بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا ونبينا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
حدثنا الشيخ الفقيه الأستاذ المقرئ العلم أبو إسحاق إبراهيم بن الشيخ الصالح المرحوم أبي الحسن
علي بن أحمد الفهري ﵁ قراءة مني عليه في شهر صفرسنة ثلاث وثلاثين وستمائة.
قال:
الحمد لله المحمود في كل أوان، المسبَّح بكل لسان، الكائن قبل الأمكنة، والموجود في عدم الأزمنة،
الدائم الذي لا يلحقه الفَوْت، والقيوم الذي قهر عباده بالموت، القادر الذي انقاد كل شي لأمره، والجَوَاد
الذي نطقت الأَلسنةُ بشكره. مبدع السمع والأبصار، ومُكوِّرِ الليل على النهار، المُنْفَرِدِ بالإحسان
والفضل، والحَاكمِ بين العباد بالعدل، جَلَّ عن المثلِ والنَّدِيد، وتعالى عن التكييف والتحديد. زَيَّنَ
بالمصابيح السماءَ المَبْنِيَّة، وقَدَّر الأقوات في الأرض المَدْحُوّة، يَبْسُطُ النِّعَمَ لعباده ترفيهًا وإنعامًا،
ويُقَدِّرها إذا شاء تنبيهًا وإلهامًا. هَدَانا بمنهج الرُّشْدِ بتوفيقه فَسَلَكْنَاه، ونهانا عن سبيل الغيِّ بلطفه
فتَرَكْنَاه، أشاد مَثْوى البلاغة في أجِنًّتنا، وحلَّى بالفصاحة عذبات ألسنتنا، وتَمَّم نعمتَه على عبادِه
تتميمًا، وعلًّمنا ما لم نكنْ نعلم، وكان فضلُه علينا عظِيمًا.
نحمَده حمدًا يملأ الأفواه والصدور، ويفوق حمْدَ كلِّ حامدٍ وشَكُور، نستنزل به الرَّحمة التي وسِعتْ
كلَّ شيء، ونستكْشِفُ الغُمَّة عن كل مَيْتٍ وحيّ، ونستوجبُ
1 / 69
به المزيد من نعمه، والعِصْمَة من نِقَمه،
ونشكره شكرًا يُحظِينا لديه، ويقرِّبنا زُلْفَى إليه، ونسأله النَّجاة من غِواية الشيطان، والتَّجاوزَ عن
سيئاتنا والغفران.
ونصلِّي على سيِّدنا محمّدٍ نبيِّه ورسوله المصْطفى، وصفيِّه أكرم الأنبياء وسَائِل، وأعظمهم فضائل،
المبعوث لخير الأمم، بالمُعجِزات والحِكَمِ، خير من افْتُتِحَتْ بذكره الدَّعوات، واسْتُنْجِحَتْ بالصلاة عليه
الطِّلْبَات، المرسول لأهل الإسلام قمرًا منيرًا، ولأهل والضَّلالِ قدرًا مُبيرًا، أزكى الأنام عودًا ونِجارًا،
وأعلاهم منصبًا وفخارًا. بعثه الْلَّهُ والآفاقُ بدَياجي الكُفر مُظْلمة، وراياتُ الباطِل مُنْجِدَة ومُتْهِمَة، فنسخ
المِلَل، وأوْضَح السّبُل، ونقَل الناس عن عِبادة الأوْثان، إلى عبادة الرحمن، وصَدَع بالرِّسَالة، وبالغ في
الدلالة، وجلا غيَاهِبَ الضَّلال والرَّدى، وأحيا القلوب بنور الإيمان والهُدَى، ودَمَغ الباطل بالحق،
وحضَّ على الإيمَانِ والصِّدْق، فآمن به المُرْشِدون وكفر به المُلْحِدون، فالمُؤمِنون رَبَحوا وأمَروا،
والكافرون خابوا وخَسِروا.
