته. كما لو كان يقول، أيا كان ما قالته أمه، فهو ليس خطأه.
كان ليونيل في وقت ما واحدا من طلاب بريندان في الجامعة، عبقريا خاما، في سن السادسة عشرة. أذكى العقول الرياضية التي رآها بريندان في حياته كلها. تساءلت لورنا، وقد فطنت إلى ذلك بأثر رجعي ، إن كان بريندان يبالغ في هذا الموضوع؛ نظرا لكرمه غير المعتاد نحو الموهوبين من طلابه، وأيضا نظرا لما آلت إليه الأمور فيما بعد. كان بريندان قد أدار ظهره للحزمة الأيرلندية برمتها - أسرته وكنيسته والأغنيات العاطفية - ومع ذلك ظل يخالجه ضعف أمام أي حكاية ذات طبيعة مأساوية. بطبيعة الحال، وبعد انطلاقة ليونيل المتوهجة، عانى انهيارا من نوع ما، واضطر للبقاء في مستشفى للرعاية، وابتعد عن الأبصار، حتى التقى به بريندان في السوبر ماركت واكتشف أنه كان يعيش على بعد ميل واحد من منزلهما، هنا في شمال فانكوفر. كان قد هجر الرياضيات تماما واشتغل في مكتب النشر التابع للكنيسة الأنجليكانية.
قال له بريندان: «تعال لرؤيتنا!» بدا ليونيل له في حالة رثة، ووحيدا. «تعال وقابل زوجتي!»
كان مسرورا بأن يكون له الآن بيت، وأن يدعو الناس إليه. «الحقيقة لم أعرف ما الذي ستكونين عليه.» هكذا قال ليونيل وهو يحكي للورنا عن هذا، «افترضت أنك قد تكونين شنيعة.»
قالت لورنا: «يا إلهي! ولكن لماذا؟» «لا أدري. الزوجات، وهكذا.»
كان يأتي لرؤيتهما في الأمسيات، بعد أن يأوي الأطفال إلى أسرتهم. كانت أهون مقاطعات الحياة المنزلية - مثل صيحة طفل تتناهى إليهم عبر نافذة مفتوحة، أو حين يوبخ بريندان لورنا أحيانا لترك لعب الأولاد مرمية على العشب، بدلا من جمعها في صندوق الرمل، أو حين ينادي لها من المطبخ يسألها إن كانت قد تذكرت شراء الليمون الحامض من أجل شراب الجين والتونيك - تبدو وكأنها تسبب رعدة لليونيل، وتوترا يسري في جسده الطويل الهزيل ووجهه المتحمس القليل الثقة فيما حوله. كان لا بد أن تكون هناك وقفة صمت عندئذ، نقلة للرجوع إلى درجة ذات قيمة من التواصل الإنساني. مرة كان يترنم، بخفوت بالغ، بلحن أغنية «أوه تانينباوم» (أغنية ألمانية فلكورية ارتبطت بشجرة عيد الميلاد والحياة الأسرية الحميمة)، أو أغنية «آه يا حياة الزوجية، آه يا حياة الزوجية»، وابتسم في الظلام ابتسامة خفيفة، أو ظنت لورنا أنه ابتسم. بدت لها هذه الابتسامة مثل ابتسامة ابنتها إليزابيث ذات الأربعة الأعوام ، عندما كانت تهمس في أذن أمها بملاحظة معيبة إلى حد ما في مكان عام. ابتسامة سرية صغيرة، راضية، ومنذرة بطريقة ما.
كان ليونيل يقطع التل صعودا على دراجته الهوائية المرتفعة العتيقة الطراز، في زمن لا يكاد يركب فيه الدراجات الهوائية إلا الأطفال. لم يكن يبدل ثياب يوم عمله. سروال داكن اللون، وقميص أبيض دائما ما بدا متسخا متآكلا حول طرف الكمين والياقة، ورابطة عنق بلا ملامح. حين كان عليهم الذهاب لمشاهدة فرقة الكوميدي فرانسيز اضطر إلى أن يضيف إلى هذا سترة من قماش التويد الصوفي، كانت أوسع من اللازم عند الكتفين وأقصر من اللازم عند الكمين. ربما لم يكن يملك أي ثياب أخرى.
قال: «إنني أكدح في مقابل حد الكفاف. ليس حتى في كروم الرب، في أبرشية رئيس الأساقفة.»
وقال: «أحيانا أشعر أنني في رواية لديكنز. والأمر المضحك أنني حتى لا أميل لديكنز!»
كان يتحدث ورأسه مائل إلى الجانب، غالبا، وهو يحدق في شيء ما وراء رأس لورنا بقليل. كان صوته خفيفا وسريعا، وأحيانا يصير رفيعا وحادا في نوع من الابتهاج المتوتر. كان يحكي كل شيء باندهاش قليلا. حكى عن المكتب حيث يعمل، في المبنى الذي يقع وراء الكاتدرائية؛ النوافذ الصغيرة العالية ذات الطراز القوطي والأشغال الخشبية المصقولة (لإضفاء الإحساس الكنسي على المكان)، وحامل لتعليق القبعات وآخر لوضع المظلات (الذي كان لسبب ما يملؤه بكآبة عميقة)، وكاتبة الآلة الكاتبة جانين، ومحررة صحيفة الكنيسة السيدة بينفاوند، ورئيس الأساقفة الذي يظهر عرضا بين حين وآخر، بحضوره الشبحي وشرود لبه. كانت هناك معركة لم تتحدد نتيجتها قط حول أكياس الشاي الصغيرة، ما بين جانين التي كانت تفضلها، والسيدة بينفاوند التي لم تكن تفضلها. كان الجميع يلوك مأكولات سرية لا تتم مشاركتها بالمرة، بالنسبة إلى جانين كانت حبات الكراميل، وليونيل نفسه كان يميل إلى اللوز المحلى بالسكر. لكنه لم يستطع أن يكتشف هو وجانين ما هي اللذة السرية التي تلوكها السيدة بينفاوند؛ لأنها لم تكن تضع أغلفة أطعمتها الخفيفة في سلة المهملات. غير أن فكيها كانا على الدوام منشغلين خلسة.
ذكر المستشفى الذي نزل فيه مريضا لفترة، وتحدث عن نواحي الشبه بينه وبين المكتب، فيما يتعلق بالمأكولات السرية، وبالأسرار عموما. ولكن كان الفارق أنه يحدث مرة كل فترة في المستشفى أن يأتوا ويقيدوك وينزعوا ثيابك ثم يوصلوا جسدك، كما قال، بمقبس النور. «كان ذلك مشوقا فعلا. الحقيقة أنه كان عذابا، ولكني لا أستطيع وصفه. هذا هو الجانب العجيب؛ أستطيع أن أتذكره ولا أستطيع وصفه!»
وبسبب تلك الأحداث في المستشفى، قال إنه كان يعاني درجة من قلة الذكريات، قلة التفاصيل. وراق له أن تحكي له لورنا عن ذكرياتها.
حكت له عن حياتها قبل أن تتزوج من بريندان؛ عن المنزلين المتطابقين تماما، والقائمين جنبا إلى جنب في البلدة التي نشأت فيها، وقبالتهما كان هناك مجرى عميق يسمى مصرف الصبغة؛ لأنه كان يستخدم لتصريف المياه الملونة بالصبغة من مصنع التريكو، ووراءهما كان هناك مرج النباتات البرية حيث يحظر على الفتيات أن يذهبن إليه. كانت تعيش مع أبيها في أحد المنزلين، وفي الآخر عاشت جدتها وعمتها بياتريس وابنة عمتها بولي.
كانت بولي بلا أب. ذلك ما كانوا يقولونه وما صدقته لورنا ذات مرة من قلبها. بولي بلا أب، على غرار قولنا إن القطة مانكس بلا ذيل.
في الغرفة الأمامية من بيت جدتها كانت هناك خريطة للأرض المقدسة، يتسم الصوف الذي صنعت منه بظلال عديدة، تستعرض المواقع الواردة في الكتاب المقدس. وقد أوصت جدتها بأن توهب بعد موتها لمدرسة الأحد الخاصة بالكنيسة المتحدة. لم يكن للعمة بياتريس أي حياة اجتماعية تتعلق برجل ما، منذ زمن عارها الذي محيت وصمته، وكانت صعبة الإرضاء للغاية، ينهشها حرص مستبسل على أسلوب الحياة القويم، بحيث كان من اليسير حقا الاعتقاد بأنها قد حبلت ببولي وهي عذراء بلا دنس. الشيء الوحيد الذي تعلمته لورنا من العمة بياتريس هو أن عليها دائما أن تضغط قطب الخياطة من الجنب، دون أن توسعها أكثر من اللازم، بحيث لا تظهر علامة المكواة عليها، وأيضا أنه يجب عدم ارتداء بلوزة شفافة القماش إلا بعد ارتداء ما يستر ما تحتها بحيث يخفي شرائط حمالة الصدر.
قال ليونيل: «آه، نعم، صحيح.» وفرد ساقيه كما لو أن امتنانه بالحكاية قد بلغ حتى أصابع قدميه. «ماذا عن حال بولي في هذا الجو المنزلي الظلامي؟ كيف كانت بولي نفسها؟»
بولي كانت على خير ما يرام، هكذا قالت لورنا. ممتلئة بالطاقة واجتماعية، طيبة القلب، واثقة من ذاتها.
قال ليونيل: «آه، احكي لي من جديد عن المطبخ.» «أي مطبخ؟» «ذلك الذي لا يوجد فيه كناري.» «مطبخنا!» وصفت له كيف فركت المطبخ كله بأوراق لف الخبز المشمعة لتجعله لامعا، الأرفف المسودة وراءه التي تحمل المقالي، الحوض والمرآة الصغيرة أعلاه التي بها قطعة مفقودة من أحد الأركان على شكل مثلث، والحوض القصديري الصغير من تحتها - الذي صنعه والدها - الذي كان فيه على الدوام مشط، ماسك الأقداح الساخنة القديم، علبة حمرة الوجه الجافة الصغيرة للغاية التي لا بد أنها كانت خاصة بأمها ذات يوم.
حكت له عن الذكرى الوحيدة التي تحتفظ بها عن أمها. كانت في وسط المدينة بصحبة أمها في يوم شتوي، كان هناك ثلج ما بين رصيف المشاة والشارع، وكانت قد تعلمت للتو قراءة الوقت، وتطلعت نحو ساعة مكتب البريد الكبيرة ورأت أنه قد حان وقت المسلسل الدرامي الممتد الحلقات التي كانت هي وأمها تستمعان إليه كل يوم عبر الراديو. شعرت بقلق عميق، ليس بسبب ضياع قصة المسلسل عليها؛ ولكن لأنها تساءلت عن مصير الأشخاص من أبطال القصة، والراديو مطفأ وهي وأمها لا تستمعان إليه. كان ما شعرت به أكثر من مجرد قلق، كان ذعرا، أن تفكر في الطريقة التي يمكن للأشياء بها أن تفقد، أو أن تمنع من الحدوث، لمجرد غياب طارئ أو مصادفة عابرة.
وحتى في تلك الذكرى، كانت أمها مجرد فخذ وكتف، بداخل معطف ثقيل.
قال ليونيل إن معرفته بوالده لا تزيد كثيرا عن تلك الدرجة من معرفتها بأمها، على الرغم من أن أباه ما زال حيا. حفيف ردائه الكهنوتي الأبيض؟ اعتاد ليونيل وأمه أن يتراهنا حول طول الفترات التي يمكن لأبيه أن يمضيها دون أن يتحدث إليهما. كان قد سأل والدته ذات مرة عما قد يثير غضبة أبيه، فأجابته بأنها حقا لا تدري!
قالت: «أظن أنه ربما لا يحب وظيفته.»
قال ليونيل: «ولماذا لا يجد لنفسه وظيفة أخرى؟» «ربما لا يمكنه التفكير في وظيفة يمكنه أن يحبها.»
ثم تذكر ليونيل حين اصطحبته أمه إلى المتحف وأثار مرأى المومياوات الذعر في نفسه، وأنها قد قالت له إنهم ليسوا بموتى حقا، ولكنهم لا يستطيعون الخروج من تلك الصناديق إلا حين ينصرف الجميع إلى بيوتهم. قال «أليس من الممكن أن يكون مومياء؟» حسبت أمه أنه قال «أم» وليس «مومياء». وفيما بعد رددت هذه القصة باعتبارها مزحة، وكان هو محبطا للغاية، في حقيقة الأمر، إلى درجة تمنعه من تصحيح خطئها، محبطا للغاية، في سنه المبكرة، حيال مشكلة التواصل الهائلة تلك.
كانت هذه من بين الذكريات القليلة التي بقيت معه.
ضحك بريندان على هذه القصة أكثر مما فعل كل من لورنا وليونيل. كان بريندان يجلس إليهما لبرهة، ويقول: «فيم تثرثران أنتما الاثنان؟» وبعد ذلك ينهض، بشيء من الارتياح كأنما قد أدى ما عليه في الوقت الراهن، قائلا إن لديه عملا ليقوم به، ويذهب إلى داخل المنزل، كما لو كان سعيدا بالصداقة التي نشأت بينهما، الصداقة التي تنبأ بها بطريقة ما وساهم في تحقيقها، غير أن حديثهما كان يثير ضجره.
كان قد قال للورنا: «من المفيد له أن يأتي إلى هنا ويصير إنسانا طبيعيا لفترة بدلا من أن يحبس نفسه في غرفته، وهو يشتهيك بكل تأكيد. المراهق المسكين!»
كان يروق له أن يقول إن الرجال تشتهي لورنا. وعلى الخصوص عند حضورهما حفلة من حفلات القسم الذي يدرس فيه، فتكون هي صغرى الزوجات هناك. كان يحرجها أن يسمعه أي شخص وهو يقول ذلك؛ خشية أن يظنوا في ذلك تزيدا أحمق أو أمنية مستترة. ولكن في بعض الأحيان، وخصوصا حين تكون ثملة قليلا، كان يثيرها ذلك جنسيا تماما كما يثير بريندان ؛ أن تكون موضع إعجاب ورغبة عامة هكذا. ومع ذلك، ففي حالة ليونيل كانت على يقين أن ذلك ليس صحيحا، وتمنت بشدة ألا يلمح بريندان بشيء من هذا في حضوره. تذكرت النظرة التي رنا بها إليها من وراء رأس أمه. كان ثمة تنصل ونفي، تحذير لطيف.
لم تطلع بريندان على مسألة القصائد. مرة كل أسبوع أو نحو ذلك كانت تصل إليها قصيدة محكمة الإغلاق في مظروفها، عن طريق البريد. لم تكن تلك القصائد بيد مجهول، بل موقعة باسم ليونيل. كان توقيعه مجرد خربشة غامضة، من الصعب حقا تبينه، ولكن هكذا أيضا كانت كل كلمة في كل قصيدة منها. لحسن الحظ، لم يكن هناك الكثير للغاية من الكلمات - أحيانا دستة أو دستتان إجمالا - تمتد على طول الصفحة، شاقة طريقا غريبا بلا انتظام، وكأنها مسارات طائر كثير التردد والحيرة. بنظرة أولى عجلى لم يكن بوسع لورنا أن تفهم أي شيء على الإطلاق؛ وجدت أن أفضل حل هو ألا تحاول بشدة أكثر من اللازم، وأن تمسك فقط بالورقة أمامها وتنعم النظر إليها مطولا وفي ثبات كما لو كانت قد سبحت في غشية. بعد ذلك غالبا ما كانت تتضح الكلمات وتظهر. ليس كلها - كانت هناك كلمتان أو ثلاث في كل قصيدة لا تستطيع أبدا فك شفرتها - ولكن ذلك لم يكن مهما للغاية. لم تكن هناك علامات ترقيم، وإنما شرطات صغيرة أفقية. كانت أغلب المفردات أسماء. لم يكن الشعر شيئا غريبا على لورنا، كما أنها لم تكن من النوع الذي يستسلم بسهولة أمام أي شيء لا تفهمه سريعا، ولكنها شعرت إزاء قصائد ليونيل تلك بما كانت تشعر به تقريبا إزاء الديانة البوذية مثلا؛ بأنها كانت منهلا مهما قد تصير قادرة على فهمه، والتزود منه، مستقبلا، ولكن لا يمكنها فعل ذلك في الوقت الراهن.
بعد أولى القصائد عذبها السؤال حول ما ينبغي عليها أن تقوله. شيء يدل على التقدير، ولكن ليس غبيا. كل ما تدبرته كان: «شكرا على القصيدة.» عندما كان بريندان أبعد من أن يسمعها. منعت نفسها من أن تقول: «استمتعت بها.» أومأ ليونيل برأسه إيماءة عصبية سخيفة، وأصدر همهمة تغلق باب الحديث تماما. تواتر وصول القصائد إليها، ولم يعودا إلى ذكرها مجددا. بدأت تفكر في أنها تستطيع اعتبارها قرابين، وليست رسائل، ولكنها ليست قرابين حب، كما قد يفترض بريندان مثلا. لم يكن فيها شيء يخص مشاعر ليونيل نحوها، لا وجود لشيء شخصي بالمرة. ذكرتها بتلك الانطباعات الخافتة التي يمكن أن تساور المرء أحيانا على الأرصفة في الربيع؛ ظلال ترمي بها أوراق الشجر المبتلة، والملتصقة بمواضعها منذ العام السابق.
كان هناك شيء آخر، أكثر إلحاحا، لم تتحدث حوله إلى بريندان، أو إلى ليونيل. لم تقل إن بولي ستأتي لزيارتها؛ فقد كانت بولي، ابنة عمتها، آتية من البيت الذي نشأتا فيه.
كانت بولي تكبر لورنا سنا بخمسة أعوام، وقد عملت منذ تخرجها من المدرسة الثانوية في البنك المحلي. سبق أن ادخرت ذات مرة المبلغ الذي يكفي تقريبا للقيام بهذه الرحلة، ولكنها قررت بدلا من ذلك أن تنفقه على مضخة لتصريف المياه المتجمعة تحت المنزل. لكنها الآن تسافر عبر البلد بالحافلة. بالنسبة إليها بدا ذلك بشكل أكبر أمرا طبيعيا ولائقا؛ أن تزور ابنة خالها وزوج ابنة خالها وعائلة ابنة خالها، أما بالنسبة إلى بريندان فيبدو العمل نفسه تطفلا واقتحاما، أو يكاد يكون هكذا يقينا، شيئا ليس من حق أي شخص القيام به إلا إذا تمت دعوته. لم يكن يبغض استقبال الزوار - فها هو ليونيل - ولكنه أراد أن ينتقيهم بنفسه. وكل يوم كانت لورنا تفكر كيف ستخبره، وكل يوم كانت تؤجل الأمر.
كما أن هذا الخبر لم يكن بالشيء الذي يمكنها أن تحدث ليونيل بشأنه؛ لا يمكنك التحدث معه حول أي شيء قد يعتبر بجدية مشكلة ما؛ فالتحدث عن المشكلات لا يعني إلا البحث عن حلول، أو التطلع في أمل إلى إيجاد الحلول. وهذا ليس مثار اهتمام، فهو لا يشير إلى موقف مشوق من الحياة، بل يوحي بالامتلاء بالرجاء، على نحو سطحي ومضجر. الهموم العادية، والعواطف البسيطة، لم تكن من الأمور التي يحب أن يعيرها آذانا مصغية. كان يفضل أن تكون الأمور محيرة تماما، تفوق الاحتمال، وفي الوقت نفسه - من قبيل المفارقة، بل الطرافة أيضا - كان يفضل لو أن من الممكن تحملها.
شيء واحد أخبرته به لم يكن مأمون العاقبة تماما؛ إذ أخبرته كيف أنها بكت يوم زفافها وفي أثناء طقوس إتمام الزفاف الفعلية. ولكنها كانت قادرة على أن تصنع من ذلك مزحة؛ لأنها استطاعت أن تحكي له كيف حاولت أن تسحب يدها من قبضة بريندان لتتناول منديلها، ولكنه لم يفلت يدها، فكان عليها أن تواصل تنشق مخاط أنفها. وحقيقة الأمر أنها لم تبك بسبب أنها لم ترغب في أن تتزوج، أو لأنها لم تكن تحب بريندان؛ بل بكت لأن كل شيء في بيتها حيث نشأت بدا فجأة لها عزيزا غاليا - على الرغم من أنها دائما ما خططت للرحيل - وبدا لها الناس فيه أقرب صلة إليها من أي شخص آخر قد تعرفه مطلقا، على الرغم من أنها كانت تخفي عنهم أفكارها الخصوصية. لقد بكت لأن بولي كانت قد ضحكت وهما تنظفان أرفف المطبخ وتفركان مشمع الأرضية في اليوم السابق على الزفاف، وتظاهرت هي بأنها في مسرحية عاطفية وقالت وداعا أيها المشمع القديم، وداعا يا شروخ إبريق الشاي، وداعا أيها الموضع الذي كنت ألصق فيه علكتي تحت المائدة، وداعا.
لم لا تقولين له أن ينسى الأمر وكفى؟ هكذا قالت لها بولي. لكنها بالطبع لم تكن تعني ذلك حقا، بل كانت فخورة، ولورنا نفسها كانت تشعر بالفخر، فهي في الثامنة عشرة من عمرها ولم يكن لها من قبل حبيب قط، وها هي تقترن برجل في الثلاثين ذي طلعة بهية، وأستاذ في الجامعة.
وعلى الرغم من ذلك، فقد بكت، وعاودها البكاء حين تلقت رسائل من أسرتها في الأيام الأولى من زواجها. ضبطها بريندان في هذه الحالة، وقال: «أنت تعشقين أسرتك، ألست كذلك؟»
أحست تعاطفا في كلامه، وقالت: «بلى.»
تنهد هو وقال: «أظن أن حبك لهم يفوق حبك لي.»
قالت إن هذا غير صحيح، كل ما هنالك أنها أحيانا كانت تشعر بالأسف نحو أفراد أسرتها. لقد مروا بأوقات عصيبة، ظلت جدتها تدرس لتلاميذ الصف الرابع سنة بعد أخرى، على الرغم من أن بصرها صار ضعيفا للغاية حتى كانت بالكاد ترى ما تكتبه على السبورة، أما عمتها بياتريس فقد حالت مشكلاتها العصبية العديدة بينها وبين الحصول على أي وظيفة، ووالدها - والد لورنا - كان يعمل في متجر أدوات ومعدات لم يكن حتى يمتلكه.
قال بريندان: «أوقات عصيبة؟ هل مروا بتجربة معسكر اعتقال؟»
ثم قال إن الناس بحاجة لأن يتحلوا بالنباهة والذكاء في هذا العالم. رقدت لورنا على فراش الزوجية، وأطلقت العنان لإحدى نوبات البكاء الغاضبة التي يخزيها الآن أن تتذكرها. بعد هنيهة، اقترب منها بريندان وطيب خاطرها، ومع ذلك ظل يعتقد أنها بكت كما تبكي النساء على الدوام عندما يعجزن عن الفوز في مجادلة بأي طريقة أخرى.
كانت لورنا قد نسيت بعض التفاصيل الخاصة بمظهر بولي. كم كانت طويلة! وكم كان عنقها ممتدا وخصرها نحيلا! وذلك الصدر الذي يكاد يكون مسطحا تماما. ذقن صغير غير مستو وفم معوج. بشرة شاحبة، وشعر مقصوص قصير بلون بني فاتح، ناعم كأنه ريش. بدت هشة وشجاعة معا، مثل أقحوانة نحيفة على ساق طويلة. كانت ترتدي تنورة جينز منفوشة وعليها تطريز.
لم يعلم بريندان بأمر قدومها إلا قبلها بثمانية وأربعين ساعة. كانت قد اتصلت هاتفيا بمكالمة على حساب المتلقي، من كالجاري، وكان هو من أجاب الاتصال. بعد ذلك كانت لديه ثلاثة أسئلة ليطرحها. كانت نبرة صوته مجافية، ولكن هادئة.
كم ستطول إقامتها؟
لماذا لم تخبريني؟
لماذا اتصلت بمكالمة على حساب المتلقي؟
قالت لورنا: «لا أدري.» •••
الآن من مكان لورنا في المطبخ حيث كانت تعد العشاء، كافحت لكي تسترق السمع لما كان يقول أحدهما للآخر. عاد بريندان للبيت قبل قليل. لم تستطع أن تسمع تحيته، ولكن صوت بولي كان عاليا ومفعما بمرح خطر. «وهكذا بدأت البداية الخطأ فعلا يا بريندان، انتظر حتى تسمع ما الذي قلته. كنت أنا ولورنا نسير في الشارع من محطة الحافلات وأنا أقول، يا إلهي، يا للروعة! هذا الحي الذي تعيشون فيه راق جدا يا لورنا، وبعد ذلك أقول، ولكن انظري إلى ذلك المكان، ما الذي يفعله هنا؟ قلت، إنه يبدو كأنه حظيرة ماشية!»
لم يكن بوسعها أن تختار بداية أسوأ من هذه. كان بريندان فخورا للغاية بمنزلهما؛ كان منزلا معاصرا، مبنيا على طراز الساحل الغربي المسمى بوست آند بيم (طراز معماري يعتمد بشدة على الأخشاب المتقاطعة في تصميمه). لم يكن يتم طلاء المنازل من طراز بوست آند بيم؛ فقد كانت الفكرة هي أن تكون متوافقة مع الغابات الأصلية الطبيعية. وهكذا كانت تعطي من الخارج انطباعا بالعادية وتأدية الغرض المباشر، بسقف مسطح وناتئ عن الجدران، أما بالداخل فقد كانت العوارض الخشبية مكشوفة دون أن تتم تغطية أي جزء من الأخشاب. كانت المدفأة في هذا المنزل مزودة بمدخنة حجرية تمتد صعودا حتى السقف، وكانت النوافذ طويلة وضيقة بلا ستائر. كان مقاول البناء قد أخبرهم أن هذا الطراز المعماري دائما ما يكون رفيع الشأن، وقد ردد بريندان قوله هذا، مع كلمة «معاصر» جنبا إلى جنب، عند تقديم المنزل لأي شخص للمرة الأولى.
لكنه لم يتجشم عناء أن يقول هذا لبولي، أو أن يخرج لها المجلة التي نشر فيها مقال حول هذا الطراز، مصحوب بالصور الفوتوغرافية، وإن لم تكن لهذا المنزل تحديدا. •••
جلبت بولي معها، من موطن نشأتهما، عادة استهلال جملها باسم الشخص الذي تخاطبه على وجه التحديد. كانت تقول «لورنا ...» أو «بريندان ...» كانت لورنا قد نسيت هذه الطريقة في الحديث، وبدت لها الآن قاطعة نوعا ما وفظة. عرفت لورنا أن بولي لم تكن تتعمد أن تكون فظة، وأنها كانت تبذل جهدا مزعجا وإن كان شجاعا لكي تبدو مرتاحة وعلى طبيعتها. وقد حاولت في البداية إشراك بريندان في حديثهما، حاولتا ذلك هي ولورنا كلتاهما، وقد انطلقتا في تفسيرات حول الشخص الذي كانتا تتحدثان عنه أيا كان، غير أن ذلك كان بلا جدوى. لم يتحدث بريندان إلا لينبه لورنا إلى شيء يحتاجه من فوق المائدة، أو ليشير إلى أن طفلهما دانيال قد سكب طعامه المهروس على الأرض حول مقعده المرتفع المخصص للأطفال.
واصلت بولي الحديث بينما كانتا تنظفان المائدة، ثم أثناء غسلهما الأطباق. عادة كانت لورنا تحمم الأطفال وتضعهم في أسرتهم قبل أن تشرع في غسل الأطباق، ولكنها الليلة كانت على درجة من التشوش والضيق - فقد أحست أن بولي على وشك أن تبكي - بحيث غفلت عن أداء المهام بترتيبها الملائم. تركت دانيال يزحف هنا وهناك على الأرض، أما إليزابيث فقد ظلت قريبة منهما للاستماع إلى الحديث؛ نظرا لاهتمامها بالمناسبات الاجتماعية والشخصيات الجديدة. استمر هذا إلى أن أسقط دانيال المقعد المرتفع الخاص به - لحسن الحظ لم يوقعه على نفسه، غير أنه صرخ من الذعر - فأتى بريندان من غرفة المعيشة.
قال: «يبدو أن موعد النوم قد تأجل!» بينما يأخذ ابنه من بين ذراعي لورنا، «إليزابيث. اذهبي واستعدي لأخذ حمامك.»
كانت بولي قد انتقلت من الحديث حول الناس في البلدة إلى وصف ما كان يجري من أمور في البيت. ليس خيرا؛ كان مالك متجر المعدات - وهو رجل كان والد لورنا دائما ما يتحدث عنه بوصفه صديقا وليس رب عمل - قد باع متجره دون التصريح بكلمة واحدة عما كان ينتويه إلى أن تم الأمر. وكان المالك الجديد يجري توسعا في المتجر في الوقت ذاته الذي كان يخسر فيه أمام سلسلة متاجر كنديان تاير، ولم يكن يمر يوم واحد دون أن يثير شجارا ما مع والد لورنا. كان والد لورنا يعود من المتجر في غاية من الإحباط بحيث كان كل ما يريد فعله هو الاستلقاء على الأريكة؛ لم يعد يهتم بالصحف أو الأخبار. كان يشرب فوار بيكربونات الصوديوم دون أن يتناقش مع أحد حول الآلام التي يشعر بها في معدته.
ذكرت لورنا رسالة من والدها كان قد هون فيها من تلك المتاعب.
قالت بولي: «حسنا، سيهون من أمرها طبعا، ألن يفعل معك أنت؟»
قالت بولي إن صيانة كلا المنزلين كانت كابوسا متواصلا، ولا بد لهم جميعا من الانتقال إلى أحد المنزلين وبيع الآخر، لكن الآن وقد تقاعدت الجدة من عملها صارت تشاكس والدة بولي طوال الوقت، كما أن والد لورنا لا يتحمل فكرة العيش مع الاثنتين. كثيرا ما أرادت بولي أن تخرج دون أن تعود أبدا، ولكن ماذا عساهم يفعلون من دونها؟
قالت لورنا: «لا بد أن تعيشي حياتك الخاصة!» بدا لها غريبا أن تنصح هي بولي.
قالت بولي: «نعم، طبعا، طبعا، كان علي أن أرحل حين كانت الأمور طيبة، ذلك ما أحسب أنه كان يتوجب علي فعله. ولكن متى كان ذلك؟ أنا لا أتذكر حتى سير الأمور على ما يرام. ظللت عالقة هناك حتى أتأكد من إنهائك للمدرسة أولا، هذا على سبيل المثال.»
تحدثت لورنا بصوت ينم عن الأسف والدعم، ولكنها أبت أن تتوقف عن عملها، من أجل أن تولي أنباء بولي ما تستحقه من انتباه. تقبلت الأخبار كما لو كانت تخص بعض أناس كانت تعرفهم وكانت تحبهم، ولكنها ليست مسئولة عنهم. فكرت في أبيها وهو مستلق على الأريكة في الأمسيات، يعالج نفسه من آلام لا يعترف بوجودها، وفي عمتها بياتريس في البيت المجاور، يأكلها القلق مما كان الناس يقولونه عنها، تخشى أنهم كانوا يضحكون عليها من وراء ظهرها، ويكتبون أشياء حولها على الجدران، وتبكي لأنها قد ذهبت إلى الكنيسة وحمالة صدرها ظاهرة للعيان. مجرد التفكير في البيت والمنشأ ومن فيه تسبب في إيلام لورنا، ولكنها لم تستطع أن تمنع نفسها من الشعور بأن بولي كانت تصب ذلك كلها على رأسها عامدة، وأنها تحاول أن تدفعها إلى الاستسلام، وأنها تدثرها ببعض البؤس العائلي الحميم، وقد عزمت أمرها على ألا تستسلم. «فقط انظري إليك. انظري إلى حياتك. حوض مطبخك من الصلب المقاوم للصدأ، ومنزلك مشيد على طراز رفيع الشأن.»
قالت بولي: «إذا حدث وتركتهم الآن ورحلت، أعتقد أنني لن أجني إلا شعورا هائلا بالذنب. لا يمكنني احتمال ذلك؛ سأشعر بذنب هائل لو تركتهم.» «وبالطبع هناك بعض الأشخاص لا يشعرون بالذنب مطلقا. بعض الأشخاص لا يشعرون مطلقا .» •••
قال بريندان، حين كانا راقدين جنبا إلى جنب في الظلام: «حصلت على حكاية كلها كرب وبؤس.»
فقالت لورنا: «هذا ما في عقلها.» «فقط تذكري أننا لسنا من أصحاب الملايين.»
جفلت لورنا لقوله. «إنها لا تريد مالا.» «حقا؟» «ليس لهذا السبب كانت تحكي لي ذلك.» «لا تكوني واثقة أكثر من اللازم.»
ظلت راقدة متصلبة الجسد. لم تجبه بشيء؛ وعندئذ فكرت في شيء قد يعدل من مزاجه المتعكر. «لن تمكث هنا لأكثر من أسبوعين.»
أتى دوره لكيلا يجيبها بشيء. «ألا ترى أنها لطيفة المظهر؟» «بلى.»
كانت على وشك أن تخبره بأن بولي كانت هي من صنعت لها فستان الزفاف. كانت قد خططت أن تتزوج مرتدية تاييرها الكحلي، ولكن بولي قالت، قبل الزفاف بأيام معدودة: «لن يحدث هذا.» وهكذا أخرجت ثوبها الخاص بحفلات المدرسة الثانوية (كانت بولي على الدوام أكثر شعبية من لورنا، وكانت تذهب إلى الحفلات الراقصة)، وأضافت إليه وصلات من شرائط مزركشة بيضاء، وخاطت فيه كمين من الشيفون المزركش؛ لأن الطير يحتاج لجناحين أبيضين حتى يطير، هكذا قالت.
ولكن ما الذي قد يكترث له بشأن ذلك؟ •••
كان ليونيل قد سافر لبضعة أيام؛ تقاعد والده عن العمل، وكان ليونيل يساعده في الانتقال من البلدة التي تقع في سلاسل روكي الجبلية إلى جزيرة فانكوفر. في اليوم التالي على وصول بولي، تلقت لورنا رسالة منه. ليست قصيدة بل رسالة حقيقية، على الرغم من أنها كانت في غاية الإيجاز.
حلمت بأنني آخذك في جولة على دراجتي. كنا منطلقين بسرعة شديدة. لم يبد أنك خائفة، ومع ذلك ربما كان عليك أن تخافي. يجب ألا نشعر بأننا مطالبين بتفسير لهذا الحلم.
غادر بريندان المنزل مبكرا، كان يدرس في المدرسة الصيفية، وقال إنه سيتناول الإفطار في الكافيتريا. خرجت بولي من غرفتها بمجرد أن انصرف هو. ارتدت سروالا بدلا من تنورتها المكشكشة، وراحت تبتسم طوال الوقت، كما لو كان بفعل مزحة تخصها وحدها. ظلت تراوغ برأسها تجنبا لعيني لورنا.
قالت: «من الأفضل أن أخرج وأرى شيئا ما من فانكوفر . بما أنه يبدو غالبا أنني لن آتي إلى هنا مرة أخرى.»
وضعت لورنا بعض علامات على خريطة، وقدمت لها التوجيهات اللازمة، وقالت لها إنها آسفة لأنها لا تستطيع مرافقتها، ولكن مع وجود الأطفال سيكون الخروج مجرد متاعب لا داعي لها. «أوه، لا. لم أتوقع منك أن تصحبيني؛ فلم آت إلى هنا كي أشغلك طوال الوقت.»
استشعرت إليزابيث توترا في الجو المحيط. قالت: «لماذا نسبب متاعب؟»
منحت لورنا غفوة مبكرة لدانيال، وحين استيقظ وضعته في عربة الأطفال وأخبرت إليزابيث بأنهم ذاهبون إلى أحد الملاعب. الملعب الذي اختارته لم يكن ذلك الموجود في متنزه قريب، بل كان في سفح التل، بجوار الشارع الذي يعيش فيه ليونيل. كانت لورنا تعرف عنوانه، على الرغم من أنه لم يسبق لها بالمرة أن رأت المنزل. كانت تعلم أنه كان منزلا، وليس شقة. كان يعيش في غرفة واحدة، بالطابق العلوي.
لم يستغرق منها الوصول إلى هناك وقتا طويلا، على الرغم من أن العودة سوف تستغرق وقتا أطول بلا شك، حين ستدفع عربة الصغير صعودا على التل. لكنها كانت قد مرت سابقا إلى الجزء الأقدم من شمال فانكوفر، حيث المنازل أصغر حجما، وتجثم على مساحات صغيرة. المنزل الذي يعيش ليونيل فيه كان اسمه مكتوبا عليه بجوار أحد الأجراس، واسم بي هاتشيسن على الجرس الآخر. كانت تعرف أن السيدة هاتشيسن هي مالكة العقار. قرعت الجرس.
قالت: «أعلم أن ليونيل ليس موجودا وأنا آسفة على إزعاجك، ولكني أعرته كتابا، وهو كتاب مستعار من مكتبة عامة، والآن فات موعد إرجاعه، وكنت أتساءل فقط إذا كان بوسعي أن ألقي نظرة سريعة على شقته لأرى إن كان يمكنني العثور عليه.»
قالت مالكة العقار: «أوه!» كانت سيدة مسنة بعصبة تحيط برأسها وبقع سوداء كبيرة على وجهها. «أنا وزوجي صديقين لليونيل. كان زوجي أستاذا له في الجامعة.»
لطالما كانت عبارة «أستاذ جامعة» ذات نفع. صار المفتاح في يد لورنا. أوقفت عربة الصغير في ظل المنزل وأخبرت إليزابيث أن تنتبه لدانيال.
قالت إليزابيث: «هذا ليس ملعبا !» «سأصعد فقط للأعلى وأعود فورا. دقيقة واحدة فقط، اتفقنا؟»
كان في طرف غرفة ليونيل مختلى محفور في الجدار وموقد غاز بشعلتين ودولاب ثياب خشبي. لا ثلاجة ولا حوض ماء، عدا ذلك الموجود في المرحاض. كانت المصاريع المعدنية مسدلة حتى منتصف النافذة، وعلى الأرضية مربع من مشمع غطي نقشه بطلاء بني اللون. كانت هناك رائحة ضعيفة لموقد الغاز، ممتزجة برائحة ثياب ثقيلة لم تتعرض للتهوية، وعرق، وبعض مزيل للاحتقان برائحة الصنوبر، وقد قبلت بذلك المزيج على أنه الرائحة الحميمة الخاصة بليونيل دون أن تمعن التفكير في الأمر تقريبا، ودون أن تنفر من الرائحة بالمرة.
فيما عدا ذلك، لا يكاد المكان يقدم أي مفاتيح أو أمارات. لم تأت إلى هنا من أجل أي كتاب مستعار من مكتبة، بالطبع، ولكن لتكون - ولو للحظة - داخل المساحة التي يعيش فيها، تتنفس هواءه، تنظر من نافذته. كان المنظر بالخارج لمنازل أخرى، غالبا مثل هذا المنزل مقسمة إلى شقق صغيرة، تقوم على المنحدر ذي الأشجار لجبل جراوس. كانت الطبيعة المجردة للغرفة، التي تفتقد للشخصية الخاصة، تمثل تحديا صارما. سرير، مكتب، منضدة، مقعد؛ هي فقط قطع الأثاث الواجب توافرها بحيث يمكن الإعلان عن غرفة مؤثثة للإيجار. حتى مفرش السرير بلون الكاكاو الفاتح ومن قماش الشانيل لا بد أنه كان موجودا عندما انتقل إلى الغرفة. لا وجود لصور - ولا حتى لتقويم للأيام - والأكثر إدهاشا، لا وجود لأي كتب.
لا بد أن الأشياء مخبأة في مكان ما. في أدراج المكتب؟ لا تستطيع أن تبحث. ليس فقط لأنه لا يوجد وقت كاف لذلك - يمكنها سماع إليزابيث تنادي عليها من باحة المنزل - ولكن أيضا لأن ذلك الغياب ذاته لأي شيء قد يعد ذا صبغة شخصية قد جعل وعيها بليونيل أكثر قوة وحضورا. ليس فقط الوعي بتقشفه وبأسراره، ولكن باليقظة والحرص؛ بدا الأمر كما لو كان قد نصب لها فخا وكان ينتظر ليرى ماذا ستفعل.
لم يكن إجراء المزيد من الاستقصاء هو ما تريد حقا القيام به، بل أن تجلس على الأرض، في منتصف مربع مشمع الأرضية. أن تجلس لساعات لا لكي تطيل النظر إلى هذه الغرفة بقدر ما تغرق بداخلها. أن تبقى في هذه الغرفة حيث لا وجود لأحد يعرفها ولا أحد يريد منها شيئا. أن تبقى هنا لوقت طويل، وتصير أكثر رهافة وأكثر خفة، خفيفة مثل إبرة. •••
في صبيحة يوم السبت، كان من المفترض أن يسافر كل من لورنا وبريندان والطفلين بالسيارة إلى بينتكتن؛ إذ دعاهم أحد الطلاب المتخرجين إلى حفل زفافه. وسيمكثون هناك ليلة السبت وطوال يوم الأحد وليلته كذلك، ويعودون إلى المنزل صباح الإثنين.
قال بريندان: «هل أخبرتها؟» «لا بأس في ذلك. إنها لا تتوقع أن نصحبها معنا.» «ولكن هل أخبرتها؟»
قضوا يوم الخميس على شاطئ آمبلسايد. ذهبت إلى هناك لورنا وبولي والطفلان بالحافلات، حيث بدلوا الحافلة مرتين، وهم مثقلون بما يحملون من مناشف، وألعاب الشاطئ، والحفاضات، والغداء، ودولفين إليزابيث المنفوخ بالهواء. تلك الأعباء البدنية التي تورطتا فيها، وكذلك ما أثاره مرأى فرقتهما الصغيرة من اضطراب وتوتر في المسافرين الآخرين، كل هذا أدى بهما إلى رد فعل أنثوي شديد الغرابة؛ حالة مزاجية أقرب إلى المرح غير المبالي. كما كان من المفيد الابتعاد عن المنزل حيث كانت لورنا متوجة كزوجة. بلغتا الشاطئ بإحساس بالانتصار والفوضى المشعثة، ثم نصبتا مخيمهما، ومنه كانتا تتناوبان على النزول إلى المياه، ومراقبة الصغار، وجلب المشروبات الخفيفة، والحلوى والبطاطس المقلية.
لوحت الشمس بشرة لورنا بسمرة طفيفة، أما بولي فلا شيء بالمرة. فردت ساقها بجانب ساق لورنا وقالت: «انظري إلى تلك، عجينة لم تختمر.»
قالت لها إنها مع كل ما عليها من عمل في المنزلين، إلى جانب وظيفتها في البنك، لا يمكنها أن تجد ولو ربع ساعة تكون فيها بلا مشاغل تقضيها جالسة في الشمس. لكنها كانت تتحدث الآن بنبرة إقرار الواقع، دون أن تتلون نبرتها بالفضيلة والتشكي. كان ذلك الغلاف الحامض الذي يحيط بها - مثل خرق مطبخ قديمة - يتساقط متقشرا عنها. كانت قد عرفت كيف تشق سبيلها في أنحاء فانكوفر بمفردها؛ المرة الأولى التي تفعل فيها ذلك في مدينة. تحدثت إلى غرباء على محطات الحافلات، وسألت عن المعالم التي لا بد لها أن تراها، وبناء على نصيحة أحدهم استقلت المصعد المعلق حتى قمة جبل جراوس.
وبينما كانتا راقدتين على الرمال قدمت لورنا تفسيرا واجبا. «هذا وقت سيئ من العام بالنسبة إلى بريندان. التدريس في المدرسة الصيفية يدمر أعصابه حقا، يكون عليه أن ينجز الكثير بسرعة بالغة.»
قالت بولي: «حقا؟ ليس الأمر بسببي إذن؟» «لا تكوني غبية. بالطبع ليس بسببك.» «حسنا، طمأنت قلبي. ظننت أنه يكرهني كره العمى.»
وبعد ذلك تحدثت عن رجل في البلد كان يريد أن يرافقها ويخرجان معا. «إنه في غاية الجدية؛ فهو يبحث لنفسه عن زوجة. أظن أن بريندان كان كذلك أيضا، لكني أظن أنك كنت تحبينه.»
فقالت لورنا: «كنت وما زلت.» «حسنا، لا أظن أنني أحب هذا الرجل.» كانت بولي تتحدث ووجهها مضغوط في مرفقها، «أظن الأمر قد يفلح مع ذلك، إذا مالت المرأة نوعا ما لشخص لا بأس به، وخرجت معه وعقدت نيتها أن ترى الجوانب الطيبة فيه.» «ما هي الجوانب الطيبة إذن؟» قالت لورنا وهي تعتدل جالسة بحيث يمكنها مراقبة إليزابيث التي تركب على دولفينها المنفوخ. «أمهليني قليلا حتى أجد شيئا منها.» هكذا قالت بولي وهي تقهقه، «لا، الحقيقة هناك الكثير منها. أنا أسخف منه فحسب.»
