ـ[الكامل في اللغة والأدب]ـ
المؤلف: محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: ٢٨٥هـ)
المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم
الناشر: دار الفكر العربي - القاهرة
الطبعة: الطبعة الثالثة ١٤١٧ هـ - ١٩٩٧ م
عدد الأجزاء: ٤
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
صفحه نامشخص
المجلد الأول
باب
وصف رسول الله ﷺ للأنصار
...
قال رسول الله ﷺ للأنصار١ في كلام جرى: "إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلون عند الطمع".
الفزع في كلام العرب على وجهين: أحدهما ما تستعمله العامة تريد به الذعر، والآخر الاستنجاد والاستصراخ، من ذلك قول سلامة بن جندل:
كنا إذا ما أتانا صارخٌ فزعٌ ... كان الصراخ له قرع الظنابيب
يقول: إذا أتانا مستغيثٌ كانت إغاثته الجد في نصرته، يقال: قرع لذلك الأمر ظنبوبه إذا جد فيه ولم يفتر، ويشتق من هذا المعنى أن يقع" فزع" في معنى" أغاث" كما قال الكلحبة اليربوعي:
٢"قال أبو الحسن: الكلحبة لقبه، واسمه هبيرة، وهو من بني عرين بن يربوع، والنسب إليه عريني، وكثير من الناس يقول: عرني ولا يدري، وعرينة من اليمن: قال جرير يهجو عرين بن يربوع:
عرين من عرينة ليس منا ... برئت إلى عرينة من عرين٢
فقلت لكأسٍ ألجميها فإنما ... حللت الكثيب من زرود لأفزعا٣
يقول: لأغيث. وكأس: اسم جارية، وإنما أمرها بإلجام فرسه ليغيث. والظنبوب: مقدم الساق.
_________
١ جماعة منهم، وهم بنو عبد الأشهل، من ولد عمرو بن مالك بن أوس "وانظر الفائق للزمخشري ٢٧٤: ٢"
٢ مابين الرقمين لم يرد في الأصل، وأثبتناه عن ر.
٣ زرود: موضع في طريق الحاج من الكوفة. والكثيب: القطعة من الرمل، مستطيلة محدودة.
1 / 7
حديث: "ألا أخبركم بأحبكم إلي .. "
وقال رسول الله ﷺ: "ألا أخبركم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجالس يوم القيامة؟ أحاسنكم أخلاقًا، الموطأون أكنافًا، الذين يألفون ويؤلفون، ألا أخبركم بأبغضكم إلي وأبعدكم مني مجالس يوم القيامة؟ الثرثارون المتفيهقون".
قوله ﷺ: "الموطأون أكنافًا" مثل، وحقيقته أن التوطئة هي التذليل والتمهيد، يقال: دابة وطيء، يا فتى، وهو الذي لا يحرك راكبه في مسيره، وفراش وطيء إذا كان وثيرًا لا يؤذي جنب النائم عليه، فأراد القائل بقوله: " موطأ" الأكناف" أن ناحيته يتمكن فيها صاحبها غير مؤذى، ولا ناب به موضعه.
قال أبو العباس: حدثني العباس بن الفرج الرياشي قال: حدثني الأصمعي قال: قيل لأعرابي وهو المنتجع بن نبهان١ ما السميدع؟ فقال: السيد الموطأ الأكناف.
وتأويل الأكناف الجوانب، يقال: في المثل: فلان في كنف فلان، كما فلان في ظل فلان، وفي ذرى فلان، وفي ناحية فلان٢، وفي حيز فلان.
وقوله ﷺ: "الثرثارون" يعني الذين يكثرون الكلام تكلفًا وتجاوزًا، وخروجًا عن الحق. وأصل هذه اللفظة من العين الواسعة من عيون الماء، يقال: عينٌ ثرثارةٌ. وكان يقال لنهرٍ بعينه: الثرثار٣، وإنما سمي به لكثرة مائه، قال الأخطل: ٤
لعمري لقد لاقت سليمٌ وعامرٌ ... على جانب الثرثار راغية البكر
قوله: " راغية البكر" أراد أن بكر ثمود رغا فيهم فأهلكوا، فضربته العرب مثلًا، وأكثرت فيه، قال علقمة بن عبدة الفحل:
رغا فوقهم سقب السماء فداحضٌ ... بشكته لم يستلب وسليب٥
_________
١ من طيىء؛ ذكره الزبيدي في الطبقة الأولى من اللغويين البصريين ص ١٧٥.
٢ تكملة من ر.
٣ الثرثار: موضع عند تكريت.
٤ زيادات ر: "واسمه غياث بن غوث، يكنى أبا مالك، ويلقب بدوبل، والدوبل: الخنزير"، وكذلك في س.
٥ زيادات ر: "السقب: ولد الناقة، والشكة: مايلبس من السلاح، والسليب: من سلب سلاحه".
1 / 8
[قال أبو الحسن: الداحض: الساقط والداحض أيضاٌ: الزا لق] .
وكذلك إذا لم تضعف الثاء فقلت: عينٌ ثرةٌ، فإنما معناها غزيرة واسعة، قال عنترة:
جادت عليها كل عين ثرةٍ ... فتركن كل حديقةٍ كالدرهم١
قال أبو العباس: وليست الثرة عند النحويين البصريين من لفظة الثرثارة، ولكنها في معناها٢.
وقوله ﷺ: "المتفيهقون" إنما هو بمنزلة قوله: "الثرثارون" توكيد له، ومُتَفَيْهِق متفيعل، من قولهم: فهق الغدير يفهق إذا امتلأ ماءٌ فلم يكن فيه موضع مزيد، كما قال الأعشى:
نفى الذم عن رهط المحلق جفنةٌ ... كجابية الشيخ العراقي تفهق
كذا ينشده أهل البصرة، وتأويله عندهم أن العراقي إذا تمكن من الماء ملأ جابيته لأنه حضري فلا يعرف مواقع الماء ولا محاله.