صلَّى اللَّهُ عليه وعلى آله صلاة دائِمةَ الاتصالِ، تتكَرَّرُ تكَرُّرَ البُكَرِ والآصال. صلاةً لا يَلْحقها
اضطرابٌ، ولا يستطيع حصرَها الحِسَاب، وعليه من لَطَائِفِ التسليم ما يُربِي كثْرةً على عدَدِ النُّجومِ،
ويُزْرِي شَذَاهُ بالمِسْكِ المَخْتُوم، ويُوافِقُ احْتِفَاَله رِضَى الحَيِّ القَيُّوم.
أما بعد،
فإني رَأيْت حِلية الأدب السامي المحل والرتب أجمل ما يتحلى به أهل الهِمَم، ومطارفَه أحْسن ما
يَلْبسه أُوُلُو المَجْد والكَرمِ، وذخَاِئرَه أنفسَ ما يقتنى، وأزاهِرَه أبهجَ مايُجْتنى، لأنه للإنسان بالصواب
مُنطِق، وللسان من عقاله مُطْلِق. وله بدورٌ من الأفكار مطالعُها، وأنهارٌ من الألبابِ مشارعُها. فالقلوبُ
لبُدورِه فَلَك، والخواطر لأنهاره مَسْلَك. تشتمل الصدور على بدوره اشتمال الكِمَاِم على النوار، وتدفق
القَرائِح بأنهاره تدفُّقَ الدِّيمَة المِدْرار. وله مَيْدان تجول فيه الأذْهَان جَوَلان الكُمَاة في المَيْدان. وله بحْر
تغُوصُ فيه الخَواطِرُ، فتَستخرجُ منه
1 / 70
اللالئ والجواهِر. تَنْظِمُ منْها الأَلْسِنة عقودًا ترُوق في العِيان،
وتُحلَّى بها أجْيَاد الملُوك والأعْيَان.
ولما أقَمْت على مُطالعة نَظْمِه ونَثْره، ومَرَيْتُ أَخْلاَفَه لاجْتِلاب دَرِّه، واقْتبسْتُ أَنْوار بدُورِهِ،
وارْتَشفتُ العذْبَ الشَّهيَّ من ثُغُورِه، وحامَتْ مدَّةً على مشارِعِهِ طيْرُ جَناني، حَويْتُ خطيرَهُ وانقاد
شارده في عِناني، وارتاض لي منه ما تشعَّبَ، وانفتح مقْفل ما تغلق وتأشَّب. فملكتُ منه حظًا وافرًا،
وعِلْقًا سنيًا عن مثال نور البدر سافرًا.
على أن ميدانه في زماننا عاطل من الرهان، ومَصُونه قد عاد في قبضة الامتهان، وقد أفلت بدوره
ونجومه، ودرست معالمه ورسومه، وعَرِيت الهمم من مطارفه، وزُهِدَ في اكتساب معارفه، وَأَبَتْه
الطباعُ، ومَجَّته الأسماع، وأوضعت عنه القلوبُ أيْ إيضاع، وصدَّت عنه النفوس صدود الجَبَان عن
ميدان الحرب، أو الخاشع الأوَّاه عن نديِّ الشُّرب. فحامله اليوم (أضْيَعُ من قمر الشتاء) وأهون مِمَّنْ
دبَّ فوق البطحاء حين حظي أهل البطالة، وبَلغُوا البُغْية بغير آلة، ونالوا الدرك بغير سبب، وآثروا
الراحة على الطلب، وصارت قيمةُ المرء على قدر فضَّتِه وذَهبِه، لا على قدْرِ معرفته وحسبه، وهان
على كل إنسان أن يَثْلَمَ قَدْرُه، ويسلم له وفرُه.
فكم من فَدْمٍ قد غلظ طبعه، وصمَّ عن الواجب سمعُه، وبعُد فَهْمُه، وطال في جمع المال هَمُّه، وأَدْلج
في طِلاَبِه وأَسْرى، وتَكبَّر على الناس لمَاَّ أتْرَب وأَثْرَى، وجَهِل أن الدَّهر بالناس قُلَّب، وأن حِمَامه
كلَمْح البَصَر أَوْ هُو أَقْرب.