بينما كانتا تلملمان الألعاب والمناشف قالت بولي: «أنا جديا لا أمانع من تكرار هذا المشوار كله غدا مرة أخرى.»
فقالت لورنا: «ولا أنا، ولكن علي أن أتجهز للسفر إلى أوكاناجان. نحن مدعوون إلى هذا الزفاف.» جعلت الأمر يبدو كأنه مهمة منزلية ثقيلة، شيء لم تهتم بالحديث عنه حتى الآن لأنه كان كريها ومضجرا للغاية.
فقالت بولي: «أوه. حسنا، ربما آتي إلى هنا بمفردي إذن.» «طبعا، فلتفعلي ذلك.» «أين تقع أوكاناجان؟» •••
في هذا المساء ذاته، وبعد إرقاد الطفلين ليناما، ذهبت لورنا إلى الغرفة التي كانت بولي تنام فيها. ذهبت هناك لكي تخرج حقيبة سفر من الخزانة، متوقعة أن تكون الغرفة خالية؛ إذ حسبت أن بولي ما زالت في الحمام، تخفف من حرقة شمس النهار بالجلوس في الماء الفاتر والصودا.
غير أن بولي كانت في الغرفة، والملاءة ملمومة من حولها وكأنها كفن. «خرجت من الحمام» هكذا قالت لورنا، وكأنها وجدت هذا كله عاديا تماما. «كيف حال حروق بشرتك الآن؟»
قالت بولي بصوت مكتوم: «أنا بخير.» أدركت لورنا في الحال أنها كانت على الأغلب لا تزال تبكي. وقفت هناك عند طرف الفراش، غير قادرة على مغادرة الغرفة. استحوذ عليها إحباط كان أقرب إلى غثيان، موجة تقزز. لم تكن بولي حقا تقصد أن تواصل الاختباء، التفتت ونظرت بعيدا بوجهها كله منكمشا وعاجزا، ومحمرا من الشمس، وببكائها. انحدرت من عينيها دموع جديدة. كانت كومة من البؤس، اتهاما واحدا صلدا. «ما الأمر؟» قالت لورنا وهي تتظاهر بالاندهاش، تتظاهر بالتعاطف. «أنتما لا تريدانني.»
كانت عيناها مصوبتين نحو لورنا طوال الوقت، طافحتين بالدموع، ولكن أيضا طافحتين بمرارتها والاتهام بالغدر، لكن إلى جانب مطالبتها إياها في غضب وإلحاح بأن تضمها إليها، أن تهدهدها وتطمئنها.
كانت لورنا توشك أن تضربها. أي حق لك؟ هكذا أرادت أن تقول. لماذا تتشبثين بي كالعلقة المتطفلة؟ أي حق لك؟
العائلة. العائلة تمنح بولي ذلك الحق. لقد ادخرت مالها وخططت لهروبها، بافتراض أن لورنا ينبغي أن تأويها وتنصرها. أذلك صحيح؟ أتكون قد حلمت بالبقاء ها هنا دون أن تضطر إلى الرجوع أبدا؟ وأن تصير جزءا من حظ لورنا السعيد، ومن عالم لورنا المتحول الجديد؟ «ماذا ترين أنني أستطيع فعله؟» قالت لورنا في قسوة تامة، فاجأتها هي نفسها: «أتظنين أن لي أي سلطة؟ إنه لم يعطني قط أكثر من ورقة بعشرين دولارا في المرة الواحدة.»
سحبت حقيبة السفر إلى خارج الغرفة.
كان الأمر كله زائفا ورخيصا ومقززا؛ أن تستعرض حسراتها الخاصة على هذا النحو، فقط لتجاري بها حسرات بولي. ثم ما علاقة العشرين دولارا بأي شيء مما يجري؟ كان لديها حساب جار، ولن يرفض مطلقا أن يمنحها ما تطلب.
لم تستطع الخلود للنوم، وراحت تعنف بولي وتوبخها في مخيلتها. •••
جعلت حرارة أوكاناجان الصيف يبدو أكثر واقعية وأصالة من الصيف على الشاطئ. التلال بعشبها الشاحب، والظل المتناثر الشحيح لأشجار الصنوبر في الأراضي الجافة، بدا هذا خلفية طبيعية لحفل زفاف بهيج بمئونته التي لا تنفد من شراب الشامبانيا، ورقصه ومغازلاته والصداقة والمودة اللتين تنعقدان في لمح البصر. سرعان ما ثملت لورنا وتعجبت إزاء مقدار سهولة الفكاك، بفضل الكحول، من أسر أطيافها وهواجسها. تصاعد البخار البائس متبددا، وخلدت إلى الفراش وهي لا تزال ثملة، وميالة للفحش، وهو ما صب في مصلحة بريندان. حتى خمار رأسها في اليوم التالي من بقايا سكر بدا معتدلا، مطهرا أكثر منه معاقبا. شاعرة بهشاشتها، ولكن من غير أي غضب على نفسها بالمرة، رقدت على شاطئ البحيرة وراقبت بريندان وهو يعاون إليزابيث في بناء قلعة من الرمال.
سألتها: «هل كنت تعرفين أنني أنا ووالدك التقينا لأول مرة في حفل زفاف؟»
قال بريندان: «لكنه لم يكن يشبه هذا الزفاف مع ذلك.» كان يقصد أن ذلك الزفاف الذي قد حضره، عند زواج صديق له من ابنة آل ماكويج (كانت أسرة ماكويج أرفع وأثرى العائلات في بلدة لورنا)؛ كان حفلا جافا بمعنى الكلمة؛ إذ تم الاستقبال في قاعة الكنيسة المتحدة - كانت لورنا إحدى الفتيات اللاتي اخترن لتقديم الشطائر للضيوف - وكان المدعوون يتناولون شرابهم على عجل، في موقف السيارات. لم تعتد لورنا على شم رائحة الويسكي على الرجال، فظنت أن بريندان قد أفرط في وضع نوع غريب من دهان الشعر. وعلى الرغم من ذلك، فقد أعجبت بكتفيه المكتنزتين، وعنقه الثخينة مثل رقبة الثور، وبعينيه الضاحكتين الآمرتين بلونهما البني المذهب. حين علمت أنه كان معلما يدرس الرياضيات، وقعت في غرام ما يوجد بداخل رأسه كذلك. أثارت حماستها المعرفة المجهولة التي يحوذها رجل كان غريبا عنها تماما. وربما لو كانت معرفته تخص ميكانيكا السيارات لكان لها نفس التأثير كذلك.
آنذاك بدا انجذابه المتجاوب إليها أشبه بالمعجزات، غير أنها علمت فيما بعد أنه كان يبحث عن زوجة؛ فقد بلغ سن الاقتران، كان الوقت قد حان. رغب في فتاة شابة، لا واحدة من زميلاته، أو طالبة، ربما حتى ليست فتاة ممن قد يرسلها والداها إلى إحدى الكليات بعد المرحلة الثانوية. بريئة، لم تفسدها الحياة. ذكية، ولكن بريئة. زهرة برية، هكذا قال في حرارة تلك الأيام الأولى، وأحيانا يقولها حتى الآن. •••
في رحلة عودتهما، خلفوا وراءهما الريف الذهبي الحار، في موضع ما بين كيرميوس وبرينستون، غير أن الشمس لم تزل ساطعة، وساور عقل لورنا اضطراب خافت متردد، مثل شعرة تسقط في محيط بصرها من الممكن إبعادها باليد، أو يمكن أن تطير مختفية عن النظر من تلقاء ذاتها.
لكن تلك الشعرة ظلت تعود مرة بعد أخرى، وازدادت شؤما وضغطا عليها، حتى انبثقت واضحة أمامها فأدركت ما كانت عليه في الحقيقة.
كانت تخشى - بل كانت نصف متيقنة - أن بولي قد أقدمت على الانتحار في مطبخ منزلهم في شمال فانكوفر، بينما كانوا هم بعيدا في أوكاناجان.
في المطبخ. كانت الصورة في خيال لورنا لا لبس فيها ولا ريب؛ رأت بكل تحديد الطريقة التي ستنفذ بها بولي الأمر. سوف تشنق نفسها وراء الباب الخلفي مباشرة. عندما يعودون سيدخلون إلى المنزل من المرأب، وسوف يجدون الباب مغلقا؛ سيفتحونه بالمفتاح ويحاولون أن يدفعوه لينفتح ولكنهم لن يستطيعوا بسبب ثقل جثة بولي من ورائه. سيلتفون حول المنزل مهرعين إلى الباب الأمامي، وهكذا يدخلون المطبخ فيواجهون بالمنظر الكامل لبولي ميتة. سوف ترتدي الجيبة الجينز المكشكشة والبلوزة البيضاء بفتحة صدر تضم بشريطين؛ نفس طقم الملابس الشجاع الذي ظهرت به أول مرة لتمتحن كرم ضيافتهما. ساقاها الطويلتان الشاحبتان تتدليان للأسفل، رأسها ملتو على عنقها النحيل بما يوحي بالقضاء المحتوم، وأمام جسدها سيكون هناك مقعد المطبخ الذي صعدت عليه، ثم خطت أو وثبت من فوقه، لترى كيف يمكن للبؤس أن ينهي نفسه بنفسه.
وحدها في منزل أشخاص لا يريدونها، حيث الجدران ذاتها والنوافذ والقدح الذي شربت فيه قهوتها، كل ذلك يبدو أنه يزدريها.
تذكرت لورنا وقتا ما حين تركت بمفردها مع بولي، ليوم واحد فقط تركوها في رعاية بولي ، في بيت جدتهما. ربما كان والدها في المتجر، ولكن كانت لديها فكرة بأنه هو أيضا قد سافر، أن الثلاثة الكبار جميعهم غادروا البلدة. لا بد أنها كانت مناسبة غير اعتيادية، بما أنهم لم يذهبوا قط في رحلات للتسوق، فضلا عن رحلات بغرض المتعة. جنازة، لا شك تقريبا أنها كانت جنازة. كان يوم سبت، ولم تكن هناك مدرسة. كانت لورنا أصغر من سن المدرسة على أي حال. لم يكن شعرها طال بما يكفي لجدله في ضفائر؛ كان أشعث في خصلات كبيرة حول رأسها، كما هو شعر بولي الآن.
كانت بولي تمر بمرحلة كانت تحب فيها أن تحضر بنفسها حلوى وأطعمة غنية من أي نوع، مسترشدة بكتاب الطبخ الخاص بجدتها. كيك الشوكولاتة بالبلح، البيتي فور، والنوجا المنفوشة الطرية. في ذلك اليوم كانت في وسط عملية خلط المقادير معا عندما اكتشفت أن بعض المقادير التي تحتاج إليها غير متوافرة في خزانة المطبخ. كان عليها أن تركب دراجتها إلى وسط البلد، لتجلب ما تحتاجه من المتجر. كان الطقس باردا كثير الرياح، والأرض جرداء، لا بد أن الفصل كان أواخر الخريف أو أوائل الربيع. قبل أن تذهب، قامت بولي بإغلاق المدفأة في إحكام، ومع ذلك راودتها حكايات سمعتها حول أطفال أحرقوا منازلهم تماما حين تركتهم أمهاتهم من أجل قضاء مشاوير سريعة مشابهة. وهكذا طلبت من لورنا ارتداء معطفها، وأخذتها إلى الخارج، في ركن ما بين المطبخ والجزء الأساسي من المنزل، حيث لم تكن الريح بالغة الشدة. لا بد أن المنزل المجاور كان مغلقا، وإلا كانت أخذتها إلى هناك. أخبرتها أن تبقى حيث هي، وانطلقت بدراجتها إلى المتجر. ابقي في مكانك، لا تتحركي ولا تخافي، هكذا قالت لها، ثم قبلت أذن لورنا. أطاعتها لورنا حرفيا. لعشر دقائق، أو ربما لخمس عشرة، بقيت جاثمة وراء شجيرة الليلك الأبيض، تدرس أشكال الأحجار، الداكنة والبيضاء، تحت أساس المنزل. إلى أن عادت بولي مسرعة ورمت بالدراجة في الباحة وراحت تنادي باسمها، لورنا، لورنا، وهي تلقي بكيس السكر البني وعين الجمل ثم تقبلها في كل موضع من رأسها. كانت قد ساورتها فكرة أنه ربما عثر أحد المختطفين المترصدين على لورنا في ركنها، أحد أولئك الرجال الأشرار الذين كانوا السبب وراء وجوب عدم اقتراب البنات من الحقول التي تقع وراء المنازل. كانت تصلي وتدعو الله طوال طريق عودتها ألا يحدث هذا. لم يحدث هذا. أسرعت في همة بإدخال لورنا للبيت حتى تدفئ يديها وركبتيها المكشوفتين.
آه، يا للكفين الصغيرتين المسكينتين! هكذا قالت. آه، هل كنت خائفة؟ أحبت لورنا هذه الضجة من أجلها وأحنت رأسها لتمسد بولي عليه، وكأنها كانت فرسا صغيرة.
اختفت أشجار الصنوبر لتظهر مكانها الغابة الأكثف الدائمة الخضرة، وحل محل الكتل البنية للتلال جبال ناهضة ذات لون يتأرجح بين الأخضر والأزرق. بدأ دانيال يئن متذمرا فأخرجت لورنا زجاجة العصير الخاصة به. فيما بعد طلبت من بريندان إيقاف السيارة بحيث يمكنها أن ترقد الصغير على المقعد الأمامي وتغير له حفاضته. بينما تقوم هي بهذا سار بريندان مبتعدا، مدخنا سيجارة. دائما ما كانت تسوءه قليلا طقوس تغيير الحفاضات.
انتهزت لورنا الفرصة كذلك لكي تستخرج كتب قصص إليزابيث، وحين استقر وضعهم من جديد أخذت تقرأ للطفلين. كان أحد كتب د. سويس، وكانت إليزابيث تحفظ جميع الأناشيد، وحتى دانيال كان يعرف إلى حد ما متى يدندن بكلماته الملفقة.
لم تعد بولي تلك الفتاة ذاتها التي فركت كفي لورنا الصغيرتين بين يديها، الفتاة التي تعرف كل الأشياء التي لم تكن لورنا تدري عنها شيئا، والتي يمكن الاعتماد عليها لرعايتها في هذا العالم. انقلب كل شيء إلى نقيضه، وبدا أن بولي قد بقيت كما هي خلال السنوات التي مرت منذ زواج لورنا؛ لقد مضت لورنا وتجاوزتها. والآن كان لدى لورنا هذان الطفلان في المقعد الخلفي وعليها رعايتهما ومحبتهما، وليس من اللائق لامرأة في سن بولي أن تأتي إليهم مطالبة بنصيبها من الرعاية والمحبة.
لم يكن من المجدي أن تفكر لورنا في هذا. ما إن صاغت حجتها على هذا النحو حتى شعرت بالجسد يرتطم بالباب وهم يدفعونه محاولين فتحه. الثقل الميت، الجسد الرمادي. جسد بولي، التي لم تعط أي شيء على الإطلاق. لم تجد لها مكانا في الأسرة، ولا وجدت الأمل في التغيير الذي حلمت ولا بد بأنه وشيك في حياتها.
قالت إليزابيث: «الآن اقرئي قصة مادلين.»
فقالت لورنا: «لا أظن أنني أحضرت معي قصة مادلين، لا، لم أحضرها. دعي عنك هذه، أنت تحفظينها كلمة كلمة.»
انطلقت هي وإليزابيث معا.
في منزل قديم في باريس تغطيه الكروم
كانت تعيش اثنتا عشرة فتاة في صفين متجاورين.
في صفين متجاورين كن يأكلن
ويغسلن أسنانهن، ويذهبن إلى أسرتهن ...
هذه حماقة، هذه ميلودراما بائسة، هذا إحساس بالذنب. لن يحدث هذا.
غير أن مثل تلك الأمور تحدث. يتداعى بعض الأشخاص، لم يتلقوا العون في الوقت المناسب. أو لا يتلقون أي عون مطلقا. بعض الأشخاص يلقون إلى الظلام.
وفي منتصف الليل
أضاءت آنسة كلافيل النور
وقالت: «هناك شيء غير مضبوط ...»
قالت إليزابيث: «أمي، لماذا توقفت؟»
قالت لورنا: «رغما عني، دقيقة واحدة. جف ريقي.» •••
في منطقة هوب تناولوا شطائر الهمبرجر وشراب اللبن المخفوق. ثم واصلوا طريقهم حتى وادي فريزر، وقد نام الطفلان في المقعد الخلفي. ما زال أمامهم بعض الوقت حتى يصلوا إلى تشيليواك، حتى يبلغوا آبوتسفورد، حتى تظهر أمامهم تلال نيو وستمنستر والتلال الأخرى المتوجة بالمنازل؛ بشائر المدينة. ما زالت أمامهم جسور يعبرونها، ومنعطفات يتخذونها، وشوارع يجتازونها، ونواص يمرون بها. كل هذا كان في وقت سابق، ولن ترى أيا من هذا إلا في وقت لاحق.
عندما دخلوا إلى متنزه ستانلي خطر لها أن تصلي وتبتهل. كانت هذه وقاحة خالصة؛ الصلاة الانتهازية لغير المؤمن. الغمغمة بقول: لا تدعه يحدث، لا تدعه يحدث، لا تدعه يكون قد حدث فعلا.
كانت سماء النهار لا تزال صافية دونما سحب، ومن فوق جسر ليونز جيت تطلعا إلى مضيق جورجيا.
قال بريندان: «هل يمكنك رؤية جزيرة فانكوفر اليوم؟ انظري أنت فأنا لا أستطيع.»
أدارت لورنا رقبتها لتنظر فيما وراءه.
قالت: «من بعيد. باهتة تماما ولكنها مرئية.»
وعند رؤيتها تلك الهضاب الزرقاء تبتعد وتعتم تدريجيا إلى أن ذابت صورتها تقريبا وبدت كأنها تطفو فوق سطح البحر، فكرت في شيء واحد كان في استطاعتها أن تقوم به؛ أن تقايض شيئا بشيء. وقد آمنت أن هذا ما زال ممكنا، حتى آخر لحظة سيبقى ممكنا أن تقوم بمقايضة.
لا بد أن تكون مقايضة ذات شأن، أن يكون ذلك الوعد أو العرض الذي تقدمه نهائيا وموجعا لأقصى حد. أن تقول: فلتأخذ هذا. أنا أعد بهذا. فقط إذا لم يكن ما تتخيله صحيحا، فقط إذا تبين أنه لم يحدث قط.
لا، ليس طفليها. انتزعت تلك الفكرة بعيدا على الفور كما لو كانت تنتزعهما من قلب النيران. وليس بريندان، لسبب معاكس؛ إنها لم تحبه بما يكفي. كان يمكنها أن تقول إنها قد أحبته، وتكون صادقة إلى حد معين، وأرادت أن يحبها هو، ولكن كان ثمة طنين خافت من الكراهية يواصل سريانه بمحاذاة حبها جنبا إلى جنب، طوال الوقت تقريبا؛ لذا سيكون من العيب المستهجن - ومن غير المجدي كذلك - أن تضحي به في أي مقايضة.
هي نفسها؟ مظهرها؟ صحتها؟
خطر لها أنها ربما تكون على المسار الخطأ؛ ففي حالة مثل هذه، ربما لا يكون الخيار في يد المرء. ليس من حقك أن تضع الشروط. لا تعرف بالشروط إلا حين تواجهها، ولا بد أن تعد باحترامها، دون أن تدري ما الذي ستكون عليه. فلتعد.
لكن لا شيء له صلة بالطفلين.
صعدوا على طريق كابيلانو، ثم دخلوا إلى ناحيتهم من المدينة حيث الركن الخاص بهم من العالم، حيث تتخذ حياتهم وزنها الحقيقي ويكون لأفعالهم تبعات وعواقب. هناك كانت الجدران الخشبية لمنزلهم، معاندة، تظهر عبر الأشجار. •••
قالت لورنا: «الباب الأمامي سيكون أسهل، هناك لن نصعد أي درج.»
فقال بريندان: «وما البأس في درجتين أو ثلاث؟»
صاحت إليزابيث: «لم أر الجسر بالمرة.» وقد استيقظت تماما فجأة وهي محبطة. «لماذا لم توقظاني لأرى الجسر؟»
لم يجبها أحد.
قالت: «ذراع دانيال كله حروق من الشمس.» بنبرة رضا غير كامل.
سمعت لورنا أصواتا اعتقدت أنها كانت صادرة عن باحة المنزل المجاور لبيتهم. تبعت بريندان نحو زاوية المنزل. استرخى دانيال على كتفها وهو ما زال مثقلا بالنعاس. حملت حقيبة الحفاضات وحقيبة كتب الأطفال، وحمل بريندان حقيبة السفر.
رأت أن الأشخاص الذين سمعت أصواتهم كانوا في الباحة الخلفية لمنزلها هي؛ بولي وليونيل. كانا قد سحبا مقعدين من مقاعد المرج قريبا بحيث يمكنهما الجلوس في الظل، مولين ظهريهما للمنظر.
ليونيل. كانت قد نسيته تماما.
وثب قائما وركض ليفتح لهم الباب الخلفي. «وها قد عادت الحملة الاستكشافية بجميع الأعضاء المعنيين.» هكذا قال بصوت لم تظن لورنا أنها قد سمعته يصدر عنه من قبل. كانت فيه حرارة طليقة من القلب، طمأنينة وثقة مواتيتان. صوت صديق العائلة. بينما أمسك الباب مفتوحا أمامها، نظر نحو وجهها مباشرة - وهو شيء لم يفعله قبل ذلك قط تقريبا - وابتسم لها ابتسامة قد زال عنها كل الرهافة، والتكتم، والتواطؤ الساخر، وكذلك زال عنها ذلك التعبد الغامض. زالت التعقيدات كلها، والرسائل الخصوصية كلها.
جعلت من صوتها صدى لصوته. «إذن، متى عدت؟»
قال: «يوم السبت، كنت نسيت أنكم ستسافرون. أتيت إلى هنا من العمل مباشرة لألقي عليكم التحية ولم تكونوا هنا، لكن بولي كانت هنا وبالطبع أخبرتني فتذكرت.» «ما الذي أخبرتك به بولي؟» هكذا قالت بولي، وهي تقترب من ورائه. لم يكن هذا سؤالا حقا، ولكنه ملاحظة نصف مشاكسة لامرأة تعرف أن أي شيء تقريبا تقوله سوف يستقبل استقبالا حسنا.
كانت حروق الشمس على بشرة بولي قد تحولت إلى طبقة من السمرة، أو على الأقل إلى تورد جديد، على جبينها وعنقها. «هات عنك.» قالت للورنا، وهي تريحها من الحقيبتين اللتين كانت تحملهما على ذراعها، وكذلك زجاجة العصير الفارغة في يدها. «سآخذ كل شيء عدا الصغير.»
كان شعر ليونيل اللين المنبسط قد استحال لونه الآن إلى أسود مائل للبني وليس أسود تماما - بطبيعة الحال؛ فقد كانت تراه لأول مرة في نور الشمس المكتمل - وكانت بشرته هو أيضا مسفوعة بسمرة الشمس، بما فيه الكفاية لأن يفقد جبينه إشراقه الشاحب . كان يرتدي السروال الداكن المعتاد، غير أن قميصه لم يكن مألوفا لها. قميص أصفر قصير الكمين، مصنوع من قماش رخيص براق يحتاج إلى كي شديد، وأوسع من اللازم عند كتفيه، ربما اشتراه من معرض تخفيضات السلع القديمة الخاص بالكنيسة. •••
حملت لورنا دانيال إلى غرفته بالأعلى. أرقدته في مهده ووقفت إلى جواره تصدر أصواتا ناعمة وتمسد ظهره.
فكرت أن ليونيل بلا شك يعاقبها على خطئها بالذهاب إلى غرفته. لا بد أن صاحبة البيت قد أخبرته. كان على لورنا أن تتوقع ذلك، لو أنها توقفت لتفكر قليلا. لم تتوقف لتفكر، على الأرجح، لأنه قد خطر لها أن ذلك غير مهم. وربما تكون قد فكرت أنها سوف تخبره بنفسها. «مررت بمنزلك في طريقي إلى ملعب الصغار وخطرت لي فكرة أن أدخل وأن أجلس في منتصف أرضية غرفتك. ليس لدي تفسير للأمر. بدا الأمر وكأنه سوف يمنحني دقيقة من السلام والسكينة، أن أكون في غرفتك وأن أجلس في منتصف أرضيتك.»
فكرت - بعد رسالته؟ - أن ثمة رابطة تجمع بينهما، رابطة لا مجال للتصريح بها، ولكن من الممكن الاعتماد عليها والوثوق بها. وكانت على خطأ، فقد أخافته. أفرطت في وضع الافتراضات. كان قد انصرف عنها وهناك كانت بولي؛ فبسبب إساءة لورنا إليه اندفع إلى مودة بولي دون تفكير.
لكن ربما لم يكن الأمر كذلك، ربما تغير بكل بساطة. فكرت في غرفته الجرداء إلى حد خارق للمألوف، في الضوء على جدرانها. من ذلك التجريد والعراء قد تخرج تلك النسخ المتغيرة منه، نسخ تخلق دونما جهد وفي طرفة عين. وقد يكون ذلك استجابة لشيء اتخذ مسارا خاطئا بقدر قليل، أو استجابة لغاية لم يستطع أن يدركها. أو دونما شيء محدد وواضح؛ وإن هي إلا طرفة العين.
عندما استغرق دانيال في النوم الفعلي نزلت إلى الطابق الأرضي. في الحمام وجدت أن بولي قد غسلت الحفاضات جيدا ونقعتها في سطل، وغطتها بالمحلول الأزرق الذي يعقمها. تناولت حقيبة السفر التي كانت موضوعة في منتصف أرض المطبخ، وحملتها للأعلى ووضعتها على الفراش الكبير، وفتحتها لتفرز الثياب وتعرف أيها بحاجة للغسيل وأيها يمكن إعادته لموضعه.
كانت نافذة هذه الغرفة تطل على الباحة الخلفية. سمعت أصواتهم؛ كان صوت إليزابيث مرتفعا، يكاد يكون صارخا من الحماسة والبهجة للعودة إلى البيت، وربما لما تبذله من جهد للاحتفاء بانتباه جمهورها الذي ازداد عدده، وصوت بريندان كذلك كان متسلطا ولكن مبتهجا، وهو يروي كيف كانت رحلتهم.
اقتربت من النافذة وأطلت للأسفل. رأت بريندان يتوجه إلى سقيفة التخزين، ويفتح بابها، ويبدأ في جر حوض سباحة الأطفال. كان الباب يتأرجح منغلقا عليه، فأسرعت بولي لتمسكه من أجله.
نهض ليونيل وذهب ليفك الخرطوم الملفوف. لم يخطر لها أنه كان يعرف حتى موضع ذلك الخرطوم.
قال بريندان شيئا ما لبولي. يشكرها؟ من يراهما يظن أنهما متوافقان على خير ما يرام.
ولكن كيف حدث ذلك؟
لعل الأمر أن بولي قد صارت الآن جديرة بالاعتماد والثقة، ما دام ليونيل قد اختارها. صارت اختيار ليونيل، وليس عبئا تفرضه عليه لورنا.
أو أن بريندان كان سعيدا بكل بساطة؛ لأنهم ابتعدوا عن البيت لبعض الوقت. ربما يكون قد أسقط عن كاهليه ولو لبرهة عبء الحفاظ على نظام العائلة والبيت. ولعله قد رأى، عن حق تماما، أن بولي التي تبدلت هذه لا تمثل أي تهديد.
مشهد عادي للغاية ومدهش للغاية، وكأنه ظهر بفعل السحر. الجميع سعداء.
بدأ بريندان ينفخ إطار الحوض البلاستيكي. كانت إليزابيث قد خلعت ثيابها عدا سروالها الداخلي، وأخذت ترقص في الأرجاء نافدة الصبر. لم يهتم بريندان حتى بأن يطلب منها أن تجري لتلبس ثوب السباحة، وأن يخبرها أن سروالها الداخلي هذا غير مناسب. فتح ليونيل صنبور المياه، وإلى أن يصير الحوض جاهزا لملئه بالماء وقف يروي أزهار أبو خنجر، مثل أي رب بيت. تحدثت بولي إلى بريندان فسد الفجوة التي كان ينفخ منها الحوض ليغلقها، ممررا إليها كومة البلاستيك شبه المسطحة تقريبا.
تذكرت لورنا أن بولي كانت هي من نفخت الدولفين البلاستيك على الشاطئ. وكما قالت عن نفسها فإن نفسها طويل. كانت تنفخ في ثبات ومواصلة ودون أن يبدو عليها أي مجهود. وقفت هناك في سروالها القصير، وساقاها المكشوفتان متباعدتان بصلابة، ببشرة تومض كأنها سعف النخيل. وكان ليونيل يراقبها. هذا ما أحتاج إليه بالضبط، لعل هذا ما يقوله لنفسه. يا لها من امرأة متمكنة ولبيبة، طيعة لكن صلبة! امرأة غير تافهة أو حالمة أو ساخطة. وفكرت أنه قد يكون من نوع ذلك الشخص الذي سوف يتزوج ذات يوم، زوجة يمكنها أن تمسك بزمام الأمور، ثم سيتغير هو ويتغير من جديد، وربما يقع في غرام امرأة أخرى، في طريقه، ولكن الزوجة ستكون مشاغلها كثيرة للغاية بحيث لن تلحظ ذلك.
قد يحدث ذلك، بولي وليونيل، أو قد لا يحدث. ربما ترجع بولي إلى المنزل وفق الخطة، وإذا فعلت ذلك فلن يكون هناك أي انفطار للفؤاد. أو أن ذلك ما فكرت فيه لورنا. ستتزوج بولي، أو لا تتزوج، ولكن أيا كان ما سيحدث، فإن الأشياء التي تجري لها مع الرجال لن تكون هي ما يفطر فؤادها.
وفي وقت وجيز صارت حواف الحوض البلاستيكي منتفخة وملساء. أنزلوا الحوض على العشب، ووضعوا الخرطوم بداخله، وراحت إليزابيث تنثر المياه بقدميها. تطلعت للأعلى نحو لورنا كما لو كانت تعلم أنها كانت هناك طوال الوقت. «باردة» صاحت في نشوة. «ماما، المياه باردة.»
الآن تطلع نحوها بريندان ولورنا كذلك. «ما الذي تفعلينه لديك؟» «أفرغ الحقيبة.» «ليس عليك أن تفعلي ذلك الآن. هيا اخرجي وتعالي.» «سأخرج. دقيقة واحدة.»
منذ أن دخلت المنزل - بل في الحقيقة، منذ أن تبينت لأول وهلة أن الأصوات التي سمعتها كانت صادرة عن باحتها الخلفية، وأنها كانت أصوات بولي وليونيل - لم تفكر لورنا في الرؤية التي ساورتها، ميلا بعد ميل، لبولي المشنوقة التي ترتطم بالباب الخلفي. فاجأها هذا الآن كما يفاجأ المرء أحيانا، بعد يقظته بوقت طويل، عند تذكره حلما زاره. كان لتلك الرؤيا ما للحلم من تأثير مقنع ومخز. وكانت عديمة النفع كالحلم كذلك.
ليس في الوقت نفسه تماما، ولكن بطريقة متوانية متلكئة، عادت إليها ذكرى مقايضتها. فكرتها البدائية الواهنة والعصابية حول إجراء مقايضة.
ولكن ما الذي كانت قد وعدت به؟
لا شيء يخص الطفلين.
أهو شيء يخصها هي؟
وعدت بأن تفعل أي شيء ينبغي عليها فعله، عندما تتبين ما هو.
كان ذلك تحوطا، كانت مقايضة لا يمكن اعتبارها مقايضة، وعدا ليس له أي معنى على الإطلاق.
غير أنها كانت قد جربت احتمالات متنوعة. فعلت ذلك كما لو أنها تقريبا كانت تصيغ هذه القصة لتحكيها لشخص ما - ليس ليونيل الآن - ولكن لشخص ما، على سبيل التسلية.
أن تقلع عن قراءة الكتب.
أن ترعى أطفالا من أسر مفككة ومن بلدان فقيرة؛ أن تجتهد في علاجهم من الجراح والإهمال.
أن تذهب إلى الكنيسة؛ أن تذعن للإيمان بالله.
أن تقص شعرها قصيرا، وأن تتوقف عن وضع مساحيق زينة الوجه، ألا تعود أبدا إلى رفع نهديها بحمالة صدر ذات أسلاك.
جلست على السرير، وقد أنهكتها كل هذه الحركة، وهذا الشرود الذي لا محل له من الإعراب. •••
الأمر المعقول أكثر مما عداه هو أن تكون المقايضة التي عليها أن تجريها هي أن تواصل العيش كما كانت تعيش. كانت المقايضة سارية المفعول من قبل. أن تتقبل ما قد كان وأن تدرك بوضوح ما قد يكون. الأيام والسنوات والمشاعر ستكون هي ذاتها بقدر كبير، عدا أن الطفلين سيكبران، وربما يكون هناك طفل آخر أو طفلان آخران، يكبران كذلك، أما هي وبريندان فسوف تتقدم بهما السن ومن ثم يشيخان.
لم يسبق لها حتى الآن، ليس قبل هذه اللحظة، أن رأت بمثل هذا الوضوح أنها كانت تعول على حدوث شيء ما، شيء قد يغير حياتها. كانت قد قبلت زواجها باعتباره تغييرا واحدا كبيرا، ولكن ليس باعتباره التغيير الأخير.
إذن، لا شيء الآن عدا ما يمكن لها أو لأي شخص أن يستشرفه بكل عقل واتزان. كانت سعادتها هي مربط الفرس، كانت هي ما قد قايضت به. لا يوجد شيء سري، أو غريب.
انتبهي لهذا، فكرت. طاف بها خاطر درامي أن تجثو راكعة على ركبتيها. هذا أمر جاد.
نادت إليزابيث من جديد. «ماما، تعالي إلى هنا.» تبعها الآخرون - بريندان وبولي وليونيل، أحدهم بعد الآخر - ينادونها، ويغيظونها ويشاكسونها. «ماما.» «ماما.» «تعالي إلى هنا.» •••
مضى وقت طويل للغاية منذ أن جرى هذا. هناك، في شمالي فانكوفر، حين كانوا يعيشون في منزل من طراز بوست آند بيم. عندما كانت في الثانية والعشرين من عمرها، وجديدة على فن المقايضة.
ما نتذكره
في غرفة فندق في فانكوفر، تلبس ميريل، المرأة الشابة، قفازها الصيفي الأبيض القصير. ترتدي ثوبا من الكتان البيج، وتضع على شعرها وشاحا أبيض خفيفا. كان لها شعر أسود في ذلك الحين. تبتسم لأنها تذكرت شيئا قالته سيريكيت ملكة تايلاند، أو اقتبسته كمقولة، في إحدى المجلات. اقتباس في داخل اقتباس، شيء قالت الملكة سيريكيت إن بالماين قد قاله. «لقد علمني بالماين كل شيء. قال لي: «ارتدي دائما قفازات بيضاء. إنها الأفضل».»
إنها الأفضل. ماذا في ذلك يجعلها تبتسم؟ يبدو الأمر همسة نصح في غاية النعومة، مثل حكمة نهائية وسخيفة. كانت يداها في القفازين رسميتين، ولكن رقيقتي المظهر مثل مخالب هرة.
يسألها بيير عن سر ابتسامتها، تقول: «لا شيء.» ثم تخبره.
يقول: «ومن هو بالماين؟» •••
كان يتأهبان للذهاب إلى جنازة. أتيا إلى هنا ليلة أمس بالعبارة (المعدية) من منزلهما في جزيرة فانكوفر، حتى يتأكدا من وصولهما في الموعد المحدد لطقس المأتم المقام في الصباح. كانت المرة الأولى التي ينزلان فيها في فندق منذ ليلة زفافهما. حين كانا يسافران آنذاك لقضاء إجازة، كانا يصحبان دائما طفليهما، وكانا يبحثان عن الأنزال الصغيرة الرخيصة الأسعار المعدة لاستقبال الأسر.
كانت هذه هي الجنازة الثانية فقط التي يحضرانها بوصفهما زوجا وزوجة. كان والد بيير متوفى، وكانت أم ميريل متوفاة، غير أن حالتي الوفاة هاتين قد جرتا قبل أن يلتقي بيير وميريل. العام الماضي مات فجأة أحد معلمي مدرسة بيير، وأقاموا له مأتما لا تشوبه شائبة، مع جوقة من تلاميذ المدرسة وعبارات نشيد دفن الموتى التي تعود للقرن السادس عشر. كان الرجل في منتصف العقد السابع من عمره، فبدا موته لكل من ميريل وبيير أمرا ليس مفاجئا، وبالكاد محزنا. فكما اتفقا في الرأي، ليس ثمة فارق كبير بين أن يموت المرء في الخامسة والستين أو الخامسة والسبعين أو الخامسة والثمانين.
جنازة اليوم كانت شأنا آخر. كان جوناس هو من سيدفن. كان أقرب أصدقاء بيير لسنوات وفي نفس سنه؛ تسعة وعشرين عاما. نشأ بيير وجوناس معا في غربي فانكوفر، يمكنهما تذكرها في الفترة السابقة على إنشاء جسر ليونز جيت، حين كانت تبدو مثل بلدة صغيرة. ربطت الصداقة بين أهليهما كذلك. حين بلغا من العمر إحدى عشر أو اثني عشر عاما تعاونا في بناء قارب تجديف وانطلقا من لسان دانداريف لرسو القوارب. في الجامعة افترقت صحبتهما لفترة، كان جوناس يدرس الهندسة، في حين التحق بيير بقسم الدراسات الكلاسيكية، وكان طلاب الفنون وطلاب الهندسة يتبادلان الازدراء بحكم المتعارف عليه، غير أنه في غضون سنوات منذ ذلك انبعثت الحياة في صداقتهما إلى حد ما. كان جوناس، الأعزب، يأتي لزيارة بيير وميريل، وأحيانا كان يقيم معهما لأسبوع في الزيارة الواحدة.
كان هذان الشابان يندهشان مما جرى في حياتيهما، ويتخذانه مادة للمزاح. كان جوناس هو من بدا اختياره لتخصصه مطمئنا لنفس والديه، وقد أثار حسدا صامتا لدى والدي بيير، ومع ذلك فقد كان بيير هو من تزوج وحصل على عمل في مجال التدريس وتحمل مسئوليات الرجال العادية، في حين أن جوناس، بعد إنهاء الجامعة، هو من لم يستقر قط على فتاة أو وظيفة. كان على الدوام في فترة اختبار بطريقة ما لم تنته به قط إلى تثبيت قدميه في أي شركة؛ أما الفتيات - على الأقل بحسب ما يقوله هو - فقد كن دائما في فترة اختبار معه بطريقة ما. آخر وظيفة له في مجال الهندسة كانت في الجانب الشمالي من الإقليم، وقد ظل مقيما هنالك لفترة بعد أن استقال أو فصل منها. كتب لبيير يقول: «تم إنهاء الوظيفة بموافقة الطرفين.» وأضاف أنه كان يقيم في فندق، حيث يقيم جميع أبناء الطبقة العليا، وأنه قد يجد له وظيفة مع طاقم يعمل في تقطيع الأخشاب من الغابات وشحنها. كما كان يتعلم قيادة الطائرات، متأملا احتمال أن يصير طيار غابات. كان قد وعد أن يأتي لزيارتهما حين تنقضي العراقيل المالية الراهنة.
تمنت ميريل ألا يحدث ذلك؛ كان جوناس ينام على أريكة غرفة الجلوس وفي الصباح يرمي بالأغطية أرضا فتضطر هي لرفعها ولمها، وكان يبقي بيير ساهرا حتى منتصف الليل ليتحدثا عن أشياء وقعت حين كانا مراهقين، أو حتى أصغر سنا. كان الاسم الذي ينادي به بيير هو «بول البئر»، اسم شهرة من تلك السنوات، وكان يشير إلى الأصدقاء القدامى الآخرين ب «الحوض النتن» أو «الدون» أو «الريشة»، ولا يدعوهم أبدا بأسمائهم الحقيقية التي طالما سمعتها ميريل؛ ستان أو دون أو ريك. كان يستدعي، بتحذلق فج، تفاصيل أحداث لم ترها ميريل على أي درجة من التميز أو الطرافة (كيس مملوء بغائط الكلاب يتم إحراقه على عتبة باب بيت معلم المدرسة؛ مضايقة وفضح العجوز الذي كان يعرض على الصبية خمسة سنتات لإنزال سراويلهم)، وكان ضيقها يتنامى إذا ما تحول الحديث إلى الوقت الحاضر.
حين اضطرت إلى إبلاغ بيير بوفاة جوناس ساورها الأسف والارتعاد. كانت آسفة لأن جوناس لم يرق لها، وارتعدت لأنه كان أول شخص يموت يعرفانه معرفة وثيقة، وفي نفس محيط سنهما. غير أن بيير لم يبد عليه الاندهاش أو أنه تلقى صدمة على نحو خاص.
قال: «انتحار؟»
فقالت كلا، بل حادثة. كان يقود دراجة نارية، بعد حلول الظلام، على طريق مفروش بالحجارة، فانحرف خارج الطريق. عثر عليه أحدهم، أو ربما كان معه، أتت النجدة على الفور، ولكنه توفي في غضون ساعة. كانت إصاباته قاتلة.
ذلك ما قالته أمه، على الهاتف، كانت إصاباته قاتلة. بدا من صوتها وكأنها قد تمالكت نفسها بسرعة للغاية، وأبعد ما تكون عن الاندهاش. تماما كما كان بيير حين قال: «انتحار؟»
بعد ذلك لم يكد يتحدث بيير وميريل عن الوفاة ذاتها، فقط عن الجنازة، عن غرفة الفندق، عن الحاجة لجليسة أطفال لليلة كاملة. كان ينبغي تنظيف بدلته، وتحضير قميص أبيض. كانت ميريل هي من قامت بالترتيبات، وظل بيير يتفقد ما تفعله بطريقة زوجية معتادة. فهمت أنه تمنى منها أن تتمالك نفسها وتتحلى بطابع عملي واقعي، كما كان هو، وألا تدعي إحساسها بأي أسف هو متأكد من أنها لا تشعر به حقا. سألته لماذا قال «انتحار»؟ وأجابها: «ذلك ما خطر على بالي.» شعرت بأن مراوغته لها كانت نوعا من الإنذار، بل التوبيخ، كما لو كان يستريب في أنها تستمد من هذا الموت - أو من قربهما من هذا الموت - شعورا مشينا وأنانيا؛ تحمسا مهندما، ومرضيا.
في تلك الأيام، كان الأزواج الشباب يتسمون بالصرامة. قبل وقت قصير فقط، كانوا خطابا، أشخاصا مكرسين للمرح فقط تقريبا، تدفع محنهم الجنسية ركبهم للارتجاف ذعرا وإلحاحا يائسا. أما الآن، بعد أن استقروا وثبتت أقدامهم، فقد صاروا أشخاصا عنيدين كثيري الاستهجان؛ يغادرون إلى العمل كل صباح، بذقن حليقة جيدا، ورقاب فتية تحيط بها أربطة العنق المعقودة، يقضون أيامهم في مشاق مجهولة، ثم يعودون للبيت في وقت العشاء لينظروا بعين الانتقاد نحو وجبة المساء وليفتحوا الصحيفة، ويرفعوها فتحول بينهم وبين فوضى المطبخ، والأوجاع والعواطف، والأطفال الصغار. ما أكثر ما يتوجب عليهم تعلمه بسرعة شديدة! كيف يتملقون رؤساءهم في العمل وكيف يسيرون زوجاتهم، كيف يسيطرون في حزم وثقة على كل من أقساط الرهن العقاري، والحوائط، وجز عشب باحة المنزل، وتسليك أنابيب الصرف، وأمور السياسة، بجانب الاهتمام بوظائفهم التي يجب أن تحفظ لهم أسرهم على مدى فترة ربع القرن التالية. كانت النساء إذن هن من يستطعن التسلل بعيدا عن ذلك كله - خلال ساعات النهار، ودائما ما يترك لهن تحمل المسئولية الخلابة التي ألقيت عليهن، فيما يخص شأن الأطفال - فيرجعن بهذا إلى نوع من المراهقة الثانية. تروق الروح ويعتدل المزاج حين يغادر الأزواج. تمرد حالم، تجمعات للتخريب، نوبات ضحك كانت كأنها ارتداد إلى أيام المدرسة الثانوية، يتفجر هذا كله بداخل الجدران التي كان الزوج هو من يدفع ثمنها، وتحديدا في خلال الساعات التي يغيب عنها.
دعي بعض الحاضرين حين انقضت الجنازة للعودة إلى منزل والدي جوناس في دانداريف. كانت أزهار الأزاليا على السياج مزدهرة ونضرة، كلها بألوان الأحمر والقرنفلي والأرجواني. أبدى الناس مجاملاتهم لوالد جوناس على الحديقة.
قال: «لا أدري، كان علينا أن نحسن مظهرها في شيء من العجلة.»