قال أبو العباس: وسمعت أعرابية تنشد قال أبو الحسن: هي أم الهيثم الكلابية من ولد المحلق، وهي راوية أهل الكوفة: "كجابية السيح" تريد النهر الذي يجري على جانبية، فماؤها لا ينقطع، لأن النهر يمده. ومثل قول البصريين فيما ذكروا به" العراقي الشيخ "قول الشاعر قال أبو الحسن: " هو ذو الرمة":
لها ذنب ضاف وذفرى أسيلة ... وخد كمرآة الغريبة أسجح٣
يقول: إن الغريبة لا ناصح لها في وجهها، لبعدها عن أهلها، فمرآتها أبدًا مجلوة، لفرط حاجتها إليها.
_________
١ قال في اللسان: "الحديقة من الرياض: كل أرض استدارات وأحدق بها حاجز، او أرض مرتفعة". وفي رواية التبريزى "شرح المعلقات ١٠٨": "كل قرارة كالدرهم".
٢ س، وحواشى ر: "ويجب أن يكون من الثرة ثرارة".
٣ ديوانه ٨٨. والذفرى: الموضع الذي يعرق من البعير خلف الأذن. وفي الديوان: "لها أذن حشر". والأذن الحشر: المحددة.
1 / 9
وتصديق ما فسرناه من قول رسول الله ﷺ أنه يريد الصدق في المنطق والقصد، وترك ما لا يحتاج إليه، قوله لجرير بن عبد الله البجلي: "يا جرير، إذا قلت فأوجز، وإذا بلغت حاجتك فلا تتكلف".
كلمة أبو بكر في مرضه لعبد الرحمن بن عوف قال أبو العباس: ومما يؤثر من حكيم الأخبار، وبارع الآداب، ما حدثنا به عن عبد الرحمن بن عوف وهو أنه قال: دخلت يومًا على أبي بكر الصديق رحمة الله عليه في علته التي مات فيها، فقلت له: أراك بارئًا يا خليفة رسول الله، فقال: أما إني على ذلك لشديد الوجع، ولما لقيت منكم يا معشر المهاجرين أشد علي من وجعي. إني وليت أموركم خيركم في نفسي، فكلكم ورم أنفه أن يكون له الأمر من دونه، والله لتتخذن نضائد الديباج، وستور الحرير، ولتألمن النوم على الصوف الأذربي كما يألم أحدكم النوم على حسك السعدان، والذي نفسي بيده لأن يقدم أحدكم فتضرب عنقه في غير حد خير له من أن يخوض غمرات الدنيا. يا هادي الطريق جرت، إنما هو والله الفجر، أو البحر. فقلت: خفض عليك يا خليفة رسول الله، فإن هذا يهيضك إلى ما بك، فوالله ما زلت صالحًا مصلحًا، لا تأس على شيء فاتك من أمر الدنيا، ولقد تخليت بالأمر وحدك فما رأيت إلاخيرًا. قوله: "نضائد الديباج" واحدتها نضيدة، وهي الوسادة وما ينضد من المتاع، قال الراجز: وقربت خدامها الوسائدا ... حتى إذا ما علوا النضائدا سبحت ربي قائما ًو قاعدًا وقد تسمي العرب جماعة ذلك النضد، والمعنى واحد، إنما هو ما نضد في البيت من متاع، قال النابغة: ورفعته إلى السجفين فالنضد١ _________ ١ ديوانه ٢٤، وصدره: خلت سبيل أتى كان يحبسه
كلمة أبو بكر في مرضه لعبد الرحمن بن عوف قال أبو العباس: ومما يؤثر من حكيم الأخبار، وبارع الآداب، ما حدثنا به عن عبد الرحمن بن عوف وهو أنه قال: دخلت يومًا على أبي بكر الصديق رحمة الله عليه في علته التي مات فيها، فقلت له: أراك بارئًا يا خليفة رسول الله، فقال: أما إني على ذلك لشديد الوجع، ولما لقيت منكم يا معشر المهاجرين أشد علي من وجعي. إني وليت أموركم خيركم في نفسي، فكلكم ورم أنفه أن يكون له الأمر من دونه، والله لتتخذن نضائد الديباج، وستور الحرير، ولتألمن النوم على الصوف الأذربي كما يألم أحدكم النوم على حسك السعدان، والذي نفسي بيده لأن يقدم أحدكم فتضرب عنقه في غير حد خير له من أن يخوض غمرات الدنيا. يا هادي الطريق جرت، إنما هو والله الفجر، أو البحر. فقلت: خفض عليك يا خليفة رسول الله، فإن هذا يهيضك إلى ما بك، فوالله ما زلت صالحًا مصلحًا، لا تأس على شيء فاتك من أمر الدنيا، ولقد تخليت بالأمر وحدك فما رأيت إلاخيرًا. قوله: "نضائد الديباج" واحدتها نضيدة، وهي الوسادة وما ينضد من المتاع، قال الراجز: وقربت خدامها الوسائدا ... حتى إذا ما علوا النضائدا سبحت ربي قائما ًو قاعدًا وقد تسمي العرب جماعة ذلك النضد، والمعنى واحد، إنما هو ما نضد في البيت من متاع، قال النابغة: ورفعته إلى السجفين فالنضد١ _________ ١ ديوانه ٢٤، وصدره: خلت سبيل أتى كان يحبسه
1 / 10
ويقال: نضدت المتاع إذا ضممت بعضه إلى بعض، فهذا أصله، قال الله ﵎: ﴿لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ﴾ ١، وقال: ﴿فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ﴾ ٢ ويقال: نضدت اللبن على الميت.
وقوله:" على الصوف الأذربي" فهذا منسوب إلى اذربيجان، وكذلك تقول العرب، قال الشماخ:
تذكرتها وهنًا وقد حال دونها ... قرى أذربيجان المسالح والجال٣
وقوله: "على حسك السعدان"، فالسعدان نبت كثير الحسك تأكله الإبل فتسمن عليه، ويغذوها غذاءً لايوجد في غيره، فمن أمثال العرب: "مرعى ولا كالسعدان "تفضيلًا له، قال النابغة:
الواهب المائة الأبكار زينها ... سعدان توضح في أو بارها اللبد٤
ويروى في بعض الحديث "أنه يؤمر بالكافر يوم القيامة فيسحب على حسك السعدان"، والله أعلم بذلك.