زمانٌ نُبِذَ فيه الطَّلبُ بالعَراءِ، ولحظ الطَّالبُ بعين الازْدِراء، ومالت النُّفوس مع الأهْواء، حتى
تلاعَبت بالعقول تلاعب الأفعال بالأسماء. قلَّ فيه المتنَاظَرُون وعدم المُتذاكِرونَ:
1 / 71
وَاسْتَوْثَقَ النَّاسُ ممَّا في أَكُفِّهِم ... حتى لقد نبتوا بخلًا على العُقَدِ
قد تَخَلَّقُوا باللوم، وزَهِدُوا في طلب العلوم، وصَمُّوا عن قول الرسول ﷺ طلب العلم
فريضَةٌ على كلِّ مُسلم. وعن قوله أيضًا ﵇ "العالِم يدْعُو له كلُّ شيء حتَّى الحوتُ في
البحر".
وعن قوله أيضًا "مَا سَلَك أحدٌ طريقًا في طلب العِلم إلا سَلك اللَّه به طريقًا إلى الجنَّة".
وعن قول أبي عبد الله الشافعي ﵀: (طَلبُ العلْم أفْضَل من صلاة النَّافِلة).
وأشْبَاه هذه الأقوال كثيرة لا تُحصى، ولايَتَّسع الدِّيوان لأن تُستْقصى. وجدُّوا في الاكتساب، ولَهَوْا
عن القائل بالصَّواب:
العلمْ يَنْفع في دنيا وآخرة ... والمالُ لا بُدَّ يَرمي المرءَ في العَطبِ
ويُرْوى في التعب.
وعن قول الفطن الأريب الناظم المصيب:
إذا المرءُ لم يكسب سِوَى المالِ وَحده ... فَأَلأمُ مكسوبٍ لِأَلْأَمِ كَاسِبِ
1 / 72
فلمَّا رأيتُه كلَّ يوم إلى نُقْصان، ومَصونه يزداد مهانَةً مع الأحيان، بادرْتُ لِلتَّأليف، وجمعْتُ في هذا
التَّصْنِيف من لُبابِه الباهِرِ، وزَهْره العاطِرِ، لمُعًَا كَسَقْطِ الزًّنْد عند الاقْتِداح، أو المُرْهفات في ليل النَّقْع
يوم الكفاح. وانتقيتُ من توليدِهِ المُخترِع، ونادِرِه المستبْدِع، لُمَحًا يُخَالُ بدرُ التَّمِّ في لبَّاتها، ويتَنشّق
العنبر الهندي من هَبَّاتها. وشَّحْتُها توشيح الهَدِيِّ، وثقَّفْتُها تثقيفَ اَلقِسِيِّ، وألَّفتُ فيه من النثر البديع،
والنَّظم المطبوع والحكايات المسْتطرفَة، والأخبار المسْتظرفَة، والنوادر المستحسَنَة المسَاق، والأشعار
المهذَّبة الرقاق، ما يلتذ سُمَاعُهُ على التحقيق والاتفاق، وتجنح إليه القلوبُ والأذهانُ، جُنوحَ الطير إلى
الأوكان، لمن نشأ في جزيرة الأندلس من الكتاب والأدباء، ولمن ورد عليها من جَِّلة الفُصحاء والبُلغاء
المُتَحلِّين بحلية الأدب، المقيمين أَوَد لسان العرب، ممن طاف على رؤسائها في المائة الخامسة، ومن
كان عَلمًَا بها في المائة السادسة.
وأكثر ما عولت على المتأخرين من الأدباء والماهرين، تنبيهًا على محاسنهم وآثارهم، وترغيبًا في
رسائلهم وأشعارهم. وأضربت عن ذكر المتقدمين، لتكرُّر أخبارهم على المتأدِّبين. وربما ألممت
بعض إلمامٍ بكلامِ مَنْ في عصرنا من مشاهير وأعلام.