قالت والدة جوناس: «أخشى أن هذا لا يعتبر غداء حقيقيا. مجرد لقمة بسيطة.» كان أغلب الحاضرين يشربون نبيذ الشيري الإسباني، ومع ذلك فقد تناول بعض الرجال الويسكي. مدت صحاف الطعام على المائدة الطويلة لغرفة الطعام؛ شطائر السلمون الصغيرة والبسكويت المملح، وكعكات الفطر الصغيرة، ولفائف السجق، وكعكة الليمون الخفيفة والفاكهة المقطعة وبسكويت اللوز المهروس، بجانب شطائر الجمبري ولحم الخنزير المقدد والخيار بالأفوكادو. كوم بيير كل شيء فوق طبقه الصيني الصغير، وسمعت ميريل أمه تقول له: «كما تعرف، يمكنك دائما أن تعود لتأخذ حصة ثانية من الطعام.»
لم تعد والدته تعيش في غربي فانكوفر حاليا، ولكنها أتت من وايت روك لحضور الجنازة. ولم تكن واثقة كل الثقة بشأن توجيه توبيخ مباشر إلى ابنها بيير وقد صار الآن معلما ورب أسرة.
قالت: «أم أنك تظن أنه لن يتبقى منها شيء؟»
قال بيير بغير اكتراث: «ربما لن يتبقى شيء مما أريده.»
خاطبت أمه ميريل: «ما ألطف ثوبك!» «نعم، لكن انظري.» قالت ميريل ذلك وهي تسوي التجاعيد التي تكونت وهي جالسة في أثناء مراسم الجنازة.
قالت والدة بيير: «تلك هي المشكلة.» «ما هي المشكلة؟» قالت والدة جوناس ذلك في بشاشة، وهي تضع بعض الكعكات المملحة على صفحة الطعام الدافئة.
قالت والدة بيير: «تلك هي مشكلة الكتان. لقد كانت ميريل تقول لي توا كيف تجعد ثوبها (لم تقل: «في أثناء مراسم الجنازة»)، وكنت أقول لها إن تلك هي مشكلة الكتان.»
ربما لم تكن والدة جوناس تنصت. قالت وهي تنظر عبر الغرفة: «ذلك هو الطبيب الذي أشرف على حالته. لقد أتى من سميثرز بطائرته الخاصة. حقا، رأينا في هذا طيبة بالغة.»
قالت والدة بيير: «تلك مجازفة فعلا.» «نعم. حسنا. أحسبه يتحرك دائما بتلك الطريقة، لرعاية من يصابون بسوء في الغابات.»
كان الرجل الذي يتكلمان عنه يتبادل الحديث مع بيير. لم يكن يرتدي بدلة كاملة، وإن كان يرتدي سترة لا بأس بها، فوق بلوفر له ياقة عالية.
قالت والدة بيير: «أظن أن الأمر كذلك.» فردت والدة جوناس: «نعم.» وشعرت ميريل كما لو أن شيئا ما - حول طريقته في الملبس؟ - قد اتضح واستقر فيما بينهما.
نظرت للأسفل نحو مناديل المائدة، التي كانت مطوية طيات مربعة. لم تكن مناديل كبيرة للغاية مثل تلك الخاصة بحفلات العشاء، ولا صغيرة للغاية مثل تلك الخاصة بحفلات الكوكتيل. كانت منتظمة في صفوف متداخلة بعضها في بعض، بحيث يكون طرف كل منديل (الطرف المزخرف بوردة صغيرة للغاية، إما زرقاء وإما وردية وإما صفراء) مشتبكا في الطرف المطوي للمنديل المجاور له. لم يكن هناك منديلان متلامسان ولهما نفس لون الوردة في الطرف المزخرف. لم يقدم أحد على إرباكها، وإن فعلوا - ذلك لأنها رأت بضعة أشخاص في الغرفة يحملون مناديل مائدة - فقد كانوا يلتقطون مناديل من الموجودة في نهاية الصف وبطريقة حريصة بحيث يبقى هذا النسق دون مساس.
في مراسم الجنازة، كان القس قد قارن حياة جوناس على الأرض بحياة الجنين في الرحم. قال إن الجنين لا يدري شيئا عن أي وجود آخر، ويقيم في كهفه الدافئ المعتم المائي، دون أن يحظى بأهون لمحة عن العالم المشرق العظيم الذي سوف يشق سبيله إليه عما قريب. وإننا على الأرض لدينا لمحة عن ذلك، ولكننا غير قادرين حقا على تخيل الضوء الذي سندخل إليه بعد أن نمر بسكرات الموت. إذا ما تم إبلاغ الجنين بطريقة ما عما سيحدث له في المستقبل القريب، أفلن يتشكك، ويخاف كذلك؟ وهكذا نفعل نحن أيضا، أغلب الوقت، ولكن ليس علينا ذلك؛ ذلك لأننا قد تلقينا عهدا مؤكدا. وعلى الرغم من ذلك، فإن عقولنا العديمة البصيرة لا يسعها أن تتخيل، لا يسعها أن تتصور ذلك الذي سوف نعبر إليه. يتدثر الطفل في جهله، في الإيمان بوجوده العاجز الأبكم، أما نحن ممن لا نجهل كل الجهل ولا نعلم كل العلم، فلا بد لنا أن نحرص على أن نتدثر بإيماننا، إيماننا بعالم الرب.
تطلعت ميريل ناظرة نحو القس، وكان واقفا في مدخل الرواق وفي يده كأس النبيذ الإسباني، يعير أذنه لامرأة مفعمة بالحيوية ذات شعر أشقر منفوش. لم يبد لها أنهما كانا يتحدثان عن سكرات الموت المبرحة وعن النور الذي نخرج إليه بعدها. ماذا عساه أن يصنع لو مشت إليه وأثارت هذا الموضوع معه؟
لا أحد يملك الجرأة، أو الخلق الفظ، لفعل ذلك.
بدلا من ذلك نظرت نحو بيير وطبيب الغابات. كان بيير يتحدث بهمة وحماسة صبيانية لم يعد يرى متحليا بها كثيرا تلك الأيام، أو لم تعد ميريل تراه كذلك كثيرا. أخذت تشغل نفسها بأن تتظاهر بأنها تراه للمرة الأولى، الآن. كان شعره المموج القصير، بلونه شديد السواد، ينسحب للخلف من عند صدغيه، كاشفا عن جلده الناعم العاجي بلمسة طفيفة من اللون الذهبي. كتفاه عريضتان وحادتان، وأطرافه طويلة رشيقة، ولرأسه جمجمة صغيرة ولكن لطيفة الشكل مع ذلك. كانت ابتساماته خلابة، لكن غير مبتذلة، وبدا أنه لم يعد يثق في التبسم بالمرة منذ أن صار معلما للصبية. ارتسمت على جبينه خطوط مرهفة من هموم مقيمة.
تذكرت إحدى حفلات طاقم التدريس - مضى عليها أكثر من عام - حين وجدت نفسها معه على جانبين متقابلين من الغرفة، منهمكين في المحادثات التي تجري بالقرب منهما. دارت في الغرفة حينذاك واقتربت منه دون أن يلحظ، ثم بدأت تتحدث إليه كما لو كانت امرأة غريبة عليه أتت لتغازله في حيطة وتكتم. ابتسم هو كما كان يبتسم الآن - ولكن مع فارق، كما هو الحال الطبيعي عند التحدث إلى امرأة لعوب تنصب له شركا - وراح يجاريها في التمثيلية الصغيرة. تبادلا نظرات مشحونة وعبارات مبتذلة حتى غلبهما الضحك هما الاثنين. ثم اقترب منهما شخص ما وقال لهما إن النكات الزوجية غير مسموح بها. «وما الذي يجعلك تظن أننا متزوجان حقا؟» هكذا قال له بيير، الذي غالبا ما يكون متحفظا للغاية في مسلكه خلال مثل تلك الحفلات.
اجتازت الغرفة إليه الآن دون أن يكون في ذهنها أي حماقة من هذا القبيل، كان عليها أن تذكره بأن عليهما بعد قليل أن يتخذا طريقين منفصلين. سيقود هو السيارة إلى خليج هورس شو ليلحق بالعبارة التالية، أما هي فسوف تعبر نورث شور نحو لين فالي مستقلة الحافلة. كانت قد رتبت لأن تستغل هذه الفرصة لزيارة سيدة كانت أمها المتوفاة تحبها وتعجب بها، بل لقد سميت في حقيقة الأمر تيمنا بها، ودائما ما دعتها ميريل بالخالة، على الرغم من عدم وجود رابطة دم بينهما. الخالة موريل. (غيرت ميريل في هجاء حروف اسمها عندما سافرت للالتحاق بالكلية.) كانت هذه السيدة المسنة تعيش في دار لرعاية المسنين في لين فالي، ولم تزرها ميريل لما يزيد عن العام. كان الوصول إلى هناك يقتضي وقتا أكثر من اللازم، خلال رحلات الأسرة القليلة إلى فانكوفر، وكان الأطفال ينزعجون من الجو المخيم على دار الرعاية وهيئة الأشخاص المقيمين فيها، وكذلك كان بيير، غير أنه لم يقل ذلك صراحة؛ بدلا من ذلك سأل عن الرابطة التي تجمع ميريل بهذه المرأة. «إنها ليست حتى خالة حقيقية لك!»
وهكذا ستذهب ميريل الآن لرؤيتها بمفردها. قالت إنها سينتابها شعور بالذنب إن لم تذهب وقد واتتها الفرصة لذلك، كما أنها كانت تتطلع إلى وقت يتاح لها فيه أن تبتعد عن أسرتها، وإن لم تصرح بذلك.
قال بيير: «ربما أستطيع أن أقلك، يعلم الله كم سيطول انتظارك للحافلة!»
قالت: «لا يمكنك ذلك، فقد تفوتك العبارة.» وذكرته بما اتفقا عليه مع جليسة الأطفال.
فقال: «أنت على حق.»
الرجل الذي كان يتحدث إليه - الطبيب - وجد نفسه مضطرا للإنصات إلى هذا الحديث، وقال في عفوية: «اسمحي لي أن أقلك!» «كنت أعتقد أنك أتيت على متن طائرة.» هكذا قالت ميريل، وفي الوقت نفسه قال بيير: «هذه زوجتي، عذرا، ميريل.»
قال لها الطبيب اسما لم تكد تسمعه.
قال: «ليس من السهل الحط بطائرة على جبل هوليبرن؛ لذا تركتها في المطار واستأجرت سيارة.»
أحست ميريل بدرجة طفيفة من اللياقة المفتعلة، من جانبه؛ مما حدا بها للتفكير بأنها ربما بدت وقحة معه. أغلب الوقت كانت إما أجرأ من اللازم وإما أكثر خجلا من اللازم.
قال بيير: «أحقا لا بأس في ذلك؟ ألديك الوقت؟»
نظر الطبيب مباشرة نحو ميريل. لم تكن هذه نظرة نفور، لم تكن نظرة وقحة أو ماكرة، كما لم تكن نظرة تقدير؛ ولكنها كذلك لم تكن نظرة مجاملة اجتماعية بريئة.
قال: «بكل تأكيد.»
وهكذا تم الاتفاق على أن يجري الأمر على هذا النحو؛ سوف يشرعون في توديع الحاضرين الآن، وسوف يغادر بيير ليستقل العبارة، بينما آشر - أو الدكتور آشر كما اتضح أن هذا اسمه - سوف يقل ميريل إلى لين فالي.
كان ما خططت ميريل أن تفعله، بعد ذلك، هو زيارة الخالة موريل، بل ربما تبقى حتى تتناول العشاء بصحبتها، ثم تأخذ الحافلة من لين فالي إلى محطة حافلات وسط المدينة (وتنطلق الحافلات إلى «البلدة» منها بوتيرة منتظمة نسبيا)، ومن المحطة تستقل حافلة الليل التي ستأخذها إلى العبارة، ومنها للبيت. •••
كانت دار رعاية المسنين تسمى ضيعة الأمير؛ مبنى من طابق واحد، ولكنه ذو أجنحة ممتدة أفقيا، ومغطى بجص لونه بني فاتح. كان الشارع مزدحما، ولم تكن هناك أي أراض خالية، ولا أسيجة نباتية أو سور من قضبان الخشب الرفيعة من أجل حجب الضجيج أو حماية الرقع الصغيرة من الخضرة. على أحد الجانبين كانت هناك كنيسة إنجيلية صغيرة ذات برج، وعلى الآخر محطة وقود.
قالت ميريل: «إن كلمة «ضيعة» لم تعد تعني أي شيء بالمرة، صحيح؟ إنها لا تعني حتى أنه يوجد طابق علوي. كل ما تعنيه أنه يفترض بك أن تفكر في أي مكان باعتباره لا يتظاهر بكونه شيئا آخر.»
لم يقل الطبيب شيئا، ربما لأن ما قالته لم يبد له أي معنى بالنسبة إليه، أو لم يكن يستحق فحسب أن يقول إن كان حتى صحيحا أم لا. طوال الطريق من دانداريف ظلت تنصت إلى نفسها وهي تتحدث وأصابها ذلك بالذعر. لم يكن الأمر أنها تثرثر - فتقول أي شيء فحسب يخطر على بالها كيفما اتفق - بل كانت تحاول أن تعبر عن أمور بدت لها جديرة بالاهتمام، أو لعلها تكون جديرة بالاهتمام إذا أحسنت هي صياغتها. غير أن تلك الأفكار على الأرجح بدت متكلفة، هذا إن لم تكن مخبولة، منطلقة بسرعة على نحو ما كانت تنطق بها. لا بد أنها بدت مثل واحدة من تلك النساء العاقدات العزم على عدم إجراء محادثة عادية بسيطة ولكن محادثة حقيقية. وعلى الرغم من علمها أنه ما من شيء كان مجديا، وأن حديثها يبدو بالتأكيد عبئا ثقيلا عليه، لم تستطع أن تكبح جماح نفسها وتتوقف.
لم تدر ما الذي بدأ هذا. كانت مضطربة؛ فقط لأنها نادرا ما كانت تتحدث إلى شخص غريب في تلك الأيام. كانت تشعر بغرابة بسبب الركوب بمفردها في سيارة مع رجل ليس بزوجها.
حتى إنها سألته، في اندفاع، عن رأيه في فكرة بيير أن حادثة الدراجة النارية لم تكن إلا انتحارا.
فقال لها: «قد تطفو مثل تلك الفكرة في الذهن مع أي عدد من الحوادث العنيفة.»
قالت: «لا تهتم بإيقاف السيارة أمام المبنى. يمكنني أن أنزل هنا.» كانت في غاية الحرج، وفي غاية اللهفة لأن تهرب منه ومن لا مبالاته التي لا تكاد تخرج عن أصول اللياقة، فوضعت يدها على مقبض الباب كما لو كانت ستفتحه وهما ما زالا يسيران على امتداد الشارع. «كنت أخطط لأن أصف السيارة جانبا.» هكذا قال، وهو ينعطف على كل حال. «لم أكن لأتركك جانحة هنا.»
قالت: «ولكن قد أمضي بعض الوقت.» «لا بأس، أستطيع أن أنتظر. أو بوسعي أن أدخل وألقي نظرة على المكان، إن لم تمانعي في ذلك.»
أوشكت أن تقول إن دور المسنين قد تكون أمكنة كئيبة ومحبطة، ثم تذكرت أنه طبيب وأنه لن يرى أي شيء هنا لم يسبق له أن رآه. وكان هناك شيء أدهشها في طريقة قوله: «إن لم تمانعي في ذلك.» شيء رسمي، ولكنه أيضا يشي بتردد وحيرة. بدا وكأنه يقدم لها وقته وحضوره، شيء لا علاقة له بالكياسة واللياقة ، بل له علاقة بها هي نفسها. كان عرضا مقدما بلمسة من تواضع صريح، لكنه لم يكن توسلا. لو كانت قالت له إنها لا تود حقا أن تأخذ المزيد من وقته، لما كان مضى في محاولة إقناعها، ولكان ودعها في لطف متوازن وقاد سيارته راحلا.
على أي حال، خرجا من السيارة وسارا جنبا إلى جنب عبر مساحة صف السيارات، متجهين إلى المدخل الأمامي.
كان هناك العديد من كبار السن والمقعدين جالسين في مربع من أرضية مبلطة، كان فيه بضع شجيرات تبدو كثيفة الأوراق وحولها أصص لأزهار البتونيا، لتعطي إيحاء بساحة حديقة. لم تكن الخالة موريل بينهم، غير أن ميريل وجدت نفسها تمنحهم التحيات السعيدة عن طيب خاطر. حدث لها شيء ما؛ ساورها فجأة إحساس غامض بالسلطة والحبور، كما لو أنها مع كل خطوة تخطوها ترسل رسالة ساطعة من أخمص قدمها حتى قمة رأسها.
حين سألته فيما بعد: «لماذا دخلت معي إلى هناك؟» قال: «لم أرد أن تغيبي عن ناظري.»
كانت الخالة موريل تجلس بمفردها، في مقعد متحرك، في الممر المعتم خارج غرفة نومها مباشرة. كانت منتفخة وتلمع بالوميض، ولكن ذلك كان يرجع لأنها ملتفة في مريلة مصنوعة من مادة الاسبستوس (الحرير الصخري) اللامعة حتى يتسنى لها أن تدخن سيجارة. اعتقدت ميريل أنها حين ودعتها، قبل شهور أو فصول، كانت تجلس في المقعد ذاته وفي الموضع ذاته، على الرغم من أنهم لم تكن ترتدي مريلة الاسبستوس هذه، التي لا بد أنها تتفق مع قاعدة جديدة من قواعد الدار، أو تعكس مزيدا من التدهور في حالتها. من المحتمل للغاية أنها كانت تجلس هنا كل يوم إلى جانب مطفأة السجائر المثبتة في الأرض والممتلئة بالرمل، تنظر إلى الجدار المطلي بلون الكبد البني القاني - كان مطليا بلون قرنفلي أو ربما بنفسجي فاتح، ولكنه بدا بنيا كالكبد، وكان الممر معتما للغاية - بجوار رف صغير يدعم أشكالا من عاج مزيف.
قالت: «ميريل؟ عرفت أنها أنت. عرفت من خطواتك، وعرفت من صوت أنفاسك. لا بد أن حالة المياه البيضاء على عيني ساءت كالجحيم؛ فكل ما يمكنني أن أراه هو بقع غائمة.» «إنها أنا، لا بأس عليك، كيف حالك؟» قبلت ميريل وجنتها. «لماذا لا تخرجين في نور الشمس؟»
قالت المرأة العجوز: «أنا لست مولعة بنور الشمس. علي أن أنتبه لبشرتي.»
لعلها كانت تمزح، ولكن ربما كانت الحقيقة فعلا. كان كل من وجهها الشاحب ويديها كذلك مغطى بنقاط كبيرة، نقاط بيضاء ميتة انعكس عليها الضوء الشحيح المتاح في الممر، فاستحال لونها فضيا. كانت شقراء حقيقية، ذات وجه وردي، وشعر منسدل بانتظام حسن القص، وقد دب فيه الشيب في الثلاثينيات من عمرها. صار هذا الشعر الآن رثا مشعثا، وقد انتفش من فركه في الوسادة، وتبرز من بين خصلاته شحمتا أذنيها مثل حلمتي ثدي مسطحتين. كانت معتادة على وضع ماسات صغيرة في أذنيها، أين ذهبت تلك الأقراط الماسية؟ الماسات في أذنيها، وسلاسل من ذهب حقيقي، ولآلئ حقيقية، وبلوزات حريرية غير مألوفة الألوان - كهرمانية، وباذنجانية - وأحذية جميلة ضيقة.
كانت تنضح برائحة بدرة المستشفى وحلوى العرقسوس التي كانت تمتصها طوال اليوم ما بين السجائر الموزعة باقتصاد.
قالت: «نحتاج لبعض المقاعد.» ثم انحنت إلى الأمام، ولوحت بيدها التي تحمل السيجارة في الهواء، وحاولت أن تصفر. «الخدمة، من فضلكم. مقاعد.»
قال الطبيب: «سأجد بعضها.»
الآن تركت موريل العجوز والأخرى الشابة وحدهما. «ما اسم زوجك؟» «بيير.» «وعندكما طفلان، صحيح؟ جين وديفيد؟» «صحيح، ولكن الرجل الذي أتى معي ...» «آه، لا.» قالت موريل العجوز، «ذلك ليس زوجك.»
كانت الخالة موريل تنتمي إلى جيل جدة ميريل، وليس جيل أمها. كانت معلمة الفنون الجميلة لأم ميريل في المدرسة. في البداية كانت نموذجا ملهما لها، ثم حليفتها، ثم صديقتها. رسمت صورا تجريدية كبيرة الحجم، وكانت إحداها - هدية لأم ميريل - معلقة في الرواق الخلفي من المنزل الذي نشأت فيه ميريل، وكان يتم نقل تلك اللوحة إلى غرفة الطعام كلما أتت الفنانة لزيارتهم. كانت ألوانها كامدة - درجات غامقة من الأحمر والبني (كان والد ميريل يسميها «كومة سماد فوق النار») - غير أن الخالة موريل دائما ما بدت مشرقة ومنطلقة الروح، لا تهاب شيئا. كانت تعيش في فانكوفر حين كانت شابة، قبل أن تأتي للتدريس في هذه المدينة الداخلية. صادقت فنانين صارت أسماؤهم تذكر الآن في الصحف اليومية. كانت تشتاق للرجوع إلى هناك وهكذا فعلت في نهاية المطاف، وعاشت برفقة زوجين عجوزين ثريين، ترعى شئونهما، وقد كانا صديقين لها ومن رعاة الفنانين. بدت وكأنها تملك الكثير من المال حين كانا على قيد الحياة، ولكنها تركت في العراء دون شيء حين توفيا. عاشت على معاشها ورسمت بعض الصور بألوان الماء لأنها لم تتمكن من توفير المال لألوان الزيت، وجوعت نفسها (هكذا شكت والدة ميريل) من أجل أن تتمكن من اصطحاب ميريل إلى الغداء في مطعم، وكانت ميريل آنذاك طالبة جامعية. في تلك المناسبات كانت تتحدث على عجل، مطلقة النكات والانتقادات، مشيرة في الغالب إلى كم أن تلك الأعمال والأفكار التي يتحمس لها الناس في جنون ليست سوى قمامة، وأيضا كيف كان يوجد هنا وهناك شيء استثنائي، في إنتاج شخصية غامضة من المعاصرين أو شبه المنسيين ممن عاشوا في قرن آخر. كانت تلك هي كلمتها الشجاعة للإعراب عن المديح؛ «استثنائي.» تقولها بصوت هامس كالفحيح، كما لو كان مما يدهشها هي نفسها أن تعثر بين الحين والآخر على شيء رفيع القدر في هذا العالم لا يزال جديرا بالمديح دون ريب.
عاد الطبيب بالمقعدين وقدم نفسه، بطريقة طبيعية تماما، كما لو أنه لم تتح له الفرصة لذلك حتى الآن. «إيريك آشر.»
قالت ميريل: «إنه طبيب.» وكانت على وشك أن تشرح الأمر بشأن حضور الجنازة، والحادثة، والمجيء بالطائرة من سميثرز، ولكن المحادثة أفلتت من بين أصابعها.
قال الطبيب: «لكني لست هنا بصفتي المهنية، فلا تقلقي.»
قالت الخالة موريل: «آه، لا، أنت هنا بصحبتها.»
قال: «نعم.»
عند هذه اللحظة مد يده في المساحة ما بين المقعدين وتناول يد ميريل، وأمسك بها للحظة في قبضته القوية، ثم أفلتها. وقال للخالة ميريل: «كيف يمكنك أن تعرفي هذا؟ من صوت أنفاسي؟» «أنا أعرف الكيفية.» هكذا قالت بشيء من نفاد الصبر، «كنت أنا نفسي ذات يوم شيطانة ساحرة.»
كان في صوتها تهدج ما أو ضحك مكتوم، وهو شيء لم يشبه أي صوت تحدثت به فيما سبق حسبما تتذكر ميريل. شعرت ببعض الخيانة داخل هذه السيدة العجوز التي صارت فجأة غريبة؛ خيانة للماضي، وربما لأم ميريل وللصداقة التي عقدتها مع شخص أرقى واعتزت بها ككنز؛ أو لعلها خيانة لوجبات الغداء تلك مع ميريل نفسها، وما فيها من أحاديث تسمو نحو الأعالي. كان ثمة انحطاط وهبوط من ذلك السمو على وشك أن يقع. وقد شعرت ميريل بالضيق من هذا، وبإثارة بعيدة للغاية.
قالت الخالة موريل: «آه، وكان لي أصدقاء.» فقالت ميريل: «بل كان لك الكثير من الأصدقاء.» ثم ذكرت اسما أو اثنين.
قالت الخالة موريل: «قد مات هذا.»
قالت ميريل لا، كانت قد قرأت عنه شيئا في الصحيفة من وقت قريب للغاية، معرضا لأعماله الفنية السابقة أو جائزة ما. «حقا؟ ظننته قد مات. ربما أفكر في شخص آخر، هل كنت تعرف آل ديلاني؟»
خاطبت الرجل مباشرة، وليس ميريل.
قال: «كلا، لا أظن.» «كانوا عائلة لديها مكان اعتدنا جميعنا الذهاب إليه، على جزيرة بوين. عائلة ديلاني. ظننت أنك ربما تكون قد سمعت بهم. حسنا، جرت تحت الجسر مياه كثيرة، هذا ما كنت أقصده حين قلت إنني كنت ذات يوم ساحرة فاتنة. مغامرات، نعم. بدت وكأنها مغامرات، لكنها كانت كلها وفقا للنص المعهود، إن كنت تفهم مقصدي. لذا فلم يكن فيها قدر كبير من المجازفة، في الواقع. كنا كلنا نشرب حتى الثمالة، نتشبع بالخمر كقطع الإسفنج، بطبيعة الحال. ولكنهم دائما كانوا يشعلون الشموع في حلقة ويديرون مشغل الموسيقى، بطبيعة الحال، أقرب إلى طقس شعائري. ولكن ليس إلى نهاية الشوط؛ فلم يكن معنى هذا أنك قد تلتقي بشخص جديد هناك وترمى بالنص المعهود عرض الحائط. كل ما هنالك أنكما تلتقيان للمرة الأولى فتتبادلان القبلات مثل مجنونين، وتنطلقان ركضا في داخل الغابة، وسط الظلام. ولكنك لا تمضي حتى نهاية الشوط. لا عليك ، انس الأمر.»
شرعت تسعل، وحاولت أن تتحدث على الرغم من ذلك، لكنها أقلعت عن المحاولة وغلبها سعال جاف عنيف. نهض الطبيب وضرب برفق وخبرة بضع مرات على ظهرها المحني. انتهى السعال بصوت أنين.
قالت: «الآن أفضل. آه، أنت تعلم ما تقوم به، ولكنك تظاهرت بعكس ذلك. ذات مرة وضعوا عصابة على عيني. ليس هناك في الغابة، ولكن كان هذا بالداخل. لم أجد بأسا في الأمر، تركتهم يفعلون. ولم يجد هذا نفعا مع ذلك، أقصد، أنا كنت أعلم. على أي حال لم يكن هناك في الغالب أي شخص لم أكن قد تعرفت عليه.»
سعلت من جديد، ولكن ليس على نحو بائس للغاية كالمرة السابقة. ثم رفعت رأسها، وتنفست بعمق وبصوت مسموع لبضع دقائق، وهي ترفع يديها أمامها لترجئ الحديث، كما لو أن لديها شيئا مهما لتقوله. ولكن في نهاية الأمر كان كل ما فعلته أن ضحكت وقالت: «الآن صارت على عيني عصابة ثابتة. المياه البيضاء. ولكن هذا لا يفيدني في شيء الآن، لا أعرف أي حالة إغواء قد تنتفع بالمياه البيضاء على العينين.» «منذ متى بدأت تتكون تلك المياه على العينين؟» قال الطبيب باهتمام معتبر، وما أراح نفس ميريل أنهما قد شرعا في حديث مستغرق، نقاش محتشد بالمعلومات حول درجة نضج المياه البيضاء، وإزالتها، ومزايا ومضار هذه العملية، وعدم ثقة الخالة موريل في طبيب العيون الذي نفي إلى هنا - كما قالت - لرعاية الموجودين بالدار. خيالات شهوانية - كان ذلك ما رأته ميريل - انزلقت من دون أهون صعوبة إلى ثرثرة طبية، تشاؤم في حدود العقل من جانب الخالة موريل، وطمأنة في حدود الحذر من جانب الطبيب. إنه نوع الحديث الذي لا بد أنه يدور بانتظام بداخل تلك الجدران.
ما هي إلا برهة وجيزة حتى تبادل كل من ميريل والطبيب نظرة سريعة، كأنهما يتساءلان إن كانت هذه الزيارة قد طالت بما فيه الكفاية. نظرة مختلسة، متفهمة، وتكاد تكون زوجية، غير أن تخفيها وحميميتها العادية تعد مثيرة حين يتبادلها شخصان غير زوجين على كل حال .
قريبا.
كانت الخالة موريل هي من بادرت بنفسها. قالت: «أنا آسفة، إنها لوقاحة مني، ولكن علي أن أقول لكما إنني تعبت.» لم تكن هناك أي لمحة في سلوكها الآن تشي بالشخص الذي دشن الجزء الأول من الحديث. مالت ميريل وانحنت عليها لتقبلها مودعة، وهي مشتتة البال، كأنها تلعب دورا ما، يساورها إحساس غامض بالخزي. انتابها شعور بأنها لن ترى الخالة موريل مرة أخرى، وهذا ما كان حقا.
لدى أحد الأركان، والأبواب مفتوحة على الغرف حيث يرقد أشخاص نائمين أو ربما يراقبون من أسرتهم، قام الطبيب بمس ما بين لوحي كتفيها وحرك يده للأسفل نزولا على ظهرها حتى خصرها. أدركت أنه فقط يجذب قليلا قماش ثوبها، الذي كان قد التصق بجلدها الرطب حين جلست مستندة إلى ظهر المقعد. كان الثوب رطبا للغاية من تحت ذراعيها.
كان عليها الذهاب للحمام. راحت تبحث بعينيها عن دورات المياه المخصصة للزوار، التي ظنت أنها لمحتها عندما كانا في طريقهما للدخول.
ها هي. كانت محقة. أي راحة، ولكن أيضا مشقة؛ لأنه توجب عليها أن تترك رفقته فجأة وتقول له: «دقيقة فقط.» بصوت بدا لها نائيا ومعتكرا. قال: «نعم.» وتوجه بهمة إلى مراحيض الرجال، وهكذا ضاع ما اتسمت به اللحظة من رقة ورهافة.
حين خرجت إلى نور الشمس الساخن رأته يذرع المكان بجوار السيارة، مدخنا سيجارة. لم يدخن من قبل، لا في منزل والدي جوناس أو في الطريق إلى هنا أو مع الخالة موريل. بدا ذلك الفعل وكأنه ينأى به، لإظهار بعض من العجلة، لعلها عجلة الانتهاء من شيء ما والانتقال إلى ما يليه. ولم تعد الآن واثقة إن كانت هي الشيء التالي أم الشيء الذي انتهى أمره. «إلى أين؟» هكذا قال، بينما تحركا بالسيارة. ثم استدرك، وكأنه أحس أنه تحدث بفظاظة زائدة: «إلى أين تحبين الذهاب؟» كانت نبرته تقريبا كما لو كان يتحدث إلى طفل، أو إلى الخالة موريل، إلى شخص ما توجب عليه أن يرافقه ويسليه خلال فترة ما بعد الظهر. فقالت ميريل: «لا أدري .» كما لو أنها لم تملك أي خيار آخر سوى أن تترك نفسها لتلعب دور ذلك الطفل الثقيل. كانت تكبح بداخلها نحيب الإحباط، تكبح ضجيج الرغبة؛ رغبة بدا أنها حيية ومشتتة ندفا ولكنها محتمة، ومع ذلك فقد أعلنت هذه الرغبة الآن على حين فجأة كأمر لا يليق، ومن طرف واحد. يداه على عجلة القيادة كانت تحت سيطرته بكاملها، مستعادة كما لو كان لم يلمسها قط.
قال: «ما رأيك في متنزه ستانلي؟ هل تودين الذهاب للتمشية في متنزه ستانلي؟»
قالت: «أوه، متنزه ستانلي. لم أذهب إلى هناك منذ دهر بعيد!» كما لو أن مجرد الفكرة قد أنعشتها وملأتها بالحيوية، فلم يعد بوسعها أن تتخيل شيئا أفضل من ذلك. وجعلت الأمور تزداد سوءا بأن أضافت قائلة: «يا له من يوم رائع الجمال!» «إنه لكذلك حقا.»
كانا يتحدثان مثلما تتحدث شخصيات الرسوم الهزلية، كان شيئا لا يحتمل. «إنهم لا يزودون تلك السيارة المستأجرة بأجهزة راديو. حسنا، أحيانا يفعلون وأحيانا لا.»
أنزلت زجاج النافذة المجاورة لها بينما كانوا يعبرون فوق جسر ليونز جيت. سألته إن كان يمانع. «لا، على الإطلاق.» «دائما ما يكون هذا معنى الصيف بالنسبة إلي؛ أن أفتح النافذة وأن أسند مرفقي على حافتها وأدع النسيم يدخل، لا أظنني سوف أعتاد على مكيف الهواء أبدا.» «قد تعتادين عليه، مع درجات حرارة بعينها.»
تحلت بالصمت بقوة وعزم، حتى ظهرت أمامهما الغابة الخاصة بالمتنزه العام، حيث قد تستطيع الأشجار السامقة السميكة الجذوع أن تبتلع الحماقة والخزي. وعندئذ أفسدت كل شيء بأن تنهدت تنهيدة إعجاب مفرط. «بروسبكت بوينت.» قرأ اللافتة بصوت مسموع.
كان هناك الكثير من الأشخاص في المكان، على الرغم من أنه كان يوما من أيام العمل خلال وقت ما بعد الظهر من شهر مايو، ولم يبدأ موسم الإجازات بعد. خلال لحظة قد يعلقان على ذلك. كانت هناك سيارات مصفوفة على طول الطريق المؤدي إلى المطعم، وقد اصطف الناس على منصة مشاهدة المنظر الطبيعي من أجل التطلع من المنظار المقرب الذي يعمل بالعملة. «آها!» انتبه إلى إحدى السيارات التي تترك مكانها. أرجئت الحاجة إلى الحديث للحظة، بينما تقدم ببطء، وتراجع للخلف بالسيارة ليفسح لها مجالا، ثم يناور لصفها في البقعة الضيقة إلى حد ما. خرجا من السيارة في الوقت ذاته، دارا حولها ليلتقيا على رصيف المشاة. راح يتلفت في هذه الناحية وتلك، كما لو كان يقرر أين يسيران. كان المتنزهون يأتون ويذهبون في أي طريق يمكن رؤيته. كانت ساقاها ترتعشان، ولم يعد يسعها الاحتمال أكثر من هذا.
قالت: «خذني إلى مكان آخر.»
نظر نحو وجهها مباشرة وقال: «نعم.»
وعلى ذلك الرصيف في المنظر الطبيعي الفسيح، أخذا يتبادلان القبلات بجنون. ••• «خذني.» كان ذلك ما قالته، «خذني إلى مكان آخر.» وليس «فلنذهب إلى مكان آخر.» هذا مهم بالنسبة إليها. المجازفة، نقل السلطة. مجازفة تامة ونقل تام. كانت كلمة «لنذهب» سيكون فيها مجازفة لكنها لن تتضمن التنازل والتسليم، وهو ما كان البداية بالنسبة إليها للانزلاق الشهواني، كلما أعادت إحياء هذه اللحظة في مخيلتها. وماذا لو كان قد تنازل واستسلم هو بدوره؟ ماذا لو قال: «إلى أين؟» ما كان هذا قد أجدى نفعا كذلك؛ كان عليه أن يقول فحسب ما قاله بالفعل. كان عليه أن يقول: «نعم.»
أخذها إلى الشقة التي كان يقيم فيها، في كتسيلانو. كانت ملكا لصديق له كان مسافرا على قارب صيد، في مكان ما بعيد عن الساحل الغربي لجزيرة فانكوفر. كانت الشقة في مبنى صغير وأنيق، بارتفاع ثلاثة أو أربعة طوابق. كل ما يمكنها تذكره من ذلك المبنى هو الطوب الزجاجي حول المدخل الأمامي، وجهاز الهاي فاي الثقيل المعقد الخاص بذلك الزمن، الذي بدا كأنه قطعة الأثاث الوحيدة في غرفة المعيشة.
لو كان لها الخيار لفضلت منظرا آخر على هذا، وكان ذلك المنظر هو الذي اختارت أن تشكل في إطاره ما جرى، في ذاكرتها. فندق مكتنز من ستة أو سبعة طوابق، كان في وقت ما مكانا مسايرا للعصر، يقع في الطرف الغربي من فانكوفر. الستائر من دانتيلا قد اصفر لونها، السقوف عالية، وربما مشغولات حديدية فوق جزء من النافذة، مع شرفات زائفة أمام النوافذ. فعليا لا يوجد شيء قذر أو زري، فقط جو مهيمن لسكنى طويلة من المحن والآثام الخاصة. هناك سيكون عليها أن تعبر الردهة الصغيرة للفندق برأس منحن وذراعين تلتصقان بجانبيها، وجسدها كله ينضح بخزي فاتن. وسوف يتحدث هو إلى موظف الاستقبال بصوت خفيض ليس متباهيا، ولكنه أيضا لا يحجب غرضهما أو يعتذر عنه.
ثم دخولهما القفص العتيق الطراز للمصعد، الذي يديره رجل عجوز، أو ربما تكون امرأة عجوز، أو حتى شخص مقعد، خادم ماكر للخطيئة.
لم استدعت هذا؟ ولم أضافت ذلك المشهد؟ من أجل لحظة الانكشاف، الإحساس اللاذع بالخزي والفخر الذي استولى على جسدها وهي تسير عبر ردهة الفندق (المزعومة)، ومن أجل نبرة صوته، وما يشوبها من تكتم وسطوة وهو يتحدث إلى موظف الاستقبال بكلمات لم تتبينها تماما.
لعل تلك كانت هي نفسها نبرة الصوت التي تحدث بها في الصيدلية على بعد بضع بنايات من الشقة، بعد أن أوقف السيارة وقال: «دقيقة واحدة وأعود.» تلك الترتيبات العملية التي كانت تبدو مثقلة للقلب ومحبطة في الحياة الزوجية يمكن لها في تلك الظروف المختلفة أن تستنفر حرارة لطيفة بداخلها، خمولا جديدا وإذعانا. •••
بعد حلول الظلام أقلها عائدا من جديد، قائدا السيارة خلال المتنزه العام وعبر الجسر وخلال غربي فانكوفر، قاطعا مسافة قصيرة فحسب من موضع منزل والدي جوناس. وصلت خليج هورس شور في اللحظة الأخيرة تقريبا، وصعدت إلى العبارة. الأيام الأخيرة من شهر مايو أطول أيام السنة، وعلى الرغم من الأضواء على متن العبارة وأضواء السيارات المتسللة من جوف القارب، كان بوسعها أن ترى وميضا في الجهة الغربية من السماء وأمامه الكتلة السوداء لإحدى الجزر - ليست جزيرة بوين ولكنها جزيرة أخرى لم تكن تعرف اسمها - منتظمة الشكل كأنها قطعة حلوى بودينج في فم الخليج.
كان عليها أن تنضم إلى حشد من الأجساد المتزاحمة، يشق طريقه صعودا على الدرج، وحين بلغت الطابق المخصص للمسافرين جلست في أول مقعد رأته. لم تكترث - حتى كما كانت تفعل دائما - بأن تبحث عن مقعد مجاور لإحدى النوافذ. كانت أمامها ساعة ونصف قبل أن يرسو القارب على الضفة الأخرى من المضيق، وفي أثناء هذا الوقت كان لديها عمل كثير تقوم به.
ما إن شرع القارب في الحركة حتى انخرط الأشخاص الجالسون بجوارها في الحديث. لم يكونوا ممن يتقابلون عرضا على متن العبارة فيتبادلون أطراف الحديث، بل كانوا أصدقاء أو أقارب ممن يعرف بعضهم بعضا جيدا، وسوف يكون لديهم الكثير مما يقولونه خلال الرحلة. وهكذا نهضت وخرجت من هذا الطابق، وصعدت إلى الطابق الأعلى من العبارة، حيث يكون هناك على الدوام عدد أقل من الأشخاص، وجلست على الصناديق الخشبية التي تحتوي أطواق النجاة ولوازمها. كان جسدها يؤلمها في مواضع مختلفة، مواضع متوقعة وأخرى غير متوقعة.
المهمة التي كان عليها القيام بها، كما حددتها، أن تتذكر كل شيء - بكلمة «التذكر» كانت تعني معايشتها في عقلها، مرة أخرى - ثم تقوم بتخزينها جانبا إلى الأبد. تنظيم تجربة هذا اليوم في نسق، دون ترك أي جزء منها عرضة للإهمال أو التزييف، تجميعها كلها كما لو كانت كنزا والانتهاء منها، ثم وضعها جانبا.
تنبأت بأمرين وتشبثت بهما، الأول يجلب الراحة، والثاني يسير بما يكفي لأن تتقبله في الوقت الراهن، على الرغم من أنه بلا ريب سيصير أشد صعوبة عليها، فيما بعد.
زواجها ببيير سوف يستمر، سوف يبقى.
لن ترى آشر بعد ذلك أبدا.
وقد تحققت كلتا النبوءتين. •••
استمر زواجها لأكثر من ثلاثين عاما بعد ذلك، حتى وفاة بيير. وخلال مرحلة مبكرة ومعتدلة من مرضه، كانت تقرأ له، يخوضان عبر بضعة كتب كانا قد قرآها معا قبل سنوات وانتويا الرجوع إليها. كان أحد تلك الكتب رواية «آباء وأبناء»، وبعد أن قرأت المشهد الذي يعلن فيه بازاروف عن حبه العنيف لآنا سيرجييفنا، فتصاب آنا بالذعر، شرعا يتحدثان. (لم يكن جدالا؛ فقد كبرا وصارا أهون وأرق من أن يتجادلا.)
أرادت ميريل أن يمضي المشهد على نحو مختلف. رأت أن آنا لن يكون رد فعلها بتلك الطريقة.
قالت: «إنه الكاتب ، لا أشعر بهذا عادة عند قراءة تورجنيف، ولكن في هذا الموضع أشعر بأن تورجنيف قد تدخل فحسب وشد أحدهما بعيدا عن الآخر في عنف، وهو لا يفعل ذلك إلا لغرض في نفسه.»
ابتسم بيير ابتسامة واهنة. أضحت كل تعبيرات وجهه غائمة وهزيلة. «أتظنين أنها كانت ستذعن له؟» «لا، ليس الإذعان. أنا فقط لا أصدقها، أعتقد أنها منساقة إليه بنفس قدره تماما. كانا سيفعلانها.» «تلك رومانسية منك. إنك تحرفين الأمور لتحصلي على نهاية سعيدة.» «لم أقل أي شيء عن النهاية.» «اسمعي!» هكذا قال بيير في نفاد صبر. كان هذا النوع من الحديث يطيب له، غير أنه كان شاقا عليه، فاضطر لأن يأخذ وقفات صغيرة للراحة حتى يستجمع قوته قائلا: «لو أن آنا استسلمت، لكان ذلك بدافع من حبها له. وحين ينتهي الأمر سيكون حبها له قد ازداد أكثر. أليس هذا هو حال النساء؟ أعني إذا وقعن في الحب؟ وماذا سيفعل هو، كان سيرحل في الصباح التالي مباشرة، ربما دون أن يتحدث إليها حتى. تلك طبيعته، إنه يكره محبته لها. كيف يمكن لذلك إذن أن يكون أفضل بأي قدر؟» «كان سيجمعهما شيء ما. تجربتهما معا.» «كان سينسى التجربة تماما، أما هي فسيقتلها الخزي وهجره لها. إنها صاحبة ذكاء، وهي تعرف ذلك.»
قالت ميريل: «حسنا.» وتوقفت قليلا وقد شعرت بأنها حوصرت. «حسنا، ولكن تورجنيف لا يقول ذلك. يقول إنها فوجئت وذهلت تماما. يقول إنها باردة.» «يجعلها ذكاؤها باردة. الذكاء يعني البرود، بالنسبة إلى النساء.» «كلا.» «أقصد في القرن التاسع عشر. كان هذا ما يعنيه في القرن التاسع عشر.» •••
في تلك الليلة على متن العبارة، خلال الوقت الذي ظنت فيه ميريل أنها سترتب كل شيء لتضعه جانبا، لم تفعل شيئا قريبا من هذا. كان ما وجدت نفسها تخوض غماره ليس إلا موجة بعد موجة من التذكر المكثف الواضح، وكان هذا ما سوف تواصل خوضه على مدى السنوات التالية، في نوبات تطول بالتدريج. ستواصل انتقاء بعض الأشياء التي فاتتها، وتلك الأشياء التي ما زالت تهزها هزا. سوف تسمع أو ترى شيئا ما من جديد؛ صوتا صدر عنهما معا، نظرة من نوع ما مرت بينهما، نظرة تقدير وتشجيع. نظرة كانت باردة تماما بطريقتها الخاصة، ومع ذلك فهي مفعمة بالاحترام العميق وأكثر حميمية من أي نظرة قد يتبادلها الزوجان فيما بينهما، أو أي شخصين يدين كل منهما لصاحبه بأي شيء.