قال أبو الحسن: السعدان: نبت كثير الشوك- كما ذكر أبو العباس- ولا ساق له، إنما هو منفرش على وجه الأرض، حدثنا أبو العباس أحمد بن يحيى الشيباني عن ابن الأعرابي، قال: قيل لرجل من أهل البادية- وخرج عنها: أترجع إلى البادية؟ فقال: أما ما دام السعدان مستلقيًا فلا. يريد أنه لا يرجع إلى البادية أبدًا، كما أن السعدان لا يزول عن الاستلقاء أبدًا.
_________
١ سورة ق ١٠.
٢ سورة الواقعة ٢٩، ٣٠.
٣ المسالح: مواضع المخافة، والجال، ضبطت في الأصل بالفتحة والكسرة، وكذلك في إحدى النسخ التي قابل بها "ريط" نسخته. وقال المرصفى: "الجال: اسم لجماعة الخيل والإبل، أضاف أذربيجان إليهما إشعارا بأنها مملوءة بهما". وانظر ديوان الشماخ ١١٧، ومعجم البلدان ١٥٩: ١، واللسان "سلح"، وتاج العروس"ذرب"، والمعرب للجواليقى٣٦.
٤ توضح: من قرى اليمامة.
1 / 11
وقال أبو علي البصير واسمه الفضل بن جعفر، وإن لم يكن بحجة، ولكنه أجاد فذكرنا شعره هذا لجودته لا للاحتجاج به يمدح عبيد الله بن يحيى بن خاقان وآله فقال:
يا وزراء السلطان ... أنتم وآل خاقان
كبعض ما روينا ... في سالفات الأزمان
ماء ولا كصدى ... مرعى ولا كالسعدان
وهذه الأمثال ثلاثة، منها قولهم: "مرعى ولا كالسعدان"،و" فتى ولا كمالك"،و"ماء ولا كصدى"، تضرب هذه الأمثال للشيء الذي فيه فضل وغيره أفضل منه، كقولهم: "ما من طامة إلا فوقها طامة"، أي ما من داهية إلا وفوقها داهية، ويقال: طما الماء وطم إذا إرتفع وزاد.
ومالك الذي ذكروا هو مالك بن نويرة، أخو متمم بن نويرة.
" وصداء يمد، وبعضهم يقول: صدى، فيضم أوله ويقصر، فأما أبو العباس محمد بن يزيد، فإنه قال: لم أسمع من أصحابنا إلا صدءاء يا فتى، وهو اسم لماء، معرفة، وهما همزتان بينهما ألف، والألف لا تكون إلا ساكنة، كأنك قلت: صدعاع يا هذا١.
وقوله: "إنما هو والله الفجر أو البجر" يقول: إن انتظرت حتى يضيء لك الفجر الطريق أبصرت قصدك. وإن خبطت الظلماء، وركبت العشواء هجما بك على المكروه، وضرب ذلك مثلًا لغمرات الدنيا، وتحييرها أهلها.
وقوله: "يهيضك" مأخوذ من قولهم: هيض العظم إذا جبر ثم أصابه شيء يعنته فآذاه فكسره ثانية، أو لم يكسره، وأكثر ما يستعمل في كسره ثانية، ويقال: عظم مهيض، وجناح مهيض في هذا المعنى: ثم يشتق لغير ذلك، وأصله ما ذكرت لك، فمن ذلك قول عمر بن عبد العزيز ﵀ لما كسر يزيد بن المهلب
_________
١ مابين العلامتين لم يرد في الأصل، وأثبتناه عن ر، س.
1 / 12
سجنه وهرب، فكتب إليه: لو علمت أنك تبقى ما فعلت، ولكنك مسموم، ولم أكن لأضع يدي في يد إبن عاتكه١. فقال عمر: اللهم إنه قد هاضني فهضه. فهذا معناه.
وقوله: "فكلكم ورم أنفه"، يقول: امتلأ من ذلك غضبًا، وذكر أنفه دون السائر كما بقال: فلان شامخ بأنفه، يريد رافع، وهذا يكون من الغضب كما قال الشاعر:
ولا يهاج إذا ما أنفه ورما
أي لايكلم عند الغضب، ويقال للمائل برأسه كبرا: متشاوس، وثاني عطفه، وثاني جيده، إنما هذا كله من الكبرياء. قال الله ﷿: ﴿ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ٢: وقال الشامخ٣:
نبئت أن ربيعًا أن رعى إبلًا ... يهدي إلي خناه ثاني الجيد
وقوله: "أراك بارئًا يا خليفة رسول الله"٤ يكون من برئت من المرض وبرأت، كلاهما يقال: فمن قال برئت يقول: أبرأ٥ يافتى لا غير، ومن قال: برأت قال في المضارع: أبرأ وأبرؤ، يا فتى، مثل فرغ ويفرغ. والآية تقرأ على وجهين: ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ﴾ ٦، الرحمن: ٣١، و﴿سَنَفْرُغُ﴾: والمصدر فيهما" البرء" يا فتى.
_________
١ زيادات ر: "هو يزيد بن عبد الملك بن مروان، وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية، ولى الملك بعد عمر بن عبد العزيز، ولا يعلم أحد أعرق في الخلافة منه".
٢ سورة الحج٩.
٣ زيادات ر: "يهجو الربيع بن علياء السلمى".
٤ ر، س: "يا خليفة رسول الله ﷺ".
٥ ر، س: "قال".
٦ الرحمن ٣١.
عهد أبي بكر بالخلافة إلى عمر ومما روي لنا عنه ﵁ حيث عهد عند موته وهو: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما عهد به أبو بكر خليفة محمد رسول الله ﷺ: عند آخر عهده بالدنيا، وأول عهده بالآخرة، في الحال التي يؤمن فيها الكافر، ويتقي فيها الفاجر. إني استعملت عليكم عمر بن الخطاب، فإن بر وعدل
عهد أبي بكر بالخلافة إلى عمر ومما روي لنا عنه ﵁ حيث عهد عند موته وهو: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما عهد به أبو بكر خليفة محمد رسول الله ﷺ: عند آخر عهده بالدنيا، وأول عهده بالآخرة، في الحال التي يؤمن فيها الكافر، ويتقي فيها الفاجر. إني استعملت عليكم عمر بن الخطاب، فإن بر وعدل
1 / 13
فذلك علمي به، ورأيي فيه، وإن جار وبدل فلا علم لي بالغيب، والخير أردت، ولكل امرىء ما اكتسب، ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ [الشعراء: من الآية٢٢٧] .