ولئن كانت سوقُ الأدب كاسدة، وجَمْرَتُهُ هَامِدة، فلا بد في كل حين من بنين، يُحْلُونَ عاطله، ويُجلون
فضائله. ولكل مجالٍ من رجالٍ يُعْنَون بالأنباء، ويقومون بالأعباء.
وعمدتُ إلى كتاب "الذَّخيرة في محاسن أهل الجزيرة" تأليف أبي الحسن علي بن بسام أحد صيارفة
النُّثَّارِ والنُّظَّام، فألَّفتُ من جواهره المفترقة،
1 / 73
وقطفتُ من أزاهره المونقة.
وكذلك تصفحتُ كتاب "قلائد العِقيان في محاسن الأدباءِ والأعيانِ" تأليف معاصره أبي النصر أحد
أهل النظم والنثر. واغترفت من دُرَرِه السَّنيَّة، وغُرَره البهيَّة، ما استحسنتُ إثباثَه في كتابي،
وحصلتُ به على مرغبي وطِلابي، ولم أقصد إلى الطَّعن على فاضلٍ، ولا للتعصبِ لقائلٍ على قائل.
فقد سبقني المؤلفون إلى ترتيب المتقدّمين والمتأخرين، والتفضيل بين السابقين والمقصرين، في غير
ما كتابٍ أَلَّفوه، وتصنيفٍ جامعٍ صنَّفوه، ولا تعرضْتُ إلاَّ لليسير من التفصيل، وللغامض من المعاني
والتأويل، فشرحتُ أكثر ما ورد فيه من الغريب، وسلكتُ في ذلك سَنَنَ الاختصار والتقريب، لتكمل
بذلك فائدة الكتاب، ويرغب في اقتنائه ذوو الألباب، وشرفته بالشاهد من القرآن العظيم، ومن حديث
الرسول صلوات الله عليه والتسليم.
وقسمتُه على أربعة عشر بابًا، أودعتها من الآداب فنونًا عِجَابًا، وجعلتُ كلَّ باب منها متفردًا بمعناه
لا يُشركه غيرُه في مقصِده ولامنحاه. ضَمَّنْتُها أسْنى الفوائد، وللبيان فيها مصادر وموارد، ولم أُخْلِه
من مثلٍ سائر، وبيت من الغريب نادر، وتشبيهٍ مصيبٍ، واختراعٍ عجيب.
1 / 74
أول الأبواب:
- باب في الفصاحة والشعر.
- باب في رسائل من منتخب النثر.
- باب في حكايات حسان.
- باب في الحب وما قيل فيه.
- باب في النسيب والتغزل.
- باب في المعاتبة والاستعطاف.
- باب في الأنوار وحدائق الأزهار.
- باب في صفة الخمر وسقاتها.
- باب في مدح الغلمان المعذرين.
- باب في ذم الغلمان المعذرين.
- باب في الفكاهة والمجون.
- باب في أوصاف شتى وفنون.
- باب في الاستدعاء.
- باب في أيام الأنس ولياليه.
1 / 75
نظمتُ جميعَها نظم الدُّر في السِّلك، وأضفتُ الشيء إلى مثله إضافة الاستحقاق والملك ولم أمتّ
سبيلي إلى الإسهاب، ولا تعلقتُ بإِطناب الإطناب، خيفة من الملل ورغبة عن الكسل. نخلتُ فيه
نصيحتي، وبذلتُ جهد قريحتي. وإن لم أكُن اخترعتُ، فَلَعَلِّي قد انْطبعتُ، وأتقنتُ ما صنَّفتُ
وجمعتُ.