تذكرت عينيه بلونهما ما بين الرمادي والعسلي الفاتح، تذكرت رؤيتها المقربة للغاية لبشرته الخشنة، ودائرة كأنها ندبة قديمة بجوار أنفه، والاتساع الأملس لصدره إذ يرفع جسمه منفصلا عنها. لكنها لم تستطع التوصل إلى وصف مفيد للمظهر الذي بدا عليه. اعتقدت أنها شعرت بحضوره بقوة غالبة، من البداية تماما. كان حضوره غالبا إلى حد صارت فيه الملاحظة العادية له غير ممكنة. ما زال بوسع التذكر المباغت للحظاتهما المبكرة معا، تلك اللحظات المترددة والأولية، أن يجعلها تضم أطرافها إليها، كما لو أنها تحمي جسدها من المفاجأة الفجة، من ضجيج الرغبة. «حبيبي حبيبي»، هكذا كانت تغمغم الكلمات بطريقة حادة وآلية، مثل ضمادة سرية. •••
حين رأت صورته في الصحيفة، لم تصعقها آلام فورية. كانت والدة جوناس هي من أرسلت إليهما قصاصة الصحيفة، وقد ظلت طوال عمرها حريصة على التواصل معهما، وعلى تذكيرهما بجوناس، كلما استطاعت إلى ذلك سبيلا. كانت قد كتبت فوق العنوان الصغير للخبر: «هل تذكران الطبيب الذي حضر جنازة جوناس؟» «طبيب غابات يلقى مصرعه في حادث تحطم طائرة.» كانت صورته قديمة العهد، بكل تأكيد، مشوشة وغائمة بعد أن أعادت الصحيفة طبعها. وجه ممتلئ قليلا، يبتسم، وهو ما لم تتوقع منه قط أن يفعله أمام عدسة الكاميرا. لم يمت وهو على متن طائرته الخاصة، بل تحطمت به إحدى المروحيات في رحلة لحالة طارئة. عرضت قصاصة الصحيفة على بيير. قالت: «هل ظهر لك أي سبب وراء حرصه على حضور الجنازة؟» «لعلهما كان صديقين بدرجة ما. كل تلك الأرواح الضائعة هناك في الشمال.» «عن أي شيء تحدثت معه؟» «أخبرني عن رحلة اصطحب فيها جوناس وحلق به لكي يعلمه الطيران. قال إنها لم تتكرر.»
ثم سأل: «ألم يقلك بسيارته إلى مكان ما؟ إلى أين؟» «إلى لين فالي. لأزور الخالة موريل.» «فعن أي شيء تحدثت أنت معه؟» «لم أجد الحديث معه سهلا.»
لم يبد أن حقيقة موته كان لها أثر كبير على أحلام يقظتها، إن كان يمكن تسميتها بذلك. تلك الخيالات التي تصور لها لقاءات تجمعهما بمحض المصادفة، أو حتى أن يعاودا لم الشمل عبر ترتيبات مستميتة. تلك الخيالات لم تحط على أرض الواقع بالمرة، على كل حال، ولم يطرأ عليها أي تعديلات لأنه مات. كان على تلك الخيالات أن تنهك حتى تستنفد ذاتها تماما بطريقة لم يكن لها عليها أي سلطان، ولم تسبر غورها قط.
حين كانت في طريق عودتها للبيت في تلك الليلة بدأت السماء تمطر، دون غزارة. كانت قد بقيت بالخارج على متن العبارة. نهضت من مكانها وتمشت قليلا هنا وهناك ولم تتمكن من معاودة الجلوس على غطاء صناديق أدوات النجاة دون أن تظهر بقعة مبتلة كبيرة على ثوبها. وهكذا ظلت واقفة تتطلع إلى الزبد الذي يدور ويثور في إثر القارب، وكانت الفكرة التي خطرت ببالها عندئذ أنه في نوع محدد من القصص - نوع لم يعد أي شخص يكتبه - فإن الشيء الذي كان يتوجب عليها فعله هو أن تلقي بنفسها في المياه. على حالتها تلك تماما، تفيض بالسعادة وتشرب كأسها حتى الثمالة، تشعر بأنها قد كوفئت كما لو أنها لن تكافأ بعدها أبدا بكل تأكيد، ارتوت كل خلية في جسدها بإحساس حلو من تقدير الذات. فعل رومانسي من الممكن رؤيته - من زاوية محظورة - كشيء رشيد إلى حد السمو.
هل أغويت؟ الأرجح أنها فقط تركت نفسها تتخيل أنها أغويت. الأرجح أن الأمر كله لم يقترب بالمرة من الانقياد للهوى، على الرغم من أن الانقياد كان هو النسق الخاص بذلك اليوم. •••
لم تتذكر تلك الجزئية الإضافية إلا بعد أن توفي بيير.
أقلها آشر بالسيارة إلى خليج هورس شو، إلى العبارة. خرج من السيارة ودار حولها حتى بلغ جانبها. كانت واقفة هناك، تنتظر أن تقول له وداعا. تحركت نحوه قليلا حتى تقبله - كان أمرا طبيعيا بلا شك، بعد الساعات القليلة الماضية - فقال لها: «لا.»
قال: «لا، لا أفعل ذلك أبدا.»
لم يكن ذلك صحيحا بطبيعة الحال، أنه لم يفعل ذلك قط. لم يتبادل القبل في الخارج في مكان مفتوح، حيث يمكن لأي شخص أن يرى. فقد وقع هذا الفعل في أصيل ذلك اليوم ذاته، عند حافة المنظر الطبيعي.
لا.
كان ذلك أمرا هينا؛ احترازا، رفضا، حماية لها، ربما، وحماية له هو كذلك. حتى لو لم يكن قد اكترث لذلك في وقت سابق من اليوم. «لا أفعل ذلك أبدا.» كانت شيئا آخر تماما، نوعا آخر من الاحتراز، معلومة قد لا تسرها، ومع ذلك فلعل المقصود منها منعها من اقتراف خطأ خطير. أن توفر عليها ما قد يجلبه خطأ ذو نوع محدد من آمال زائفة وامتهان للنفس.
إذن، كيف ودع أحدهما الآخر؟ هل تصافحا؟ لا يمكنها أن تتذكر.
لكنها سمعت صوته، الخفة في نبرته مع الوقار جنبا إلى جنب، ورأت وجهه الحازم، والمشرق ببساطة، شعرت بابتعاده السلس خارج نطاقها. لم تشك أن تلك الذكرى كانت حقيقية. ولم تدر كيف وسعها أن تكبتها بداخلها بكل ذلك النجاح، طوال كل هذا الوقت.
ساورتها فكرة أنها لو كانت قد عجزت عن فعل ذلك، لربما اتخذت حياتها مسلكا مختلفا.
كيف؟
ربما ما كانت بقيت مع بيير، ربما ما كانت قدرت على الاحتفاظ بتوازنها. مجرد محاولتها أن توفق بين ما قيل لدى العبارة وبين ما قيل وما جرى في وقت أسبق من اليوم ذاته، كانت ستجعلها أكثر حذرا وفضولا. لعل الكبرياء والتناقض لعبا دورا في ذلك - حاجتها لأن تحظى برجل لم تصدر عنه تلك الكلمات، رفضها أن تتعلم درسها - لكن ذلك لم يكن هو كل شيء. كان من الممكن أن تتاح لها حياة من نوع آخر؛ حياة لم يكن من الضروري أن تفضلها أكثر. ربما كان السبب هو سنها (شيء كانت دائما ما تنسى أن تضعه في الحسبان)، وبسبب ذلك الهواء اللطيف العليل الذي راحت تتنفسه منذ وفاة بيير، كان يمكنها أن تفكر في تلك الحياة المختلفة باعتبارها ليست أكثر من عملية بحث لها مزالقها وإنجازاتها.
قد لا يكتشف المرء الكثير على كل حال. قد لا يكتشف إلا الشيء ذاته المرة تلو الأخرى؛ وهو الذي قد يكون حقيقة جلية بشأنه لكنها مثيرة للقلق والكدر. وفي حالتها، الحقيقة هي أنها اتخذت الاحتراز ضوءا هاديا طوال الوقت؛ أو على الأقل اتخذت نوعا مقتصدا من الإدارة العاطفية.
حركته الصغيرة التي قام بها لحفظ الذات، الاحتراس الطيب والمميت معا، الميل للتصلب الذي زاد بداخله حتى باخ وبهت، كان أشبه باختيال عتيق الطراز. يمكنها أن تراه الآن يلفه غموض الحياة اليومية، كما لو كان زوجا لها.
تساءلت إن كان سيبقى معها على هذه الصورة، أم ما زال له بحوزتها دور جديد بانتظاره. تساءلت إن كانت لا تزال هناك طريقة للانتفاع به في مخيلتها، خلال ما تبقى لها من وقت.
كويني
«ربما يكون من الأفضل أن تتوقفي عن مخاطبتي بهذا الاسم!» هكذا قالت كويني عندما قابلتني في محطة القطار.
قلت: «بماذا؟ كويني؟»
أجابت: «ستان لا يحبه. يقول إنه يذكره بحصان ما.»
أن أسمعها تقول «ستان» كان أكثر مدعاة للدهشة بالنسبة إلي من أن تعلمني بأنها لم تعد كويني، وصارت لينا. ولكن ما كان لي أن أتوقع أنها سوف تظل تنادي زوجها بالسيد فورجيلا بعد انقضاء عام ونصف على زواجهما. لم أرها في أثناء تلك الفترة، وحين وقع بصري عليها قبل دقيقة، وسط جماعة المنتظرين في المحطة، لم أتعرف عليها تقريبا.
كان شعرها مصبوغا بلون أسود ومنتفشا للأعلى حول وجهها على الطراز الرائج في تلك الأيام أيا كان. وقد ضاع إلى الأبد لونه الجميل الشبيه بشراب الذرة المحلى - ذهبي من الأعلى وأسود من الأسفل - كما ضاع أيضا طوله الحريري المنسدل. كانت ترتدي ثوبا من قماش مطبوع أصفر اللون التصق بجسدها وانتهى فوق ركبتيها ببضع بوصات. خطوط الكحل المرسومة على طريقة الملكة كليوباترا حول عينيها، وكذلك الظل الأرجواني فوقهما ، جعلا عينيها تبدو أصغر حجما، وليس أكبر، كما لو كانتا تستخفيان عن عمد. كانت قد ثقبت أذنيها الآن، وتتدلى منهما حلقتان ذهبيتان.
رأيتها تنظر إلي بشيء من الدهشة كذلك. حاولت أن أكون جريئة ومنطلقة؛ قلت: «أهذا ثوب أم هدب حول مؤخرتك؟» ضحكت، فقلت: «كانت الحرارة في القطار لا تطاق. أنا أتعرق مثل خنزير.»
كان بوسعي أن أسمع كيف صار صوتي شبيها بصوت زوجة أبي، بيت، بغنته وحماسته الدافئة.
أتعرق مثل خنزير.
الآن ونحن في الترام المتجه إلى حيث تعيش كويني لم أستطع التوقف عن الظهور بمظهر الحمقاء. قلت: «أما زلنا في وسط المدينة؟» سرعان ما خلفنا المباني العالية وراءنا، ولكني لم أظن أنه بالإمكان اعتبار هذه المنطقة حيا سكنيا. استمر النوع ذاته من المتاجر والمباني في الظهور مرارا وتكرارا؛ تنظيف جاف، محل زهور، بقالة، مطعم. كانت صناديق الفاكهة والخضراوات موضوعة بالخارج على الرصيف، وفي نوافذ الطوابق الثانية من المباني يمكن رؤية لافتات تشير إلى أطباء أسنان وخياطين وموردي لوازم الصرف الصحي. قلما يرتفع مبنى عن طابقين، قلما ترى شجرة.
قالت كويني: «ليس وسط المدينة الحقيقي، أتذكرين حين أريتك متجر سمبسون؟ من الموضع الذي ركبنا فيه الترام؟ ذلك هو الحقيقي.»
قلت: «إذن فهل وصلنا تقريبا؟»
قالت: «ما زالت أمامنا سكة معقولة.»
ثم قالت: «أقصد «مسافة معقولة»، ستان لا يحب أن يسمعني أقول كلمة «سكة» كذلك.»
لعله تكرار الأشياء، ولعلها الحرارة، لكن ثمة ما جعلني أشعر بالتوتر وشيء من الغثيان. كنا نمسك بحقيبة سفري على ركبنا، وعلى بعد بوصات قليلة أمام أصابعي رقبة ممتلئة ورأس أصلع لرجل ما، وقد التصق قليل من خصلات الشعر السوداء المتعرقة الطويلة بفروة رأسه. لسبب ما وجدتني أفكر في طقم أسنان السيد فورجيلا الذي كان موضوعا في خزانة الأدوية، حين أرته لي كويني عندما كانت تعمل في خدمته في المنزل المجاور لنا. كان هذا قبل وقت طويل من إمكانية التفكير في السيد فورجيلا باعتباره ستان فحسب.
صفان ملتحمان من الأسنان موضوعان إلى جانب شفرته وفرشاة الحلاقة والوعاء الخشبي الذي يحوي صابون الحلاقة المختلط بالشعر والمثير للاشمئزاز.
قالت كويني حينذاك: «هذا طقمه.»
طقم؟ «طقم أسنانه.»
فقلت: «يا للقرف!»
قالت: «ذلك هو الطقم الاحتياطي. وهو يضع طقمه الآخر.» «يا للقرف! أليس أصفر اللون؟»
وضعت كويني يدها على فمي. لم ترغب في أن تسمعنا السيدة فورجيلا. كانت السيدة فورجيلا بالطابق السفلي راقدة على أريكة بغرفة الطعام. كانت عيناها مغلقتين معظم الوقت، ولكن قد لا تكون نائمة. •••
عندما نزلنا من الترام أخيرا كان علينا أن نصعد تلا شديد الانحدار، ونحن نحاول محاولات خرقاء أن نتقاسم ثقل حقيبة السفر. لم تكن المنازل متشابهة بالمرة، على الرغم من أنها بدت كذلك لأول وهلة. كان بعض الأسقف يقبع فوق الجدران مثل قبعات، أو كان يبدو الطابق الثاني بكامله كأنه سقف مغطى بالألواح الخشبية الصغيرة المتداخلة. كان لون تلك الألواح الخشبية إما أخضر داكنا وإما طوبيا وإما بنيا. لم تكن الأروقة الخارجية للمنازل تبتعد عن الرصيف إلا بضع أقدام، وبدت المسافات بين المنازل ضيقة بما يكفي لأن يمد ساكنوها أيديهم من النوافذ الجانبية فيصافح بعضهم بعضا. كان الأطفال يلعبون على الرصيف، غير أن كويني لم تلق إليهم بالا كما لو كانوا مجرد طيور تلقط الفتات من الشقوق. جلس رجل بدين للغاية عاري الصدر حتى خصره على السلالم الأمامية لبيته، وراح يحدق فينا بثبات وعبوس لدرجة أنني كنت واثقة أن لديه ما يقوله. سارت كويني بهمة متجاوزة إياه.
استدارت بعد مسافة ما على التل، وسارت على طريق معبد بالحصباء بين بعض صفائح القمامة. ومن إحدى نوافذ الطوابق الثانية نادت امرأة قائلة شيئا لم أتمكن من فهمه، فصاحت كويني ردا عليها: «إنها أختي، أتت لزيارتنا.»
قالت: «إنها صاحبة البيت، يعيشون في الشقة الأمامية بالطابق العلوي. إنهم يونانيون، لا تكاد تنطق كلمة إنجليزية.»
اتضح أن كويني والسيد فورجيلا يتقاسمان دورة المياه مع اليونانيين. يتوجب على المرء أن يأخذ معه لفة ورق حمام، وإن نسي فلن يجد هناك أيا منها. كان علي أن أذهب إلى المرحاض بمجرد دخولنا؛ لأنني كنت أعاني طمثا غزيرا ولا بد من تغيير المحرمة. على مدى سنوات بعد ذلك، كان مشهد شوارع بعينها في المدينة في الأيام الحارة، وبعض ظلال القرميد البني والألواح الخشبية المطلية بألوان داكنة، وهدير الترام، كل ذلك كان يعيد إلي ذكرى تقلصات أسفل بطني، وموجات الدفق، ورشح سوائل الجسم، والارتباك الحاد.
كانت هناك غرفة نوم واحدة، تنام فيها كويني مع السيد فورجيلا، وتحولت غرفة النوم الأخرى إلى غرفة جلوس صغيرة، بالإضافة إلى مطبخ ضيق، وشرفة زجاجية مغلقة. وفي تلك الشرفة سرير ضيق حيث يفترض بي أن أنام. أمام النوافذ، وعلى مسافة قريبة للغاية، كانت صاحبة البيت ورجل آخر يصلحان دراجة نارية. امتزجت رائحة الزيت، ورائحة المعدن والآلات برائحة طماطم ناضجة في الشمس. وانبعث صوت موسيقى من جهاز راديو في نافذة بالطابق العلوي.
قالت كويني: «هذا من بين الأشياء التي لا يطيقها ستان؛ ذلك الراديو.» وجذبت الستائر المنقوشة بالزهور، غير أن كلا من الضجة والشمس ظلت تجد طريقها إلى الداخل. قالت: «ليت معي من المال ما يكفي لعملية تبطين وعزل!»
كنت أمسك بيدي المحرمة المدماة ملفوفة في ورق حمام. أحضرت لي كيسا ورقيا وأرشدتني إلى سطل القمامة بالخارج. قالت: «كل محرمة تغيرينها، لا بد أن تتخلصي منها بالخارج فورا. لن تنسي ذلك، أليس كذلك؟ ولا تتركي علبة المحارم في أي موضع يمكن أن يراها فيه؛ إنه يبغض تذكيره بهذا الأمر.»
ما زلت أحاول أن أكون لا مبالية، وأن أتصرف كما لو كنت في بيتي. قلت: «لا بد لي أن أحصل على ثوب لطيف وأنيق مثل ثوبك هذا.» «ربما أستطيع أن أصنع لك واحدا.» هكذا قالت كويني، ورأسها بداخل الثلاجة. «أريد كوكاكولا، أتريدين؟ أنا أتردد على هذا المكان حيث يبيعون الفضل والبقايا من الأقمشة. لقد صنعت هذا الفستان كله بحوالي ثلاثة دولارات. كم يبلغ مقاسك الآن على كل حال؟»
رفعت منكبي إشارة على جهلي ذلك، وقلت إنني أحاول أن أنقص وزني. «حسنا. ربما نستطيع أن نعثر لك على شيء ما.» ••• «سوف أتزوج من سيدة لديها طفلة صغيرة في مثل سنك تقريبا.» هكذا قال أبي، وأضاف: «وهذه الطفلة الصغيرة ليس لها أب؛ لذا عليك أن تعديني بشيء واحد، وهو أنك لن تضايقيها بالمرة أو تقولي لها أي كلمة سيئة بخصوص ذلك. ستأتي عليكما أوقات قد تتشاجران وتتنازعان فيها كما تفعل الأخوات دائما، ولكن هذا الشيء بالذات إياك أن تذكريه لها! وإذا ما قاله الصغار الآخرون فإياك أن تأخذي جانبهم ضدها!»
لمجرد المجادلة، قلت لأبي إنني ليس لدي أم، ولم يقل لي أحد كلمة سيئة بخصوص هذا.
فقال أبي: «ذلك أمر مختلف.»
كان مخطئا بشأن كل شيء؛ فلم نكن نبدو في نفس السن بالمرة؛ لأن كويني كانت في التاسعة من عمرها حين تزوج أبي من أمها بيت، وكنت أنا في السادسة. ومع ذلك صرنا فيما بعد زميلتي دراسة حين تجاوزت أنا صفا دراسيا إلى الذي يليه مباشرة ورسبت هي في صف دراسي. لم أعرف أي شخص حاول أن يسيء إلى كويني، فقد كانت شخصا يسعى الآخرون جميعهم إلى كسب صداقته. كانت أولى من يتم اختيارها في فريق البيسبول على الرغم من أنها كانت لاعبة بيسبول طائشة، وأولى من يتم اختيارها في فريق مسابقات تهجي المفردات، على الرغم من مستواها الضعيف في التهجئة. وأيضا، لم نتورط أنا وهي في أي مشاجرات، ولا مرة واحدة. أظهرت نحوي الكثير من الطيبة وأعجبت بها أنا إعجابا جما. كنت أكاد أعبدها من أجل شعرها الذهبي-الداكن ونظرة عينيها السوداوين الناعستين؛ من أجل هيئتها وضحكتها فقط. كانت ضحكتها حلوة وخشنة مثل حبيبات السكر البني. كانت المفاجأة أنها مع كل حسناتها ومزاياها تستطيع أن تكون حنونة الفؤاد ودمثة. •••
بمجرد أن استيقظت في الصباح الذي اختفت فيه كويني، ذلك الصباح من بواكير فصل الشتاء، شعرت بأنها قد رحلت.
كان الوقت ما بين السادسة والسابعة، ولم تكن الظلمة قد تبددت تماما بعد، وكان المنزل باردا. وضعت على جسدي الروب الصوفي البني اللون الذي كنا نتقاسم ارتداءه أنا وكويني. كنا نسميه بافلو بيل، ومن كانت تنهض من فراشها في الصباح أولا كانت تلتقطه وترتديه. أما معرفة من أين أتى هذا الروب، فقد ظلت لغزا غامضا.
قالت كويني: «ربما كان خاصا بأحد أصدقاء بيت قبل زواجها من أبيك. ولكن إياك أن تقولي أي شيء؛ فقد تقتلني لهذا!»
كان فراشها فارغا ولم تكن في الحمام. نزلت إلى الطابق السفلي دون أن أضيء أي مصابيح؛ لأنني لم أرغب في إيقاظ بيت. نظرت عبر النافذة الصغيرة في الباب الأمامي. كل شيء كان يلتمع بالصقيع الخفيف؛ قارعة الطريق الخشنة، رصيف المشاة، والعشب المستوي في الباحة الأمامية. تأخر هطول الجليد. أدرت مدفأة الردهة فاشتعل الفرن في الظلام وصدر عنه هديره المطمئن. كنا قد حصلنا على الفرن الذي يعمل بالزيت للتو، وقال أبي إنه ما زال يصحو في الخامسة كل صباح، ظنا منه أن هذا هو وقت نزوله إلى القبو وإشعال نيران التدفئة.
كان أبي ينام في غرفة كانت فيما سبق غرفة الخزين، بجانب المطبخ. كان لديه هناك سرير حديدي ومقعد مكسور الظهر يكوم عليه الأعداد القديمة من مجلات ناشونال جيوجرافيك، ليقرأ منها حين يجافيه النوم. كان يضيء مصباح السقف ويطفئه عن طريق سلك مربوط إلى هيكل سريره. بدا لي كل هذا النظام الخاص به أمرا طبيعيا تماما وملائما لرب المنزل، الأب. كان عليه أن ينام مثل خفير حراسة ملتحفا ببطانية خشنة وتفوح منه رائحته الخاصة التي يمتزج فيها التبغ بروائح المحركات والآلات. يظل ساهرا يقرأ حتى يسرقه النعاس من كل ساعات اليقظة والانتباه.
وعلى الرغم من ذلك، لم يسمع كويني. قال إنها في مكان ما بالمنزل بالتأكيد. «هل بحثت في الحمام؟»
قلت: «ليست هناك.» «لعلها في غرفة أمها. إحدى نوبات الهلع والفزع.»
كان أبي يسمي تلك الحالات بنوبات الهلع والفزع، كلما استيقظت زوجته بيت - أو بالأحرى عجزت عن الاستيقاظ - من حلم مروع. كانت تخرج من غرفتها بخطوات متعثرة وهي غير قادرة على أن تقول ما الذي كان يثير رعبها، فتكون كويني هي من تقودها لتعود إلى فراشها من جديد. كانت كويني تضمها إليها من ظهرها، وتصدر أصواتا مهدهدة مثل صوت جرو يلعق الحليب، ولم تكن بيت تتذكر أي شيء من هذا في الصباح.
أضأت نور المطبخ.
قلت: «لم أكن أرغب في إيقاظها. بيت.»
نظرت نحو علبة الصفيح الخاصة بالخبز، العلبة ذات القعر الصدئ التي مسحت بخرقة المطبخ أكثر من اللازم، وإلى القدور الموضوعة على الموقد، المغسولة جيدا دون أن تعاد إلى أماكنها، وإلى الشعار المعلق الذي تقدمه منتجات ألبان فيرهولم: الرب هو قلب بيتنا. بدت جميع تلك الأشياء وكأنها في انتظار بداية اليوم، وهي تجهل أن هذا اليوم نفسه قد شهد كارثة ما.
لم يكن الباب المفضي إلى الرواق الجانبي للبيت مغلقا بالرتاج.
قلت: «لقد دخل أحدهم. لقد دخل أحدهم إلى البيت وأخذ كويني.»
خرج أبي وهو يرتدي بنطلون الخروج فوق سروال النوم الطويل. كانت بيت تطقطق بخفيها على الأرض في الطابق السفلي وهي ترتدي روبها المخملي الثقيل، وتشعل جميع الأضواء في طريقها.
قال لها أبي: «كويني ليست معك؟» ثم خاطبني قائلا: «لا بد أن الباب فتح رتاجه من الداخل.»
قالت بيت: «ما هذا الذي جرى لكويني؟»
فقال أبي: «لعلها شعرت بالرغبة في تمشية قصيرة.»
تجاهلت بيت قوله هذا. كان على وجهها قناع من مادة زهرية ما. كانت مندوبة مبيعات لمستحضرات التجميل، ولم تكن تبيع قط أي مستحضر تجميلي لم تجربه على نفسها.
قالت لي: «اذهبي إلى منزل أسرة فورجيلا. ربما تكون تذكرت شيئا من المفترض أن تفعله هناك.»
كان هذا بعد انقضاء أسبوع أو نحو ذلك على جنازة السيدة فورجيلا، ولكن كويني واصلت عملها هناك، تمد يد العون في تخزين الصحون والمفارش داخل الصناديق بحيث يمكن للسيد فورجيلا أن ينتقل للعيش في شقة ما. كان عليه أن يستعد لحفلات الكريسماس الموسيقية في المدرسة، ولم يكن بوسعه أن يهتم بحزم الأمتعة وتخزين الأشياء بنفسه. أرادت بيت من كويني أن تترك هذا العمل فحسب، بحيث يمكن لأحد المتاجر الاستعانة بها عونا إضافيا في موسم الأعياد.
وضعت في قدمي حذاء مطاطيا طويل الرقبة لأبي وجدته بالقرب من الباب، بدلا من أن أصعد للطابق العلوي لألبس حذائي، ورحت أتعثر عابرة الباحة نحو الرواق الخارجي لمنزل آل فورجيلا وضغطت الجرس. كانت له نغمة ذات إيقاع؛ مما بدا وكأنه يعلن عن الميول الموسيقية لأهل المنزل. ضممت روب بافلو بيل علي بإحكام ورحت أبتهل وأتضرع. آه يا كويني، أرجوك يا كويني، أشعلي الأضواء. ونسيت أنها لو كانت تعمل بالداخل لوجدت الأضواء مشتعلة بالفعل.
لا إجابة. رحت أطرق خشب الباب. سيكون السيد فورجيلا متعكر المزاج حين أفلح أخيرا في إيقاظه. ضغطت رأسي على الباب، أتسمع لأي حركة بالداخل. «سيد فورجيلا، يا سيد فورجيلا! أنا آسفة على إيقاظك يا سيد فورجيلا. أليس بالبيت أحد؟»
انفتحت نافذة في المنزل الذي يقع على الجانب المواجه لمنزل السيد فورجيلا. كان السيد هوفي، العجوز الأعزب الذي يعيش هناك هو وأخته. «أليس لك عينان؟» قال السيد هوفي صائحا بي. «انظري إلى ممر السيارات.»
لم تكن سيارة السيد فورجيلا هناك.
أغلق السيد هوفي النافذة بعنف.
حين فتحت باب مطبخنا رأيت أبي وبيت جالسين إلى المائدة وأمامهما قدحان من الشاي. لدقيقة واحدة ظننت أننا استعدنا روتيننا اليومي، أن اتصالا تليفونيا قد وردهما، ربما، بأخبار مطمئنة.
قلت: «السيد فورجيلا غير موجود. لقد خرج بسيارته.»
فقالت بيت: «أوه، نعرف ذلك. نعرف كل شيء حول ذلك.»
قال أبي: «انظري إلى هذا!» وألقى بقطعة من الورق على المائدة.
كان مكتوبا فيها: «سوف أتزوج من السيد فورجيلا. المخلصة لكم، كويني.»
قال أبي: «كانت وعاء السكر.»
أسقطت بيت ملعقتها.
صاحت: «أريد مقاضاته، أريد أن أودعها مؤسسة إصلاحية. أريد الشرطة.»
فقال أبي: «إن سنها ثمانية عشر عاما، وبوسعها أن تتزوج إذا شاءت أن تفعل. لن تضع الشرطة حواجز على الطريق لتقبض عليهما.» «ومن قال إنهما على الطريق؟ لا بد أنهما مقيمان في أحد تلك الفنادق الصغيرة. تلك البنت الحمقاء وذلك الفورجيلا ذو عين البق والمؤخرة العجفاء.» «الكلام بهذه الطريقة لن يعيدها.» «لا أريدها أن تعود، حتى ولو عادت زاحفة. لقد وجدت لنفسها سريرا ويمكنها أن ترقد عليه مع ذلك اللوطي ذي عين البق. ويمكنه أن ينكحها في أذنها ولن أهتم.»
قال أبي: «يكفي ذلك.» •••
أحضرت لي كويني قرصي أسبرين لأتناولهما مع الكوكاكولا. «إنه لأمر مذهل أن تصفو تقلصات الطمث بمجرد الزواج. إذن، فقد أخبرك والدك بأمرنا.»
عندما أطلعت أبي على رغبتي في أن أعمل بوظيفة خلال فصل الصيف قبل أن ألتحق بكلية المعلمات في الخريف، قال إنه ربما علي أن أذهب إلى تورونتو وأزور كويني. قال إنها راسلته عن طريق شركة الشحن الخاصة به، تسأله إن كان بوسعه إقراضهما بعض المال ليدبرا به أمورهما خلال فصل الشتاء.
قالت كويني: «ما كنت لأكتب إليه أبدا، لولا مرض ستان العام الماضي بالالتهاب الرئوي.»
قلت: «كانت هذه أول مرة أعرف فيها مكانك.» وسالت الدموع من عيني، لم أدر لهذا سببا؛ إذ إنني شعرت بسعادة هائلة حين عرفت ذلك، ودون أن أدري شعرت بوحدة هائلة؛ لأنني تمنيت الآن لو أنها تقول: «بالطبع كنت أنوي دائما أن أتواصل معك أنت.» ولم تقل ذلك.
قلت: «بيت لا تعرف، تظن أنني بمفردي هنا.» «أرجو ذلك.» هكذا قالت كويني في هدوء، «أقصد أنني أرجو ألا تعرف.»
كان عندي الكثير لأخبرها به، بشأن أحوال البيت والأهل. أخبرتها بأن شركة الشحن قد ازداد عدد مركباتها من ثلاث إلى دستة، وأن بيت قد اشترت معطفا من فراء فأر المسك، وأنها توسعت في عملها التجاري، وصارت الآن تدير مركزا للتجميل في منزلنا. ولهذا الغرض جهزت الغرفة التي اعتاد أبي أن يبيت فيها، ونقل هو سريره المعدني الصغير وأعداد مجلة ناشونال جيوجرافيك إلى غرفة مكتبه، وهو مجرد مقطورة من مقطورات القوات الجوية جرها إلى باحة الشحن. وبينما كنت أجلس إلى مائدة المطبخ أستذكر دروسي استعدادا لامتحان الالتحاق بالكلية، رحت أنصت إلى بيت وهي تقول: «لا يجب أن تقتربي من بشرة رقيقة كهذه بلوفة الاستحمام!» هذا قبل أن تغرق امرأة ساذجة بالمستحضرات والكريمات. وأحيانا أخرى تقول بنبرة أهدأ، ولكنها ما زالت مشحونة بالأمل: «أقول لك إنني كان عندي شيطانة، كان عندي شيطانة تعيش في الغرفة المجاورة لي مباشرة ولم أرتب في شيء بالمرة؛ لأن الواحدة تحسن الظن بالناس، ألا نفعل؟ دائما ما أحسن الظن بالناس، وأظل هكذا إلى أن يركلوني في أسناني.»
فتقول الزبونة: «ذلك صحيح، وأنا مثلك تماما.» أو: «تظنين أنك جربت الأسى، لكنك لم تعرفي ولو نصفه في الحقيقة.»
ثم تعود بيت من اعتنائها بامرأة ما وتقف لدى الباب وتصدر أنينا متألما وتقول: «إن لمست وجهها في الظلام فلن تجدي أي فرق بينه وبين ورق السنفرة.»
لم يبد على كويني أنها مهتمة بسماع كل تلك الأمور، ولم يكن أمامنا الكثير من الوقت على كل حال، فقبل أن ننهي كعكتينا سمعنا الخطوات السريعة الثقيلة على الطريق المعبد، ودخل السيد فورجيلا إلى المطبخ.
صاحت كويني: «انظر إذن من هنا.» ونهضت نصف نهوض، كما لو أنها تود أن تلمسه، لكنه انحرف متجها إلى الحوض.
كان صوتها مفعما بتلك الدهشة الضاحكة، حتى إنني تساءلت إن كانت قد أخبرته بأي شيء عن رسالتي إليها أو عن حقيقة أنني في طريقي إليهما.
قالت: «إنها كريسي.»
قال السيد فورجيلا: «نعم، مفهوم. لا بد أنك تحبين الطقس الحار يا كريسي، ما دمت أتيت إلى تورونتو في الصيف.»
قالت كويني: «سوف تبحث عن عمل.»
سأل السيد فورجيلا: «ألديك بعض المؤهلات؟ هل لديك أي مؤهلات للعثور على وظيفة في تورونتو؟»
قالت كويني: «إنها حاصلة على دبلومة المدارس الثانوية.»
فقال السيد فورجيلا: «حسنا، لنأمل أن يكون في هذا الكفاية.» ملأ كأسا بالماء ثم شربها دفعة واحدة، وهو يقف موليا لنا ظهره، تماما كما اعتاد أن يفعل حين كنت أنا وكويني والسيدة فورجيلا نجلس إلى مائدة المطبخ في ذلك المنزل الآخر، منزل آل فورجيلا المجاور لنا. كان السيد فورجيلا حينذاك يعود من تمرين في مكان ما، أو كان يستريح قليلا خلال أحد دروس تعليم البيانو التي يقدمها في الغرفة الأمامية. وعلى صوت خطواته المقتربة كانت السيدة فورجيلا توجه لنا ابتسامة محذرة. فنخفض جميعا أنظارنا نحو حروف لعبة سكرابل، تاركين له حرية الاختيار في أن يلحظنا أو لا يفعل. وأحيانا لم يكن يلحظنا. كان فتحه للخزانة، وإدارته للصنبور، ووضع الكأس على النضد، كل ذلك يبدو أقرب إلى سلسلة من انفجارات صغيرة، وكأنه كان يتحدى أي شخص أن يتنفس في حضوره.
كان على هذه الحال نفسها حين كان يدرس لنا الموسيقى في المدرسة. يدخل إلى الفصل بخطوة رجل لا يمكنه أن يضيع دقيقة واحدة، ثم يدق دقة بعصاه الصغيرة فيكون هذا إيذانا بأن نبدأ. يسير متبخترا بين صفوف المقاعد بأذنيه المرهفتين، وعيناه الزرقاوان بارزتان ويقظتان، وعلى وجهه تعبير متوتر وعدواني. وفي أي لحظة قد يتوقف محاذيا لمقعد أي منا، منصتا إلى غنائه؛ كي يتبين إن كان يتظاهر بالغناء أو ينشز عن النغمة المطلوبة. ثم كان يخفض رأسه ببطء، وعيناه تحدقان في عيني من اختاره وبيديه يأمر الآخرين بتخفيض أصواتهم، لكي يؤكد العار. وكان يقال إنه يكون بهذا القدر ذاته من الاستبداد والتسلط في نوادي الغناء الجماعي وفرق الكورال العديدة التي يشرف عليها. ومع ذلك فقد كان مفضلا عند مطربيه، وخصوصا السيدات منهن، اللاتي كن يحكن له مشغولات بالإبرة في أعياد الميلاد؛ جوارب وأوشحة وقفازات لتدفئه خلال تنقله من مدرسة إلى أخرى، ومن كورال إلى آخر.
بعد أن اشتد مرض السيدة فورجيلا بحيث لم تعد قادرة على إدارة أمور المنزل، تعهدت كويني بإدارته، وقد انتشلت من أحد الأدراج شيئا مشغولا بالإبرة وراحت تهزه يمينا ويسارا أمام وجهي. كان قد وصل إلى البيت دون اسم من أرسلته.
لم أدر طبيعة ذلك الشيء.
فقالت كويني: «إنه لتدفئة العضو الذكري في البرد، أخبرتني السيدة فورجيلا ألا أريه له، فسوف يجن غضبا لو رآه. ألا تعرفين حقا ما هذا؟»
قلت: «يا للقرف!» «إنها مجرد مزحة.» •••
كان على كويني والسيد فورجيلا أن يذهبا إلى العمل في الأمسيات. كان السيد فورجيلا يعزف على البيانو في مطعم ما وكان يرتدي بدلة توكسيدو. أما كويني فكانت تبيع التذاكر في إحدى دور العرض السينمائي. كانت دار السينما على بعد بضع بنايات فقط؛ لذا فقد سرت إلى هناك بصحبتها، وحين رأيتها تجلس في مقصورة بيع التذاكر، فهمت عندها أن مساحيق الوجه والشعر المصبوغ المصفف حول وجهها والأقراط المتدلية ليست بالأشياء المستغربة على كل حال. بدت كويني أشبه بالفتيات العابرات في الشارع أو اللاتي يدخلن إلى السينما لمشاهدة الفيلم مع رفاقهن الذكور. وقد بدت شبيهة للغاية بالفتيات المصورات في الملصقات الإعلانية المحيطة بها. بدا أنها مرتبطة بعالم الدراما، بالغراميات الملتهبة والمخاطر، التي يتم عرضها بالداخل على الشاشة.
وبتعبير أبي، بدا أنها لم تكن مضطرة لأن تسلم زمام أمورها لأي شخص.
قالت لي: «لم لا تأخذين جولة في الأنحاء لبعض الوقت؟» غير أن الحرج والخجل منعاني. لم أستطع أن أتخيل نفسي جالسة في مقهى أحتسي القهوة وأعلن للعالم أنني ليس لدي ما أفعله ولا مكان أذهب إليه، كما أني لم أتخيل نفسي أدخل أحد المتاجر لأجرب ثيابا لا أطمح إلى شرائها. صعدت التل من جديد، ولوحت بالتحية للسيدة اليونانية التي صاحت بشيء من نافذتها. فتحت بمفتاح كويني ودخلت الشقة.
جلست على السرير الضيق في الشرفة المغلقة بالزجاج. لم يكن هناك أي مكان يسمح لي فيه بتعليق الثياب التي أحضرتها معي، وفكرت أنها ربما لا تكون فكرة جيدة أن أخرج أشيائي من الحقائب على كل حال؛ فقد لا يروق للسيد فورجيلا أن يرى أي إشارة على إقامتي معهما.
فكرت في أن مظهر السيد فورجيلا قد تبدل، تماما كما تبدل مظهر كويني، ولكن ليس على النحو ذاته الذي تبدلت هي به؛ أي ما بدا لي عندها فتنة غريبة وثقيلة وافتقادا للبساطة والعفوية. كان لون شعره رماديا مائلا للحمرة، فصار الآن رماديا تماما، وتعبير وجهه - الذي طالما كان متأهبا للاشتعال بالغضب أمام أي احتمال لقلة الاحترام، أو أمام طريقة عزف ضعيفة، أو حتى لمجرد أن شيئا ما في منزله ليس في الموضع الذي يفترض أن يكون فيه - بدا الآن كتعبير أقرب إلى إحساس مقيم بالأسى والغبن، كما لو أنه يستشعر إساءة ما أو يرى أمام عينيه طوال الوقت سلوكا معيبا يحدث دون أن يلقى العقاب المناسب.
نهضت وجلت في الشقة. لا يمكن للمرء أبدا أن ينعم النظر بالأماكن التي يعيش فيها الناس في أثناء وجودهم بداخلها.
كان المطبخ هو ألطف غرفة، على الرغم من عتمته المفرطة. زرعت كويني نبتة لبلاب حول النافذة التي تعلو المطبخ، ورشقت الملاعق الخشبية بحيث تبرز خارج إبريق جميل من فخار بلا يد، تماما كما اعتادت أن تنسقها السيدة فورجيلا. كان البيانو موضوعا في غرفة المعيشة، إنه البيانو ذاته الذي كان في غرفة المعيشة الأخرى. كان هناك مقعد مريح بمسندين وخزانة كتب مصنوعة من الآجر وأرففها من ألواح الخشب الرفيعة، ومشغل تسجيلات والكثير من الأسطوانات موضوعة على الأرضية. لا يوجد تليفزيون. لا مقعد هزاز بلون عسلي فاتح ولا ستائر منقوشة، ولا حتى المصباح الطويل الذي تزدان مظلته بمناظر يابانية. ومع ذلك فكل تلك الأشياء قد تم شحنها إلى تورونتو، في يوم كان يتساقط فيه الجليد. كنت قد عدت إلى البيت يومها في وقت تناول الغداء ورأيت شاحنة النقل. لم تستطع بيت أن تبعد نفسها عن نافذة الباب الأمامي. وأخيرا نسيت كل كبريائها الذي تحب إظهاره عادة أمام الغرباء، ففتحت الباب وصاحت برجال الشحن قائلة: «عودوا إلى تورونتو وأخبروه أنه لو أطل بوجهه بالقرب من هنا مرة أخرى فسوف يندم أشد الندم.»
لوح لها رجال الشحن في غبطة، كما لو أنهم اعتادوا هذا النوع من المشاهد، ولعلهم كذلك فعلا. لا بد أن نقل الأثاث يعرض المرء للكثير من الصخب والعنف.
ولكن أين ذهب كل شيء؟ قلت لنفسي إنه تم بيعه. لا بد أنه قد بيع. قال أبي إن السيد فورجيلا يجد صعوبة على ما يبدو في الاستقرار في تورونتو اعتمادا على مجال عمله، وقد قالت كويني شيئا بخصوص «تعسر الحال»، ما كانت لتكتب رسالتها إلى أبي إن لم يعانيا تعسر الحال.
لا بد أنهما قد باعا الأثاث قبل أن تكتب إليه.
على خزانة الكتب رأيت الموسوعة الموسيقية، والدليل العالمي إلى الأوبرا، وسير أعظم مؤلفي الموسيقى. وكذلك الكتاب العريض والرفيع بغلافه البديع - رباعيات عمر الخيام - الذي كانت السيدة فورجيلا غالبا ما تحتفظ به بجوار موضعها على الأريكة.
كان هناك كتاب آخر له غلاف مزخرف على نحو مشابه ولا أتذكر الآن عنوانه بدقة، لكن شيئا ما في عنوانه دفعني للظن بأنه ربما يروق لي. كلمة مثل «الروض» أو «العاطر»، فتحت الكتاب، ويمكنني أن أتذكر جيدا الجملة الأولى التي قرأتها: «كما أن المحظيات الصغيرات في جناح الحريم كن يتعلمن الاستخدام البارع لأظافر أناملهن.»
لم أكن متأكدة من معنى محظية، غير أن كلمة «حريم» (لماذا ليست حاريم؟) أعطتني إشارة على المعنى. وكان علي أن أواصل القراءة كي أكتشف ما الذي كن يتعلمن فعله بأظافرهن. رحت أقرأ وأقرأ، لمدة ساعة ربما، ثم تركت الكتاب يسقط على الأرضية. ساورتني مشاعر الإثارة، والتقزز، وعدم التصديق. هل هذه هي نوعية الأمور التي تثير اهتمام الأشخاص الناضجين حقا؟ حتى تصميم الغلاف، بدوالي العنب الملتفة والملتوية بعضها حول بعض، بدت لي عدوانية وفاسدة قليلا. التقطت الكتاب لأعيده إلى موضعه فسقط مفتوحا ليكشف الاسمين المكتوبين على صفحته الأولى البيضاء. ستان وماري جولد فورجيلا، مكتوبان بخط أنثوي. ستان وماري جولد.
