چقدر سن خشم است؟
كم عمر الغضب؟: هيكل وأزمة العقل العربي
ژانرها
إن دراسة العقل المصري وتحليل سماته كما تتمثل في اتجاهات ردود الفعل على هيكل، هي في نظري أهم الأهداف. ولم يكن كتاب هيكل في هذه الحالة، إلا فرصة لكشف أساليب التفكير المستورة، التي تظل في حالة كتمان حتى تطرأ أزمة أو محنة تفجرها، وهكذا سوف أتوقف طويلا عند ردود الفعل، وأخضعها لتحليل سأحاول أن يكون دقيقا، آملا أن أتمكن عن طريقها من إلقاء الضوء على بعض سمات العقل المصري - التي تجمعها روابط مشتركة كثيرة مع العقل العربي بوجه عام - بعد ثلاثين سنة حكم ثورة 23 يوليو.
هذا الرجل (السادات) قد اخترناه جميعا زعيما لهذا البلد، واختيار زعيم فيه تجسيد للشعب الذي اختاره، وبالتالي فإن كل ما يقال عن هذا الزعيم يعتبر في حقيقته نيلا من الشعب الذي اختاره.
قائل هذه الكلمات أستاذ كبير في القانون، في اجتماع للمجلس الأعلى للصحافة خصص لمناقشة كتاب هيكل، ونشرته جريدة «الأهرام» في 29 أبريل 1983م، والأساس الذي يبنى عليه تفكير أستاذ القانون هو أن الحاكم تجسيد لبلده، ما دامت قد اختارته بإرادتها، ومن ثم فإن أي هجوم من هيكل أو غيره على السادات هو هجوم على مصر كلها.
هذا النوع من التفكير بلغ، في السنوات الأخيرة، من الانتشار حدا يحتم علينا أن نتوقف طويلا عنده، فما من أحد منا إلا وتعرض مرارا لتلك التجربة المثيرة والمستفزة، تجربة المناقشة مع شخص يؤكد أن أي نقد للحاكم، هو انتقاص من قدر بلاده، وأن الوطنية الحقة تحتم على المرء ألا يسيء إلى الحكام.
ولا شك أن عبارة أستاذ القانون، السابقة، هي تعبير نموذجي عن وجهة النظر هذه: (أ)
فهو يستخدم لفظ «الزعيم» مرتين، وهي نفس الكلمة التي كان يطلقها النازيون على هتلر (الفوهرر)، والفاشيون على موسوليني (الدوتشي). وليس هذا استخداما اعتباطيا؛ إذ كان يمكنه أن يقول: الحاكم، أو رئيس الدولة، ولكن إصراره على لفظ «الزعيم» هو جزء لا يتجزأ من العقلية التي توحد على نحو مطلق بين شخص الحاكم وبلده. (ب)
وهو يرى هذا الزعيم «تجسيدا» للشعب، ولم يقل «رمزا»؛ لأن الرمز لا يتعين أن يكون مشابها لما يرمز إليه (اللون الأخضر رمز لإمكان مرور السيارات مثلا) بل تفصل بينهما مسافة ما، أما التجسيد فهو اندماج كامل، بل إن الزعيم يصبح في هذه الحالة «خلاصة» شعبه وأنقى تعبير عنه، وهذا يفترض، بطبيعة الحال، أن الشعب كتلة متجانسة لا تمايز فيها، ولا اختلاف ولا تباين في الرأي أو الاتجاه، حتى يستطيع شخص واحد أن يكون تجسيدا له، ومن هنا فمن المؤكد أن الإنكليز، مثلا لا بد أن يسخروا ممن يرى في «تاتشر» تجسيدا لهم، إذ إنها حتى لو كانت تجسد المحافظين، فماذا تقول عن العمال والأحرار؟ وفضلا عن ذلك فإن الزعيم الذي يجسد شعبه هو، بحكم تعريفه، غير قابل للتغيير، وإلا فكيف نتصور أن يتخلص شعب ممن يجسده؟ (ج)
وأخيرا، فإن أستاذ القانون الكبير يتحدث أربع مرات، في أقل من ثلاثة أسطر، عن «اختيار» الشعب للزعيم، وهكذا فإنه، بكل وقار القانون وهيبة الأستاذية، يعلن ثقته المطلقة وتصديقه الكامل لاستفتاءات 99,9٪، ويرى فيها أساسا يسمح للمرء بأن يقول باطمئنان تام وبضمير مستريح: «هذا الرجل قد اخترناه جميعا.»
هذه الكوارث أو الفواجع الفكرية تتجمع كلها في أقل من ثلاثة أسطر، وتعبر بوضوح صارخ عن تدني مستوى الوعي السياسي والاجتماعي، عند من يفترض فيهم أن يكونوا معلمين ومرشدين لغيرهم في هذا الميدان، وهي في واقع الأمر أبلغ دليل على نوع العقول التي توحد بين الحاكم وبلده، وترفض أي نقد للحاكم، بحجة أن هذا النقد إهانة لوطنه ونيل منه. •••
على أن لهذا اللون من التفكير، أعني التوحيد بين الحاكم والوطن، وجها آخر ربما كان أشد حدة، هو ذلك الذي يشيع بين المصريين المغتربين على وجه التخصيص، فظروف الاغتراب تزيد من قوة التوحيد بين البلد وحاكمها، ومن هنا كان من ردود الفعل الأكثر شيوعا، بين المصريين العاملين في البلاد العربية بوجه خاص، استنكار ما كتبه هيكل باعتباره «شتيمة لمصر».
صفحه نامشخص