على أني ما ألّفتُه إلا بذَماءنفس تالفة، وحال متغيرةٍ كاسفةٍ، وقلب عليل، وذهن كليل، وصدر بنيران
الخُطوب مشعول، وفكرٍ بحُسام النوائب مفلول، في زمان دَأْبُهُ عداوةُ الأحرار، والإساءة لذوي
الأخطار، لاينفكُّ عن إحالة الأحوال، وأن يمْحَق بشاشة أهل الوفاء مَحْقَ اللّيالي سَمَاوةَ الهلال. واهًا
له كم رفع من غبيٍّ، ووضع من عليٍّ، وأسعط من أُنوفٍ بالرَّغام، وأسقط من سادةٍ إسقاط حروف
الإدْغَام:
يحطُّ من لا تَفِي الدنيا بقيمته ... جورًا ويرفعُ أقوامًا بلا قيمِ
أُعاتبه فما يعتبنُي، وأُسالمه فيصول ويُرهبني، حتى أتعجَّبَ من أمري، وأُنشدُ في سري وجهري:
من أين أُبخس لا في ساعدي قصَر ... عن المساعي ولا في مقولي خَطَلُ
إنْ نظَمتُ الكلام أحكمته، وإن نثرثُه ثَقفتُهُ وقوَّمته:
إنْ لم أكُن فارس الهيجاء من هوج ... فإنني فارس القرطاس والقلم
ولي لسانٌ يظلُّ الدرُّ مقتسمًا ... ما بين منتثرٍ منه ومنتظمٍ
على أني لم أَرْضَ بالشعر بضاعةً، ولا اتخدتُ الاستجداء به حرفةً ولا
1 / 76
صناعةً، علمًا بأن مرتَبتَه تَقْصُرُ عن غايات أهل الفضل، وتنقص عن درجات ذوي النُّبل؛ بل صُنْت نُطفةَ وجهي عن البذْل،
ولم أعرضْ خدِّي بالتخدُّم للذُّلِّ، ورضيتُ بالقناعة مالًا وافيًا، وبإقراء كتاب الله ﷾ شُغلًا
كافيًا. فلما يسَّر الله المعينُ في جمعه وتحصيله، وترتيب أبوابه وفصوله سميته: "كنز الكتَّاب ومنتخَبُ
الآداب"، روضتُ به بستان الأدب وكان ماحلًا، وحلَّيْتُ به جِيَد الزَّمان وكان عاطلًا، وقد أبرزتُه في
معرض المُلح الأدبية مَجْلُوًا، وبلسان الفصاحة متلوًا. وأنا أسأل الله تعالى العصمة من الزَّلل، والنجاة
من الهذر والخَطَل، وعلى الله أتوكل، وهو حسبي فيما أقول وأفعل.
1 / 77
الباب الأول: في الفصاحة والشعر
قال أبو إسحاق: الفصاحة ميدان لا يُقطع إلا بسوابق الأذهان، ولا يُسلكُ إلا ببصائر البيان. كما أن البلاغة كنزٌ لا
يصل إليه إلا الجَهابِذة الحذَّاق، ولا يُتناول وبالأيدي، ولا يُبْصَر بالأحداق. ووجْه البلاغة للبليغ سافرٌ،
ومعناها له واضح ظاهر.
والبليغ من تشكو يده سرعة خاطِره، ويغمُر الدُّرُّ أرض قرطاسه بمواطرِه؛ إن دعا البيان أجابهُ
طائعًا، وانثال عليه من كلِّ فجّ طالعًا، فإن أطال في الخطاب، ملك أعِنَّة القلوب بالصواب، وإن أوجز
واختصر، لم يخل بالمعنى المراد ولا قصَّر، فأسمع باللفظ الفصيح، حقيقة المعنى الصحيح.
وخير ماأوتي المرءبعد عقل راجح ودين صالح، خلقٌ رضيّ، وأدبٌ وضيّ، وذكاءٌ في جَنَانِه،
وفصاحةفي لسانه. فمن تجمَّعَت فيه هذه الخصال، سلِم من آفات الجهال، وعدل عن المحال، وفاز
بنَيْل الكمال، ونَسَقَ روائق الألفاظ نَسْقًا، وملك رقاب المعاني رِقاَّ. ولاشيء أحسن من ذهنٍ ثاقب،
ومنطقٍ صائب.