استعدت ذكرى الجبين الأبيض العالي للسيدة فورجيلا، وشعرها ذي التجاعيد الصغيرة المحكمة بلونيه الأسود والرمادي، وقرطيها من فصي لؤلؤ، وبلوزاتها المعقودة عند الرقبة بربطة على شكل فراشة. كانت أطول قامة بقليل من السيد فورجيلا، وظن الناس أن هذا هو السبب وراء عدم خروجهما معا، غير أن السبب الحقيقي كان أنها تلهث وتتقطع أنفاسها. تلهث وهي تصعد الدرج، أو وهي تعلق الثياب على حبل الغسيل. وفي نهاية الأمر صارت تلهث حتى وهي جالسة إلى الطاولة تلعب سكرابل.
في أول الأمر لم يكن أبي يسمح لنا بأن نأخذ منها أي نقود مقابل أن نشتري لها البقالة أو أن ننشر لها غسيلها، قائلا إن هذا حق الجيرة فحسب.
فقالت بيت إنها تفكر أن تجرب الرقاد في موضعها لترى إن كان الناس سيأتون ويقفون على خدمتها دون مقابل .
ثم أتى السيد فورجيلا إلى المنزل وتفاوض حول ذهاب كويني للعمل عندهما. أرادت كويني أن تذهب لأنها كانت قد رسبت في صفها في المدرسة الثانوية ولم ترغب في إعادة السنة. أخيرا وافقت بيت، لكنها أكدت عليها ألا تقوم بأي أعمال تمريض. «إذا كان من البخل بحيث لا يستعين بممرضة، فهذا ليس بمسئوليتك.»
قالت كويني إن السيد فورجيلا يعطي السيدة فورجيلا الأقراص كل صباح، ويحممها بالإسفنجة كل مساء. بل إنه حاول أن يغسل ملاءاتها في حوض الاستحمام، كأنه لا يوجد في المنزل آلة اسمها غسالة.
تذكرت تلك الأوقات التي كنا نجلس لنلعب فيها سكرابل في المطبخ، وبعد أن يشرب السيد فورجيلا كأس مائه يضع يدا على كتف السيدة فورجيلا ويتنهد، كما لو كان عائدا من رحلة طويلة ومرهقة.
كان يقول: «مرحبا يا حبي.»
فكانت السيدة فورجيلا تطأطئ رأسها لتطبع قبلة جافة على يده، وتقول: «مرحبا يا حبي.»
ثم كان ينظر نحونا، نحوي أنا وكويني، كما لو كان حضورنا لم يؤذه البتة. «مرحبا بكما.»
فيما بعد كنا أنا وكويني نقهقه في سريرينا في الظلام. «تصبحين على خير يا حبي.» «وأنت من أهله يا حبي.»
كم تمنيت لو كان بوسعنا أن نعود من جديد إلى تلك الأيام. •••
باستثناء ذهابي إلى الحمام في الصباح وتسللي إلى الخارج كي أضع محرمة الطمث في سطل القمامة، كنت أمكث جالسة على سريري المرتجل في الشرفة الزجاجية حتى يخرج السيد فورجيلا من المنزل. كنت أخشى ألا يكون لديه أي مكان ليتوجه إليه، ولكن من الواضح أنه كان لديه. بمجرد أن خرج نادتني كويني؛ كانت قد أعدت برتقالة مقشرة ورقائق الذرة والقهوة.
قالت: «وها هي الجريدة، كنت أطالع إعلانات الوظائف الخالية. ومع ذلك فإنني أريد قبل هذا أن أغير شعرك قليلا؛ أريد أن أقص بعض الأطراف من الخلف وأريد أن أرفعه في بكرات. أيناسبك هذا؟»
قلت لا بأس. حتى بينما كنت آكل، ظلت كويني تدور من حولي وتتطلع إلي، محاولة تنفيذ فكرتها. ثم جعلتني أجلس على مقعد عال بلا ظهر - وكنت لا أزال أشرب قهوتي - وشرعت تصفف وتقص.
سألتني: «والآن، ما نوع الوظيفة التي تبحثين عنها؟ رأيت واحدة في محل تنظيف جاف. على طاولة الاستقبال. ما رأيك في ذلك؟»
قلت: «ذلك مناسب.» «أما زلت تنوين أن تصيري معلمة؟»
قلت لا أدري. خطرت لي فكرة أنها ربما تراها مهنة كئيبة ومملة. «أظن أنه يجب عليك ذلك؛ فأنت ذكية بما فيه الكفاية، والمعلمات يتلقين رواتب أفضل؛ رواتبهن أكبر مما يتقاضاه أشخاص مثلي. ستكونين أكثر استقلالا بحياتك.»
قالت إنها لا تجد بأسا في عملها في دار السينما. حصلت على الوظيفة قبل عيد الكريسماس الأخير بشهر أو نحوه، وأحست بسعادة حقيقية عندئذ لأنها لأول مرة صار معها مالها الخاص، ولأنها استطاعت أن تشتري المقادير اللازمة لصنع كعكة الكريسماس. وعقدت صداقة مع رجل كان يبيع أشجار الكريسماس على ظهر شاحنة، وسمح لها بأن تختار واحدة مقابل خمسين سنتا، وقد سحبتها صاعدة بها التل بمفردها. علقت عليها رايات صغيرة حمراء وخضراء من ورق الكوريشة المجعد، كانت رخيصة السعر. وصنعت بعض الزينات من ورق الألومنيوم المفضض على كرتون، واشترت زينة أخرى في اليوم السابق على عيد الميلاد حين ذهبا إلى أوكازيون في أحد المتاجر. أعدت كعكعا محلى وعلقته على الشجرة كما رأت في مجلة ما. كانت تلك عادة أوروبية.
أرادت أن تقيم حفلا، ولكنها لم تعرف من تدعو. كانت هناك الأسرة اليونانية، ودعا ستان اثنين من الأصدقاء، ثم خطرت لها فكرة دعوة تلاميذه.
ما زلت لم أعتد قولها «ستان»، لم يكن هذا فقط تذكيرا لي بصلتها الحميمة بالسيد فورجيلا. كان كذلك طبعا، لكنه كان يوحي أيضا بأنها قد اصطنعته من لا شيء. شخص جديد ... ستان، كما لو أن السيد فورجيلا الذي عرفناه معا لم يوجد قط من الأساس، فضلا عن السيدة فورجيلا.
كان تلاميذ ستان جميعهم من كبار السن الآن - وكان يفضل الكبار عن الطلبة الصغار السن - وهكذا لم ينشغل بالهما بشأن نوع الألعاب والتسليات الملائمة للأطفال. عقدا الحفل مساء يوم أحد؛ لأن الأمسيات الأخرى كلها كانت مشغولة بعمل ستان في المطعم وعمل كويني في دار السينما.
جلب اليونانيون معهم نبيذا صنعوه بأنفسهم، وأحضر بعض الطلاب شراب مخفوق البيض والروم ونبيذ الشيري، كما أحضر بعضهم تسجيلات موسيقية يمكن لهم أن يرقصوا عليها. لقد اعتقدوا أن ستان ليس لديه أي تسجيلات لموسيقى من ذلك النوع، وكانوا على صواب.
أعدت كويني لفائف السجق وكعك الزنجبيل، وأحضرت السيدة اليونانية نوعا خاصا بها من البسكويت. كان كل شيء على خير ما يرام، ونجح الحفل. رقصت كويني مع فتى صيني اسمه آندرو، وكانت قد أحبت الأسطوانة التي أحضرها معه.
قالت: «استديري، استديري!» حركت رأسي كما قالت. لكنها ضحكت وقالت: «لا، لا، لم أقصدك أنت. تلك كانت الأغنية في الأسطوانة، تغنيها فرقة اسمها بيردز.»
وراحت تغني: «استديري، استديري، استديري، لكل شيء موسم ...»
كان آندرو طالبا يدرس طب الأسنان، لكنه أراد أن يتعلم كيف يعزف سوناتا ضوء القمر. أخبره ستان أن ذلك سوف يقتضي منه وقتا طويلا، غير أن آندرو كان صبورا. أخبر كويني بأنه لا يملك ما يكفي من المال كي يعود إلى بيته وأهله شمالي أونتاريو في الكريسماس.
قلت: «ظننته من الصين.» «لا، ليس صينيا حقيقيا. إنه من هنا.»
مارسوا إحدى ألعاب الأطفال؛ حيث لعبوا لعبة الكراسي الموسيقية. في ذلك الوقت كان الجميع في حال من الصخب والمرح، حتى ستان؛ أمسك بكويني حين كانت تركض أمامه، وجرها جرا لتجلس على حجره ولم يدعها تفلت منه. وبعد ذلك، وحين ذهب الجميع، لم يتركها تنظف وترتب، أرادها أن تأوي معه إلى الفراش فحسب.
قالت كويني: «تعرفين أحوال الرجال. أليس لديك حبيب أو شيء كهذا حتى الآن؟»
أجبت بالنفي. دائما ما كان الرجل الأخير الذي كان أبي قد عينه سائقا يتردد على المنزل لتوصيل رسائل لا أهمية لها، وقال أبي: «إنه فقط يتحين الفرص للتحدث إلى كويني.» كنت لطيفة معه، ومع ذلك، فحتى ذلك الحين لم يملك بعد جرأة كافية ليطلب الخروج معي.
فقالت كويني: «إذن فأنت ما زلت جاهلة بتلك الأمور حتى الآن ؟»
قلت: «لست كذلك بالطبع.»
قالت: «اممممم.»
التهم ضيوف الحفل كل شيء تقريبا ما عدا الكعكة. لم يأكلا الكثير منها، ولكن كويني لم تستأ من ذلك. كانت الكعكة دسمة للغاية، وعندما حان وقت تناولها كانوا متخمين بلفائف السجق والأطباق الأخرى، كما أنها لم تجد الوقت الكافي لكي تدعها تنضج كما ذكر كتاب الطبخ تماما؛ لذا فقد سرها أن يتبقى بعضها. كانت تفكر، قبل أن يسحبها ستان بعيدا، أنه يتوجب عليها لف الكعكة في قماشة مشربة بالنبيذ، وأن تضعها في مكان بارد. إنها إما فكرت في فعل ذلك، وإما فعلته حقا، وفي الصباح التالي رأت أن الكعكة ليست على المائدة، فاعتقدت أنها أتمت ما انتوت فعله. فكرت في نفسها: حسن، لقد تدبرت أمر الكعكة.
لم يمر سوى يوم أو بعض يوم حتى قال لها ستان: «فلنأكل قطعة من تلك الكعكة.» قالت له: دعها تنضج أكثر قليلا، لكنه أصر. بحثت في خزانة الطعام ثم في الثلاجة، لكنها لم تجدها لا هنا ولا هناك. نظرت بالأعلى وبالأسفل ولم تجدها. تذكرت رؤيتها لها على المائدة، ومرت بذهنها ذكرى عابرة وهي تحضر قطعة نظيفة من القماش، وتشربها بالنبيذ، وتلف بها ما تبقى من الكعكة في حرص، وبعد ذلك تلف الورق المشمع حول القماشة من الخارج. ولكن متى فعلت ذلك؟ وهل فعلته من الأصل أم هي فقط تخيلت ذلك؟ وأين وضعت الكعكة حين انتهت من لفها؟ حاولت أن تستحضر صورة نفسها وهي ترفعها وتضعها في مكان ما، غير أن عقلها لم يستدع شيئا سوى محض فراغ.
بحثت في كل ركن من خزانة الثياب، على الرغم من أنها كانت تعلم أن الكعكة أكبر من أن تختفي هناك، ثم بحثت في الفرن وحتى في أماكن مجنونة مثل أدراج التسريحة وتحت السرير وعلى أرفف الدواليب. لم تكن في أي مكان.
قال ستان لها: «إن كنت قد وضعتها في مكان ما، فلا بد أن تكون في ذلك المكان.»
قالت كويني: «هكذا فعلت. وضعتها في مكان ما.»
قال: «ربما كنت سكرى ورميتها بالخارج.»
فقالت: «لم أسكر. ولم أرمها بالخارج.»
لكنها خرجت ونظرت في القمامة. لا.
جلس إلى المائدة يراقبها. إذا كانت قد وضعتها في مكان ما، فلا بد أن تكون في ذلك المكان. استحوذ عليها جنون مسعور.
قال ستان: «هل أنت متأكدة؟ متأكدة من أنك لم تعطيها لأحد؟»
كانت متأكدة. كانت متأكدة من أنها لم تعطها لأحد. لقد لفتها لتحفظها. كانت متأكدة، كانت تقريبا متأكدة من أنها لفتها لتحفظها. كانت متأكدة من أنها لم تعطها لأحد.
قال ستان: «آه، لا أدري شيئا عن ذلك، ولكني أعتقد أنك ربما أعطيتها لأحد. وأعتقد أنني أعرف من يكون.»
تجمدت كويني عن الحركة تماما. من يكون؟ «أعتقد أنك قد أعطيتها لآندرو.»
لآندرو؟
آه، نعم. آندرو المسكين، الذي كان يحكي لها أنه لا يملك مالا كافيا ليسافر فيقضي الكريسماس مع أهله. كانت تشعر بالأسف نحو آندرو. «وهكذا أعطيته كعكتنا.» «لا.» قالت كويني. لماذا تفعل ذلك؟ ما كانت لتفعله. لم تخطر لها قط فكرة أن تعطي الكعكة لآندرو.
فقال ستان: «إياك والكذب يا لينا!»
وكانت تلك نقطة البداية لكفاحها المديد التعس. كل ما استطاعت قوله كان: لا، لا، لا، لم أعط الكعكة لأي شخص. لم أعط الكعكة لآندرو. أنا لست كاذبة. لا. لا.
قال ستان: «من المحتمل أنك سكرت. كنت سكرى ولا تتذكرين جيدا.»
قالت كويني إنها لم تسكر.
قالت: «لقد كنت أنت من سكر.»
قام واقفا واقترب منها بيد مرفوعة، آمرا إياها ألا تقول له إنه كان سكران، ألا تقول له ذلك أبدا.
صاحت كويني: «لن أفعل. لن أقولها. أنا آسفة!» لم يضربها، لكنها بدأت تبكي، وواصلت البكاء بينما تحاول أن تقنعه. لماذا عساها تهدي كعكة تعبت كثيرا في إعدادها؟ لماذا لا يصدقها؟ لماذا قد تكذب عليه؟
قال ستان: «الجميع يكذبون.» وكلما زادت في البكاء وتوسلت إليه ليصدقها صار هو أميل إلى الهدوء والتهكم الخبيث. «فلتستعيني بقليل من المنطق. إن كانت الكعكة هنا فقومي واعثري عليها، وإن لم تكن هنا فقد أعطيتها لأحدهم إذن.»
قالت كويني إن هذا ليس منطقيا؛ ليس من الضروري أن تكون قد أعطتها لأحدهم لمجرد أنها لا تستطيع أن تجدها. عندئذ اقترب منها مرة أخرى على ذلك النحو المطمئن وهو نصف مبتسم حتى ظنت للحظة أنه سوف يقبلها. بدلا من ذلك أطبق يديه حول رقبتها وحجز أنفاسها لثانية واحدة فقط، لم يترك حتى أي علامات عليها.
قال: «الآن! الآن تأتين أنت لتعلميني المنطق!»
ثم انصرف لارتداء ثيابه حتى يذهب للعزف في المطعم.
توقف عن التحدث إليها. كتب لها رسالة صغيرة قائلا إنه سوف يعود للتحدث إليها فقط حين تقول الحقيقة. وطوال عطلة عيد الكريسماس لم تتوقف عن البكاء. كان من المفترض أن تذهب هي وستان إلى بيت الأسرة اليونانية في يوم العيد نفسه، ولكنها لم تستطع الذهاب ووجهها في تلك الحالة المزرية. كان على ستان أن يذهب ويقول إنها متوعكة، ولعل هؤلاء اليونانيين أدركوا الحقيقة على أي حال؛ فأغلب الظن أنهم قد سمعوا ضوضاءهما عبر الحيطان.
وضعت على وجهها طنا من مساحيق الزينة وذهبت إلى العمل، قال لها المدير: «هل تريدين للجمهور أن يظن أن قصة الفيلم عاطفية مفجعة؟!» فقالت له إنها التقطت عدوى وظهرت على وجهها بثور، فسمح لها بالعودة للبيت.
حين عاد ستان للبيت في تلك الليلة وتظاهر بأنها غير موجودة، تقلبت في الفراش ونظرت إليه. كانت تعرف أنه سوف يخلد إلى الفراش ويرقد بجانبها جامدا كالجوال، وأنها إذا ما احتكت به سوف يواصل رقاده كالجوال حتى تبتعد عنه. رأت أنه قادر على المضي في العيش على هذا النحو ولا تستطيع هي. أحست أنها ستموت إذا كان عليها الاستمرار على هذا الحال. سوف تموت، تماما كما كان قد خنقها حقا وكتم أنفاسها.
وهكذا قالت، سامحني.
سامحني. لقد فعلت ما قلته. أنا آسفة.
أرجوك. أرجوك. أنا آسفة.
نهض جالسا على الفراش، ولم يقل شيئا.
قالت كويني إنها قد نسيت حقا أنها قد أعطت الكعكة لأحد ما، ولكنها الآن تذكرت فعلها ذلك وأنها آسفة.
قالت: «لم أكن أكذب. بل نسيت.»
قال: «نسيت أنك أعطيت الكعكة لآندرو؟» «بالضبط، نسيت.» «لآندرو، أعطيتها لآندرو؟»
نعم، قالت كويني. نعم، نعم، كان ذلك ما فعلته. وشرعت تولول وتتعلق به وتتضرع إليه كي يغفر لها.
لا بأس، كفاك هيستريا، هذا ما قاله لها. لم يقل إنه يسامحها، لكنه تناول قطعة قماش دافئة ومسح بها على وجهها ورقد بجوارها واحتضنها، وسرعان ما ثارت رغبته في القيام بكل ما يستتبع ذلك. «لا مزيد من دروس الموسيقى للسيد سوناتا ضوء القمر.» •••
بعد ذلك كله، عثرت على الكعكة في وقت لاحق.
وجدتها ملفوفة في فوطة من فوط المطبخ، وبعد ذلك في الورق المشمع، تماما كما كانت تتذكر أنها فعلت، موضوعة في داخل كيس تسوق ومعلقة في كلاب على جدار الشرفة الخلفية. بالطبع، كانت الشرفة الزجاجية المكان المثالي لأنهما لا يستخدمونها في الشتاء لفرط برودتها، ولم تكن برودة مجمدة. لا بد أنها فكرت في ذلك حين علقت الكعكة هناك. كان هذا هو المكان المثالي. وبعد ذلك نسيت. لقد كانت سكرى قليلا، لا بد من ذلك، ثم نسيت تماما. هكذا كان الأمر!
وجدتها، ورمتها كلها بالخارج. ولم تخبر ستان بالمرة.
قالت: «رميتها، مع أنها كانت ما زالت جيدة كما هي، بكل تلك الفواكه الغالية واللوازم الأخرى فيها، ولكن كان من المستحيل أن أثير هذا الموضوع مرة أخرى. وهكذا رميتها بالخارج وكفى.»
كان صوتها مغموما للغاية في الأجزاء السيئة من القصة، غير أنه صار الآن ماكرا ومفعما بالضحك، كما لو أنها كانت طوال الوقت تحكي لي مزحة، وكان رميها للكعكة هو السطر الأخير السخيف لهذه المزحة.
كان علي أن أسحب رأسي من بين يديها وأن أستدير لأنظر نحوها.
قلت: «لكنه كان مخطئا.» «حسنا، بالطبع كان مخطئا. الرجال ليسوا كائنات طبيعية يا كريسي. ذلك من بين الأشياء التي ستعرفينها إذا تزوجت ذات يوم.» «لن أتزوج إذن. لن أتزوج أبدا.»
قالت: «إنه يشعر بالغيرة فحسب. إنه غيور للغاية.» «أبدا.» «لا بأس، أنا وأنت مختلفتان تماما يا كريسي. مختلفتان تماما.» ثم تنهدت، وقالت: «فأنا مخلوقة للحب.»
ظننت أن تلك من نوعية الكلمات التي يمكن رؤيتها مكتوبة على ملصقات دعاية الأفلام؛ «مخلوقة للحب»، ربما على ملصق أحد الأفلام التي عرضت في السينما التي تعمل كويني بها.
قالت: «سوف تبدين في مظهر جميل حين أفك تلك البكرات من شعرك، لن تواصلي القول إنك بلا حبيب لفترة طويلة. ولكن الوقت تأخر اليوم على الذهاب للبحث عن عمل. ستبكرين غدا، مثل طيور الفجر، في البحث عن عمل. وإذا سألك ستان عن أي شيء قولي له إنك قد بحثت في مكانين أو ثلاثة وتركت لهم رقم هاتف. أحد المتاجر مثلا أو مطعم أو أي شيء، المهم أن يعتقد أنك تبحثين.» •••
في اليوم التالي حصلت على عمل في أول مكان سألت فيه، ومع ذلك لم أتمكن من أن أكون مثل طيور الفجر على كل حال. قررت كويني أن شعري بحاجة إلى تصفيف آخر وأن تضع مساحيق فوق عيني، ولكنها لم تحصل على النتيجة التي كانت ترجوها. قالت: «تكونين أحلى وأنت على طبيعتك على أي حال.» مسحت كل شيء واكتفيت بوضع طلاء الشفاه الخاص بي، الذي كان لونه أحمر عاديا، وليس باهتا وله لمعان مثل طلائها.
عند ذلك كان الوقت قد تأخر للغاية على أن تخرج كويني معي لتتفقد صندوق بريدها. كان عليها أن تستعد للذهاب إلى دار العرض السينمائي. كان يوم سبت، وهكذا كان عليها أن تعمل فترة بعد الظهيرة إضافة إلى الفترة المسائية. أخرجت مفتاحها وطلبت مني أن أتفقد الصندوق من أجل خاطرها. أوضحت لي مكانه.
قالت: «كان علي أن أحصل على صندوق بريد خاص بي حين راسلت أباك.» •••
كانت الوظيفة التي حصلت عليها في متجر متعدد الأغراض يقع في طابق أرضي من مبنى للشقق السكنية. كنت سأعمل إلى نضد تقديم وجبات الغداء الجاهزة. حين دخلت المكان أول مرة شعرت بدرجة من الضياع والعجز؛ كانت تسريحة شعري قد تهدلت من حرارة الجو، وتكون فوق شفتي العليا شارب من العرق. على الأقل كانت تقلصات الطمث قد اعتدلت قليلا.
كانت هناك امرأة في زي عمل أبيض تقف إلى النضد وتحتسي القهوة.
قالت: «هل أتيت من أجل الوظيفة؟»
فقلت: نعم. كان للمرأة وجه مربع صارم القسمات، وحاجبان مرسومان بالقلم، وشعر مرفوع للأعلى مثل خلية نحل يميل للون البنفسجي. «أتتحدثين الإنجليزية؟» «نعم.» «أقصد أنك لم تتعلميها مؤخرا؟ أنت لست أجنبية؟»
فقلت إنني لست كذلك. «لقد جربت فتاتين خلال اليومين السابقين فقط واضطررت لتسريحهما معا؛ إحداهما قالت إنها تتحدث الإنجليزية ولكنها لم تكن كذلك، والأخرى كان علي أن أكرر قول كل كلمة لها عشر مرات. اغسلي يديك جيدا في الحوض وسوف أحضر لك مريلة. زوجي هو الصيدلاني وأنا أتعهد درج الحساب. (عندئذ لاحظت لأول مرة رجلا رمادي الشعر يقف وراء نضد عال في الركن ينظر إلي متظاهرا بغير ذلك.) العمل الآن خفيف، لكن المكان سرعان ما سيزدحم بعد قليل بسبب كل العجائز الساكنين في هذا المجمع؛ بعد أن يستيقظوا من قيلولتهم يتوافدون إلى هنا طلبا للقهوة.»
ربطت المريلة واتخذت مكاني وراء النضد. لقد حصلت على عمل في تورونتو. حاولت أن أكتشف أماكن الأشياء دون أن أطرح أسئلة، ولم أضطر للسؤال إلا مرتين فقط؛ بشأن كيفية تشغيل ماكينة إعداد القهوة، وعما ينبغي فعله بخصوص الثمن. «تعطينهم الفاتورة ويدفعون لي أنا. ماذا ظننت؟»
كان الأمر هينا. يدخل الأشخاص فرادى أو أزواجا في المرة الواحدة، وغالبا لا يطلبون أكثر من القهوة والكوكاكولا. حرصت على أن تبقى الأقداح مغسولة وممسوحة جيدا، والنضد نظيفا، ومن الواضح أنني كنت أحرر الفواتير بطريقة صحيحة، بما أنه لم تكن هناك أي شكوى. كان الزبائن في الغالب من العجائز، كما قالت المرأة. بعضهم تحدث إلي بمودة، قائلين إنني جديدة هنا، بل كانوا يسألونني عن أصلي ومن أين أتيت. وبدا على آخرين أنهم يسبحون في غشية من نوع ما. طلبت إحدى النساء شريحة خبز محمص فتدبرت ذلك. ثم أعددت شطيرة من لحم الخنزير المملح. ساد قليل من الاضطراب في وجود أربعة أشخاص معا. طلب رجل فطيرة وآيس كريم، ووجدت الآيس كريم صلبا مثل الأسمنت فكان غرفه صعبا، ولكني فعلت . اكتسبت مزيدا من الثقة. صرت أقول لهم: «تفضلوا.» حين أقدم لهم طلباتهم، وأقول: «وهذا هو الحساب.» حين أقدم الفاتورة.
خلال إحدى لحظات العمل البطيئة أتت إلي المرأة المسئولة عن درج النقود.
قالت: «أرى أنك أعددت لأحدهم شريحة خبز، هل تستطيعين القراءة؟»
أشارت إلى لافتة ملصوقة على المرآة وراء النضد. «لا نقدم أصناف الإفطار بعد الساعة 11ص.»
قلت إنني ظننت أنه لا بأس في إعداد شريحة خبز مسخنة، ما دمنا نعد شطائر مسخنة! «ظنك خاطئ. الشطائر المسخنة، نعم، وبزيادة عشرة سنتات. أما الخبز فلا. أتفهمين الآن؟»
قلت لها: نعم. لم أعد منسحقة للغاية مثلما كنت إلى حد ما في البداية. وطوال وقت عملي كنت أفكر كم سيكون من المريح أن أعود فأخبر السيد فورجيلا أن نعم، حصلت على وظيفة. بوسعي الآن أن أذهب للبحث عن غرفة خاصة بي لأعيش فيها. ربما غدا، الأحد، إن كان المتجر مغلقا، وفكرت حتى أنني لو حصلت على غرفة واحدة لصار لدى كويني مكان ما تفر إليه إذا ما ثار غضب السيد فورجيلا عليها مرة أخرى. وإذا ما قررت كويني ذات يوم أن تترك السيد فورجيلا (كنت مصرة على الاعتقاد بهذا الاحتمال على الرغم من الطريقة التي أنهت بها كويني قصتها)، فعندئذ ربما يمكننا براتبي وراتبها أن نستأجر شقة صغيرة، أو على الأقل غرفة فيها موقد غاز صغير لإعداد الطعام، ومزودة بحمام ودش خاص بنا وحدنا؛ وسيعود الأمر كما كان حين كنا نعيش في البيت مع أهلنا، عدا أن أهلنا لن يكونوا موجودين.
كنت أزين كل شطيرة بقليل من الخس المقطع ومخلل الشبت. كان ذلك ما تعد به لافتة أخرى على المرآة، ولكني حين أخرجت مخلل الشبت من برطمانه حسبته أكثر من اللازم؛ لذا فقد قطعت الشبت إلى نصفين. كنت أعددت شطيرة لأحد الرجال بهذه الطريقة حين اقتربت امرأة الدرج وأعدت لنفسها قدح قهوة. أخذت قهوتها وعادت إلى درج النقود وشربتها وهي واقفة. حين انتهى الرجل من تناول شطيرته ودفع ثمنها وغادر المتجر، أتت نحوي من جديد . «لقد أعطيت ذلك الرجل نصف قطعة مخلل؛ أكنت تفعلين ذلك مع كل شطيرة؟»
قلت نعم. «ألا تعرفين كيف تقطعين شرائح المخلل؟ كل قطعة مخلل يجب أن تكفي عشر شطائر.»
نظرت إلى اللافتة. «هذه لا تقول شريحة، بل تقول قطعة مخلل.»
فقالت المرأة: «ذلك يكفي، انزعي تلك المريلة. أنا لا أقبل أن يرد الموظفون لدي الكلمة بالكلمة، هذا شيء لا أسمح به. اجلبي محفظتك واخرجي من هنا، ولا تسأليني عن أي أجر لأنك لم تقدمي لي أي نفع على أي حال، وكان يفترض بهذا أن يكون تدريبا.»
كان الرجل الرمادي الشعر يختلس النظر وعلى وجهه ابتسامة عصبية.
وهكذا وجدت نفسي في الشارع من جديد، سائرة إلى محطة الترام. لكني صرت أعرف الآن الجهات التي تؤدي إليها بعض الشوارع، وأعرف كيفية استخدام وسائل المواصلات، بل إنني حصلت على خبرة في عمل ما. يمكنني أن أقول إنني اشتغلت وراء نضد لتقديم وجبات الغداء الجاهزة. سأشعر بالإحراج إذا طلب مني أي شخص تزكية من رب عملي السابق، ولكني أستطيع أن أقول إن ذلك المتجر كان في مدينة منشئي. بينما كنت أنتظر الترام أخرجت قائمة الأماكن الأخرى التي نويت أن أتقدم إليها، والخريطة التي أعطتها لي كويني، ولكن الوقت كان قد تأخر أكثر مما ظننت، وأغلب تلك الأماكن كان على مسافات بعيدة للغاية. كنت خائفة من مواجهة السيد فورجيلا وإخباره بما جرى، فقررت أن أعود للبيت سيرا، على أمل أن أصل إلى هناك بعد أن يكون قد خرج.
كنت قد بدأت أصعد التل حين تذكرت صندوق البريد. عدت من جديد إليه وأخرجت رسالة من الصندوق وسرت إلى البيت من جديد. سيكون قد خرج الآن بكل تأكيد.
لكنه لم يكن قد خرج. حين مررت قبالة نافذة غرفة المعيشة المفتوحة والمطلة على الطريق المجاور للمنزل، سمعت صوت موسيقى. لم تكن الموسيقى الخاصة بكويني، بل كانت من نوع تلك الموسيقى المعقدة التي كنا نسمعها أحيانا تنبعث من النوافذ المفتوحة لمنزل آل فورجيلا؛ الموسيقى التي تتطلب انتباهك، ومن ثم لا تمضي بك إلى أي مكان، أو على الأقل لا تمضي إلى أي مكان بسرعة كافية. الموسيقى الكلاسيكية.
كانت كويني في المطبخ، مرتدية واحدا من تلك الفساتين التي تلتصق بجسمها، وفي كامل زينة وجهها. وضعت أساور في ذراعيها. كانت تضع أقداح الشاي على صينية. أصبت بدوار للحظة، بعد ابتعادي عن نور الشمس، وكانت كل بوصة من بشرتي تنضح بالعرق. «صه!» قالت كويني، لأنني أغلقت الباب بصوت ارتطام. «إنهما بالداخل يستمعان للأسطوانات. هو وصديقه ليزلي.»
وبمجرد أن قالت هذا توقفت الموسيقى فجأة وانطلق حديث حماسي.
قالت كويني: «أحدهما يدير الأسطوانة وعلى الآخر أن يحزر ما هي من مجرد الاستماع إلى القليل للغاية منها، يديران تلك الأجزاء الصغيرة ثم يوقفانها فجأة، المرة بعد الأخرى، وهكذا. شيء يدفع للجنون.» وبدأت تقطع شرائح لحم الدجاج الجاهز وتضعها على شرائح من الخبز المغطى بالزبد. قالت: «هل وجدت عملا؟» «نعم، لكنه لم يستمر.» «آه، لا بأس.» لم يبد أنها شديدة الاهتمام، ولكن حين بدأت الموسيقى من جديد تطلعت نحوي وقالت: «هل ذهبت إلى ...» ورأت الرسالة التي كنت أحملها في يدي.
أسقطت السكين وهرعت نحوي، وهي تقول بنعومة: «دخلت هكذا وأنت تمسكين بها في يدك. كان علي أن أخبرك بأن تضعيها في محفظتك. رسالتي الخصوصية.» انتزعتها من يدي، وفي اللحظة ذاتها أخذت غلاية الماء فوق الموقد تصفر. «أخ، أدركي الغلاية يا كريسي. بسرعة، بسرعة! أدركي الغلاية وإلا سيأتي إلينا، إنه لا يطيق صوتها.»
أدارت لي ظهرها وأخذت تمزق المظروف لتفضه.
رفعت الغلاية عن الموقد، فقالت: «أعدي الشاي، من فضلك ...» بذلك الصوت الناعم المنشغل البال لشخص يقرأ رسالة عاجلة. «فقط صبي الماء عليه، فهو جاهز.»
ضحكت كما لو أنها قرأت مزحة سرية. صببت الماء على أوراق الشاي وقالت هي: «آه، أنا أشكرك، أشكرك يا كريسي؛ ألف شكر!» استدارت ونظرت إلي. كان وجهها متوردا، وكل الأساور التي تحيط بذراعيها تجلجل باضطراب رقيق. طوت الرسالة ورفعت تنورتها ودست الرسالة تحت الزنار المطاط للباسها الداخلي.
قالت: «أحيانا يفتش محفظة يدي .»
قلت : «هل الشاي لهما؟» «نعم. ولا بد أن أعود إلى العمل. آه، ماذا أفعل؟ لا بد أن أقطع لهما الشطائر. أين السكين؟»
التقطت السكين وقطعت الشطائر ووضعتها على طبق.
قالت: «ألا تريدين أن تعرفي من كتب لي هذه الرسالة؟»
لم أستطع أن أخمن.
قلت: «من؟ بيت؟»
لأن الأمل راودني أن يكون غفران بيت لكويني هو الشيء الذي نجح في جعلها تتفتح هكذا كالوردة.
إنني حتى لم أنظر إلى ما كتب على المظروف.
تبدل تعبير وجه كويني، وللحظة بدت كأنها لم تعرف عمن كنت أتحدث. ثم استعادت سعادتها. اقتربت ووضعت ذراعيها حولي وهمست في أذني، بصوت كان مرتعشا وخجلا ومنتصرا. «إنها من آندرو. أيمكنك أن تأخذي الصينية لهما؟ لا أستطيع أنا. لا أستطيع الآن. آه، شكرا لك.» •••
قبل أن تذهب كويني إلى العمل ذهبت إلى غرفة المعيشة وقبلت كلا من السيد فورجيلا وصديقه. قبلت الاثنين على جبينيهما. لوحت لي بيدها كالفراشة وقالت: «إلى اللقاء.»
حين أخذت الصينية إليهما رأيت الانزعاج على وجه السيد فورجيلا؛ إذ تبين له أنني لست كويني، غير أنه تحدث إلي بسماحة مفاجئة وقدمني إلى ليزلي. كان ليزلي رجلا أصلع الرأس متين البنية، بدا للوهلة الأولى يكاد يكون في مثل سن السيد فورجيلا، ولكن حين تألف العين صورته ومع وضع صلعه في الاعتبار بدا أصغر سنا بكثير. لم يكن نوع الصديق الذي توقعت أن يحظى به السيد فورجيلا. لم يكن فجا غليظا أو يتصرف وكأنه يعرف كل شيء عن كل شيء، بل كان مسترخيا ومشجعا؛ على سبيل المثال: حين أخبرته عن عملي وراء نضد وجبات الغداء قال: «لا بد أن تعرفي أن هذا يحسب لصالحك. أن يتم توظيفك في أول مكان تجربيه. هذا يظهر أنك تعرفين كيف تعطين عنك انطباعا جيدا.»
لم أجد مشقة في التحدث عن تجربتي تلك؛ فمجرد حضور ليزلي جعل كل شيء أيسر، وبدا كما لو أنه رقق من مسلك السيد فورجيلا، كأنه كان عليه أن يبدي نحوي مجاملة دمثة في حضور صديقه. وربما يكون قد أحس بتغير ما طرأ علي. يشعر الناس بالاختلاف حين تتوقف عن الخوف منهم. لم يكن واثقا من هذا التغيير، ولم تكن لديه أدنى فكرة عن الكيفية التي حدث بها، ولكنه حيره وأربكه وجعله أكثر حرصا. اتفق مع ليزلي حين قال إنه من الأفضل لي أني تركت ذلك العمل، بل إنه مضى يقول إن تلك المرأة بدت من ذلك النوع الضاري السليط اللسان الذي يتعثر به المرء أحيانا في تلك المتاجر البائسة في تورونتو.
قال: «ولم يكن لها أي حق في ألا تدفع لك أجرا.»
فقال ليزلي: «أعتقد أن الزوج كان عليه أن يتدخل، إذا كان هو الصيدلاني فهو إذن رب العمل.»
قال السيد فورجيلا: «لعله سيحضر ذات يوم تركيبة مخصوصة يتخلص بها من زوجته!»
لم تكن هناك صعوبة في صب الشاي لهما، وتقديم الحليب والسكر وتمرير الشطائر، بل التحدث معهما أيضا، خصوصا حين تعلم شيئا ما لا يعلمه الشخص الآخر، عن خطر يتهدده. ولأن السيد فورجيلا لم يكن يعلم بذلك الخطر، استطعت أن أشعر بشيء آخر نحوه غير الاشمئزاز. ليس الأمر أن تغيرا طرأ عليه؛ وإن كان قد تغير فذلك لأنني تغيرت.
وسرعان ما قال إنه قد حان الوقت لأن يستعد للذهاب إلى العمل. دخل ليغير ملابسه. عندئذ سألني ليزلي إن كنت أود أن أتناول العشاء بصحبته.
قال: «بالقرب من هنا مكان أتردد عليه، ليس مكانا فاخرا بالمرة، لا يشبه في شيء المطعم الذي يعمل فيه ستان.»
سرني حقا أن أسمع أنه ليس مكانا فاخرا. قلت: «بالطبع.» وبعد أن أوصلنا السيد فورجيلا حتى المطعم، ذهبنا في سيارة ليزلي إلى مكان يقدم السمك ورقائق البطاطس. طلب ليزلي وجبة العشاء الممتازة - على الرغم من أنه كان قد أكل قبل قليل العديد من شطائر لحم الدجاج - وطلبت أنا الوجبة العادية. شرب هو جعة وشربت كوكاكولا.
حدثني عن نفسه. قال إنه تمنى لو كان قد درس في كلية المعلمين بدلا من أن يختار مجال الموسيقى، الذي لا يساعده كثيرا على تأسيس حياة مستقرة .
كنت مستغرقة تماما في موقفي الراهن، حتى إنني لم أسأله أي نوع من الموسيقيين كان هو. اشترى لي أبي تذكرة للعودة، قائلا: «لا يمكنك أن تعرفي بالمرة إلى ماذا ستئول الأمور معه أو معها.» فكرت في تلك التذكرة في اللحظة ذاتها التي راقبت فيها كويني تدس رسالة آندرو تحت حافة لباسها التحتي. حتى لو أنني لم أكن قد عرفت بعد أنها رسالة من آندرو.
ليست المسألة أنني أتيت إلى تورونتو فحسب، أو أنني أتيت إلى تورونتو لأجد عملا خلال فصل الصيف. لقد أتيت لأكون جزءا من حياة كويني؛ أو إذا لزم الأمر، أكون جزءا من حياة كويني والسيد فورجيلا. حتى عندما كنت أهيم في خيالي حول عيشي أنا وكويني معا، كان للسيد فورجيلا نصيبه من ذلك الخيال، وكيف أن كويني سوف تطيعه وتحسن معاملته.
وحين أخذت أفكر في تذكرة العودة كنت أتعامل مع أمر آخر باعتباره شيئا مسلما به. أقصد أن بوسعي الرجوع للعيش مع بيت وأبي، وأن أكون جزءا من حياتهما.
أبي وبيت، والسيد والسيدة فورجيلا، وكويني والسيد فورجيلا، بل حتى كويني وآندرو؛ كل هؤلاء أزواج، وكل زوج منهم - حتى إن كان الزواج مزعزعا - لديه الآن، أو في الذاكرة، ملجأ حميم يجمعهما، بكل حرارته وجلبته، وأنا مستبعدة منه. كان لا بد لي أن أستبعد، وكنت أرجو ذلك؛ لأنني لم أستطع أن أرى شيئا في حياتهم جميعا يمكن له أن يرشدني أو يشجعني.
كان ليزلي هو الآخر مستبعدا، ومع ذلك فقد حدثني عن كثيرين تربطه بهم صلات الدم أو الصداقة؛ شقيقته وزوجها، أبناء الأشقاء والشقيقات، زوج وزوجة يزورهما لقضاء الإجازات معهما. كل هؤلاء الناس كانت لديهم مشكلاتهم، ولكن كانت لهم قيمة ثمينة. تحدث عن وظائفهم، أو افتقارهم للوظائف، عن مواهبهم، وعن ضربات الحظ التي قابلتهم، عن خطئهم في الحكم على الأمور، تحدث باهتمام كبير ولكن بالقليل من الشغف. كان مستبعدا، كما بدا واضحا، من الحب أو الضغينة.
لو حدث هذا في وقت تال من حياتي، لكنت رأيت ما في هذا الوضع من أخطاء، لكنت شعرت تجاهه بنفاد الصبر، بل بالريبة أيضا التي يمكن أن تستشعرها امرأة نحو رجل يفتقد للحافز، رجل ليس لديه ما يقدمه سوى الصداقة، ويقدمها بمنتهى السهولة بحيث إنه حتى لو تم رفضها يمكنه أن يمضي قدما في حياته مبتهجا كما كان دائما. ما يوجد هنا ليس رجلا وحيدا يتمنى أن يرتبط بفتاة، حتى أنا كان بمقدوري رؤية ذلك، إنه مجرد شخص يستكين للراحة المستمدة من اللحظة الحاضرة ومن الوجه العاقل للحياة.
كانت صحبته هي كل ما أحتاج إليه، على الرغم من أنني لم أكد أدرك ذلك. ربما كان يعاملني بطيبة عن قصد مدروس؛ تماما كما عاملت أنا السيد فورجيلا بطيبة قبل برهة وجيزة، أو على الأقل وجدتني أميل لحمايته على نحو غير متوقع. •••
كنت قد التحقت بكلية المعلمين حين هربت كويني للمرة الثانية. وصلني النبأ في رسالة من أبي. قال إنه لم يعرف كيف حدث هذا ولا متى. لم يطلعه السيد فورجيلا على الأمر إلا بعد فترة، ثم قرر أن يخبره؛ تحسبا لأن تكون كويني قد قررت العودة إلى بيت أبي. كتب أبي للسيد فورجيلا قائلا إنه لا يرى هذا احتمالا واردا. وفي رسالته إلي قال لي أبي إننا على الأقل الآن لا نستطيع القول إن كويني لا يمكن أن تقدم على ذلك الفعل.
لسنوات ظللت أتلقى بطاقات معايدة بمناسبة الكريسماس من السيد فورجيلا، حتى بعد أن تزوجت؛ بطاقات فيها زحافات جليدية محملة برزم هدايا براقة، أو أسرة سعيدة تقف أمام مدخل مزين بزينة العيد، أو ترحب بأصدقاء يزورونها. لعله اعتقد أن تلك هي أنواع المشاهد التي ستكون جذابة لي بالنظر إلى طريقة حياتي الراهنة، أو ربما كان يلتقطها من فوق حامل الكروت دون تفكير أو تأمل. دائما ما كان يكتب عنوان المرسل؛ على سبيل التذكير بوجوده وليجعلني على علم بمكان إقامته، في حال وصلتني أي أخبار.
عن نفسي، كنت قد توقفت عن انتظار ذلك النوع من الأخبار، حتى إنني لم أعرف قط إن كان آندرو هو الشخص الذي هربت معه كويني، أم أنه كان شخصا آخر. أو إن كانت قد بقيت بصحبة آندرو، لو كان هو الشخص الذي هربت معه. بعد وفاة أبي خلف لنا بعض المال، وحاولنا بجدية أن نتتبع أثرها للعثور عليها، دون أن يحالفنا التوفيق. •••
لكن الآن حدث شيء ما، الآن خلال السنوات التي كبر فيها أطفالي وتقاعد زوجي عن العمل وصرت أنا وهو كثيري الترحال، يخطر لي أحيانا أنني أرى كويني. لم يكن هذا نتيجة أمنية خاصة أو جهد مقصود لأن أراها، ولم أكن أيضا أنني أعتقد أنني أراها حقا.