نصب" أي" بقوله: " ينقلبون"، ولا يكون نصبها ب" سيعلم" لأن حروف الاستفهام إذا كانت أسماء امتنعت مما قبلها كما يمتنع ما بعد الألف من أن يعمل فيه ما قبله، وذلك١ قولك: "علمت زيدًا منطلقًا" فإن أدخلت الألف قلت: "علمت أزيد منطلق أم لا" فأي بمنزلة زيد الواقع بعد الألف، ألا ترى أن معناها: أذا أم ذا. وقال الله ﷿: ﴿لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا﴾ ٢ لأن معناها: أهذا أم هذا؟ وقال تعالى: ﴿فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا﴾ ٣ على ما فسرت لك، وتقول: أعلم أيهم ضرب زيدًا، وأعلم أيهم ضرب زيد، تنصب أيا ب" ضرب" لأن" زيداٌ" فاعل، فإنما هذا لما بعده، وكذلك ما أضيف إلى اسم من هذه الأسماء المستفهم بها، نحو: قد علمت غلام أيهم في الدار، وقد عرفت غلام من في الدار، وقد علمت غلام من ضربت، فتنصبه بـ"ضربت" فعلى هذا مجرى الباب.
_________
١ ر، س: "وذلك نحو قولك".
٢ الكهف ١٢.
٣ الكهف: ١٩.
أول خطبة خطبها عمر بن الخطاب ومما يؤثر من هذه الآداب ويقدم قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في أول خطبة خطبها حدثنا العتبي قال: لم أر أقل منها في اللفظ، ولا أكثر في المعنى حمد الله وأثنى عليه وأهله، وصلى على نبيه محمد ﷺ ثم قال: أيها الناس، إنه والله ما فيكم أحد أقوى عندي من الضعيف حتى آخذ الحق له، ولا أضعف عندي من القوي حتى آخذ الحق منه. ثم نزل. وإنما حسن هذا القول مع ما يستحقه من قبل الاختيار، بما عضده به من الفعل المشاكل له: ١"قال أبو الحسن: قد روينا هذه الخطبة التي عزاها إلى عمر بن الخطاب عن أبي بكر ﵄، وهو الصحيح"١. _________ "١-١" لم يرد في الأصل، وأثبتناه عن ر، س.
أول خطبة خطبها عمر بن الخطاب ومما يؤثر من هذه الآداب ويقدم قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في أول خطبة خطبها حدثنا العتبي قال: لم أر أقل منها في اللفظ، ولا أكثر في المعنى حمد الله وأثنى عليه وأهله، وصلى على نبيه محمد ﷺ ثم قال: أيها الناس، إنه والله ما فيكم أحد أقوى عندي من الضعيف حتى آخذ الحق له، ولا أضعف عندي من القوي حتى آخذ الحق منه. ثم نزل. وإنما حسن هذا القول مع ما يستحقه من قبل الاختيار، بما عضده به من الفعل المشاكل له: ١"قال أبو الحسن: قد روينا هذه الخطبة التي عزاها إلى عمر بن الخطاب عن أبي بكر ﵄، وهو الصحيح"١. _________ "١-١" لم يرد في الأصل، وأثبتناه عن ر، س.
1 / 14
رسالة عمر في القضاء إلى أبي موسى الأشعري
قال أبو العباس: ومن ذلك رسالته في القضاء إلى أبي موسى الأشعري وهي التي جمع فيها جمل الأحكام، واختصرها بأجود الكلام، وجعل الناس بعده يتخذونها إمامًا، ولا يجد محق عنها معدلاٌ، ولا ظالم عن حدودها محيصاٌ، وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس. سلام عليك، أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له. آس بين الناس بوجهك١، وعدلك، ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحاٌ أحل حراماٌ، أو حرم حلالاٌ. لا يمنعنك قضاءٌ قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك، وهديت فيه لرشدك، أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديمٌ، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنةٍ، ثم اعرف الأشباه والأمثال، فقس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله، وأشبهها بالحق، واجعل لمن ادعى حقًا غائبًا أو بينة أمدا ينتهي إليها فإن أحضر بينته أخذت له بحقه وإلا استحللت عليه القضية، فإنه أنفى للشك، وأجلى للعمى، المسلمون عدولٌ بعضهم على بعض إلا مجلودًا في حد، ومجربًا عليه شهادة زور، أو ظنينا في ولاء أو نسب، فإن الله تولى منكم السرائر، ودرأ بالبينات والإيمان. وإياك والغلق والضجر، والتأذي بالخصوم والتنكر عند الخصومات، فإن الحق في مواطن الحق ليعظم٢ الله به الأجر، ويحسن به الذخر، فمن صحت نيته، وأقبل على نفسه كفاه الله بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانه الله، فما ظنك بثواب غير الله ﷿ في عاجل رزقه وخزائن رحمته، والسلام.
_________
١ ر، س: "في وجهك".
٢ ر س: "يعظم".
1 / 15
قال أبو العباس: قوله: "آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك"، يقول: سو بينهم، وتقديره: اجعل بعضهم أسوة بعضٍ، والتأسي من ذا أن يرى ذو البلاء من به مثل بلائه فيكون قد ساواه فيه، فيسكن ذلك من وجده، قالت الخنساء:
فلولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزي النفس عنه بالتأسي
يذكرني طلوع الشمس صخرًا ... وأذكره لكل غروب شمس
تقول: أذكره في أول النهار للغارة، وفي آخره للضيفان. وتمثل مصعب بن الزبير يوم قتل بهذا البيت:
وإن الألى بالطف من آل هاشم ... تآسوا فسنوا للكرام التآسيا١
وقوله"حتى لا يطمع شريف في حيفك" يقول: في ميلك معه لشرفه. وقوله: "فيما تلجلج في صدرك" يقول: تردد، وأصل ذلك المضغة والأكلة يرددها الرجل في فيه فلا تزال تتردد إلى أن يسيغها أو يقذفها، والكلمة يرددها الرجل إلى أن يصلها بأخرى، يقال للعيي: لجلاج، وقد يكون من الآفة تعتري اللسان، قال زهير:
تلجلج مضغة فيها أنيضٌ ... أصلت، فهي تحت الكشح داء
وقوله: "أنيضٌ" أي لم تنضج٢. ومن أمثال العرب: الحق أبلج والباطل لجلج، أي يتردد فيه صاحبه فلا يصيب مخرجا.