1 / 78
وقيل لرسول الله ﷺ: فيم الجمالُ؟ فقال: في اللَّسان. وقال ابن المقفع: (الكلامُ أزمة
القُلُوب التي تقودها إلى رشدها وغيِّها). وقال عامر بن شراحيل الشعبي: (الكلام مصائد العقل). وقال
بعض الحكماء: (عقلُ المرء مدفونٌ تحت لسانه). وقال بعض البلغاء: (اللسانُ أداةٌ يظهر بها حسنُ
البيان، وظاهرٌيُخْبر عن الضمير، وشاهدٌ يُنْبئُ عن غائب، وحاكمٌ يفصلُ به الخطاب، وناطقٌ يردُّ به
الجواب، وشافعٌ تدركُ به الحاجاتُ، وواصفٌ يعرف الحقائق، وواعظٌ ينهى عن القبيح، ومزيِّن يدعو
إلى الحسن، وزارعٌ يحرث المودة، وحامدٌ يستأصل الضغينة).
وقال بعضهم: (الحظُّ للمرء في أذنه، والحظُّ منه لغيره في لسانه). وقال خالد بن صفوان لرجل:
(يرحم الله أباك. فلقد كان يقرُّ العين جمالًا، والأذن بيانًا). وتكلم أحد الفصحاء، فقال له رجل سمعه:
(لكل شيء إدام، وكلامك إدام الكلام).
وسمع أحدهم رجلًا بليغًا يتكلم. فقال: (كلام هذا الوبْل على المحْل، والعذبُ البارد على الظمأ).
وقال مسلمة بن عبد الملك: (مُرُوءتان ظاهرتان: الرِّياشُ والفصاحة). يقال: ريشٌ وريّاش لما ظهر
من اللباس.
قاله أبو عبيدة. وقال
1 / 79
مجاهد: الرِّيشُ المال، والرِّيشُ أيضا مصدر قولهم: رَاشَه يريشُه ريْشًا.
والرِّيشُ أيضا ما ستَر من لِباس أو معيشة. والرِّياش الخصب. والرياشُ أيضًا الأثاث. وقيل هو
جمع الرّيش. وقرأ عاصم في رواية أَبَانٍ بن يزيد العَطّار والمفضل بن يَعْلَى الضبي عنه (وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى). في
سورة الأعراف. وَروِيتُ هذه القراءة أيضًا عن الحسن قاله أبو عبيد.
ورِيشُ الطائر ما ستره الله به. وقال الشاعر في معنى كلام هؤلاء البلغاء:
كَفى بِالمرءِ عيبًا أنْ تراه ... له وجهٌ وليس له لِسانُ
وما حسنُ الرِّجال لهم بِزَيْن ... إذا لمْ يُسْعِدِ الحُسن البَيانُ
وتكلّم بعض الأدباء في مجلس المأمون بكلام أعجبه. فقال له من تكون؟ فقال: ابن أَدَبٍ أعزَّ الله
أمير المؤمنين. فقال له: (نِعْمَ النّسبُ اّلَذي
1 / 80
انتسبت إليه) قال: وهذا من كلام الحكماء؛ الأدبُ أشْرفُ النسب.
وقال ميمون بن مهران: (من فاتَه الأدب لم ينْفعه النَّسب).
وقال الشاعر في المعنى:
لكلِّ شيءٍ حسنٍ زينة ... وزينَةُ العالم حسن الأدبْ
قد يشرفُ المرءُ بآدابه ... فينا وإنْ كان دنيَّ النَّسَبْ
وقال علي بن أبي طالب ﵁: (عزُّ الشُريف أدبُه).
وقال بعض الحكماء: (منْ كثُر أدبُه كثُر شرفُه وإن كان قبْل ذلك وضيعًا).