مرة كان ذلك في زحام أحد المطارات، وكانت ترتدي سارنج (ثوب سابغ يلف الجسد على طريقة نساء جزر الملايو) وقبعة من قش مزركشة بالزهور. وجهها ملوح بسمرة الشمس ومفعمة بالحماسة، ومظهرها يوحي بالثراء، ومحاطة بالأصدقاء. ومرة أخرى كانت بين النساء الواقفات على باب الكنيسة في انتظار أن يختلسن نظرة إلى حفل زفاف. وكانت مرتدية سترة مرقطة من قماش كالشمواه، ولم تبد عليها أي أمارات تدل على الرخاء وهناء البال. وفي وقت آخر كانت متوقفة أمام ممر المشاة في طريق السيارات، وهي تقود صفا من أطفال دار حضانة في طريقهم إلى حمام السباحة أو المتنزه العام. كان يوما حارا وبان بوضوح وصراحة مظهرها الممتلئ كامرأة في منتصف العمر، ترتدي سروالا قصيرا مطبوعا بالزهور وتي شيرت عليه شعار ما.
آخر وأغرب المرات كانت في سوبر ماركت في مدينة توين فولز في إيداهو. درت حول أحد الأركان وأنا أحمل بضعة أشياء اخترتها من أجل غداء في نزهة خلوية، وكانت هناك امرأة عجوز تقف مستندة على عربة تسوقها، كما لو كانت تنتظرني. امرأة صغيرة الحجم ذات تجاعيد بفم ملتو وبشرة معتلة تميل للون البني. خصلات شعرها الخشنة ما بين الأصفر والبني، وسروالها الأرجواني مرفوع حتى الربوة الصغيرة لمعدتها؛ كانت إحدى تلك النساء النحيفات اللاتي فقدن مع التقدم في العمر خصورهن الضيقة، على الرغم من نحافتهن. لعلها حصلت على السروال من متجر للبيع بأسعار مخفضة، وكذلك كنزة الصوف البهيجة الألوان ولكن المتلبدة والمنكمشة والمزررة على الصدر، التي بالكاد تناسب فتاة في العاشرة من عمرها.
كانت عربة التسوق فارغة، ولم تكن المرأة تحمل حتى محفظة نقود.
وعلى خلاف تلك النساء الأخيرات، بدا أن هذه المرأة تعرف أنها كويني. ابتسمت لي بهذا التعرف السعيد، وبذلك الشوق لأن يتعرف عليك شخص آخر أيضا، وبأنه رأى مثلها ما في هذا من نعمة كبرى؛ لحظة موهوبة سمح لها خلالها بالخروج من الظلال ولو ليوم واحد من ألف يوم.
كل ما قمت به هو أن مططت فمي مبتسمة في لطف وعلى نحو غير شخصي، كما لو كنت أبتسم لامرأة غريبة معتوهة، وواصلت تقدمي نحو صندوق الدفع.
بعد ذلك وفي المكان المخصص لصف السيارات اعتذرت لزوجي، قلت له إنني نسيت شيئا ما، وأسرعت بالعودة إلى داخل المتجر. رحت أسير جيئة وذهابا على طول الممرات، باحثة. ولكن في غضون ذلك الوقت الوجيز بدا أن المرأة العجوز قد ذهبت. ربما تكون قد خرجت بعد أن خرجت أنا على الفور؛ ربما كانت تشق سبيلها الآن في شوارع توين فولز، على قدميها، أو في سيارة يقودها أحد الأقارب أو الجيران، أو حتى في سيارة تقودها هي بنفسها. ومع ذلك فقد كان هناك احتمال أن تكون لا تزال في المتجر، وأننا نسير هنا وهناك بين البضائع دون أن ترى إحدانا الأخرى. وجدت نفسي آخذ اتجاها ثم آخر، مرتجفة في الطقس الجليدي للمتجر الصيفي، أنظر في وجوه الناس مباشرة، وربما أخيفهم؛ لأنني كنت أتضرع إليهم في صمت ليخبروني أين يمكنني أن أجد كويني.
وأخيرا استعدت عقلي وأقنعت نفسي أن ذلك لم يعد ممكنا، وأن تلك المرأة، سواء أكانت كويني أم لا، تركتني خلفها وذهبت.
الدب صعد الجبل
كانت فيونا تعيش في منزل والديها، في المدينة ذاتها التي ذهبت فيها إلى الجامعة هي وجرانت. كان منزلا كبيرا بنوافذ فسيحة مصطفة، وقد بدا المنزل لجرانت منمقا ويفتقد للنظام في نفس الوقت، فالسجاجيد ملتوية على الأرض وقد انطبعت دوائر الأطباق على ورنيش المائدة اللامع. كانت والدتها أيسلندية؛ امرأة قوية تعلو رأسها كتلة شعر أبيض كزبد الموج، وذات آراء سياسية ساخطة تميل إلى أقصى اليسار. كان والدها طبيب قلب بعيد الشأو، في المستشفى يلقى كل إكبار وتبجيل، ولكنه في البيت يكتفي بدور التابع المذعن عن طيب خاطر، حيث كان يستمع إلى خطب مطولة وغريبة وهو يبتسم شارد اللب. كان من يلقي تلك الخطب أناس من جميع الألوان، أثرياء أو في أسمال مهلهلة، وقد كانوا باستمرار يأتون ويذهبون، يتجادلون ويتباحثون أحيانا بلكنات أجنبية. كان لدى فيونا سيارة صغيرة وكومة من بلوفرات الكشمير، لكنها لم تنضم إلى الأخويات الخاصة بفتيات الجامعة، ولعل سبب هذا كان النشاط الذي يحفل به منزلها.
لم تكن تكترث بذلك النشاط. كانت أخويات الفتيات بالنسبة إليها مجرد مزحة، مثلها مثل أمور السياسة، على الرغم من أنها كانت تحب أن تدير على الفونوغراف أسطوانة «الجنرالات المتمردون الأربعة»، وأحيانا كانت تدير «نشيد الأممية» بصوت مرتفع للغاية إذا كان هناك أحد الضيوف ممن سوف يوترهم ذلك. كان هناك شاب أجنبي بشعر أجعد وسيماء كئيبة يتودد إليها، قالت إنه كان من نسل القوط الغربيين، كما كان يتودد إليها كذلك طبيبان أو ثلاثة أطباء تحت التدريب جديرون بالاحترام، وشبان مرتبكون. كانت تسخر منهم جميعا ومن جرانت كذلك. كانت تلهو بتكرار بعض عباراته المنتمية إلى مدينته الصغيرة. ظن أنها ربما كانت تمزح أيضا عندما عرضت عليه الارتباط به، في يوم بارد ومشرق على شاطئ بورت ستانلي. كانت الرمال تلسع وجهيهما، والأمواج تلقي بأكوام مهشمة من الحصى تحت أقدامهما. «أتظن أنه سيكون ظريفا ...» هكذا صاحت فيونا، «أتظن أنه سيكون ظريفا لو تزوجنا؟»
جاراها في الأمر، وصاح نعم. أراد ألا يبتعد عنها أبدا. كانت تملك شرارة الحياة. •••
قبيل أن يغادرا المنزل لاحظت فيونا علامة على أرضية المطبخ، نتجت عن الخف المنزلي الأسود الرخيص الذي كانت ترتديه في وقت سابق من اليوم. «كنت أظن أن ذلك الخف لم يعد يترك علامات!» هكذا قالت بنبرة من الضيق المعتاد والحيرة، وهي تفرك اللطخة الرمادية التي بدت كأنها رسمت بقلم تلوين ثخين.
أشارت إلى أنها لن تضطر للقيام بهذا مرة أخرى، بما أنها لن تأخذ ذلك الخف معها.
قالت: «أظن أنني سأكون في ثياب الخروج الكاملة طوال الوقت، أو ثياب شبه كاملة. سيكون الأمر أقرب للنزول في فندق.»
شطفت بالماء خرقة المطبخ التي استخدمتها ونشرتها على حامل بداخل الباب الذي تحت الحوض. ثم ارتدت سترة تزلج ثقيلة بياقة من الفرو وباللونين الذهبي والبني، وتحتها كانت مرتدية بلوفرا أبيض برقبة عالية وسروالا مفصلا لونه بيج. كانت امرأة طويلة مكتنزة الكتفين، في السبعين من عمرها، ولكن ما زالت منتصبة القامة وأنيقة، بساقين طويلتين وقدمين طويلتين أيضا، ورسغين وكاحلين يتسمان بالرقة، وأذنين صغيرتين للغاية شكلهما هزلي تقريبا. أما شعرها، الذي كان خفيفا مثل زغب نبتة الصقلاب، فقد استحال لونه من الأشقر الشاحب إلى الأبيض - بطريقة ما لم يلحظ جرانت متى حدث هذا - وكانت لا تزال تصففه مفرودا على كتفيها، كما كانت تفعل أمها. (كان ذلك من بين الأمور التي أثارت حفيظة والدة جرانت، التي كانت أرملة تعيش في مدينة صغيرة وتعمل كموظفة استقبال لدى أحد الأطباء؛ فقد أنبأها الشعر الأبيض الطويل لوالدة فيونا - أكثر حتى مما أوضحت لها حالة المنزل - بكل ما احتاجت إلى معرفته عن اعتبارات أهل البيت وآرائهم السياسية.)
فيما عدا تكوينات العظام الرقيقة لجسد فيونا وعينيها الصغيرتين في زرقة الياقوت، كانت أبعد ما تكون عن أمها. كان فمها معوجا بدرجة طفيفة للغاية، وقد راحت تؤكد وجوده الآن بطلاء شفاه أحمر، وعادة ما يكون هذا هو آخر ما تفعله قبل مغادرتها للمنزل. بدت على طبيعتها وأقرب ما تكون لصورتها الخاصة؛ مباشرة وغامضة كما كانت في الواقع، عذبة وساخرة قليلا. •••
منذ ما يزيد عن عام مضى، بدأ جرانت يلحظ الكثير للغاية من الوريقات الصفراء الخاصة بتدوين الملاحظات ملصوقة في كل أرجاء المنزل. لم يكن ذلك جديدا؛ فطالما كانت تدون أشياء على سبيل التذكرة؛ عنوان كتاب سمعته يذكر في الراديو، أو المهام التي أرادت التأكد من القيام بها في ذلك اليوم. حتى روتينها الصباحي كانت مكتوبا؛ وقد وجد هو ذلك أمرا ملغزا ومؤثرا من فرط دقته البالغة.
7ص يوجا، 7:30-7:45 أسنان ووجه وشعر، 7:45-8:15 تمشية، 8:15 جرانت والإفطار.
كانت الملاحظات الجديدة مختلفة، ملصوقة على أدراج المطبخ، أدوات المائدة، فوط المطبخ، السكاكين. ألا يمكنها فحسب أن تفتح الأدراج فترى ما بداخلها؟ تذكر قصة عن جنود ألمان في دورية تحرس الحدود في تشيكوسلوفاكيا في أثناء الحرب. أخبره أحد التشيكيين بأن كل كلب من كلاب دورية الحراسة تلك، كانوا يضعون عليه لافتة صغيرة مكتوب عليها كلب باللغة الألمانية. لماذا؟ هكذا سأل التشيكيون، فقال الألمان: لأن ذلك كلب.
كان على وشك أن يحكي لفيونا عن ذلك، ثم فكر أنه من الأفضل ألا يفعل. كان دائما ما تضحكهما الأشياء ذاتها، لكن ماذا لو أنها لم تضحك هذه المرة؟
زادت الأمور سوءا. ذهبت إلى البلدة واتصلت به من كشك هاتف عمومي وسألته كيف يمكنها أن تعود للمنزل. ذهبت لتمشي قليلا عبر الحقل حتى الغابة ولم تستطع العودة إلى البيت إلا بمحاذاة خط السياج، وهو طريق ملتف أطول مما يلزمها للعودة. قالت إنها اعتمدت على أن السياج سوف يقود المرء دائما إلى مكان ما.
كان من العسير استيضاح الأمر. قالت ما قالته حول السياج كما لو كان مجرد مزحة، كما أنها لم تجد أي مشقة في تذكر رقم الهاتف لتتصل به.
قالت: «لا أظن أن هناك أي شيء يستحق القلق، أتوقع أنني أفقد عقلي فحسب.»
سألها إن كانت تناولت أقراصا منومة. «إذا كنت فعلت فأنا لا أتذكر ذلك.» ثم قالت إنها آسفة لتحدثها بهذا الاستهتار. «أنا متأكدة أنني لم أتناول أي شيء. ربما يجب علي ذلك. ربما بعض الفيتامينات.»
لم تجد الفيتامينات شيئا. كانت تقف على مداخل الغرف وهي تحاول أن تكتشف ماذا كانت تفعل. كانت تنسى أن تشعل الموقد تحت الخضراوات، أو أن تضع الماء في ماكينة القهوة. سألت جرانت متى انتقلا إلى هذا المنزل. «أكان ذلك في العام الماضي أم قبل الماضي؟»
فقال لها إنهما انتقلا قبل اثني عشر عاما.
قالت: «ذلك صادم.»
قال جرانت للطبيب: «لطالما كانت هكذا بدرجة طفيفة. ذات مرة تركت معطف الفراء الخاص بها في مخزن، ثم نسيته تماما ببساطة. كان هذا حين كنا نذهب دائما إلى مكان دافئ لقضاء فصول الشتاء. ثم قالت إن هذا حدث لغرض ما وإن كان دون وعي منها، قالت إنه كان مثل خطيئة تركتها خلفها. هذا هو الشعور الذي كان ينقله إليها بعض الناس نحو معاطف الفراء.»
حاول دونما نجاح أن يشرح شيئا أكثر من هذا؛ أن يشرح كيف أن دهشة فيونا واعتذاراتها عن هذا كله بدت بطريقة ما مجرد مجاملة روتينية، دون أن تخفي تماما إحساسها الخاص باللهو والتسلية حيال ما يحدث، كما لو كانت قد اعترضت طريقها مغامرة لم تتوقعها، أو كأنها كانت تمارس لعبة تمنت لو أنه انضم إليها فيها. دائما ما مارسا ألعابا تخصهما؛ لهجات ولكنات ليست إلا لغوا، وشخصيات يخترعانها معا. كانت بعض أصوات فيونا الملفقة، الزقزقة أو التزلف الخانع (لم يستطع أن يخبر الطبيب بهذا) تحاكي على نحو غريب أصوات بعض نسائه اللاتي لا التقت هي بهن ولا عرفتهن قط.
قال الطبيب: «نعم، حسنا، قد يكون الأمر انتقائيا في البداية. إننا لا ندري، أليس كذلك؟ لا يمكننا التأكد حقا حتى نرى النمط الذي سيتخذه تدهور الذاكرة.»
بعد فترة لم يعد من المهم أي اسم سيوصف به ما يحدث؛ فقد اختفت فيونا - التي لم تعد تذهب للتسوق بمفردها - في السوبر ماركت بمجرد أن أدار جرانت لها ظهره. عثر عليها رجل شرطة وهي سائرة في منتصف الطريق على بعد بضعة شوارع. سألها عن اسمها فأجابته على الفور، ثم سألها عن اسم رئيس وزراء البلد. «إن لم تكن تعرف ذلك أيها الشاب، فأنت لا تصلح لهذه الوظيفة المهمة.»
ضحك، لكنها عندئذ ارتكبت خطأ ألا وهو سؤاله إن كان رأى بوريس وناتاشا.
كان هذان كلبان روسيان من نوع الوولف قد تبنتهما قبل سنوات كمعروف تقدمه لإحدى الصديقات، ثم كرست نفسها لهما خلال ما تبقى من عمرهما. لعل رعايتها لهما تزامنت مع اكتشاف أنها لن تتمكن غالبا من الإنجاب. كان ثمة شيء في قنواتها مسدود أو ملتو؛ لا يستطيع جرانت أن يتذكر الآن بالضبط، تجنب على الدوام التفكير بشأن كل تلك الأجهزة الأنثوية. أو ربما كان ذلك بعد أن توفيت أمها. كانت الأرجل الطويلة للكلبين وشعرهما الحريري، بوجهيهما الضيقين اللطيفين والمتصلبين، يتوافقان تماما مع مظهرها حين تصحبهما للخارج للتمشية. بل إن جرانت نفسه في تلك الأيام، وقد حصل على وظيفته الأولى بالجامعة، ربما بدا لبعض الأشخاص أن فيونا قد اختارته بناء على واحدة من نزواتها الغريبة، ومن ثم فقد تلقى العناية والرعاية والعطف منها، على الرغم من أنه لم يفهم هذا قط، لحسن الحظ، إلا بعد مرور وقت طويل. •••
في اليوم نفسه الذي تجولت فيه خارج السوبر ماركت، قالت له بحلول وقت العشاء: «تعرف ما الذي سيتوجب عليك أن تفعله بي، أليس كذلك؟ سوف تضطر لأن تضعني في ذلك المكان. شالو ليك؟»
فقال جرانت: «ميدو ليك؟ لم نصل إلى تلك المرحلة بعد.»
راحت تقول: «ليكن شالو ليك أو شيلي ليك أو سيلي ليك!» كما لو كانا مستغرقين في مباراة مرحة، «هو سيلي ليك إذن.»
أمسك رأسه بيديه، مستندا بمرفقيه على المائدة. قال إنهما إذا فكرا في هذا، فلا بد أن يعتبراه شيئا ليس مستديما بالضرورة؛ علاجا تجريبيا من نوع ما، التداوي بالخلود للراحة. •••
كانت هناك قاعدة تقضي بعدم قبول نزلاء جدد خلال شهر ديسمبر؛ لأن موسم الإجازات يتسم بالكثير من الشراك العاطفية. وهكذا قطعا رحلة العشرين دقيقة بالسيارة في شهر يناير. قبل أن يصلا إلى الطريق السريع، كان طريق القرية يختفي بداخل فجوة سبخة قد تجمدت الآن تماما. ألقت أشجار السنديان والقيقب بظلالها كأنها قضبان متقاطعة على الجليد الساطع.
قالت فيونا: «آه، أتذكر؟»
فقال جرانت: «كنت أفكر في ذلك أنا أيضا.»
قالت: «الفرق الوحيد أنه كان في ضوء القمر.»
كانت تتحدث عن الوقت الذي خرجا فيه للتزلج ليلا، ومن فوقهما كان القمر بدرا ، ومن تحتهما الجليد المخطط بالأسود، في هذا المكان الذي لا يمكن لأحد الدخول إليه إلا في أعماق فصل الشتاء. كانا قد سمعا الأغصان تطقطق في البرد.
إذن، إذا كان بوسعها أن تتذكر ذلك بهذا القدر من الوضوح والدقة، أيمكن أن تكون قد ساءت حالتها حقا؟
كان كل ما استطاع فعله هو ألا يستدير بالسيارة ويسوقها للبيت عائدين. •••
كانت هناك قاعدة أخرى شرحتها له المشرفة؛ غير مسموح للنزلاء الجدد باستقبال زوار خلال الأيام الثلاثين الأولى. كان أغلبهم في حاجة إلى ذلك الوقت للاعتياد والاستقرار. قبل أن يتم العمل بهذه القاعدة في المكان، كانت هناك تضرعات ودموع وثورات غضب، حتى من جانب هؤلاء الذين أتوا باختيارهم؛ ففي حدود اليوم الثالث أو الرابع لهم يبدءون في العويل والتوسل لإعادتهم إلى البيت، وقد يضعف بعض الأقارب أمام ذلك، وهكذا يجد المرء أحد الأشخاص يحمل من جديد إلى بيته دون أن تكون الحالة التي أتى عليها للمكان قد تحسنت بأي درجة، وما هي إلا ستة أشهر بعدها أو أحيانا أسابيع معدودة فحسب، ويضطر الجميع إلى خوض هذا الكرب المزعج بكامله مرة أخرى.
قالت المشرفة: «في حين أننا وجدنا أنهم إذا ما تركوا بمفردهم فغالبا ما ينتهي بهم الأمر سعداء راضين، سيكون عليك فعليا استمالتهم حتى يركبوا حافلة تأخذهم في رحلة إلى المدينة، والأمر نفسه يحدث في زياراتهم لبيوتهم. لا بأس على الإطلاق في أخذهم إلى البيت عندئذ، زيارة لساعة أو اثنتين؛ فهم من سوف يقلقون بشأن العودة إلى هنا على موعد العشاء؛ لأن ميدو ليك قد أصبح هو بيتهم حينئذ. لا ينطبق هذا بالطبع على نزلاء الطابق الثاني، فلا يسعنا تركهم يذهبون؛ فالأمر أصعب مما يجب، ولم يعودوا يعرفون أين هم على أي حال.»
قال جرانت: «لن تصعد زوجتي إلى الطابق الثاني.»
قالت المشرفة مستغرقة في التفكير: «كلا، أود فقط أن أوضح كل شيء من البداية.» •••
كانا قد أتيا إلى دار ميدو ليك بضع مرات قبل سنوات كثيرة، لزيارة السيد فاركوار، المزارع الأعزب العجوز الذي كان جارا لهما. عاش بمفرده في منزل من الآجر معرض للرياح، ظل ثابتا على حاله منذ السنوات الأولى للقرن، باستثناء إضافة الثلاجة وجهاز التليفزيون. كان قد زار كلا من جرانت وفيونا عدة مرات دون إخطار سابق وعلى فترات معقولة، وبالإضافة إلى الشئون المحلية للبلدة، أحب أن يناقش معهما الكتب التي كان يقرؤها؛ عن حرب القرم أو رحلات استكشاف المناطق القطبية أو تاريخ الأسلحة النارية. ولكن بعد أن نزل بدار ميدو ليك لم يكن يتحدث إلا عن الروتين الخاص بالدار، وقد استشعرا فكرة أن زياراتهما له، على الرغم من أنه يمتن لها، كانت عبئا اجتماعيا عليه. وقد كرهت فيونا بالذات رائحة البول والمطهرات العالقة في الجو، وكرهت باقات الزهور الخامدة المصنوعة من البلاستيك في كوى محفورة بالممرات المعتمة المنخفضة الأسقف.
اختفى ذلك المبنى الآن - على الرغم من أن تاريخ بنائه يرجع إلى الخمسينيات فقط - تماما كما اختفى منزل السيد فاركوار، وحل محله شيء أشبه بقلعة مبتذلة تستقبل بعض الأشخاص من تورونتو خلال عطلات نهاية الأسبوع. أما دار ميدو ليك الجديدة فقد كانت مبنى جيد التهوية ذا أقواس، يحمل هواؤه نفحة خفيفة مبهجة من عبير شجر الصنوبر، تمتد فيه نباتات خضراء حقيقية وباذخة من آنية عملاقة.
وعلى الرغم من ذلك، فقد وجد جرانت نفسه يتصور فيونا موجودة في ذلك المبنى القديم في أثناء الشهر الطويل الذي كان عليه اجتيازه دون رؤيتها. كان أطول شهر في حياته كلها، هكذا فكر، أطول حتى من الشهر الذي قضاه مع أمه في زيارة أقارب لهم في مقاطعة لانارك، حين كان في الثالثة عشرة من عمره، وأطول من الشهر الذي قضته جاكي آدامز في إجازة مع أسرتها، في وقت قريب من بداية علاقتهما الغرامية. كان يتصل بدار ميدو ليك يوميا، على أمل أن يستطيع التوصل إلى الممرضة التي كانت تدعى كريستي. بدت منشرحة بوفائه هذا، وكانت تقدم له تقريرا أوفى من أي ممرضة أخرى يصادف أن تجيبه.
أصيبت فيونا بنزلة برد، ولكن هذا شيء معتاد للوافدين الجدد .
قالت كريستي : «تماما كما يحدث حين يبدأ أولادك الذهاب إلى المدرسة، يتعرضون لمجموعة كاملة من الجراثيم الجديدة، ولفترة من الوقت يلتقطون كل شيء.»
ثم تعافت من نزلة البرد. توقفت عن تناول المضادات الحيوية، ولم تعد تبدو مشوشة كما كانت في أول دخولها إلى الدار. (كانت هذه هي المرة الأولى التي يسمع فيها جرانت عن المضادات الحيوية أو التشوش.) كانت شهيتها للطعام جيدة تماما، وبدا أنها تستمتع بالجلوس في القاعة المشمسة. بدا أنها تستمتع بمشاهدة التليفزيون.
من بين الأمور التي ما كان من الممكن التسامح معها بشأن المبنى القديم للدار، الطريقة التي كان بها جهاز التليفزيون مرئيا من كل مكان، بحيث يثقل على أفكارك ويفرض نفسه على أحاديثك أينما اخترت أن تجلس. كان بعض النزلاء (هكذا كان هو وفيونا يدعوانهم، نزلاء وليسوا مقيمين) يرفعون أعينهم إليه، وبعضهم يرد على الجهاز الحديث مغمغما له، ولكن أغلبهم كان يكتفي بالجلوس متحملا هجومه المعتدي في ذل ومسكنة. أما في المبنى الجديد، وبقدر ما يمكنه أن يتذكر، كان جهاز التليفزيون في غرفة جلوس منفصلة، أو في غرف النوم؛ بحيث يمكنك أن تختار أن تشاهده أو لا.
لا بد أن فيونا قد اختارت. ولكن ماذا كانت تشاهد؟
خلال الأعوام التي عاشاها في هذا المنزل، شاهد هو وفيونا معا الشيء القليل من البرامج التليفزيونية. تجسسا على حيوات كل حيوان أو زاحف أو حشرة أو مخلوق بحري استطاعت الكاميرا أن تصل إليه، وتابعا حبكات درامية لمسلسلات بدت قريبة من روايات القرن التاسع عشر الرائعة والمتشابهة فيما بينها. كما فتنا بمسلسل كوميدي إنجليزي يدور حول الحياة في متجر متعدد الأغراض والأقسام، وشاهدا الكثير للغاية من حلقاته المعاد عرضها، حتى إنهما حفظا الحوار عن ظهر قلب. وحزنا معا على اختفاء الممثلين الذين توفوا في الحياة الحقيقية أو اعتزلوا العمل، ثم رحبا معا بعودة هؤلاء الممثلين أنفسهم عندما كانت تولد شخصياتهم في الأحداث من جديد. راقبا مدير البيع في المتجر ولون شعره يتدرج من الأسود إلى الرمادي، وأخيرا يعود للأسود من جديد، الشعر المستعار الرخيص لا يتبدل أبدا. ولكن حتى ذلك حال لونه أيضا؛ ففي نهاية الأمر حال لون الشعر المستعار والشعر الأشد سوادا على الإطلاق كما لو أن غبارا من شوارع لندن كان ينسل من تحت أبواب المصعد، وكان لهذا أثر محزن بدا أنه أشد أثرا على جرانت وفيونا من أي مسرحية تراجيدية من الأعمال الخالدة، وهكذا توقفا عن متابعة المسلسل حتى نهايته الأخيرة.
كانت فيونا تعقد بعض الصداقات، هكذا قالت كريستي. لا شك أنها خرجت من قوقعتها.
أي قوقعة؟ أراد جرانت أن يسأل، لكنه راجع نفسه فامتنع، لكي يحافظ على العلاقة الطيبة مع كريستي. •••
إذا اتصل أي شخص هاتفيا كان يتركه ليسجل رسالة على جهاز الرد الآلي. الأشخاص الذين كانا يتفاعلان معهم اجتماعيا من وقت لآخر لم يكونوا جيرانا قريبين، بل ممن يعيشون في أماكن متفرقة من الريف، وكانوا من المتقاعدين مثلهما، وكثيرا ما يسافرون دون إخطار. خلال السنوات الأولى التي عاش فيها جرانت وفيونا هنا كانا يبقيان خلال فصل الشتاء. كان شتاء الريف تجربة جديدة، وكان لديهما الكثير للغاية مما يمكن لهما أن يقوما به، كإصلاح وصيانة المنزل. ثم واتتهما فكرة أن عليهما هما أيضا أن يسافرا خاصة أنهما يستطيعان ذلك، وهكذا ذهبا إلى اليونان، وإلى أستراليا، وإلى كوستاريكا. قد يظن الآخرون أنهما مسافران في إحدى الرحلات حاليا.
كان يذهب للتزلج على الجليد على سبيل التريض، ولكنه لم يذهب قط بعيدا حتى منطقة المستنقع. كان يتزلج هنا وهناك دائرا في الحقل الذي يقع وراء المنزل، والشمس تهبط تاركة السماء قرنفلية اللون فوق ريف بدا وكأنه محاصر بأمواج جليد ذات حواف زرقاء. كان يقسم الأوقات التي يتجول فيها في الحقل، ومن ثم يعود إلى البيت المعتم، يفتح نشرة الأخبار في التليفزيون بينما يعد عشاءه. عادة ما كانا يعدان العشاء معا؛ أحدهما يعد ما سيشربان والآخر يوقد المدفأة، ويتحدثان عن عمله (كان يكتب دراسة حول الذئاب في الأساطير الإسكندنافية، وعلى الخصوص الذئب العملاق فنريس الذي يبتلع أودين في نهاية العالم )، ويتحدثان عن أي شيء كانت تقرؤه فيونا، وعما فكرا فيه في خلال يوميهما المتقاربين والمنفصلين. كان هذا هو الوقت الذي عاشا فيه أزهى وأدفأ حالة من الحميمية، كما كان هناك أيضا بالطبع خمس أو عشر دقائق من العذوبة الجسدية قبل أن يخلدا إلى الفراش مباشرة، شيئا لم يكن ينتهي بهما غالبا إلى الجنس، ولكنه طمأنهما أن الجنس لم تخمد جذوته بعد. •••
حلم جرانت بأنه يري زميلا له كان يعده من بين أصدقائه رسالة، أرسلتها إليه شريكة في السكن لفتاة لم ترد على باله لفترة. كان أسلوب الرسالة منافقا وعدوانيا، مهددا على نحو مثير للضيق، أحس أن كاتبة الرسالة سحاقية مستترة. أما الفتاة نفسها فقد انفصل عنها بشكل لائق ومحترم، وبدا من المستبعد أنها تريد أن تثير ضجة حول الأمر، فضلا عن أن تحاول الانتحار، وهو ما كانت الرسالة تحاول أن تخبره به في وضوح وتفصيل.
كان زميله ذلك واحدا من آلاف الأزواج والآباء الذين يسارعون بفك أربطة عنقهم، ويغادرون منازل الزوجية ليمضوا كل ليلة على مرتبة مفروشة أرضا مع عشيقات شابات فاتنات، من بين المترددات على مكاتبهم، أو في فصولهم الدراسية، بأجسادهن المتسخة التي تنضح برائحة الماريجوانا. لكنه الآن لا يرى تلك الخيانات الحمقاء إلا عبر ساتر من ضباب، ويتذكر جرانت أن ذلك الزميل قد تزوج في الحقيقة من إحدى تلك الفتيات، وأنها صارت تقيم مآدب العشاء لضيوفهما وأنجبت له أطفالا، تماما كما تفعل الزوجات. «هذا ليس مضحكا!» قال الزميل لجرانت، الذي لم يعتقد أنه كان يضحك، «ولو كنت مكانك لحاولت أن أهيئ فيونا لاستقبال الأمر.»
وهكذا انطلق جرانت ليعثر على فيونا في دار ميدو ليك - المبنى القديم - وبدلا من أن يفعل ذلك، دخل إلى قاعة المحاضرات. كان الجميع جالسين هناك في انتظاره ليعطي درسه، وفي الصف الأخير الأعلى كان يجلس سرب من الشابات ذوات الأعين الباردة، كلهن في ثياب سوداء، كلهن في حداد، لم يرفعن عنه قط أعينهن بتحديقها اللاذع، ولم يكتبن أو يكترثن بأي شيء مما كان يقوله .
أما فيونا فقد جلست في الصف الأول مطمئنة، وقد حولت قاعة المحاضرات إلى شيء أشبه بذلك الركن الذي تعثر عليه دائما في أي حفلة؛ بقعة هادئة ومرتفعة حيث يمكنها أن تشرب النبيذ بالمياه المعدنية، وتدخن سجائر عادية وتحكي للآخرين طرفا عن كلبيها. كانت متشبثة بموضعها هناك ضد التيار، مع بعض الأشخاص ممن على شاكلتها، كما لو أن كل ما يدور حولها من دراما في الأركان الأخرى، في غرف النوم أو في ظلمة الشرفة، ليس سوى كوميديا صبيانية؛ كما لو كان التعفف أناقة، والتكتم نعمة.
قالت: «يا رباه! إن الفتيات في تلك السن دائما ما يمضين قائلات إنهن سوف ينتحرن.»
لكن مجرد قول ذلك لم يكن كافيا؛ الحقيقة أن الأمر أثار ذعره. كان خائفا من أن تكون مخطئة، وأن شيئا رهيبا قد حدث، وأنه رأى ما لم تستطع هي رؤيته؛ تلك الحلقة السوداء كانت تزداد سمكا، وتهبط ساقطة نحوه، وتلتف حول قصبته الهوائية، وتدور به أعلى القاعة. •••
انتزع نفسه خارج الحلم وراح يفصل ما كان حقيقيا فيه عما لم يكن كذلك.
كانت هناك رسالة، وظهرت كلمة «نذل» بطلاء أسود مكتوبة على باب مكتبه، وقالت فيونا - حين عرفت بأن ثمة فتاة تعاني من لوعة غرامها به - شيئا شبيها للغاية بما قالته في الحلم. أما زميله فلم يتورط في الأمر، ولم تظهر قط شابات في ثياب سوداء في صفه الدراسي، كما لم يقدم أحد على الانتحار. لم يكلل جرانت بالخزي والعار، والحقيقة أنه خرج من تلك الورطة بسهولة مقارنة بما كان يمكن أن يحدث بعد ذلك بعامين فقط. لكن الخبر سرى بين الناس، وصار الجفاء جليا نحوه. صارت الدعوات الموجهة إليهما لحفلات الكريسماس أقل عددا، وأمضيا عشية عيد الميلاد بمفردهما. صار جرانت يشرب حتى يثمل، ودون أن يطالب بذلك - وأيضا، ولله الحمد، دون أن يقترف خطأ الاعتراف لها بكل شيء - وعد فيونا بحياة جديدة.
ما شعر به من عار وقتها كان ذلك العار الناجم عن أنه قد خدع، عن أنه لم يلحظ ما كان يطرأ من تغير مستمر. وما من امرأة واحدة جعلته مدركا له. طرأ التغير في الماضي حين بدا له أن نساء كثيرات للغاية صرن متاحات له فجأة - أو هكذا بدا له الأمر حينئذ - والآن هذا التغير الجديد، حين صرن يقلن له إن ما وقع بينهما لم يكن هو نفسه الشيء الذي كن يتصورنه. لقد تجاوبن معه لأنهن كن ضعيفات الجناح ومرتبكات، ولم يجنين من الأمر برمته البهجة، بل الأذى والجراح. حتى حين كن يأخذن بزمام المبادرة نحوه، لم يكن يفعلن ذلك إلا لأن حظوظ الدنيا لم تكن في صالحهن.
لا مجال للاعتراف بأن حياة زير نساء (إذا كان ذلك ما على جرانت أن يسمي به نفسه؛ على الرغم من أنه لم يحظ بنصف ما حظي به الرجل الذي وبخه في الحلم من فتوحات وصعوبات) قد تنطوي على أفعال تنم عن الطيبة والكرم، بل التضحية أيضا. ربما ليس في البدايات، ولكن بعد أن تمضي الأمور قدما على الأقل. لقد غذى في مرات كثيرة كبرياء امرأة ما، أو هشاشتها، بتقديم عاطفة أكثر مما كان يشعر به حقا نحوها، أو إبداء شغف أعنف وأشد. وعلى الرغم من ذلك يمكنه أن يجد نفسه الآن متهما بأنه جرح تقديرها لذاتها، وأساء استغلالها ودمرها. كما أنه متهم بخداع فيونا - لقد خدعها بالطبع - ولكن هل كان من الأفضل لهما لو فعل مثلما فعل آخرون مع زوجاتهن وهجرها؟
لم يخطر له شيء كهذا بالمرة. لم يتوقف قط عن ممارسة الحب مع فيونا، على الرغم من المطالب المزعجة في مكان آخر. لم يبق بعيدا عنها ولو ليلة واحدة. لم يخترع قصصا متقنة لكي يقضي عطلة نهاية أسبوع في سان فرانسيسكو أو في خيمة على جزيرة مانيتولين. لم يفرط في تعاطي الماريجوانا أو معاقرة الشراب وواصل نشر أبحاثه، والمشاركة في اللجان، محققا تقدما في مسيرته المهنية. لم تخامره بالمرة أي نية بالتخلي عن العمل والزواج واللجوء إلى الريف ليمارس النجارة أو يربي النحل.
غير أن شيئا شبيها بذلك قد حدث على كل حال؛ فقد تقاعد مبكرا بمعاش أقل. توفي طبيب القلب والد فيونا، بعد أن أمضى بعض الوقت الصبور والذاهل بمفرده في المنزل الكبير، وورثت فيونا كلا من ذلك العقار ومنزل المزرعة الذي نشأ فيه والدها، في قرية بالقرب من خليج جورجيان. تركت وظيفتها كمنسقة للخدمات التطوعية في أحد المستشفيات (في عالم الحياة اليومية، كما قالت، حيث كان الناس فعلا يعانون أزمات غير متصلة بالمخدرات أو الجنس أو نزاعات المثقفين). وهكذا كانت هناك حياة جديدة حقا.
كان كلباها بوريس وناتاشا قد ماتا قبل هذا الوقت؛ مرض أحدهما ومات أولا - نسي جرانت أيهما - ثم مات الآخر، بدرجة أو بأخرى، حزنا على رفيقه.
راح هو وفيونا يعملان على إصلاح المنزل. مارسا التزلج في أنحاء الريف. لم يكونا اجتماعيين للغاية، ولكنهما استطاعا أن يكسبا بعض الأصدقاء تدريجيا. لا مزيد من المغازلات المحمومة، لا مزيد من أصابع أقدام الإناث التي تزحف صاعدة تحت طرف بنطلون رجالي في حفل عشاء، لا مزيد من الزوجات المتهورات.
رأى جرانت أن هذا جاء في الوقت المناسب تماما، بعد أن غاض من نفسه إحساس الظلم. كل من النسويات (المدافعات عن حقوق المرأة في مواجهة الرجال)، وربما الفتاة الحزينة الساذجة نفسها، والجبناء من أصدقائه المزعومين؛ كلهم دفعوا به للخارج في الوقت المناسب تماما. خارج حياة جلبت من المتاعب أكثر مما تستحق، وربما كانت تلك الحياة ستكلفه فيونا في نهاية الأمر. •••
في صباح اليوم الذي عزم فيه العودة إلى دار ميدو ليك ليقوم بزيارته الأولى، استيقظ جرانت باكرا. كان مفعما بوخز مهيب، كما في الأيام الخوالي في صباح موعده الأول مع امرأة جديدة. لم يكن شعوره جنسيا على وجه التحديد (فيما بعد، حين صارت اللقاءات روتينا منتظما، انقضى هذا الشعور تماما). كانت ثمة لهفة على الاكتشاف، وتمدد يكاد يكون روحيا. وكذلك تهيب، وتواضع، وانتباه.
غادر المنزل مبكرا كذلك. لم يكن مسموحا باستقبال زوار قبل الساعة الثانية. لم يرغب في الجلوس بالخارج في ساحة صف السيارات منتظرا، وهكذا استدار بالسيارة ومضى في اتجاه خاطئ .
كان الجليد ينحل في الدفء. ما زالت هناك بعض الثلوج، ولكن المشهد الصلب والمبهر لأوائل الشتاء قد تفتت. بدت تلك الكومات المتناثرة كالبثور تحت السماء الرمادية، أقرب إلى قمامة في الحقول.
في البلدة القريبة من دار ميدو ليك وجد محلا لبيع الزهور فاشترى طاقة كبيرة. لم يسبق له قط أن أهدى زهورا إلى فيونا، أو إلى أي شخص آخر. دخل المبنى شاعرا بأنه عاشق لا حول له ولا قوة، أو كأنه زوج مذنب في الرسوم الهزلية.
قالت له كريستي: «يا للروعة! هذا أوان مبكر للغاية على النرجس؛ لا بد أنك دفعت فيه مبلغا كبيرا.» تقدمته سائرة على طول رواق ثم توقفت وأضاءت إحدى الخزانات، أو لعله مطبخ من نوع ما، حيث بحثت عن زهرية. كانت امرأة شابة ممتلئة تبدو وكأنها أقلعت عن الاعتناء بأي جزء من جسدها عدا شعرها. كان أشقر كثير الالتفافات، له مظهر معتنى به في رفاهية كأنها نادلة في حفل كوكتيل، أو راقصة تعر، هذا الشعر يعلو مثل هذا الوجه والجسد العاديين تماما. «هيا بنا الآن!» هكذا قالت وأومأت له نحو الرواق. «اسمها مكتوب على الباب.»
وهكذا كان، على لافتة اسم صغيرة مزخرفة بعصافير زرقاء. تساءل إن كان عليه أن يطرق الباب، فطرقه ثم فتح ونادى اسمها.
لم تكن بالداخل. كان باب الدولاب مغلقا، والفراش مرتبا. لا شيء على المنضدة المجاورة للفراش، إلا علبة مناديل ورقية وكوب ماء. لا توجد صورة فوتوغرافية أو مرسومة واحدة من أي نوع، ولا كتاب أو مجلة. ربما يتوجب عليهم حفظ تلك الأشياء في الدولاب.
عاد من جديد إلى قسم الممرضات، أو مكتب الاستقبال، أو أيا كان اسمه. قالت كريستي: «لا!» بدهشة رآها من باب الواجب لا أكثر.
شعر بالتردد وهو يقف حاملا الزهور، «لا بأس، لا بأس. فلنضع الطاقة هنا.» هكذا قالت وهي تتنهد، كما لو كان طفلا هيابا في يومه الأول بالمدرسة. قادته على طول الرواق، نحو مساحة مركزية فسيحة ذات سقف مرتفع بأقواس، ويغمرها ضوء النهار من نوافذ ضخمة مشرفة على السماء مباشرة. كان بعض الأشخاص جالسين بمحاذاة الجدران، في مقاعد مريحة، وجلس آخرون إلى موائد في منتصف الأرضية المفروشة بالسجاد. لم يبد أن أيا منهم في حالة متدهورة. مسنون ولكن في حالة لائقة، بعضهم بلغ به العجز ما يكفي لأن يعتمد على مقعد متحرك. فيما مضى، حين كان يأتي هو وفيونا لزيارة السيد فاركوار، كانت هناك بعض المشاهد الموهنة والمزعجة؛ شعر نابت على ذقون النسوة العجائز، لعاب يسيل، رءوس تتأرجح، ثرثرات غاضبة. الآن بدا الأمر كما لو أنهم قد اقتلعوا الحالات الأشد سوءا، أو لعلها العقاقير والجراحات التي بدءوا يستعينون بها، ربما صارت هناك طرق لمعالجة تلك التشوهات الجسدية، بجانب حالات القصور اللفظي والأنواع الأخرى من العجز والضعف؛ طرق لم يكن لها وجود حتى منذ سنوات قليلة مضت.
ومع ذلك فقد كانت هناك امرأة حزينة للغاية تجلس إلى البيانو، تضرب المفاتيح عبثا بإصبع واحدة دون أن تصدر نغمة واحدة بالمرة. وامرأة أخرى تحدق من وراء وعاء القهوة وأكداس الأكواب البلاستيكية، تبدو وكأنها قد تحجرت من فرط ضجرها. ولكن لا بد أنها كانت إحدى العاملات في الدار؛ فقد كانت ترتدي زيا موحدا ببنطلون أخضر فاتح مثل الذي ترتديه كريستي. «أترى؟» قالت كريستي بصوت أرق، «كل ما عليك أن تذهب وتلقي عليها التحية، وحاول ألا تفزعها، وتذكر أنها ربما لا ... حسنا، لا يهم. فقط اذهب إليها.»
رأى وجه فيونا من الجانب. كانت جالسة قريبا من إحدى طاولات لعب الورق، لكنها لا تلعب. بدا وجهها منتفخا قليلا، كان الترهل الذي في خدها يخفي ركن فمها، بطريقة لم تحدث قط فيما قبل. كانت تراقب لعب أحد الرجال الذي تجلس بالقرب منه للغاية. أمسك الرجل بأوراق لعبه مائلة بحيث تتمكن من رؤيتها. حين اقترب جرانت من الطاولة تطلعت إليه. تطلعوا جميعا إليه، كل اللاعبين الجالسين إلى الطاولة رفعوا أبصارهم نحوه، في استياء، ثم سرعان ما خفضوا أبصارهم نحو أوراق اللعب من جديد، كأنهم يردون أي محاولة للتطفل.
غير أن فيونا ابتسمت له، ابتسامتها ذاتها المائلة لأحد الجانبين، الخجولة، الماكرة، الفاتنة، ودفعت كرسيها للوراء ودارت مقتربة منه، وهي تضع أصابعها على فمها. «برديج!» هكذا همست. «مسألة خطيرة جدا. إنهم متشددون للغاية فيما يتعلق بلعب البرديج.» سحبته نحو طاولة القهوة، وهي تثرثر: «أستطيع أن أتذكر أنني كنت مثلهم هكذا لفترة من الوقت أيام الجامعة. كنت أنا وصديقاتي نفوت أحد الصفوف الدراسية ونجلس في الغرفة المشتركة لندخن ونلعب مثل سفاحين عتاة. كانت واحدة منهن اسمها فيبي، لا أذكر الأخريات.»