وقوله: "أو ظنيناٌ في ولاءٍ أو نسب، "فهو المتهم، وأصله" مظنون" وهي ظننت التي تتعدى إلى مفعول واحد، تقول: ظننت بزيد، وظننت زيدًاٌ، أي اتهمت، ومن ذلك قول الشاعر، أحسبه عبد الرحمن بن حسان:
فلا ويمين الله ما عن جناية ... هجرت، ولكن الظنين ظنين ٣
_________
١ البيت في الأغاني"١٧-١٦٥" ونسبه إلى سليمان بن قتة، وهو أيضا في اللسان"أسا" من غير نسبة. قال ابن برى: "وتآسوا، من المؤاساة، كما ذكر الجوهرى، لامن التأسي كما ذكر المبرد".
٢ كذا ذكره المبرد، وهو يوافق ما في شرح الديوان، وفي اللسان "أنض": "فيها أنيض اى تغير" واستشهد بالبيت، وهو الأوفق.
٣ البيت في اللسان "ظن"، ونسبه أيضا إلى عبد الرحمن بن حسان، ثم ذكر أن ابن برى نسبه إلى نهار بن توسعة.
1 / 16
وفي بعض المصاحف: ﴿وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ﴾ ١ وإنما قال عمر ﵁ ذلك لما جاء عن النبي ﷺ: "ملعون ملعون من انتمى إلى غير أبيه، أو ادعى إلى غير مواليه"، فلما كانت معه الإقامة على هذا لم يرى للشهادة موضعًا.
وقوله: " ودرأ بالبينات والأيمان" إنما هو دفع، من ذلك قول رسول الله ﷺ: "إدرأوا الحدود بالشبهات"، وقال الله ﷿: ﴿قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ ٢ وقال: ﴿فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا﴾ ٣ أي تدافعتم.
وأما قوله: "وإياك والغلق والضجر" فإنه ضيق الصدر، وقلة الصبر، يقال في سوء الخلق: رجل غلق، وأصل ذلك من قولهم٤: غلق الرهن أي لم يوجد به تخلص وأغلقت الباب من هذا، قال زهير:
وفارقتك برهنٍ لا فكاك له ... يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا
وقوله: "ومن تخلق للناس"، يقول: أظهر للناس في خلقه خلاف نيته.
وقوله: "تخلق" يريد أظهر٥ مثل تجمل يريد أظهر جمالًا وتصنع، وكذلك تجبر، إنما تأويله الإظهار، أي أظهر جبرية، وإن شئت جبروتًا، وإن شئت جبروتي "وإن شئت جبروة" ٦. ومن كلام العرب على هذا الوزن: رهبوتى خير لك من رحموتى، أي" ٧ترهب خير لك من أن ترحم٧". قال أبو العباس وأنشدونا عن أبي زيد٨:
_________
١ التكوير: ٢٤، وهو مصحف عبد الله بن مسعود، "وانظر الكشاف".
٢ سورة آل عمران: ١٦٨.
٣ سورة البقرة: ٧٢.
٤ ر: "وأصل ذلك من قولهم: أغلق عليه أمره إذا لم يتضح ولم ينفتح، من ذلك قولهم: غلق الرهن ... ".
٥ ر، س: "أظهر خلقا".
٦ تكملة من ر.
٧ ر، س "لأن ترهب خير لك من أن ترحم".
٨ زيادات س: "الشعتر لسالم بن وابصة الأسدى".
1 / 17
ياأيها المتحلي غير شيمته ... إن التخلق يأتي دونه الخلق١
ولا يؤاتيك في ما ناب من حدث ... إلا أخو ثقة فأنظر بمن تثق
قال: وأنشدتني أم الهيثم الكلابية:
ومن يتخذ خيماُ سوى خيم نفسه ... يدعه ويغلبه على النفس خيمها٢
وقال ذو الإصبع العدواني٣:
كل إمرىء راجع يومًا لشيمته ... وإن تمتع أخلاقًاإلى حين
وأما قوله: "ثواب"، فاشتاقه من ثاب يثوب إذا رجع، وتأويله ما يثوب إليك من مكافأة الله وفضله.
_________
١ الشعر في ر هكذا:
يأيها المتحلى غير شميته ... ومن سجيته الإدغال والملق
دع التخلق يبعد عنك أوله ... إن التخلق يأتي دونه الخلق
ولا يؤاتيك فيما ناب من حدث ... إلا خو ثقة، فأنظر بمن تثق
وانظر رواية الأبيات في ديوان الحماسة ٢٣٦: ٢-بشرح التبريزى.
٢ البيت في اللسان "خيم" من غير نسبة.
٣ زيادات ر: "ذو الإصبع اسمه حرثان بن الحارث بن محرث، وقيل له ذو الإصبع؛ لأن أفعى نهشت إصبعة".