وقرأتُ في بعض تواليف الحافظ أبي الطاهر أحمد بن محمد السِّلفي، ﵀ على شيخنا أبي
الحسن علي بن هشام روايته عنه. قال عبد الله بن
1 / 81
عائشة: وُلِدَ لكسرى موْلودٌ فجِيء ببعض أهل
الأدب وجيء بالمولود فوضع بين يديه. فقال له كسرى: ما خيْرُ ما أوتي هذا المولود؟ فقال: عقل
يولد معه قال: (فإن عدِمَه ذاك) قال: مالٌ يستُرهُ. قال: فإن عدمه ذاك. قال: أدبٌ حسن يعيش به بين
الناس. قال: فإن عدمه ذاك. قال: صاَعِقة مُحرِقة.
وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
ما وَهَب الله لامرىءٍ هبةً ... أحسنَ من عقلِهِ ومن أدبه
هما حياةُ الفتى فإنْ عُدما ... فإنَّ فَقْدَ الحياة أشبهُ به
قال أبو إسحاق:
وقَوْل ابن عائشة: ولد لِكَِسْرى، يقال بكسر الكاف وبفتحها. والكسر مذهب عبد الملك بن قريب
الأصمعي فيما حكى أبو حاتم عنه. والفتح مذهب أبي العباس المبرد.
1 / 82
وقال أبو علي البغدادي هما لغتان. واختار أبو حاتم الفتح. وقال: هو الوجه عندنا. وأنشده:
أَخْمَدْتَ كِسْرَى وأمسى قيصرٌ ... مُغْلَقًا من دونه بَابَا حَدِيدْ
ومنع ابنُ قُتَيْبة الفتح.
وكسرى اسم لملك الفرس، وقيصر اسم لملك الروم، وهرقل اسم لملكهم أيضا، والنجاشي اسم لكل
ملك من ملوك الحبشة، وخاقان اسم لملك الترك وتُبَّع اسم لملك اليمن، والقَيْلُ اسم لملك حمير، وقيل:
بل القيل أقل درجة من الملك، وفِرعَون اسم لملك العمالقة. كل هذا من قول أبي عمر المطرز وابن
خالويه وكان اسم فرعون فيما ذكر المفسرون مصعبًا وقيل الوليد بن مصعب.
1 / 83
وقال بعض الحكماء: (ماوَرَّثَتِ الآباء الأبناء شيئًا أفضل من الأدب، لأنها بالأدب تكتسِب المال،
وبالجهل تُتْلِفُه).
وفي الخبر أن سليمان بن داود ﵉ خيِّر بين العِلْم، والمال، والمُلْك فاختار العلم فأوتي
الملكَ والمال معًا. وقال بعض الحكماء: (خيرُ ما أوتي العبد في الدنيا الحكمة، وخير ما أوتي العبد في
الآخرة الجنة). وبهذا فسّر بعض أهل العلم قول الله تعالى (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) الآية. وهو مذهب الحسن. وقيل المراد
به نِعَم الدنيا ونِعَم الآخرة وهو مذهب قتادة وأكثر أهل العلم.
وقال ابن مسلم بن شهاب الزهري (ما أحْدَثَ الناسُ مروءةً أَعْجَب إليَّ من الفصاحة).
ورأيتُ بعض تَواليف الحافظ أبي عمر النمَري ﵀. قال:
1 / 84
أنشدني بعض الأدباء لخلف الأحمر:
خيرُ ما ورَّثَ الرجالُ بنيهِمُ ... أدبٌ صالحٌ وحسنُ الثناءِ
هو خيرٌ من الدَّنانير والأو ... راق في يوم شدَّة ورخاءِ
تِلْك تَفْنَى والدّين والأدب الصَّا ... لِحُ لا يفنيانِ حتى اللقاءِ
وقال بعض الأدباء المتأخرين: (العِلمُ أكرمُ منهاجٍ، وسراجٍ وهاج، ما صَدِيَ من سقاهُ صوبَ صفائه،
ولاعَرِي من كساهُ ثوب بهائه، ولاحادَ عن الحقِّ لسانُ من يرويه، ولا خافَ من الخَلْقِ جَنانُ من
يَحْويه.
وجَمعُ العلوم كمالٌ، والأدبُ منها جمالٌ، وهو لسان النبيِّ العربي).