قال جرانت: «فيبي هارت.» تصور الفتاة الضئيلة ذات الصدر الغائر والعينين السوداوين، التي من المرجح أن تكون قد توفيت الآن، ملفوفات بدخان السجائر، فيونا وفيبي والأخريات أولئك، مستغرقات مثل ساحرات شريرات.
قالت فيونا: «أكنت تعرفها أنت أيضا؟» وهي توجه ابتسامتها الآن نحو المرأة ذات الوجه المتحجر، «هل أجلب لك أي شيء؟ قدحا من الشاي؟ أخشى أن القهوة ليست طيبة للغاية هنا.»
جرانت لا يشرب الشاي بالمرة.
لم يستطع أن يطوقها بذراعيه؛ شيء ما جعل ذلك غير ممكن، شيء في صوتها وابتسامتها، المألوفين له كما كانا، شيء في الطريقة التي بدت بها تحرس منه لاعبي الورق وحتى امرأة القهوة، وكذلك تحول بينه وبين إزعاجهم.
قال لها: «أحضرت بعض الزهور، رأيت أنها قد تضفي البهجة على غرفتك. ذهبت إلى غرفتك ولكني لم أجدك هناك.»
قالت: «حسنا، لست هناك، أنا هنا.»
قال جرانت: «لك صديق جديد!» مومئا نحو الرجل الذي كانت تجلس إلى جانبه. وفي هذه اللحظة تطلع ذلك الرجل نحو فيونا والتفتت هي نحوه، إما بسبب ما قاله جرانت عنه، وإما لأنها استشعرت نظرته إلى ظهرها.
قالت: «إنه أوبري. الشيء العجيب أنني كنت أعرفه منذ سنوات وسنوات مضت. كان يعمل في متجر يبيع الأدوات المعدنية والخردوات، اعتاد جدي أن يشتري منه لوازمه. أنا وهو كنا دائما نمزح ونضحك، لكنه لم يملك الجرأة على طلب مرافقتي لنخرج معا، حتى عطلة نهاية الأسبوع الأخيرة حين اصطحبني إلى مباراة كرة. ولكن حين انتهت المباراة ظهر جدي ليقلني إلى البيت. كنت أزورهم خلال الصيف، أزور جدي وجدتين كانا يعيشان في منزل ملحق بمزرعة.» «فيونا. أنا أعرف أين كان جداك يعيشان. إنه نفس المكان الذي نعيش فيه معا. أقصد كنا نعيش فيه.»
قالت: «حقا؟» من غير إبداء اهتمام تام لأن لاعب الورق كان يرسل إليها بنظراته، التي لم تكن نظرات مستجدية ولكن آمرة. كان رجلا في مثل سن جرانت، أو أكبر بدرجة هينة. يسقط على جبينه شعر أبيض كثيف وخشن، وقد كانت بشرته مرنة ولكن شاحبة، ذات لون أبيض يميل للصفرة مثل قفاز طفل قديم ومجعد. يحمل وجهه سيماء الوقار والكآبة كذلك، وكان فيه شيء من جمال حصان مسن، حصان قوي وخائر العزم، لكنه لم يكن بالمرة خائر العزم إذا تعلق الأمر بفيونا. «من الأفضل أن أعود.» قالت فيونا، وقد تضرج وجهها الذي اكتسب بدانة حديثة العهد. «إنه يعتقد أنه لا يمكنه اللعب إن لم أكن جالسة بجواره. أمر بائخ، أنا حتى لا أعرف اللعبة بعد كما يجب. اعذرني لكن علي أن أذهب.» «هل أوشكتم على إنهاء اللعبة؟» «أوه، لا بد أن نفعل. بحسب الظروف. إذا ذهبت وطلبت بلطف من تلك السيدة العابسة بعض الشاي، فسوف تعده لك.»
قال جرانت: «لا أريد شيئا.» «حسنا سأتركك إذن، أيمكنك أن تسلي نفسك؟ لا بد أن كل ذلك يبدو غريبا عليك، ولكنك سوف تفاجأ بالسرعة التي ستعتاد بها عليه. سوف تتعرف على كل الموجودين هنا، إلا أن بعضهم هائمون تماما بين السحاب، تعلم مقصدي؛ لا تنتظر منهم جميعا أن يدركوا من تكون.»
انسلت عائدة وجلست في مقعدها وقالت شيئا ما في أذن أوبري. مسدت بأصابعها على مؤخرة رأسه.
ذهب جرانت ليبحث عن كريستي ووجدها في الرواق. كانت تدفع أمامها عربة صغيرة عليها أباريق من عصير التفاح وعصير العنب.
قالت له: «ثانية واحدة فقط!» وهي تطل برأسها من مدخل الباب، «يوجد عصير تفاح هنا؟ وعصير عنب؟ وبسكويت؟»
انتظر حتى ملأت كوبين بلاستيكيين وأخذتهما إلى الغرفة، ثم عادت ووضعت قطعتين من بسكويت النشا على طبقين من ورق .
قالت له : «حسنا، ألا يسرك أن تراها وهي تتفاعل مع الآخرين؟»
قال جرانت: «هل تعرف حتى من أكون؟» •••
لم يستطع أن يقطع الشك باليقين. لعلها تمازحه، ولن يكون هذا بالشيء الغريب عليها. لقد فضحت نفسها بتلك التمثيلية الصغيرة في النهاية، متحدثة إليه كما لو كانت تظن أنه ربما كان نزيلا جديدا.
لو أن هذا ما تتظاهر به! إذا كان تظاهرا من الأساس!
ولكن أما كانت ستركض خلفه وتضحك منه عندئذ، بمجرد أن تنتهي مزحتها؟ ما كانت ستعود هكذا إلى منضدة لعب الورق، بكل تأكيد، متظاهرة أنها نسيته تماما. كان تصرفا أقسى مما يحتمل.
قالت كريستي: «كل ما هنالك أنك أتيتها في لحظة سيئة نوعا ما. إنها مستغرقة تماما في اللعب.»
قال: «إنها لا تلعب حتى.» «حسنا، ولكن صديقها يلعب؛ أوبري.» «ومن هو أوبري إذن؟» «هذا هو اسمه، أوبري، صديقها. هل تريد عصيرا؟»
هز جرانت رأسه رافضا.
قالت كريستي: «أوه، انظر، إنهم يعقدون تلك الارتباطات فيما بينهم، ويسيطر عليهم ذلك لفترة ما. نوع من أقرب الأصحاب لك. إنها مرحلة لا بد منها.» «تقصدين أنها ربما لا تدري حقا من أكون؟» «ربما لا تدري. ليس اليوم. ثم تعرفك غدا، لا يمكن التأكد أبدا، صحيح؟ تتغير الأمور جيئة وذهابا طوال الوقت، وليس هناك ما يمكنك أن تفعله إزاء ذلك. سوف ترى كيف تمضي الأحوال بمجرد أن تعتاد زيارتها لفترة. سوف تتعلم ألا تتعامل مع الوضع بجدية زائدة عن اللازم، ستتعلم أن تتعامل معه يوما بيوم.» •••
يوما بيوم. غير أن الأمور لم تتغير جيئة وذهابا، ولم يعتد على تلك الأحوال. بدا أن فيونا هي من اعتادت وجوده، ولكن فقط كزائر مثابر يبدي اهتماما خاصا بها، أو ربما حتى كمصدر للإزعاج لا بد من منعه من إدراك أنه كذلك، وفقا لقواعدها القديمة للمجاملة واللياقة. عاملته بنوع اجتماعي وشارد اللب من المودة منعه من طرح السؤال الأشد وضوحا والأشد إلحاحا. لا يستطيع أن يسألها إن كانت تتذكره أم لا، بوصفه زوجها لقرابة خمسين عاما. راوده انطباع أنها سوف تشعر بالحرج إزاء سؤال كهذا؛ الحرج له وليس لها. وقد تضحك بطريقة مضطربة وتثير فيه الذعر بتهذيبها وارتباكها، وربما تنتهي بطريقة ما إلى عدم ردها بشيء، لا نفيا ولا إيجابا. أو قد تجيب بأي من الجوابين بطريقة لا تمنح القدر الأقل من الاقتناع.
كانت كريستي هي الممرضة الوحيدة التي يتحدث إليها. بعض الأخريات عاملن الأمر كله على أنه مجرد مزحة، بل إن واحدة شديدة البأس منهن اندفعت تضحك في وجهه، وهي تقول: «ذلك الرجل أوبري وتلك السيدة فيونا؟ لقد تورطا معا للغاية، أليس كذلك؟»
أخبرته كريستي بأن أوبري كان الممثل المحلي لشركة تبيع مبيدات الأعشاب الضارة - «وكل هذه الأنواع من الأشياء» - للمزارعين.
قالت له: «كان شخصا رائعا.» لم يعرف جرانت إن كانت تقصد بأن أوبري كان شخصا أمينا وسخيا وطيبا مع الناس، أم أنها تقصد أنه كان حلو الحديث وأنيق المظهر ويقود سيارة جيدة. من الوارد أنها قصدت الأمرين معا.
وبعد ذلك، وقبل أن تتقدم به السن للغاية أو حتى قبل أن يتقاعد عن العمل - قالت كريستي - عانى من تلف غير مألوف. «إن زوجته هي من ترعاه عادة. ترعاه في المنزل. أودعته هنا بصفة مؤقتة بحيث يمكنها أن تستريح. طلبت منها شقيقتها أن تسافر إلى فلوريدا. كما ترى فقد مرت بوقت عصيب، كيف يمكن أن تتوقع حدوث هذا لرجل مثله؛ فقد سافرا ببساطة لقضاء إجازة في مكان ما وأصيب بشيء ما، حشرة أو جرثومة ما، وأدى هذا لإصابته بحمى مرتفعة رهيبة؟ ثم دخل في غيبوبة تركته كما هو الآن.»
سألها عن تلك العواطف التي تنشأ ما بين النزلاء. هل تقطع شوطا أبعد من اللازم؟ كان بمقدوره الآن أن يتكلم بنبرة من التسامح كان يأمل أن توفر عليه الاستماع إلى أي محاضرات.
قالت: «هذا يتوقف على ما تقصده.» وواصلت الكتابة في دفتر القيد بينما كانت تقرر كيف تجيب سؤاله. وحين أنهت ما كانت تكتبه تطلعت نحوه بابتسامة صريحة. «أمر مضحك، المشكلة التي نواجهها هنا غالبا ما تكون مع أشخاص لم يعقدوا صداقة بعضهم مع بعض بالمرة. لعلهم ما كان ليعرف أحدهم الآخر، فيما وراء التعرف السطحي من قبيل: هل هذا رجل أم امرأة؟ يظن المرء أن الرجال العجائز هم من يحاولون التسلل إلى فراش السيدات العجائز، ولكن الحقيقة أن ما يحدث هو العكس أغلب الوقت. السيدات العجائز هن من يسعين وراء الرجال العجائز؛ ربما لأنهن لم يفقدن كل رونقهن بعد، على ما أظن.»
توقفت عن الابتسام، كما لو كانت تخشى من أنها أفضت بما هو أكثر من اللازم، أو أنها لم تراع المشاعر في حديثها.
قالت: «لا تفهم كلامي خطأ. أنا لا أقصد فيونا، فيونا سيدة راقية حقيقية.»
حسنا، ماذا عن أوبري؟ رغب جرانت في قول ذلك، لكنه تذكر أن أوبري على مقعد متحرك. «إنها سيدة حقيقية.» قالت كريستي، بنبرة حاسمة ومطمئنة للغاية بحيث إنها لم تطمئن جرانت. رسم في عقله صورة لفيونا، في واحد من قمصان نومها الطويلة ذات الشرائط الزرقاء والمطرزة بتخاريم الدانتيلا، وهي ترفع في إغراء أغطية فراش رجل عجوز.
قال: «حسنا، أحيانا ما أتساءل ...»
فقالت كريستي بصرامة: «عم تتساءل؟» «أتساءل إذا لم تكن تلعب علي تمثيلية من نوع ما.»
قالت كريستي: «ماذا؟» •••
أغلب فترات ما بعد الظهيرة كان يمكن العثور عليهما معا جالسين إلى طاولة لعب الورق. كانت لأوبري يدان كبيرتان بأصابع ثخينة، فكان من الصعب عليه أن يتحكم في أوراقه. كانت فيونا ترتبها وتتعامل معها، وأحيانا تتحرك بسرعة لتضبط وضع ورقة بدا أنها سوف تنزلق من قبضته. كان جرانت يراقب من الطرف الآخر للغرفة حركتها المندفعة واعتذارها السريع الضاحك، كان يمكنه أن يرى عبوس أوبري على نحو ما يفعل الأزواج مع زوجاتهم إذا ما مست خده خصلة شاردة من شعرها. مال أوبري إلى تجاهلها ما دامت بالقرب منه.
ولكن بمجرد أن تبتسم لتحية جرانت، بمجرد أن تدفع مقعدها للوراء وتنهض لتقدم له الشاي - مظهرة أنها قد تقبلت حقه في الوجود هنا، ومن الممكن أنها شعرت نحوه بمسئولية هشة - كان وجه أوبري يتخذ سمتا من الارتياع الكئيب ؛ كان يترك أوراق اللعب تنزلق من بين أصابعه وتسقط على الأرض، ليفسد اللعبة.
وهكذا كان يتوجب على فيونا أن تنشغل بتصحيح الأمور.
إذا لم يكونا جالسين إلى طاولة البريدج، فربما يكونان سائرين على طول الأروقة، يقبض أوبري بإحدى يديه على حواجز القضبان الخشبية، وبالأخرى يتشبث بذراع فيونا أو كتفها. رأت الممرضات في ذلك معجزة؛ كيف أنها شجعته على النهوض عن مقعده المتحرك، على الرغم من أنه كان يميل لاستخدام المقعد للمشاوير الأطول، من قبيل الذهاب للمشتل الزجاجي لدى طرف المبنى أو إلى غرفة التليفزيون لدى الطرف الآخر.
بدا أن التليفزيون مفتوح دائما على قنوات رياضية، وكان أوبري يشاهد أي رياضة، لكن اتضح أن رياضته المفضلة هي الجولف. لم يمانع جرانت في مشاهدة ذلك معهما، جالسا على بعد بضعة مقاعد. وعلى الشاشة الكبيرة كانت مجموعة صغيرة من المتفرجين والمعلقين يتبعون اللاعبين في أرجاء الخضرة الوديعة، وفي اللحظات الملائمة يندفعون في نوع رسمي من التصفيق والاستحسان. غير أن الصمت كان يسود كل شيء كلما لوح اللاعب بعصاه وانطلقت الكرة في رحلتها الموجهة والمتوحدة عبر السماء. كان كل من أوبري وفيونا وجرانت، وربما آخرون، يجلسون حابسين أنفاسهم، ثم يكون أوبري هو أول من يلتقط أنفاسه، معبرا عن رضاه أو خيبته. وما هي إلا لحظة بعد ذلك حتى تردد فيونا صدى النغمة ذاتها.
لم يكن في مشتل النباتات مثل ذلك الصمت. كان الاثنان يجدان مقعدا لهما بين النباتات الأشد كثافة وخضرة وذات المظهر الاستوائي - مكان ظليل مخبوء، إن صح هذا - حيث امتلك جرانت ما يكفي من ضبط النفس بحيث يمنع نفسه من اختراق تلك الغصون الظليلة. كان يتناهى إلى سمعه صوت خشخشة أوراق الشجر ورشاش المياه، ممتزجا بحديث فيونا الناعم وضحكاتها.
ثم نوع من الضحك المكتوم كأنه شقشقة. ترى لمن منهما؟
ربما ليس لأي منهما، ربما يصدر الصوت عن الطيور الماجنة ذات المظهر المبهرج التي تعشش في أقفاص الركن.
كان أوبري قادرا على التكلم، ولو أن صوته غالبا فقد نبرته القديمة. بدا أنه يقول شيئا ما الآن، بضعة مقاطع لفظية غليظة. خذي الحذر! إنه هنا، يا حبيبتي.
رأى بعض العملات المعدنية راكدة في القاع الأزرق لحوض النافورة على سبيل التمني. لم يسبق لجرانت أن رأى أي شخص يرمي نقودا بالفعل بداخلها. راح يحدق في تلك العملات فئة الخمسة والعشرة سنتات والأرباع، متسائلا إن كانوا قد ألصقوها هناك في بلاطات القاع؛ كملمح آخر من الديكور المبشر للمبنى. •••
مراهقان في مباراة للبيسبول، يجلسان في أعلى نقطة من مدرجات الجمهور، بعيدا عن أعين أصدقاء الصبا، لا يفصل بينهما إلا بضع بوصات من الخشب غير المطلي، تحل الظلمة، قشعريرة برد سريعة في أمسية في أواخر فصل الصيف. تتلامس أيديهما، يتماس جسداهما، وأعينهما لا ترتفع عن الملعب. لو كان يرتدي سترة لكان خلعها من أجل أن يضعها حول كتفيها الضيقتين. ومن تحت السترة يمكنه أن يجذبها لتكون أقرب منه، وأن يضغط بأصابعه المنفرجة على ذراعها اللين.
ليس مثل أي صبي من صبية هذه الأيام الذي غالبا ما سيتعجل وصالها من أول موعد يخرجان فيه معا.
ذراع فيونا اللين. شهوة المراهقة تذهلها وتومض في جميع أعصاب جسدها الرقيق الغض، بينما تتكاثف ظلمة الليل وراء الغبار المضيء للمباراة. •••
لم يكن هناك الكثير من المرايا في دار ميدو ليك؛ لذا لم يتمكن من أن يلمح صورة لنفسه وهو يهيم وراءهما متلصصا متنصتا، ولكن ما بين حين وآخر كان يخطر له أنه بالتأكيد يبدو غبيا ومحزنا، وربما ممسوسا في عقله، وهو يتتبع أثر فيونا وأوبري هنا وهناك، دون أن يحالفه أي حظ في مواجهتها، أو مواجهته. ويوما بعد آخر يتضاءل يقينه حول أحقيته في الوجود داخل هذا المشهد، ومع ذلك لا يقدر على الانسحاب منه. حتى في المنزل، بينما كان يعمل في مكتبه أو ينظف البيت أو يجرف الثلج عند الضرورة، يظل يسمع في رأسه دقات رتيبة الإيقاع مثبتة على ميدو ليك، على زيارته التالية. بدا أحيانا لنفسه أنه صبي عنيد كالبغال يلاحق غراما لا أمل منه، وأحيانا كأحد أولئك التعساء ممن يتتبعون النساء الشهيرات عبر الشوارع، وكلهم ثقة أن أولئك السيدات سوف يلتفتن نحوهم ذات يوم معترفات بالحب.
بذل جهدا هائلا، وقصر زياراته على أيام الأحد والأربعاء، كما عقد عزمه على ملاحظة أشياء أخرى في المكان، كما لو كان زائرا متجولا، شخصا أتى لإجراء تفتيش أو دراسة اجتماعية.
تتميز أيام الأحد بضجة وتوتر يوم الإجازة. تصل الأسر إلى المكان في عناقيد، حيث تمسك الأمهات غالبا بزمام الأمور، كما لو كن رعاة مبتهجين وعنيدين يرقبون بانتباه قطيع الرجال والأطفال. أصغر الأطفال فقط هم من يكونون غير مستوعبين لطبيعة الزيارة، فيلاحظون على الفور المربعات البيضاء والخضراء على أرضية الرواق، وينتقون أحد اللونين للسير عليه، والآخر للقفز من فوقه. الأطفال الأكثر جرأة قد يحاولون ركوب ظهور المقاعد المتحركة واللعب بها. إذا ما أصر بعضهم على تلك الفعال على الرغم من التوبيخ، وصار لا بد من إعادته إلى السيارة، فإن طفلا أكبر منه سنا أو حتى الأب نفسه يتطوع، على استعداد تام وعن طيب خاطر، للقيام بهذه المهمة، وهكذا يفلت من وطأة الزيارة.
كانت النساء هن من يحرصن على تدفق الحديث، بينما بدا أن الرجال يروعهم الموقف ككل، وبدا المراهقون مستائين. أما المقصودون بالزيارة أنفسهم، سواء أكانوا مستقرين على مقعد متحرك أم يخطون في تعثر متكئين على عصا، أم يسيرون في تخشب دون مساعدة، فيكونون فخورين بهذا الجمع ولكنهم شاردو النظرات نوعا ما، أو يثرثرون بلغوهم في استماتة، تحت وطأة هذا اللقاء. الآن وقد صاروا محاطين الآن بتشكيلة متنوعة من الدخلاء، فإن هؤلاء النزلاء قد تخلوا عن مظهرهم المعتاد على كل حال. تم نتف الشعيرات الصغيرة الخشنة من جذورها من ذقون الإناث، وربما أخفيت بعض الأعين المصابة برقع أو نظارات داكنة، أما صعوبات الحديث فقد تم التعامل معها ببعض العقاقير، ومع ذلك فقد تبقى شيء من البريق القديم، من صلابة مستردة لبعض الوقت، كما لو كانوا مكتفين بأن يكونوا ذكريات لأنفسهم، أو صورا فوتوغرافية نهائية.
فهم جرانت الآن على نحو أفضل ما كان يشعر به السيد فاركوار بالتأكيد. كان النزلاء هنا - حتى هؤلاء الذين لا يشاركون في أي أنشطة مكتفين بالجلوس يراقبون الأبواب أو يتطلعون من النوافذ - يعيشون حياة مزدحمة في رءوسهم (فضلا عن الحياة الخاصة بأجسادهم، التغيرات المشئومة في أمعائهم، الطعنات والوخزات في كل موضع آخر بهذا القدر أو ذاك)، وهي حياة ليس من الممكن في أغلب الحالات وصفها وصفا حسنا أو الإشارة إليها قبالة الزوار. كان كل ما يمكنهم القيام به هو دفع مقاعدهم أو حمل أجسادهم بطريقة ما على أمل التوصل إلى شيء ما يمكن لهم إظهاره للآخرين أو التحدث بشأنه.
كان هناك ما يمكن استعراضه في تباه؛ كالمشتل الزجاجي وشاشة التليفزيون الكبيرة. ارتأى الآباء أن هذا شيء جيد حقا، وقالت الأمهات إن نباتات السرخس رائعة الجمال، وسرعان ما جلس الجميع حول موائد صغيرة لتناول الآيس كريم، لا يرفضه إلا المراهقون الذين يموتون اشمئزازا. مسحت النساء ما سال على الذقون الهرمة المرتعشة، ونظر الرجال إلى الناحية الأخرى.
لا بد أن هناك قدرا من الرضا في هذا الطقس، حتى المراهقون ربما سيشعرون بالسرور لأنهم قد أتوا هذا المكان، يوما ما. لم يكن جرانت يملك خبرة في شئون العائلات.
لم يظهر لأوبري أبناء أو أحفاد ليزوروه، وبما أنهم لا يستطيعون لعب الورق - فالموائد مشغولة بحفلات تناول الآيس كريم - بقي هو وفيونا بعيدين عن استعراض يوم الأحد. كما أن مشتل النباتات يؤمه الكثيرون عندئذ بما لا يسمح بتبادل أحاديثهما الحميمة.
تلك الأحاديث قد تجري، بالطبع، وراء باب غرفة فيونا المغلق. لم يتمكن جرانت من أن يطرقه، على الرغم من أنه لبث واقفا أمامه لبعض الوقت يحدق بشدة في طيور ديزني المرسومة حول اسمها، ويساوره نفور ناقم بوضوح.
أو لعلهما في غرفة أوبري. لكنه لم يكن يعرف أين هي. كلما راح يستكشف هذا المكان تبين له المزيد من الممرات ومنحدرات المقاعد المتحركة والمساحات المخصصة للجلوس، وكان لا يزال معرضا لأن يفقد طريقه في جولاته تلك. كان يأخذ لوحة معينة أو مقعدا كعلامة يهتدي بها، ولكن في الأسبوع التالي وأيا ما كان الشيء الذي اتخذه علامة، يبدو أنه صار في موضع آخر. لم يحب أن يذكر هذا الأمر لكريستي، خشية أن تظن أنه يعاني خللا عقليا خاصا به. افترض أنه ربما يكون السبب وراء هذا التغيير وإعادة الترتيب المتواصلين مصلحة النزلاء، بحيث يكون تمرنهم اليومي على اكتشاف طريقهم أكثر إثارة.
كما لم يذكر أيضا أنه أحيانا كان يرى امرأة من بعيد يظن أنها فيونا، ولكنه يقول لنفسه إن ذلك غير ممكن، نظرا للثياب التي كانت ترتديها المرأة؛ فمتى كانت فيونا تميل إلى البلوزات ذات الزهور الساطعة والسراويل الزاهية الزرقة؟ ذات يوم أحد تطلع خارج إحدى النوافذ فرأى فيونا - هي بلا شك - تدفع مقعد أوبري على طول الطرقات المعبدة، وقد خلت الآن من الثلوج والجليد، وكانت تضع فوق رأسها قبعة صوفية سخيفة، وترتدي جاكيت فيه دوامات من الأزرق والبنفسجي، ذلك النوع من الأشياء الذي قد يراه على جسد امرأة من أهل البلدة المحليين في السوبر ماركت.
لا بد أن تفسير ذلك هو أنهم لا يكترثون لفرز قطع الثياب الخاصة بالسيدات اللاتي يشتركن في المقاس نفسه تقريبا، ويعتمدون في ذلك على أن السيدات على كل حال لن يتعرفن على الثياب الخاصة بكل منهن.
قصوا شعرها أيضا، أزالوا هالتها الملائكية. في أحد أيام الأربعاء، حين كان كل شيء يجري على عادته وكانت ألعاب الورق تدور مرة أخرى، والنساء في غرفة الأشغال اليدوية يصنعون أزهارا حريرية أو دمى ذات ثياب مميزة، دون وجود لأي شخص من حولهن قد يضايقهن أو يبدي لهن إعجابه، وحين كان من الممكن رؤية كل من أوبري وفيونا واضحين في مكانهما من جديد، صار من المتاح له عندئذ أن يجرب حديثا مع زوجته، حديثا وجيزا وحميما ودافعا للجنون، قال لها: «لماذا جزوا لك شعرك على هذا النحو؟»
وضعت فيونا يديها على رأسها، تتفقد شعرها.
قالت: «عجبا، أنا لم أفتقده بالمرة!» •••
فكر أنه ينبغي عليه أن يكتشف كيف تجري الأمور في الطابق الثاني، حيث يحتفظون بالأشخاص الذين ، على حد قول كريستي، قد فقدوا عقولهم حقا. أما هؤلاء الذين كانوا يسيرون في الأنحاء بالأسفل هنا، مستغرقين في التكلم إلى أنفسهم أو طارحين أسئلة عجيبة على أي شخص يمر بهم (هل تركت سترتي في الكنيسة؟) فالظاهر أنهم لم يفقدوا إلا بعضا من عقولهم.
غير كاف لتأهيلهم للصعود.
كانت ثمة سلالم، غير أن الأبواب في الأعلى كانت موصدة ومفاتيحها مع طاقم العمل فحسب. لا يمكن لأحد أن يدخل إلى المصعد إلا بعد أن يفتحه له أحدهم بضغط زر محدد، من وراء المكتب.
ماذا كانوا يفعلون، بعد أن فقدوا عقولهم؟
قالت كريستي: «البعض يجلس فحسب، البعض يجلس ويبكي. البعض يحاول أن يصيح حتى يقلب الدار كلها. أنت لا تريد أن تعرف ذلك حقا.»
أحيانا يستردون انتباههم ووعيهم. «تظل تدخل عليهم غرفهم لمدة سنة ولا يتعرفون عليك أو يميزونك بالمرة. ثم يأتي يوم ما، وها هم ذا، يقولون مرحبا، متى سنعود إلى البيت. فجأة تماما يستردون حالتهم العادية تماما.»
ولكن ليس لوقت طويل. «يظن المرء أنها معجزة، لقد عادوا طبيعيين! ثم يذهبون من جديد (فرقعت بإصبعيها) هكذا.» •••
في البلدة التي كان يذهب فيها إلى عمله يوجد متجر لبيع الكتب كان هو وفيونا يترددان عليه مرة أو مرتين كل عام. عاد إلى ذلك المتجر بمفرده. لم يكن يشعر بالرغبة في شراء أي شيء، ولكنه كان قد أعد قائمة ببعض العناوين وانتقى منها كتابين أو ثلاثة، ثم ابتاع كتابا آخر وقعت عليه عيناه بالمصادفة، كان عن أيسلندا. كتاب مزود برسوم مائية من القرن التاسع عشر رسمتها سيدة حملتها أسفارها إلى أيسلندا.
لم تتعلم فيونا قط لغة أمها، ولم تبد من قبل اعتدادا كبيرا بكل الحكايات التي تحفظها تلك اللغة؛ الحكايات التي كان جرانت قد علمها للآخرين وكتب عنها، وما زال يكتب عنها في حياته البحثية. كانت تشير إلى أبطال هذه الحكايات بأسماء «العجوز نجال» أو «العجوز سنوري». لكنها في السنوات القليلة الأخيرة نما بداخلها اهتمام بالبلد ذاته، وراحت تتصفح كتب الإرشاد السياحي الخاصة به . قرأت عن رحلة ويليام موريس إليه، وكذلك رحلة أودين، غير أنها لم تخطط للسفر إلى هناك فعليا. قالت إن الطقس هناك رهيب بما يفوق الاحتمال، كما قالت إنه لا بد أن يكون هناك مكان واحد فقط في حياة كل إنسان، يفكر فيه ويطلع على ما يكتب حوله وربما يشتاق إليه كذلك، دون أن يكون قد رآه من قبل رأي العين. •••
حين بدأ جرانت تدريس الأدب الأنجلوساكسوني والإسكندنافي، كان يتردد على فصوله النوع المعتاد من الطلاب، ولكن بعد بضع سنوات لاحظ تغييرا. بدأت سيدات متزوجات يعدن للدراسة، ليس انطلاقا من فكرة التأهل من أجل وظيفة أفضل أو أي وظيفة على الإطلاق، بل فقط لكي يمنحن أنفسهن شيئا أكثر إثارة لعقولهن من التفكير بشأن حياتهن المنزلية الرتيبة وهواياتهن. من أجل إثراء حياتهن. وربما ترتب على ذلك بطبيعة الحال أن الرجال الذين كانوا يدرسون تلك الأشياء المثيرة للاهتمام صاروا جزءا من هذا الإثراء، وأن هؤلاء الرجال يبدون لهؤلاء النساء على درجة من الغموض والجاذبية أكثر من الرجال الذين ما زلن يطهين لهم طعامهم وينمن معهم.
كانت مجالات الدراسة التي يخترنها غالبا هي علم النفس أو التاريخ الثقافي أو الأدب الإنجليزي. بعضهن اخترن علم الآثار والحفريات أو علم اللغويات ولكن سرعان ما ينسينها حين تظهر لهن صعوبتها وثقلها. ربما كان لأولئك اللاتي كن يسجلن في فصول جرانت أصول إسكندنافية، مثل فيونا، أو لعلهن اطلعن على طرف من الأساطير القديمة لبلاد الشمال تلك من خلال أعمال فاجنر، أو من الروايات التاريخية. كما كان هناك أيضا قليلات اعتقدن أنه كان يدرس اللغة السلتية القديمة، وبالنسبة إليهن فإن أي شيء سلتي يتسم بفتنة غامضة.
كان يقول لمثل هؤلاء الطموحات في شيء من الخشونة وهو جالس إلى مكتبه: «لو أردتن تعلم لغة جميلة فاذهبن وادرسن الإسبانية؛ يمكن لكن عندئذ الاستفادة منها إذا سافرتن إلى المكسيك.»
بعضهن عملن بنصحه وأقلعن عن صفوفه، بينما بدا أن أخريات قد تأثرن على نحو شخصي بنبرته المتشددة الآمرة. فأخذن يكدحن بإرادة وترددن على مكتبه، وعلى حياته المنضبطة المرضية، جالبات لها زهرة الدهشة الهائلة لإذعان أنوثتهن الناضجة، ورجائهن المرتجف في كسب الرضا والاعتراف.
من بينهن اختار امرأة تدعى جاكي آدامز. كانت على النقيض من فيونا؛ قصيرة، ممتلئة وناعمة كالوسادة، بعينين داكنتين وغير متحفظة في الإعراب عن عواطفها. تجهل كل ما يتعلق بالسخرية والتهكم. استمرت علاقتهما الغرامية عاما، حتى اضطر زوجها إلى الانتقال إلى مدينة أخرى. حين كان يودع أحدهما الآخر، في سيارتها، بدأت ترتجف بطريقة خرجت عن السيطرة. بدت كما لو كانت أصيبت بهبوط مفاجئ في درجة حرارة الجسد. كتبت إليه بضع مرات، ولكنه وجد أسلوب رسائلها مفرطا في التنميق والتزويق، ولم يستطع أن يقرر كيف يرد عليها. وبينما ترك الوقت الملائم للرد عليها يتسرب، وجد نفسه بصورة ساحرة وبعيدة عن التوقع متورطا مع فتاة كانت صغيرة السن بما يكفي لأن تكون ابنة لها.
بينما كان منشغلا مع جاكي جرى تطور آخر محير بدرجة أكبر. كانت ثمة فتيات صغيرات السن بشعور طويلة وسيقان ملفوفة ينتعلن صنادل مفتوحة، يأتين إلى مكتبه لا لشيء إلا لإعلان أنهن مستعدات لممارسة الجنس. تبددت كل الطرق الحذرة كأن لم تكن، كما تبددت الاعتبارات الحميمة للمشاعر التي كانت ضرورية مع جاكي. ضربته دوامة، كما ضربت كثيرين آخرين، وفجأة صار التمني فعلا مجسدا على نحو دفعه للتساؤل إن لم يكن هناك شيء ما خطأ. ولكن من كان لديه الوقت لمشاعر الندم؟ تناهت إلى سمعه أحاديث عن تعدد العلاقات الغرامية في الوقت ذاته، وعن مصادمات وحشية وخطرة. راحت الفضائح تتفجر من حوله لأوسع مدى، مع ما يحيط بها من دراما عالية النبرة ومؤلمة، بجانب شعور ما بأن الأمور هكذا أفضل بطريقة ما. كانت هناك انتقامات، كانت هناك حالات فصل من العمل، غير أن هؤلاء المفصولين ذهبوا للتدريس في كليات أصغر وأكثر تسامحا، أو في مراكز تعليمية مفتوحة، وكثير من الزوجات اللاتي تركن وراءهم استطعن تجاوز الصدمة وتبنين الزي الجديد؛ أي الانطلاق الجنسي لنفس الفتيات اللاتي أغوين رجالهن. صارت الحفلات الأكاديمية، التي كانت شيئا رتيبا ومتوقعا للغاية، حقلا للألغام؛ اندلع الوباء في كل ركن، وأخذ ينتشر كأنه الإنفلونزا الإسبانية، مع الفرق أنه مع هذا الوباء كان الناس يركضون وراء الإصابة بالعدوى وليس منها، ولم يسلم منها إلا قليلون ممن كانوا بين السادسة عشرة والستين.
وعلى الرغم من ذلك فقد بدت فيونا راضية ومكتفية تماما. كانت أمها تحتضر، وتجربتها في المستشفى قادتها إلى الانتقال من عملها الروتيني في مكتب تسجيل الوثائق إلى عملها الجديد. جرانت نفسه لم يتجاوز الحد، على الأقل مقارنة ببعض المحيطين به؛ لم يسمح بأن تقترب منه امرأة أخرى كما كان الحال مع جاكي. كان ما شعر به آنذاك ارتفاعا هائلا في درجة العافية، واستعاد ميله للبدانة التي كانت قد اختفت منذ أن كان في الثانية عشرة. صار يصعد السلم درجتين كل مرة، ويشاهد من نافذة مكتبه بإعجاب لم يعهده قط موكب السحب الممزقة ساعة غروب شمس الشتاء، ويلحظ سحر المصابيح العتيقة تومض من بين ستائر غرف الجلوس في بيوت جيرانه، وحلقات الأطفال في المتنزه العام وقت الغسق، رافضين مغادرة التل الذي يتزلجون من فوقه. وبحلول الصيف، تعلم أسماء الأزهار. في صفه الدراسي، وبعد أن تدرب على يد حماته التي فقدت صوتها تقريبا (كان دائها سرطان الحنجرة)، جازف بتلاوة ثم ترجمة القصيدة الغنائية الجليلة والدموية «فدية الرأس» - التي نظمت تكريما للملك إيريك دموي البلطة (الذي حكم على الشاعر الذي نظمها بالموت، ثم عفا عنه وأطلق سراحه إذعانا لسلطان الشعر) - فاستحسنوها مصفقين، حتى أولئك المناهضين للحروب والداعين للسلام من طلاب صفه الذين كان يبتهج فيما سبق بالسخرية منهم، سائلا إياهم إن كانوا يحبون الانتظار في الرواق حتى ينتهي من تلاوة القصيدة. «وهكذا كان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة ...
عند الله والناس.» (إشارة إلى نص من إنجيل لوقا عن السيد المسيح.)
كان ذلك يصيبه بالحرج آنذاك ويمنحه رعشة خرافية، ولا يزال كذلك حتى الآن. ولكن ما دام لا أحد يعلم بشأن ذلك، فسيبدو أمرا غير مجاف للطبيعة. •••
في المرة التالية التي ذهب فيها إلى دار ميدو ليك أخذ معه الكتاب. كان يوم أربعاء. توجه للبحث عن فيونا عند موائد لعب الورق فلم يرها.
نادته إحدى النساء: «إنها ليست هنا، إنها مريضة.» وشى صوتها بإحساس بالأهمية والإثارة، كانت مسرورة من نفسها لأنها تعرفت عليه في حين أنه لم يكن يدري شيئا عنها، أو لعلها مسرورة لكل ما كانت تعلمه عن فيونا، عن حياة فيونا هنا، ومعتقدة أنه ربما أكثر مما كان يعرفه هو.
قالت: «وهو ليس هنا أيضا.»
ذهب جرانت يبحث عن كريستي.
حين سألها أي بأس أصاب فيونا، قالت له: «لا شيء، حقا، إنها تقضي اليوم في فراشها لا أكثر، مستاءة قليلا فقط.»
كانت فيونا تجلس منتصبة القامة في الفراش. لم يلحظ من قبل في المرات القليلة التي دخل فيها هذه الغرفة أنها مزودة بسرير مستشفى من الممكن رفعه بذراع على هذا النحو. كانت ترتدي واحدا من أثوابها العذرية الرقيقة الطويلة الرقبة، وعلى وجهها امتقاع لم يكن مثل براعم الكرز بل مثل عجين الطحين.
كان أوبري بجانبها في مقعده المتحرك، دافعا إياه أقرب ما يمكنه من الفراش. وبدلا من القمصان غير المميزة والمفتوحة الرقبة التي كان غالبا ما يرتديها، كان الآن يرتدي سترة وربطة عنق، وقبعته الأنيقة من قماش التويد تستريح على السرير. بدا كما لو كان قد غادر الدار في شأن مهم.
ليرى محاميه؟ محاسبه المصرفي؟ ليضع بعض الترتيبات مع متعهد الجنازات؟
بدا مستنزفا من تلك المهمة أيا كانت. وهو أيضا كان شاحب الوجه.
تطلعا كلاهما ناظرين نحو جرانت بتعبير حجري لمن يتوقع السوء، تعبير مثقل بالأسى سرعان ما تحول إلى ارتياح، إن لم يكن ترحيبا، حين اكتشفا من الذي دخل عليهما.
لم يكن هو من كانا يتوقعانه.
كانت أيديهما متشبثة بعضها ببعض ولم يفلتاها.
القبعة على الفراش. السترة وربطة العنق.
لم يكن الأمر أن أوبري قد خرج وعاد. لم يكن السؤال إلى أين ذهب ومن الذي كان يتوجب عليه رؤيته، بل إلى أين سيذهب.
وضع جرانت الكتاب على الفراش بجانب يد فيونا الحرة .
قال: «إنه عن أيسلندا، فكرت أنك ربما تودين إلقاء نظرة عليه.»
قالت فيونا: «ولكن، شكرا لك.» لم تنظر نحو الكتاب. وضعت يدها عليه.
قال: «أيسلندا.»
فقالت: «أيس-لندا.» بدا أن نصف الكلمة الأول حمل رنة اهتمام، ولكن سرعان ما وقع النصف الثاني مسطحا خاويا. على أي حال، كان من الضروري لها أن توجه انتباهها من جديد نحو أوبري، الذي كان يسحب يده الضخمة الغليظة من يدها.
قالت له: «ما الأمر؟ ما الأمر يا فؤادي؟»
لم يسبق لجرانت قط أن سمعها تستخدم هذا التعبير ببلاغته الزائدة الأناقة.
قالت: «آه، لا بأس. خذ!» وجذبت حفنة من مناديل ورقية من علبة بجانب فراشها.
كانت مشكلة أوبري أنه شرع في البكاء. أخذ مخاط أنفه يسيل، وكان يخشى أن يتحول إلى منظر يدعو للأسف، خاصة أنه على مرأى من جرانت.
قالت فيونا: «خذ، أمسك.» كانت تود أن تهتم بأمر أنفه بنفسها وتمسح دموعه، وربما لو كانا وحدهما لتركها تفعل ذلك، ولكن في حضور جرانت ما كان أوبري ليسمح بذلك. قبض بالمناديل الورقية بأفضل ما أمكنه وقام بمسح وجهه بضع مسحات غير متقنة وإن حالفها الحظ.
بينما كان منشغلا بذلك التفتت فيونا نحو جرانت.
قالت له هامسة: «هل لك أي سلطة هنا من أي نوع؟ لقد رأيتك وأنت تتحدث معهم ...»
أصدر أوبري صوتا قد يوحي باعتراض أو ضجر أو اشمئزاز. ثم اندفع نصف جسده الأعلى نحو الأمام كأنه أراد أن يرمي بنفسه عليها. زحفت بعيدا عن الفراش قليلا وأمسكته واحتضنته. بدا من غير اللائق لجرانت أن يمد يد العون لها، على الرغم من أنه بالطبع كان سيفعل ذلك إذا اعتقد أن أوبري على وشك أن ينطرح أرضا.
قالت فيونا: «صه، آه يا حبيبي! سوف نعرف كيف نلتقي. لا بد أن نلتقي. سأذهب وأراك، وستأتي أنت وتراني.»
أصدر أوبري الصوت نفسه من جديد وهو يدفن وجهه في صدرها، ولم يكن هناك أي تصرف مهذب يمكن لجرانت أن يفعله سوى الخروج من الغرفة.
قالت له كريستي : «لعل زوجته تسرع بالمجيء إلى هنا. أتمنى أن تأخذه بعيدا عن هنا وننتهي من هذا الكرب! كان علينا أن نقدم وجبة المساء منذ بعض الوقت، لكن كيف يفترض بنا أن نجعلها تبتلع أي شيء وهو ما زال بالقرب منها؟»
قال جرانت: «هل علي أن أبقى؟» «لأي سبب؟ إنها ليست مريضة، كما تعلم.»
قال: «لأكون بجانبها.»
هزت كريستي رأسها نفيا. «لا بد أن يعتادوا على تجاوز تلك الأمور بمفردهم. كما أن ذاكرتهم غالبا قصيرة المدى، وهو ليس بالأمر السيئ دائما.»
لم تكن كريستي امرأة قاسية القلب. خلال الوقت الذي عرفها فيه جرانت اكتشف عن حياتها بعض الأمور. كان لديها أربعة أطفال. لم تكن تدري شيئا عن المكان الذي ذهب إليه زوجها، ولكنها ظنت أنه ربما يكون في ألبرتا. كان أصغر الصبيان قد أصيب بأزمة صدرية سيئة للغاية بحيث أوشك على الموت ذات ليلة في يناير لولا تمكنها من إيداعه عنبر الطوارئ في اللحظة المناسبة. لم يكن يتناول أي عقاقير غير قانونية، لكنها ليست متأكدة تماما بشأن أخيه.
بالنسبة إليها، لا بد أن جرانت وفيونا وأوبري أيضا أشخاص محظوظون؛ فقد قطعوا رحلة حياتهم دون متاعب أكثر من اللازم. وما يتوجب عليهم أن يقاسوه الآن من شيخوخة لا يعد شيئا يذكر.
غادر جرانت المكان دون أن يعود إلى غرفة فيونا. لاحظ أن الريح كانت دافئة حقا ذلك اليوم، وأن الغربان تثير ضجيجا بنعيبها. في مساحة صف السيارات كانت هناك امرأة ترتدي بدلة من القماش الصوفي المقلم، تخرج من صندوق سيارتها مقعدا متحركا مطويا. •••
كان الشارع الذي يمضي فيه بالسيارة اسمه ممر الصقور السوداء. سميت جميع الشوارع في هذه المنطقة بأسماء فرق قومية قديمة للعبة الهوكي. كان هذا في جزء بعيد عن مركز المدينة القريبة من ميدو ليك. تسوق هو وفيونا في المدينة بوتيرة منتظمة دون أن يتعرفوا على أي جزء منها سوى الشارع الرئيسي.