كتاب عثمان إلى عليبن أبي طالب حين أحيط به وكتب عثمان بن عفان إلى علي رحمه الله١ حين أحيط به: أما بعد، فإنه قد جاوز الماء الزبى وبلغ الحزام الطبيين، وتجاوز الأمر بي قدره، وطمع في من لا يد فع عن نفسه: فإن كنت مأكولًا فكن خير آكل ... وإلا فأدركني ولما أمزق٢ قوله: "قد جاوز الماء الزبى" فالزبية مصيدة الأسد، ولا تتخذ إلا في قلة أو رابية أو هضبة، قال الراجز٣: كاللذ تزبى زبية فاصطيدا _________ ١ ر: "علي بن أبي طالب رحمهما الله"، س: "علي بن أبي طالب ﵄". ٢ البيت للممزق العبدى، واسمه شأس بن نهار، "وانظر المؤتلف والمختلف للآمدى ١٨٥". ٣ قبله في زيادات ر: فأنت والأمر الذي قد كيدا
كتاب عثمان إلى عليبن أبي طالب حين أحيط به وكتب عثمان بن عفان إلى علي رحمه الله١ حين أحيط به: أما بعد، فإنه قد جاوز الماء الزبى وبلغ الحزام الطبيين، وتجاوز الأمر بي قدره، وطمع في من لا يد فع عن نفسه: فإن كنت مأكولًا فكن خير آكل ... وإلا فأدركني ولما أمزق٢ قوله: "قد جاوز الماء الزبى" فالزبية مصيدة الأسد، ولا تتخذ إلا في قلة أو رابية أو هضبة، قال الراجز٣: كاللذ تزبى زبية فاصطيدا _________ ١ ر: "علي بن أبي طالب رحمهما الله"، س: "علي بن أبي طالب ﵄". ٢ البيت للممزق العبدى، واسمه شأس بن نهار، "وانظر المؤتلف والمختلف للآمدى ١٨٥". ٣ قبله في زيادات ر: فأنت والأمر الذي قد كيدا
1 / 18
وقال الطرماح:
ياطييىء السهل والأجبال١، موعدكم ... كمبتغى الصيد أعلى زبية الأسد
وتقول العرب: "قد علا الماء الزبى"، و"قد بلغ السكين العظم" و"بلغ الحزام الطبيين" و"قد انقطع السلى في البطن".
فالسلى من المرأة والشاة ما يلتف فيه الولد في البطن، قال العجاج:
فقد علا الماء الزبى فلا غير
أي: قد جل الأمر عن أن يغير ويصلح.
وقوله" وبلغ الحزام الطبيين، فإن السباع والخيل يقال لموضع الأخلاف منها: أطباء يا فتى، وأحدها طبي كما يقال في الظلف والخف: خلفٌ، هذا مكان هذا فإذا بلغ الحزام الطبيين فقد انتهى في المكروه، ومثل هذا من أمثالهم: "التقت حلقتا البطان"٢: ويقولون: "التقت حلقتا البطان والحقب"٣ ويقال: حقب البعير إذا صار الحزام في الحقب٤، قال الشاعر٥:
إذا ما حقب جال ... شددناه بتصدير
وقال أوس بن حجر:
وازدحمت حلقتا البطان بأق ... وام وطارت نفوسهم جزعا
وتمثله بالبيت يشاكل قول القائل:
فإن أك مقتولًا فكن أنت قاتلي ... فبعض منايا القوم أكرم من بعض
_________
١ أجبال طيىْ: أجا وسلمى والعوجاء.
٢ البطان: حزام الرحل.
٣ من ر، س.
٤ الحقب: حزام يشد به رجل البعير.
٥ ر: " قال أبو بكر: هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وأوله:
سليمى تلك في العير ... قفى إن شئت أو سيرى
فلما أن بدا الصبح ... بأصوات العصافير
خرجنا نبتغي الصيد ... بأمثال اليعافير
إذا ما حقب جال ... شددناه بتصدير
زجرنا العيس فارمدت ... بإهذاب وتشمير
1 / 19
عتاب عثمان علي بن أبي طالب
ويروى عن قنبر مولى علي بن أبي طالب ﵁ أنه قال: دخلت مع علي بن أبي طالب على عثمان بن عفان ﵄، فأحبا الخلوة، فأومأ إلي علي بالتنحي، فتنحيت غير بعيدٍ فجعل عثمان يعاتب عليا وعلي مطرق، فأقبل عليه عثمان فقال: ما بالك لا تقول: فقال: إن قلت لم أقل إلا ما تكره، وليس لك عندي إلاما تحب.
تأويل ذلك: إن قلت اعتددت عليك بمثل ما اعتددت به علي فلذعك عتابي، وعقدي ألا أفعل" وإن كنت عاتبًا إلا ما تحب.
خطبة علي بن أبي طالب حينبلغه قتل عامله حسان بن حسان وتحدث ابن عائشة في إسناد ذكره أن عليًا ﵀ انتهى إليه أن خيلًا لمعاوية وردت الأنبار، فقتلوا عاملًا له يقال له: حسان بن حسان، فخرج مغضبًا يجر ثوبة حتى انتهى١ إلى النخيلة، واتبعه الناس، فرقي رباوة من الأرض، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه ﷺ ثم قال: أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله الذل، وسيما الخسف، وديث بالصغار. وقد دعوتكم إلى حرب هؤلاء القوم ليلًا ونهارًا، وسرًا وإعلانًا، وقلت لكم: اغزوهم من قبل أن يغزوكم، فو الذي نفسي بيده ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا. فتخاذلتم وتواكلتم، وثقل عليكم قولي، واتخذتموه وراءكم ظهريًا، حتى شنت عليكم الغارات. هذا أخوغامد، قد وردت خيله الأنبار، وقتلوا حسان بن حسان، ورجالًا منهمكثيرًا ونساءً والذي نفسي بيده لقد بلغني أنه كان يدخل على المرأة المسلمة والمعاهدة، فتنتزع أحجالهما ورعثهما ثم إنصرفوا موفورين لم يكلم منهم أحد كلما. فلو أن امرأ مسلمًا مات من دون هذا أسفًا ما كان عندي فيه ملومًا، بل كان عندي به جديرًا. ياعجبًا كل العجب [عجب يميت القلب، ويشغل الفهم، ويكثر الأحزان] ٢ من تضافر _________ ١ ر: "حتى أتي النخيلة"، والنخيلة: موضع قرب الكوفة. ٢ من ر.