(فقيهٌ يلحنُ حمار يَطْحَن)، (كاتبٌ غيرُ أديب، أشبهُ الحيوان بِذِيب). (رُبّ وزيرٍ يُعجب الناسَ وهو
ساكتٌ، فإذا تكلَّم فكلُّ حاسدٍ شامتٌ)، وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
وفي الصمت سترٌ للْعَيِيِّ وإنما ... صحيفة لبِّ المرء أن يتَكَلَّما
وقال الآخر:
1 / 85
لسان الفتى نصفٌ ونصف فؤاده ... فلم يبْقَ إلاّ صورةُ اللَّحم والدّم
وكائن ترى من ساكتٍ لكَ معجب ... زيادته أو نقصه في التكلم
وقال الخليل ﵀:
أي شيء من اللباس على ذي السَّ ... رْو أبهى من اللسان البهيِّ
ينظمُ الحجة السنية في السلْ ... ك من القول مثل سلك الهدي
وترى اللحن بالحبيب أخي الهي ... أة مثل الصديّ على المشرفيّ
فاطلبِ النحو لِلْحِجَاج وللشِّعْ ... ر مُقيمًا والمسندِ المرويِّ
والخطابِ البليغِ عند جواب ال ... قولِ تُزهى بمثله في النَّديِّ
قال ابن زياد الأعرابي: سمعتُ رجلًا يوصي بنيه، فقال: يابني أصلحوا ألسنتكُمُ، فإنَّ الرجل تَنُوبُهُ
النائبة فيستعيرُ من أخيه دابَّته وثوبه، ولا يجدُ من يُعيرُهُ لسانَه.
وقال محمد بن سيرين: ما رأيتُ على رجُل أحسنَ من فصاحة، ولا
1 / 86
رأيت على امرأة أَحْسَنَ من شحم وقال مسلمة بن عبد الملك: اللحنُ في الكلام أقبحُ من الجُذَري في الوجه.
وروى الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: أتى عمر ﵁ على قوم
يرمون رِشْقًا لهمْ فأساؤوا الرَّمي. فقالوا: يا أمير المؤمنين نحن قومٌ متعلمين، فقال لهم: لإساءَتُكُمُ في
لحنكم شرٌّ من إساءتِكمْ في رميكُم أَوْ في رِشْقِكُمْ. رحم الله امرأ أصلح من لسانه. وكان عمر رضي الله
عنه يقول: (تعلَّموا العربية فإنها تُثَبِّثُ العقل).
وقيل للحسن البصري ﵀: (إنَّ لنا إمامًا يلْحن)، فقال: أخِّروه. وروى زيد بن الحباب عن أبي
الربيع السمان عن عمرو بن دينار أن ابن عمر وابن عباس كانا يضربان أولادَهما على اللَّحن.
1 / 87
وحكى النضر بن الشُّمَيل عن الخليل بن أحمد أنه قال لحن أيوب بن كيسان فقال أستغفر الله. وحكى
يحيى بن أكثم عن نفسه قال: فبينما أنا جالسٌ مع المأمون إذْ دخل الدار فتى أبْرعُ الناس زِيًّا وهيئة
ووقارًا وهو لا يلتفت إعجابًا بنفسه. فنظر إليه المأمون فقال: يا يحيى. إنَّ هذا الفتى لا يخلو أن
يكون هاشميًا أو نحويًا. ثم بعثنا من يتعرَّف ذلك منه، فعاد الرسول إلينا فأخبرنا أنه نحويّ. فقال
المأمون: يا يحيى. أعلمتَ أن عِلْم النحو قد بلغ بأهله من عزَّة النفس، وعُلُوّ الهمَّة منزلة بني هاشم
في شرفهم. يا يحيى من قعد به نسبه، نهض به أدبه.
وفي معنى قول المأمون هذا يقول الشاعر:
كُن ابن من شِئت واتخذ أدبًا ... يُغْنيكَ مَأْثورُه عن الحسبِ
وقال الآخر:
إنَّ الفتى من يقول ها أنذا ... ليس الفتى من يقول كان أبي
1 / 88