بدا له أن المنازل المحيطة قد بنيت جميعها في الوقت ذاته تقريبا، ربما قبل ثلاثين أو أربعين عاما. كانت الشوارع واسعة ومنحنية ولا يوجد فيها أرصفة للمشاة؛ مما يستحضر من جديد زمنا كان من غير الوارد فيه فكرة أن يمارس أي شخص قدرا كبيرا من السير. انتقل بعض أصدقاء جرانت وفيونا إلى أماكن مثل هذه حين رزقوا بأطفال. كانوا يتحدثون عن انتقالهم بنبرة اعتذار وتبرير، ويسمونه «الخروج إلى مساحات مناسبة لحفلات الشواء.»
ومع ذلك فثمة عائلات شابة كانت تعيش هنا. فوق أبواب الجراجات كانت حلقات لعب كرة السلة معلقة، وفي الممرات المؤدية للمنازل دراجات صغيرة بثلاث عجلات، غير أن بعض المنازل قد تدهورت حالتها عن صورة بيوت العائلة الكبيرة التي كانت مقصودة منها ولا شك. في الباحات علامات من عجل السيارات، والنوافذ ملصوقة بالورق المفضض أو تتدلى منها أعلام حائلة اللون.
مساكن بالأجرة، يقيم فيها رجال صغار السن ما زالوا عزابا، أو استعادوا عزوبتهم من جديد.
بدت بضعة عقارات في حالة لا بأس بها، وقد تعهدها بالصيانة قدر الإمكان من انتقلوا إليها وهي لا تزال جديدة، أو من لا يملكون المال الكافي للانتقال إلى مكان أفضل أو ربما لا يشعرون بالحاجة لذلك. كبرت الشجيرات حتى حد النضج، تقشرت ألوان الفينيل الباهتة عن الألواح الخشبية للجدران وصارت بحاجة إلى الطلاء من جديد. الأسيجة المنتظمة المهندمة، سواء الخشبية أم المتكونة من النباتات، كانت علامة على أن أطفال هذه المنازل قد كبروا جميعا وارتحلوا عنها، وأن الآباء الموجودين فيها لم يعودوا يرون جدوى من ترك الباحة مفتوحة أمام أي أطفال جدد مسرحين في الحي.
كان المنزل المدرج في دليل الهاتف بوصفه ملكا لأوبري وزوجته واحدا من تلك المنازل. كان الممشى المؤدي إلى الباب الأمامي معبدا بأحجار التبليط تحفها نباتات خزامى منتصبة بصلابة وكأنها أزهار صينية، تتبدل ألوانها بالتناوب ما بين القرنفلي والأزرق. •••
لم تكن فيونا قد تجاوزت محنة أساها بعد، لم تكن تتناول طعامها في أوقات الوجبات، على الرغم من تظاهرها بذلك، فتخبئ الأكل في منديل المائدة. كانوا يقدمون لها شرابا من مكملات غذائية مرتين يوميا، مع بقاء أحدهم بجوارها للتأكد من ابتلاعها له . كانت تنهض من فراشها وترتدي ثيابها، ولكن دون أن ترغب في فعل أي شيء إلا الجلوس في غرفتها. لم تكن تؤدي أي تمرينات مطلقا، ما لم تقم كريستي أو إحدى الممرضات الأخريات، أو جرانت في أثناء ساعات الزيارة، بتمشيتها على طول ممرات وأروقة الدار أو اصطحابها للخارج.
كانت تجلس على أريكة خشبية مسندة إلى أحد الجدران، في نور شمس الربيع، لتبكي بوهن. كانت لا تزال مهذبة، تعتذر عن دموعها، ولم تجادل اقتراحا أو ترفض إجابة سؤال قط. جعل البكاء عينيها غائمتين وحوافهما باهتة. وأزرار ستراتها الصوفية - إن كانت تلك ستراتها حقا - كانت مزررة على نحو ملتو غير صحيح. لم تكن قد بلغت بعد مرحلة ترك شعرها بلا تصفيف أو أظافرها بلا تنظيف، ولكن ذلك قد يكون وشيكا.
قالت كريستي إن حالة عضلاتها تتدهور، وإنها إن لم تتحسن قريبا فسوف يضعونها على مشاية تعتمد عليها في سيرها. «ولكن المشكلة أنهم بمجرد أن يبدءوا الاعتماد عليها لا يعودون يسيرون كثيرا بالمرة، يصلون إلى حيث يضطرهم الذهاب فحسب.»
قالت لجرانت: «سيكون عليك أن تشتغل معها أكثر، حاول وشجعها.»
غير أن جرانت لم يحالفه أي حظ في ذلك. بدا أن فيونا تحمل نفورا تجاهه، وإن حاولت التمويه على ذلك. ربما كانت تتذكر، في كل مرة تراه، دقائقها الأخيرة بصحبة أوبري، حين سألته عونا لم يقدمه لها.
لم يعد يرى أي نفع في أن يذكر لها أمر زواجهما، الآن.
ما عادت تقطع الرواق إلى حيث كان الأشخاص أنفسهم ما زالوا يلعبون الورق، وما عادت تذهب إلى غرفة التليفزيون أو المشتل الزجاجي.
قالت إنها لم تحب الشاشة الكبيرة، وإنها تؤلم عينيها، وإن ضجة الطيور تضايقها وتمنت لو أنهم يوقفوا مياه النافورة ولو مرة كل حين.
وبقدر علم جرانت، لم تلق نظرة على الكتاب حول أيسلندا، أو أي كتاب آخر من الكتب التي حملتها معها من البيت، والتي كانت قليلة على نحو مفاجئ. كانت هناك غرفة للقراءة حيث تجلس هناك لتستريح، تختارها غالبا لأنه نادرا ما يدخلها أحد، وإذا ما تناول هو كتابا من الأرفف كانت تتركه يقرأ لها. ساوره الشك في أنها تفعل ذلك فقط لأنه يجعل رفقته أيسر عليها، ويصير بوسعها أن تغمض عينيها لتغوص من جديد في بئر أحزانها؛ ذلك لأنها لو تخلت عن أحزانها، ولو لدقيقة واحدة، لكانت الصدمة أشد حين ترتطم بها مجددا. وقد فكر أحيانا أنها تغمض عينيها لتخفي نظرة يأس واش لن يكون من الطيب له أن يراها.
وهكذا كان يجلس ويقرأ عليها إحدى تلك الروايات العتيقة التي تدور حول الحب العفيف، والثروات التي تفقد وتستعاد؛ روايات لعلها انتهت إلى هنا بعد أن استغنت عنها قبل زمن مكتبة عامة في قرية ما أو إحدى مدارس الأحد بالكنائس. كان واضحا أنه لم تجر أي محاولة لتحديث محتويات غرفة القراءة كما جرى تحديث أغلب الأشياء في بقية المبنى.
كانت أغلفة الكتب ملساء، تكاد تكون مخملية، بتصميمات أوراق شجر وزهور مطبوعة بالحفر عليها، فكانت أشبه بصناديق الحلي أو علب الشوكولاتة؛ بحيث يمكن للسيدات - افترض أنهن سيدات - بعد شرائها أن يحملنها للبيت كما يحملن كنزا. •••
استدعته مشرفة الدار إلى مكتبها، قالت إن حالة فيونا لا تتقدم على نحو ما كانوا يتمنون. «وزنها يتناقص حتى مع تناول المكملات الغذائية. إننا نقدم كل ما في وسعنا من أجلها.»
قال جرانت إنه مدرك أنهم يفعلون ذلك. «المسألة هي - وأنا واثقة أنك تعلم ذلك - أننا لا نقدم رعاية فراش ممتدة للنزلاء في الطابق الأول. نقوم بهذا فقط بصفة مؤقتة إذا كان أحدهم متوعكا، أما إذا صاروا أضعف من أن يتحركوا ويسيروا ويعتمدوا على أنفسهم، فإن علينا أن نفكر في نقلهم إلى الطابق الأعلى.»
قال إنه لا يظن أن فيونا تمكث في فراشها لوقت طويل إلى هذا الحد. «لا. ولكن إن لم تستطع المحافظة على عافيتها ستنتهي إلى ذلك. في الوقت الراهن هي تقف على الخط الفاصل.»
قال إنه قد ظن أن الطابق الثاني كان مخصصا للأشخاص المصابين بخلل عقلي.
فقالت: «هذا وذاك.» •••
لم يكن يتذكر أي شيء عن زوجة أوبري عدا بدلتها التي رآها مرتدية إياها في ساحة صف السيارات. كان جناحا سترتها منفتحين على جانبيها وهي منحنية على صندوق السيارة. تركت لديه انطباعا بأن لديها خصرا هضيما وردفين عريضين.
لم تكن مرتدية البدلة ذاتها اليوم، بل بنطلونا بنيا له حزام وكنزة صوفية وردية. كان محقا بشأن خصرها؛ فقد أظهر الحزام المحكم حرصها على تأكيد ذلك. ولعل من الأفضل لو أنها لم تفعل، بما أن جسدها مال للامتلاء بقدر يعتد به أعلى الخصر وأدناه.
لعلها كانت أصغر سنا من زوجها بعشرة أعوام أو اثني عشر عاما. كان شعرها قصيرا، متموج الخصلات، وحمرته مصطنعة. عيناها زرقاوان، أفتح زرقة من عيني فيونا، درجة من اللبني مثل بيض طيور أبي الحناء، أو زرقة التركواز، تميل للبروز بدرجة طفيفة. وعدد لا بأس به من التجاعيد صارت مرئية على نحو أوضح بسبب بقعة من مساحيق الوجه بلون الجوز، أو ربما كانت تلك سمرة الشمس التي اكتسبتها في فلوريدا.
قال إنه لا يعرف بالضبط كيف يقدم نفسه لها. «اعتدت أن أرى زوجك في دار ميدو ليك. أنا أحد الزوار المنتظمين هناك.» «نعم.» قالت زوجة أوبري، مع حركة تتسم بالعدوانية بذقنها. «كيف يمضي حال زوجك؟»
أضاف كلمة «يمضي» في اللحظة الأخيرة، في المعتاد كان سيقول «كيف حال زوجك؟» فحسب.
قالت: «إنه بخير.» «هو وزوجتي عقدا فيما بينهما صداقة وثيقة جدا.» «سمعت بذلك.» «إذن. أردت أن أتحدث إليك بشأن شيء ما إن سمح وقتك بدقيقة.»
قالت: «زوجي لم يحاول أن يبدأ أي شيء مع زوجتك، إذا كان ذلك ما تحاول الوصول إليه. لم يتحرش بها على أي نحو؛ إنه غير قادر على ذلك، وهو لا يفعل ذلك حتى على كل حال. ومما سمعته كان العكس هو ما حدث.»
قال جرانت: «لا. ليس ذلك مقصدي بالمرة. لم آت إلى هنا لأشكو بخصوص أي شيء.»
قالت: «أوه، لا بأس، أنا آسفة! ظننتك أتيت لذلك.»
كان ذلك كل ما يمكنها تقديمه من باب الاعتذار. ولم يبد عليها الأسف، بل بدت محبطة ومرتبكة.
قالت: «الأفضل أن تدخل إذن، البرد يهب بشدة من الباب. لا يبدو أنه يوم دافئ.»
وهكذا كان مجرد دعوته للدخول أقرب إلى انتصار بالنسبة إليه؛ إذ لم يدرك أن المسألة ستكون على هذا القدر من الصعوبة. لقد توقع زوجة من نوع مختلف؛ امرأة مرتبكة لا تغادر منزلها كثيرا، تسرها زيارة غير متوقعة وتؤثر فيها الموضوعات ذات الصبغة الحميمة.
قادته متجاوزة المدخل إلى غرفة المعيشة، وقالت: «سنضطر إلى الجلوس في المطبخ حيث يمكنني أن أسمع أوبري.» لمح جرانت ستائر من طبقتين على النافذة الأمامية، كلتا الطبقتين زرقاء، ولكن إحداهما شفافة والأخرى حريرية، وتتوافق معهما أريكة زرقاء وسجادة حائلة اللون محبطة المظهر، والعديد من المرايا والزخارف البراقة.
كان لدى فيونا كلمة تصف بها مثل ذلك النوع من الستائر المبالغ فيها، كانت تقولها كمزحة، على الرغم من أن النساء اللاتي كن يستمعن إليها تقولها حملنها محمل الجدية التامة. أي غرفة أثثتها فيونا بنفسها كانت مكشوفة ومشرقة، فكانت تصاب بالذهول عند رؤية كل ذلك القدر من الأشياء الثمينة تكتظ به مساحة صغيرة كتلك. لم يستطع أن يتذكر الكلمة التي كانت تستخدمها فيونا.
كان يمكنه أن يسمع أصوات جهاز التليفزيون من الغرفة الملحقة بالمطبخ، وهي أقرب إلى شرفة مغلقة بالزجاج، على الرغم من أن شرائح الستائر كانت مسدلة أمام النور المبهر لوقت العصر.
أوبري، استجابة لصلوات فيونا، كان يجلس على بعد بضع أقدام، يشاهد ما بدا من صوته أنه مباراة كرة. ألقت زوجته نظرة عليه، وقالت: «أنت بخير؟» ثم واربت الباب.
قالت لجرانت: «يمكنك أن تتناول قدح قهوة أيضا.»
قال: «أشكرك.» «قام ابني بالاشتراك له في القنوات الرياضية كهدية كريسماس منذ سنة، لا أدري ماذا كان بوسعنا أن نفعل دونها.»
على نضد المطبخ كان يوجد جميع أنواع الأدوات والأجهزة الحديثة، ماكينة إعداد القهوة، وأخرى لخلط وتقطيع الطعام، وشاحذ سكاكين، وبعض أشياء أخرى لم يكن جرانت يعرف لا أسماءها ولا استخداماتها. بدت كلها جديدة وغالية الثمن، كما لو أنها استخرجت للتو من علب تغليفها، أو يتم صقلها يوميا.
اعتقد أنها قد تكون فكرة جيدة لو أبدى إعجابه بتلك الأشياء. تأمل ماكينة القهوة التي كانت تستخدمها وقال إنه هو وفيونا انتويا دائما أن يشتريا واحدة مثلها. لم يكن هذا صحيحا بالمرة؛ فطالما كانت فيونا مخلصة لذلك الجهاز الأوروبي الغريب الذي لا يعد أكثر من قدحي قهوة في المرة الواحدة.
قالت: «لقد أهديانا ذلك، أقصد ابني وزوجته. يعيشان في كاملوبس، في كولومبيا البريطانية. إنهما يرسلان أشياء تفوق قدرتنا على الاستخدام. لن يضرهما شيء إذا أنفقا هذه النقود للمجيء ورؤيتنا بدلا من ذلك.»
قال جرانت متفلسفا: «أفترض أنهما منشغلان بشئون حياتهما.» «لم يمنعهما انشغالهما هذا من السفر إلى جزر هاواي في الشتاء الماضي. يمكن تفهم الأمر لو أن لدينا شخصا آخر في الأسرة، قريبا منا يمكن اللجوء له. لكنه الابن الوحيد.»
جهزت القهوة، وصبتها في قدحين خزفيين لونهما بني ممزوج في أخضر، التقطتهما من فروع غير كاملة لشجرة خزفية موضوعة على المنضدة.
قال جرانت: «الوحدة تداهم الناس.» ظن أنه رأى فرصته السانحة الآن. «إذا ما حرموا رؤية شخص يهتمون به فإنهم يشعرون بالحزن. فيونا، على سبيل المثال. زوجتي.» «ظننت أنك قلت إنك تذهب وتزورها.»
قال: «صحيح، لكن ليس هذا هو الأمر.»
عندئذ قرر أن يرمي بنفسه في المياه، مواصلا حديثه ليقدم الرجاء الذي أتى من أجله. أيمكنها التفكير في إعادة أوبري إلى دار ميدو ليك، ربما ليوم واحد فقط كل أسبوع، على سبيل الزيارة؟ إنها مسافة بضعة أميال بالسيارة لا أكثر، بالطبع هذا لا يمثل مشقة كبيرة. أو إن كانت تفضل أن تستغل هذا الوقت لراحتها - لم يفكر جرانت من قبل في هذا الاقتراح، وانتابه الذعر لمجرد سماع نفسه يتفوه به - فإنه هو نفسه يمكنه أن يأخذ أوبري إلى هناك، لا مانع لديه بالمرة. كان متأكدا أنه يستطيع تدبر الأمر. ويمكنها أن تستريح في هذا اليوم.
بينما كان يتحدث أخذت هي تحرك شفتيها المغلقتين ولسانها المخفي؛ كما لو كانت تحاول أن تميز مذاقا مريبا في فمها . أحضرت حليبا لقهوته، وصحنا فيه بسكويت الزنجبيل. «أعددته بنفسي.» هكذا قالت وهي تضع الصحن. كان صوتها يشي بالتحدي لا كرم الضيافة. لم تقل المزيد حتى اتخذت جلستها، وصبت الحليب إلى قهوته وقلبتها.
ثم قالت لا. «لا. لا أستطيع أن أفعل ذلك. والسبب هو أنني لا أريد أن أزعجه.»
قال جرانت في جدية: «وهل سيزعجه هذا؟» «نعم، سيزعجه أكيد. ما من طريقة للقيام بذلك. إعادته للبيت ثم أخذه إلى هناك من جديد، ومن ثم إعادته للبيت ثم أخذه إلى هناك مرة أخرى، كل ذلك سوف يشوشه فحسب.» «ولكن ألن يفهم أنها ستكون مجرد زيارة؟ ألا يمكننا أن نجعله يعتاد هذا المنوال؟» «إنه يفهم كل شيء على أفضل وجه! (قالت هذا كما لو كان قد أساء إلى أوبري) ولكن سيظل في هذا إرباك له. كما سيكون علي أن أعده للخروج وأن أضعه في السيارة، وهو رجل ضخم البنية، ليس من السهل القيام بهذا كما لعلك تظن؛ سيكون علي أن أناور لمجرد أن أجلسه في السيارة ثم أحزم المقعد المتحرك بعد ذلك، وذلك كله من أجل ماذا؟ إذا كان ينبغي علي أن أتجشم هذا العناء، فسأفضل أن آخذه إلى مكان أكثر إمتاعا!» «ولكن ماذا لو وافقت أنا على القيام بهذا كله؟» قال جرانت، محافظا على نبرته مفعمة بالرجاء والتعقل «هذا صحيح، لا ينبغي عليك تجشم هذا العناء.»
قالت في فتور: «لا يمكنك ذلك، أنت لا تعرف. لا يمكنك أن تتعامل معه. لن يتحمل أن تقوم بهذا من أجله. كل ذلك الإزعاج ما النفع المرجو منه له؟»
لم يعتقد جرانت أن عليه أن يذكر فيونا مرة أخرى.
قالت: «سيكون من المعقول أكثر أن أصحبه إلى المركز التجاري؛ حيث يمكن له مشاهدة الأطفال وسائر الأشياء، إن لم يحزنه هذا لتذكره حفيديه اللذين لم يتسن له رؤيتهما. أو الآن وقد بدأت قوارب البحيرة تخرج في نزهات من جديد، قد يكون من المبهج له الذهاب ومشاهدة ذلك.»
نهضت وأحضرت سجائرها وقداحة من حافة النافذة التي تعلو الحوض .
قالت: «تدخن؟»
رفض شاكرا لها، على الرغم من أنه لم يدر إن كان سؤالها عرضا لتدخين سيجارة. «لم تكن مدخنا قط أم أقلعت؟»
قال: «أقلعت.» «منذ كم من الوقت؟»
فكر في ذلك. «منذ ثلاثين عاما. لا، بل أكثر من ذلك.»
كان قد قرر أن يقلع عن التدخين في الوقت نفسه تقريبا الذي بدأ فيه علاقته مع جاكي، لكنه لا يستطيع أن يتذكر إن كان قد أقلع أولا، معتقدا أنه سوف يحصل على مكافأة كبيرة لإقلاعه، أم أنه قد ظن أن الوقت قد حان ليتوقف عن التدخين، آنئذ وقد صار في حوزته وسيلة إلهاء قوية.
قالت: «أنا أقلعت عن محاولات الإقلاع (وأشعلت سيجارة)، اتخذت قرارا أن أقلع عن الإقلاع، هكذا فحسب.»
لعل ذلك هو سبب التجاعيد. شخص ما - امرأة - كان قد أخبره بأن النساء المدخنات تظهر لديهن مجموعة رقيقة من تجاعيد الوجه. ولكن ربما يكون ذلك من تأثير الشمس، أو هي طبيعة جلدها فحسب. رقبة جعداء، وصدران ريانان بالشباب وناهضان لأعلى؛ مثل تلك التناقضات ليست شيئا غريبا على النساء في سنها. المزايا والعيوب، جينات وراثية سعيدة الحظ أو غير ذلك، واختلاط ذلك كله معا. نساء قليلات للغاية هن من يحتفظن بجمالهن كاملا، ولو على نحو مبهم، كما هو الحال مع فيونا.
ولعل ذلك لم يكن صحيحا حتى، ربما اعتقد ذلك فقط لأنه قد عرف فيونا منذ أن كانت شابة. ربما عليك أن تعرف امرأة منذ شبابها حتى تكون عنها هذا الانطباع.
وهكذا هل كان أوبري حين ينظر إلى زوجته يرى فتاة المدرسة الثانوية المفعمة بالتعالي والوقاحة، مع الميلان المغوي لعينيها الفاتحتي الزرقة، وهي تزم شفتيها الممتلئتين كثمرتين حول سيجارة محظورة؟
قالت زوجة أوبري: «إذن فزوجتك أصابها الاكتئاب؟ ما اسم زوجتك؟ نسيت.» «اسمها فيونا.» «فيونا. وما اسمك أنت؟ لا أظن أنك قد قلته لي على الإطلاق.»
قال: «اسمي جرانت.»
مدت يدها عبر المائدة على غير توقع. «مرحبا يا جرانت. أنا ماريان.»
ثم قالت: «أما وقد صار كل منا الآن يعرف اسم الآخر ، فلا أرى معنى لعدم إطلاعك مباشرة على ما أفكر فيه. لا أدري إن كان لا يزال مولعا برؤية زو ... برؤية فيونا، أم أنه غير كذلك. لا أسأله ولا يخبرني. لعله كان مجرد ولع عابر. لكني لا أشعر بالرغبة في أخذه إلى هناك إن اتضح أن الأمر أكثر من ذلك. لا يمكنني تحمل تكلفة المجازفة بذلك. لا أريده أن يصير صعب المراس بحيث أعجز عن التعامل معه، لا أريده أن يستاء ويضطرب. العناية به والحال هكذا تشغل كل وقتي تماما، وما من أحد يعينني. لا أحد سواي هنا. أنا فقط.»
قال جرانت: «هل سبق وأن فكرت - هذا أمر عسير عليك - هل سبق أن فكرت في ذهابه إلى هناك بصفة دائمة؟»
خفض صوته إلى ما يقارب الهمس، ولكنها لم تشعر بضرورة لتخفض صوتها.
قالت: «لا، أنا أبقيه ها هنا.»
قال جرانت: «حسنا، هذه طيبة شديدة ونبل منك.»
تمنى ألا تبدو كلمة «نبل» موحية بالتهكم، فهو لم يقصد ذلك.
قالت: «أتعتقد هذا؟ ليس النبل هو ما أفكر فيه.» «ومع ذلك، فالأمر ليس يسيرا.» «كلا، ليس يسيرا. ولكنها طريقتي الخاصة، ليس أمامي خيارات كثيرة. إذا ما أودعته هناك فأنا لا أملك النقود اللازمة لذلك إلا إذا قمت ببيع البيت. المنزل هو كل ما نملكه ملكية تامة، عدا ذلك لا أملك أي شيء من ناحية الموارد المالية، سوف أحال إلى التقاعد في العام التالي، ولدي راتب تقاعده وراتبي، ولكن حتى مع ذلك لا يسعني أن أوفر نفقة إقامته هناك مع بقائي في المنزل. كما أنه يعني الكثير لي، منزلي هذا.»
قال جرانت: «إنه لطيف جدا.» «حسنا، لا بأس به. لقد استثمرت الكثير فيه، من أجل إصلاحه وصيانته.» «أنا واثق أنك فعلت هذا، وما زلت تفعلينه.» «لا أريد أن أفقده.» «لا.» «ولن أفقده.» «أفهم مقصدك.»
قالت: «لقد تركتنا الشركة مفلسين تماما بلا عون. لا أعلم كل التفاصيل الدقيقة للأمر، ولكنهم تخلوا عنه تماما. انتهى بهم الأمر للقول إنه مدين لهم بالمال، وحين حاولت أن أتبين حقيقة ذلك، أخذ يقول لي إن هذا ليس من شأني. ما أعتقده أنه قد فعل شيئا غبيا جدا. ولكن لا يفترض بي أن أسال؛ لذلك أغلقت فمي. لقد مررت بتجربة الزواج، بل أنت زوج، وتعرف ماذا يعنيه هذا كله. وفي قلب اكتشافي لهذه المسألة مع الشركة كان من المفترض أن نقوم بتلك الرحلة مع بعض الأشخاص ولم نستطع التهرب منها. وفي أثناء الرحلة يسقط مريضا بهذا الفيروس الذي لم يسبق لنا أن سمعنا به ويدخل في غيبوبة. كان هذا كافيا لأن يتحرر من مشكلته كلها.»
قال جرانت: «حظ سيئ!» «لا أقصد بالضبط أنه سقط مريضا عن عمد. كان هذا هو ما حدث فحسب. لم يعد غاضبا مني ولم أعد غاضبة منه. إنها الحياة فحسب.» «ذلك صحيح.» «لا أحد يهزم الحياة.»
مرت بلسانها على شفتها العليا كما تفعل القطط، لتلعق فتات البسكويت. «إنني أبدو مثل من يلعب دور الفيلسوف هنا، أليس كذلك؟ لقد أخبروني في الدار أنك كنت أستاذا في الجامعة.»
قال جرانت: «كان هذا منذ فترة.»
قالت: «لا أعتبر نفسي مثقفة للغاية.» «وأنا أيضا، لا أدري إلى أي مدى يمكن أن أعتبر نفسي كذلك.» «ولكني أعرف متى أستقر على رأي. وقد استقررت على رأي. لن أتخلى عن المنزل. وهو ما يعني أنني سوف أرعاه هنا، ولا أريد أن أدخل في رأسه فكرة أنه يريد الانتقال إلى أي مكان آخر. الأغلب أنه كان من الخطأ إيداعه هناك بحيث يمكنني أن أستريح لفترة، ولكن ما كانت لتتاح لي فرصة أخرى، وهكذا انتهزتها. لكنني أعرف الصواب الآن.»
تناولت سيجارة أخرى.
قالت: «أراهن أنني أعرف فيما تفكر. لا بد أنك تقول لنفسك إنها من نوعية الأشخاص المرتزقة.» «أنا لا أصدر أي أحكام من ذلك النوع. إنها حياتك أنت.» «بالطبع هي حياتي.»
فكر أن عليهما إنهاء الحديث بنبرة أكثر حيادية. سألها إن كان زوجها قد سبق له أن اشتغل في متجر أدوات خلال فصول الصيف، خلال سنوات ذهابه إلى المدرسة.
قالت: «لم أسمع بذلك بالمرة، فأنا لم أنشأ هنا.» •••
بينما كان يقود سيارته عائدا إلى البيت، لاحظ أن فجوة المستنقع التي كانت ممتلئة بالجليد والظلال الرسمية لجزوع الشجار أضاءت الآن بزنابق ثملة، كانت أوراقها النضرة بمظهرها الشهي في حجم الأطباق. امتدت الزهور للأعلى كأنها لهيب شموع، وكان هناك الكثير للغاية منها، بصفرة نقية للغاية بحيث إنها تكاد تضيء الأرض في هذا اليوم الكثير الغيوم. كانت فيونا قد أخبرته بأنها تولد أيضا حرارة خاصة بها. وبعد أن نقبت في أحد جيوبها الخفية الممتلئة بالمعلومات قالت إنه يفترض بك أن تضع يدك داخل البتلة المطوية لتشعر بالحرارة. قالت إنها جربت هذا ولكنها لم تكن متأكدة إن كانت قد شعرت بالحرارة حقا أم صور لها خيالها ذلك. تلك الحرارة تجذب الحشرات. «الطبيعة لا تمزح، ولا تتزين لمجرد الزينة.»
لقد أخفق مع زوجة أوبري؛ ماريان. توقع أنه قد يخفق، ولكنه لم يفلح في توقع أي شيء حول السبب الحقيقي لذلك. ظن أن كل ما ستكون عليه مناقشته معها هو الغيرة الجنسية الطبيعية للمرأة، أو نقمتها واستياؤها، البقايا العنيدة لغيرتها الجنسية.
لم يكن يملك أدنى فكرة عن طريقة نظرها إلى الأمور. ومع ذلك، وبطريقة محبطة لم يبد الحديث معها غريبا تماما؛ كان ذلك لأنه ذكره بأحاديث كان قد أجراها مع أشخاص في أسرته. ثمة أعمام له، أقارب آخرون، بل حتى والدته، كانوا يفكرون كما تفكر ماريان؛ كانوا يعتقدون أنه حين لا يتبع أشخاص آخرون هذا النهج نفسه في التفكير فذلك لأنهم يخدعون أنفسهم، حالمين وغير عمليين، أو حمقى؛ نظرا لأنهم عاشوا حياة سهلة ومحمية، أو بسبب التعليم الذي تلقوه. فقدوا اتصالهم بالعالم الواقعي. الناس المتعلمون، القارئون للأدب، بعض الأشخاص الأثرياء مثل أسرة فيونا الاشتراكيين قد فقدوا اتصالهم بالواقع؛ بسبب حظ طيب غير مكتسب بجهدهم أو بسبب سخافة فطرية فيهم. في حالة جرانت، على ما يشك، سيظنون أنه يجمع السببين معا.
هذه هي الكيفية التي ستنظر بها ماريان إليه دون شك. شخص سخيف، محتشد بمعرفة مملة ويحميه بعض الحظ من مواجهة حقيقة الحياة. شخص لا يشغل باله الاحتفاظ بمنزله، ويمكنه أن يمضي هنا وهناك متأملا في أفكار معقدة. له مطلق الحرية في أن يحلم بوضع خطط أنيقة وسخية يعتقد أنها سوف تجعل شخصا آخر سعيدا.
أي مغفل هذا! لا بد أنها تقول لنفسها هذا الآن.
مواجهة شخص من نوعها هذا جعلته يشعر بقلة الحيلة، والسخط، وأخيرا بالبؤس والعزلة تقريبا. لماذا؟ ألأنه ليس واثقا من قدرته على إثبات نفسه أمام ذلك الشخص؟ ألأنه كان يخشى أنه سيتضح له في النهاية أنه على حق؟ لم تكن تساور فيونا أي وساوس أو شكوك كتلك. وهي شابة صغيرة لم يضربها أحد، أو يضيق عليها. استمتعت بالطريقة التي نشأت عليها، وكانت قادرة على التعامل مع الأفكار المتطرفة لهذه الطريقة كوسيلة للتسلية.
ومع ذلك، فإن لهم وجهة نظرهم، أولئك الأشخاص. (كان بوسعه أن يسمع نفسه الآن يتجادل مع شخص ما. فيونا؟) ثمة ميزة ما في التركيز العملي. لعل ماريان ستكون بارعة في اجتياز أزمة ما، بارعة في النجاة، قادرة على السرقة لتأكل، قادرة على نزع حذاء من جثة في الشارع.
دائما ما كانت محاولته لاكتشاف فيونا وفهمها تصيبه بالإحباط. قد يكون الأمر أقرب إلى تتبع سراب. لا، بل أقرب إلى العيش في سراب. أما الاقتراب من ماريان فسوف يمثل مشكلة مختلفة؛ كأنه قضم بندقة. إغراؤها المصطنع الغريب، المذاق الكيميائي له وعطرها، فراغ حول البذرة الممتدة، النواة. •••
ربما كان قد تزوجها. فكر في هذا. ربما كان سيتزوج فتاة مثل تلك إذا كان قد واصل البقاء حيث كان ينتمي. كانت لتبدو شهية بما فيه الكفاية له، بثدييها الفاخرين. وربما نزوة عابرة. الطريقة النشطة التي تحرك بها ردفيها على مقعد المطبخ، والفم المزموم، والروح المفتعلة قليلا من التهديد؛ ذلك ما تبقى من السوقية البريئة لمغازلات المدن الصغيرة.
لا بد أنه كان لديها بعض الآمال، حين اختارت أوبري. مظهره الجيد، ووظيفته كمندوب مبيعات، والتوقعات التي تنتظره كموظف مكتبي. لا بد أنها آمنت أن مآلها سيكون خيرا مما تعيشه الآن. وهذا ما يجري للأشخاص ذوي الطبيعة العملية؛ فبالرغم من حساباتهم، وغرائز النجاة والبقاء بداخلهم، فربما لا يقطعون شوطا بعيدا كما كانوا يتوقعون بمنتهى العقلانية. لا شك أن هذا لم يبد إنصافا.
كان أول ما رآه في المطبخ هو الضوء الوامض في آلة الرد الآلي على الهاتف. فكر في الشيء نفسه الذي دائما ما يلازم أفكاره حاليا. فيونا.
ضغط زر المجيب الآلي قبل أن يخلع عنه معطفه. «مرحبا يا جرانت. أرجو أنني لم أخطئ الاتصال بالشخص المقصود. لقد فكرت في شيء ما؛ ثمة حفل راقص هنا في البلدة في قاعة مجلس المدينة ليلة السبت، يفترض أنه معد من أجل الأشخاص غير المتزوجين، وأنا في اللجنة المشرفة على إعداد العشاء، وهو ما يعني أنني أستطيع أن أحضر شخصا مجانا؛ لذا تساءلت إن كنت مهتما بالذهاب؟ اتصل بي حين تستطيع.»
صوت امرأة ورقم محلي. كانت هناك صافرة، ثم عاود الصوت نفسه الحديث من جديد. «أدركت حالا أنني نسيت أن أقول من أنا. أغلب الظن أنك قد تعرفت على الصوت. أنا ماريان. ما زلت غير معتادة على استعمال تلك الماكينات، وأريد أن أقول إنني أدرك أنك لست أعزب ولا أقصد أن أقول هذا، ولا أنا عزباء، لكن الخروج من وقت إلى آخر لا يضر أحدا. على كل حال، الآن وبعد أن قلت كل هذا أتمنى حقا أن يكون أنت هو من أتحدث إليه وليس شخصا آخر. يبدو الصوت المسجل على الآلة مثل صوتك حقا. إذا كنت مهتما يمكنك الاتصال بي، وإن لم تكن كذلك فلا ترهق نفسك بالاتصال. فكرت فقط أنه قد تروق لك هذه الفرصة للخروج. إنها ماريان من تتحدث إليك. أظن أنني قلت ذلك من قبل. لا بأس إذن. مع السلامة.»
كان صوتها على الآلة مختلفا عن صوتها الذي سمعه منذ وقت قصير في منزلها، مختلفا اختلافا طفيفا في الرسالة الأولى، ومختلفا بدرجة أكبر في الثانية. شابته رعشة من التوتر، لا مبالاة متكلفة، تسرع في الإفضاء بما لديها وتردد في إنهاء حديثها.
لقد حدث لها شيء ما. ولكن متى حدث ذلك؟ إذا كان قد حدث لها فور رؤيتها له، فقد نجحت في إخفائه تماما طوال الوقت الذي قضاه معها. الأغلب أنه وقع لها تدريجيا، ربما بعد أن انصرف. ليس بالضرورة كعاصفة انجذاب؛ مجرد الإدراك أنه كان احتمالا ما، رجلا يعيش بمفرده، بمفرده بدرجة أو بأخرى، احتمالا يمكنها هي أيضا أن تجرب تتبعه.
لكنها توترت بعد أن أخذت الخطوة الأولى نحوه. لقد جازفت بنفسها، ولا يمكنه حتى الآن أن يعرف بكم جازفت من نفسها. على وجه العموم تتزايد قابلية النساء للتأذي مع مرور الوقت، مع نضج العلاقة، وكل ما يمكنك أن تعرف في البداية، إن كانا يقفان الآن على حافة البداية، هو أنه سيكون هناك المزيد من هذا الاستعداد للتأذي فيما بعد.
حمل له شعورا بالرضا عن النفس - ولم ينكره؟ - أن يستحث ذلك بداخلها، أن يكون بوسعه استثارة شيء ما على سطح شخصيتها، شيء مثل بريق واهن، غشاوة غير واضحة. أن يسمع طريقتها الشكسة في نطق حروف العلة وهي تخبره بهذه الحجة الواهية.
أخرج البيض وعش الغراب ليعد لنفسه طبق أومليت، ثم فكر أنه قد يصب لنفسه شرابا أيضا.
كان أي شيء ممكنا. أذلك حقيقي، أكل شيء ممكن؟ على سبيل المثال: إذا أراد ذلك، فهل يكون بمقدوره أن يجعلها تخضع لرأيه، أن يجعلها تصل إلى النقطة حيث ربما تنصت إليه في شأن أخذ أوبري إلى فيونا؟ وليس فقط لمجرد زيارات منتظمة، بل لبقية حياة أوبري. أين يمكن لتلك الرعشة أن تقودهما؟ نحو بلبلة وتكدير، أم نحو حمايتها وحرصها على ذاتها؟ أم إلى سعادة فيونا؟
سيكون تحديا، تحديا وعملا فذا يعتد به، بل مزحة أيضا لا يمكن ائتمان أي شخص عليها؛ أن يفكر أنه بشكله اللعوب يمكنه أن يصنع معروفا لفيونا.
لكنه لم يكن قادرا حقا على التفكير في الأمر. فإذا ما تأمله جيدا فسيتعين عليه أن يتصور ما ستصير إليه حاله هو وماريان، بعد أن يرسل أوبري إلى فيونا. لن يفلح الأمر؛ إلا إذا نال من الرضا والإشباع ما يفوق توقعه، أن يعثر على نواة الاهتمام البريء بالذات بداخل لبابها الغليظ.
لا يمكن للإنسان أن يكون واثقا أبدا كيف يمكن لتلك الأمور أن تمضي وتتحول. يكاد المرء يعرف، لكن لا سبيل لليقين أبدا.
قد تكون جالسة في بيتها الآن، تنتظر اتصالا منه، أو إنها في الأغلب ليست جالسة، تشغل نفسها بفعل هذا وذاك. بدت امرأة تميل لأن تكون منشغلة؛ فإن منزلها يظهر ولا شك مزايا الاهتمام المتواصل. ثم إن هناك أوبري، الذي يجب أن تستمر في رعايتها له كالمعتاد. ربما تقدم له عشاء مبكرا، بما يتناسب مع وجباته في دار ميدو ليك من أجل أن تجعله يستعد لليلته في وقت أبكر، وتحرر نفسها من روتينه لهذا اليوم. (ما الذي ستفعله بشأنه حين ستذهب إلى حفل الرقص؟ أيمكنه أن يبقى بمفرده أم أنها ستجلب له جليسا بالأجرة؟ هل ستخبر هذا الجليس إلى أين ستذهب، وتقدم له رفيقها للحفل؟ هل سيقوم رفيقها بدفع أجرة الجليس؟)
ربما كانت تطعم أوبري حين كان جرانت يشتري عيش الغراب ويقود سيارته للمنزل. ربما تحضره الآن للنوم، ولكنها طوال الوقت ستكون منتبهة للهاتف، لصمت الهاتف. وربما تكون قد راحت تحسب كم من الوقت سوف يستغرقه جرانت للعودة إلى البيت. عنوانه المدون في دليل التليفونات سيعطيها فكرة عامة عن المكان الذي يقيم فيه. ستحسب الوقت اللازم للمسافة، ثم تضيف إليه الوقت المحتمل لشراء عشاء ما (مستنتجة أن رجلا وحيدا سيخرج لشراء ما يلزمه يوميا)، ثم تضيف مقدارا محددا من الوقت بما يسمح له بالدخول والاستماع إلى رسائله. وإذ يتواصل الصمت معاندا، سوف تفكر في أشياء أخرى، مشاوير أخرى عليه أن يقضيها قبل أن يعود للبيت، أو ربما يتناول عشاءه بالخارج، أو لديه اجتماع ما مما يعني أنه لن يكون في البيت على وقت العشاء إطلاقا.
سوف تظل ساهرة حتى وقت متأخر، تنظف خزانات مطبخها، وتشاهد التليفزيون، وهي تجادل نفسها إن كان لا يزال هناك احتمال ما.
أي غرور من جانبه! إنها امرأة عاقلة فوق كل اعتبار آخر، ستخلد إلى فراشها في موعدها المعتاد وهي تقول لنفسها إنه على كل حال لم يبد لها كشخص لا يزال قادرا على الرقص جيدا. صارمة تماما، عملية تماما.
ظل بالقرب من الهاتف، يتصفح المجلات، لكنه لم يلتقط السماعة حين رن الجرس مرة أخرى. «جرانت، أنا ماريان. كنت في القبو أضع الغسيل في المجفف فسمعت صوت الهاتف، وحين صعدت كان المتصل المجهول قد وضع السماعة؛ لذا فكرت أن علي أن أقول إنني هنا، إذا كنت أنت المتصل أو إذا كنت حتى في البيت؛ لأنني لا امتلك ماكينة رد آلي كما هو واضح، فلا يمكنك أن تترك لي رسالة. أردت فقط أن ... أن أدعك تعرف هذا.
سلام.»
كانت الساعة حينئذ العاشرة وخمس وعشرين دقيقة.
سلام.
يمكنه أن يقول إنه قد عاد للبيت للتو؛ فلا جدوى من أن يرسم في رأسها صورة له وهو جالس هنا يزن المزايا والعيوب.
أجواخ. تلك كانت مفردتها للستائر الزرقاء، أجواخ. ولم لا؟ فكر في كعكات الزنجبيل التامة الاستدارة التي قد أعلنت أنها أعدتها بنفسها، وأقداح الخزف لشرب القهوة على شجرتها الخزفية أيضا. وغلاف من البلاستيك، كان واثقا من هذا، لحماية سجادة الصالة. قدر عال من الدقة والحس العملي لم تستطع أمه أن تحققه قط، ولكن طالما أعجبت به، ألهذا السبب كان يشعر بهذه الوخزة من عاطفة غريبة لا يعول عليها؟ أم لأنه تناول كأسين إضافيتين بعد الأولى؟ سمرة بلون الجوز - استقر الآن على أنها سمرة مكتسبة من الشمس - لوجهها وعنقها سوف تمتد غالبا حتى الشق ما بين نهديها، الذي سيكون عميقا، مجعد الجلد، فواح الرائحة وحارا. كان يفكر في ذلك وهو يطلب الرقم الذي كتبه من قبل. في ذلك وأيضا في الحسية العملية لحركة لسانها كالقطط وهي تلعق شفتها. عيناها بلون الأحجار الكريمة. •••
كانت فيونا في غرفتها ولكن ليست في الفراش. كانت جالسة بجوار النافذة المفتوحة، ترتدي ثوبا ملائما زاهيا ولكنه قصير على نحو غريب. عبر النافذة تنبعث نفحة ذكية ودافئة من زهور الليلك المزدهرة وسماد الربيع المنتشر خلال الحقول.
كانت تمسك بكتاب مفتوح في حجرها.
قالت: «انظر إلى هذا الكتاب الجميل الذي عثرت عليه، إنه عن أيسلندا. من الغريب أن يتركوا كتبا قيمة مرمية في أنحاء الغرف هكذا. ليس بالضرورة أن يتصف الأشخاص المقيمون هنا بالأمانة. وأعتقد أنهم يخلطون قطع الثياب. أنا لا أرتدي اللون الأصفر أبدا.»
قال: «فيونا ...» «لقد كنت غائبا لفترة طويلة. هل سنترك هذا المكان تماما الآن؟» «فيونا، لقد أحضرت لك مفاجأة. أتذكرين أوبري؟»
حدقت فيه للحظة، كما لو كان ثمة أمواج من الهواء تصفع وجهها. نحو وجهها، ونحو رأسها، هواء يمزق كل شيء خرقا مهلهلة.
قالت في حدة: «الأسماء تروغ مني.»
ثم عبرت بها نظرة ما، كما لو كانت قد استعادت، بشيء من الجهد، جمالا مازحا. وضعت الكتاب في حرص ونهضت ورفعت ذراعيها لتحتويه بينهما. كان لبشرتها على أنفاسه رائحة واهنة جديدة، رائحة بدت له كأنها سيقان زهور مقصوصة تركت في المياه لوقت أطول مما يجب. «أنا سعيدة لرؤيتك!» قالت وهي تجذب شحمتي أذنيه.
قالت: «كان يمكنك أن تأخذ سيارتك وتبتعد وكفى. أن تبتعد وكفى دون أن تكترث لأي شيء في العالم، وتهجروني. أقصد تهجراني. تهجرني.»
أبقى وجهه ملتصقا بشعرها الأبيض، وفروة رأسها الوردية، برأسها ذي التكوين العذب الأنيق. ثم قال إن هذا لن يحدث أبدا.
صفحه نامشخص