خطبة علي بن أبي طالب حينبلغه قتل عامله حسان بن حسان وتحدث ابن عائشة في إسناد ذكره أن عليًا ﵀ انتهى إليه أن خيلًا لمعاوية وردت الأنبار، فقتلوا عاملًا له يقال له: حسان بن حسان، فخرج مغضبًا يجر ثوبة حتى انتهى١ إلى النخيلة، واتبعه الناس، فرقي رباوة من الأرض، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه ﷺ ثم قال: أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله الذل، وسيما الخسف، وديث بالصغار. وقد دعوتكم إلى حرب هؤلاء القوم ليلًا ونهارًا، وسرًا وإعلانًا، وقلت لكم: اغزوهم من قبل أن يغزوكم، فو الذي نفسي بيده ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا. فتخاذلتم وتواكلتم، وثقل عليكم قولي، واتخذتموه وراءكم ظهريًا، حتى شنت عليكم الغارات. هذا أخوغامد، قد وردت خيله الأنبار، وقتلوا حسان بن حسان، ورجالًا منهمكثيرًا ونساءً والذي نفسي بيده لقد بلغني أنه كان يدخل على المرأة المسلمة والمعاهدة، فتنتزع أحجالهما ورعثهما ثم إنصرفوا موفورين لم يكلم منهم أحد كلما. فلو أن امرأ مسلمًا مات من دون هذا أسفًا ما كان عندي فيه ملومًا، بل كان عندي به جديرًا. ياعجبًا كل العجب [عجب يميت القلب، ويشغل الفهم، ويكثر الأحزان] ٢ من تضافر _________ ١ ر: "حتى أتي النخيلة"، والنخيلة: موضع قرب الكوفة. ٢ من ر.
1 / 20
هؤلاء القوم على باطلهم، وفشلكم عن حقكم، حتى أصبحتم غرضًا ترمون ولا ترمون، ويغار عليكم ولا تغيرون، ويعصى الله ﷿ فيكم وترضون. إذا قلت لكم: اغزوهم في الشتاء قلتم: هذا أوان قر وصر، ةإن قلت لكم: إزوهم في الصيف قلتم: هذه حمارة القيظ، إنظرنا ينصرم الحر عنا. فإذا كنتم من الحر والبرد تفرون، فإنتم من السيف أفر، يا أشباه الرجال ولا رجال ولا طغام الأحلام، ويا عقول ربات الحجال، والله لقد أفسدتم علي رأيي بالعصيان، ولقد ملأتم جوفي غيظا، حتى قالت قريش: ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لارأي له في الحرب. لله درهم ومن ذا يكون أعلم بها مني، أو أشد لها مراسًا فوالله لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، ولقد نيفت اليوم على الستين. ولكن لا رأي لمن لا يطاع يقولها ثلاثًا فقام إليه رجل ومعه أخوه١، فقال: ياأمير المؤمنين، أنا وأخي هذا كما قال الله ﷿: ﴿رَبِّ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي﴾ ٢ فمرنا بأمرك، فوالله لننتهين إليه، ولو حال بيننا وبينه جمر الغضا، وشوك القتاد. فدعا لهما بخير، ثم قال: وأين تقعان مما أريد ثم نزل.
قال أبو العباس: قوله: "سيما الخسف"، قال: هكذا حدثوناه، وأظنه"سيم الخسف" يا هذا، من قول الله ﷿: ﴿يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ﴾ ٣ ومعنى قوله: سيما الخسف تأويله علامة، هذا أصل ذا، قال الله ﷿: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ ٤، وقال ﷿: ﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ﴾ ٥
_________
١ زيادات ر: "الرجل وأخوه يعرفان بابني عفيف من الأنصار" وفي حاشية الأصل: "هو جندب بن عفيف، وأخوه من الأزد".
٢ سورة المائدة ٢٥.
٣ سورة البقرة ٤٩.
٤ سورة الفتح ٢٩.
٥ سورة الرحمن ٤١.
1 / 21
وقال أبو عبيدة في قوله ﷿: ﴿مُسَوِّمِينَ﴾ ١" قال: معلمين٢ واشتقاقه من السيما التي ذكرنا. ومن قال: ﴿مُسَوِّمِينَ﴾، فإنما أراد مرسلين: من الإبل السائمة: أي المرسلة في مراعيها، وإنما أخذ هذا من التفسير. قال المفسرون في قوله تعالى: " ﴿وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ﴾ ٣، القولين جميعًا، مع العلامة والإرسال، وأما في قوله ﷿: ﴿حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ، مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ﴾ ٤ فلم يقولوا فيه إلا قولًا واحدًا، قالوا: "معلمة"، وكان عليها أمثال الخواتيم، ومن قال: "سيما" قصر. ويقال في هذا المعنى: سيمياء، ممدود، قال الشاعر٥:
غلام رماه الله بالحسن يافعًا ... له سيمياء لا تشق على البصر٦
وقوله ﵀: "وقتلو حسان بن حسان"، من أخذ حسانًا من الحسن صرفه لأن وزنه فعال فالنون منه في موضع الدال من حماد، ومن أخذه من الحس لم يصرفه لأنه حينئذ فعلان فلا ينصرف في المعرفة، وينصرف في النكرة، لأنه ليست له" فعلى "فهو بمنزلة سعدان وسرحان.
وقوله: "ديث بالصغار"، تأويله: ذلل، يقال للبعير إذا ذللته الرياضة: بعير مديث، أي مذلل.
وقوله: "في عقر دارهم"، أي في أصل دارهم، والعقر: الأصل، ومن ثم قيل: لفلان عقار، أي أصل مال، ويروى عنه ﷺ قال: "من باع دارًا أو عقارًا فلم يردد ثمنه في مثله فذلك مال قمن ألا يبارك [له] ٧ فيه". وقوله: قمن يريد: خليق، ويقال أيضًا: قمين وقمن.
_________
١ سورة آل عمران ١٢٥.
٢ المعلم، بكسر اللام: الفارس الذي أعلم مكانه في الحرب بعلامة أعلم بها نفسه.
٣ سورة آل عمران ١٤.
٤ سورة هود ٨٢، ٨٣.
٥ زيادات ر: "وهو ابن عنقاء الفزارى في عملية الفزارى".
٦ بعده في زيادات ر:
كأن الثريا علقت في جبينه ... وفي أنفه الشعرى وفي جيده القمر
٧ من س.
1 / 22
[قال أبو الحسن: من قال: قمن لم يثن ولم يجمع، ومن قال: قمن وقمين ثنى وجمع] ١.
ويقال للرجل إذا إتخذ ضيعة، أو دارًا: تأثل فلان، أي إتخذ أصل مال.
وقوله: "وتواكلتم": إنما هو مشتق من وكلت الأمر إليك ووكلته إلي أنت٢ أي: لم يتوله واحد منا دون صاحبه، ولكن أحال به كل واحد منا على الأخر، ومن ذالك قول الحطيئة:
فلأيا قصرت الطرف عنهم بجسرةٍ ... أمون إذا واكلتها لا تواكل٣
وقوله: "واتخذتموه ورائكم ظهريًا"، أي رميتم به وراء ظهوركم، أي لم تلتفتوا إليه، يقال٤ في المثل: "لا تجعل حاجتي منك بظهرٍ"، أي لا تطرحها غير ناظر إليها.
وقوله: "حتى شنت عليكم الغارات"، يقول: صبت، يقال: شننت الماء على رأسه، أي صببته، وشننت الشراب في الإناء أي صببته، ومن كلام العرب: فلما لقي فلان فلانا شنه السيف، أي صبه عليه صبا.
وقوله: "هذا أخو غامد، فهو رجل مشهور من أصحاب معاوية، من بني غامد بن نصر بن الأزد بن الغوث، وفي هذه القبيلة يقول القائل٥:
ألا هل أتاها على نأيها ... بما فضحت قومها غامد
تمنيتم مائتي فارس ... فردكم فارس واحد
فليت لنا بارتباط الخيو ... ل ضأنا ًلها حالب قاعد
وقوله: "فتنتزع أحجالهما"، يعنى الخلاخيل، واحدها حجل، ومن هذا قيل للدابة: محجل، ويقال للقيد: حجل، لأنه يقع في ذلك الموضع، قال جرير،
_________
١ من ر.
٢ من ر.
٣ الجسرة: الناقة الماضية في سيرها، والأمون: الوثيقة الخلق. ورواية ديوانه ٩٨: "ذلول".
٤ ر: "ويقال".
٥ زيادات ر: "هو ربيعة بن مكدم".
1 / 23
يعير الفرزدق حين قيد فرسه، وأقسم ألايحلها حتى يحفظ القرآن، فلما هاجى جرير البعيث هجا الفرزدق١ جريرًا معونةً للبعيث، وذبا عن عشيرته، فقال جرير:
ولما اتقى القين العراقي باسته ... فرغت إلى العبد المقيد في الحجل٢
معنى فرغت عمدت، قال الله ﷿: ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ﴾ ٣ أي سنعمد٤. وقوله: "ورعثهما" الواحدة رعثة، وجمعها الجمع رعث وهي الشنوف.
وقوله: "ثم انصرفوا موفورين" من الوفر، أي لم ينل أحد منهم بأن يرزأ في بدن ولا مال، يقال موفور، وفلان ذو وفر: أي ذو مال، ويكون موفورًا في بدنه إذا ذكر ما أصيب به غيره في بدنه، قال حاتم الطائي:
وقد علم الأقوام لو أن حاتمًا ... أراد المال أمسى له وفر
ويروى:" كان له وفر".
وقوله: "لم يكلم أحد منهم كلمًا". ويقول: لم يخدش أحد منهم خدشًا، وكل جرح صغر أو كبر فهو كلم، قال جرير:
تواصلت الأقوام من تكرمها قريش ... برد الخيل دامية الكلوم
وقوله: "مات من دون هذا أسفًا"، يقول: تحسرًا، فهذا موضع ذا و"قد"٥ يكون الأسف الغضب، قال الله ﷿: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾ ٦ والأسيف يكون الأجير ويكون الأسير فقد قيل في بيت الأعشى:
أرى رجلا ًمنهم أسيفًا كأنما ... يضم إلى كشحيه كفًا مخضبا
_________
١ من ر.
٢ زيادات ر: "يعني بقوله: "ولما اتقى القين العراقي باسته" البعيث، وسماه القين لأنه من رهط الفرزدق".
٣ سورة الرحمن ٢٤.
٤ زيادات ر: "تميم تقول: فرغ يفرغ [بفتح الراء فيهما] فراغا، وأهل العالية-وهم قريش ومن والاها- يقولون فرغ يفرغ [بالضم فيهما] فروغا".
٥ من ر.
٦ سورة الزخرف٥٥.
1 / 24
المشهور أنه من التأسف لقطع يده، وقيل: بل هو أسير قد كبلت يده، ويقال: قد جرحها الغل، والقول الأول هو المجتمع عليه، ويقال في معنى أسيف عسيف أيضًا.
وقوله:" من تضافر هؤلاء القوم على باطلهم"، يقول: من تعاونهم وتظاهرهم.
وقوله: "وفشلكم عن حقكم"، يقال: فشل فلان عن كذا و"كذا"١ إذا هابه فنكل عنه وامتنع من المضي فيه. وقوله:" قلتم هذا أوان فر وصر"،فالصر شدة البرد، قال الله ﷿ ﴿كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ﴾ ٢.
وقوله: هذه حمارة القيظ"، فالقيظ الصيف، وحمارته: اشتداد حره واحتدامه، وحمارة مما لا يعوز أن يحتج عليه ببيت شعر، لأن"كل"٣ ما كان فيه من الحروف التقاء ساكنين لا يقع في وزن إلا في ضرب" منه"٤ يقال له المتقارب،"فإنه جوز فيه على بعد التقاء الساكنين"٥وهو قوله:
فذاك القصاص وكان التقا ... ص فرضا وحتمًا على المسلمينا
ولو قال: "وكان قصاص فرضًا وحتمًا" كان أجود وأحسن، ولكن قد أجازوا هذا في هذه العروض، ولا نظير له في غيرها من الأعاريض.
وقوله: "ويا طغام الأحلام" فمجاز الطغام عند العرب من لا عقل له، ولا معرفة عنده، وكانوا يقولون: طغام أهل الشأم كما قال:
فما فضل اللبيب على الطغام٦
_________
١ من ر، س.
٢ سورة آل عمران ١١٧.
٣ من ر، س.
٤ من ر.
٥ من ر.
٦ قبله، كما في زيادات ر:
إذا ما كان مثلهم رجاما.
1 / 25