چقدر سن خشم است؟
كم عمر الغضب؟: هيكل وأزمة العقل العربي
ژانرها
المبدأ الأول: في البدء كان النسيان
إن المتأمل لتقلبات هيكل وتغير مواقفه، يستطيع أن يدرك بوضوح أن النسيان أساس ضروري، يعتمد عليه هذا النوع من المفكرين، من أجل إقناع الناس بآرائهم، ولقد ضربنا أمثلة واضحة، بل صارخة، لتحولات جذرية طرأت على مواقف هيكل من القضايا المصيرية للأمة العربية في ثلاث سنوات متعاقبة: 1970، 1971، 1972م، بحيث بدأ هذه السنوات بموقف راديكالي متشدد، وانتهى - بعد تدرج مرسوم بعناية - إلى موقف شديد الاعتدال، وانعكس اتجاه تأييده المعلن، من الاتحاد السوفييتي إلى الولايات المتحدة، واختلف تصوره للحرب المنتظرة ... إلخ. مثل هذه التحولات الجذرية لا يمكن أن يجرؤ أحد على تقديمها إلى الناس في سنوات متعاقبة كهذه، إلا إذا كان واثقا من أن الناس سرعان ما ينسون، وإنك إذا كررت موقفك الجديد وألححت عليه بما فيه الكفاية، فلن يعود في ذهنهم سواه، ولن يحاسبك أحد على ما قلت من قبل.
إنها عقلية تحتقر ذكاء الجماهير، وتفترض أنها تعيش، وتفكر، يوما بيوم، وتتصور أن كل ما يحتاج إليه السياسي هو أن يكرر الأكذوبة لكي تصبح حقيقة، ولو تصور أحد أن الكاتب نفسه هو الذي ينسى مواقفه السابقة، وليس الجمهور، لكان في ذلك مخطئا أشد الخطأ، فمثل هؤلاء الكتاب، ومعهم الحكام الذين يعملون هم لحسابهم، يتذكرون كل شيء، ولكنهم يؤمنون بأنهم هم وحدهم الأذكياء ، ويسلمون تسليما كاملا بغباء الآخرين، وفي ضوء هذا المبدأ نستطيع أن نفسر جرأة هيكل على اتخاذ عدد كبير من المواقف، التي كانت متعارضة فيما بينها تعارضا شديدا؛ إذ بدأ برفض التجربة الحزبية، وأيد عبد الناصر بكل قوة ولم يقل شيئا عن ممارساته القمعية، ثم شارك في تحطيم أقرب أعوان عبد الناصر، ومهد الطريق بكل ما يملك من قوة لعهد هدم كل الأسس التي قامت عليها سياسة عبد الناصر، وساند حياد عبد الناصر الإيجابي، وتوجهه بالتالي نحو السوفييت، ثم توجه السادات نحو أمريكا، ثم عاد أخيرا يتباكى على أيام التوازن الاستراتيجي بين السوفييت والأمريكان، ومشى مهللا ومصفقا في جنازة الديمقراطية في النصف الأول من الخمسينيات، وشارك في تحديد وتبرير الاتجاهات الرئيسية للحكم الفردي، ثم بكى لوعة على الديمقراطية الضائعة في آخر عهد السادات، ورفع السادات في أول عهده إلى عنان السماء، ثم اتضح لنا أخيرا أنه كان يعرف عن طفولة السادات وشبابه وكهولته معلومات مشينة مخجلة ...
أكان في استطاعة أي إنسان أن يتقلب بين هذه المواقف لو لم يكن يرتكز على مبدأ سياسي، هو أن الإنسان حيوان ناس، وأن فقدان الذاكرة صفة مشتركة بين جميع البشر، وأن عقول الناس تعمل يوما بيوم، ولا تربط الماضي بالحاضر، أو الأمس باليوم، وإنه هو وحده الذكي، «الفهلوي»، الذي يستطيع أن يغير مواقفه دون أن يتنبه لذلك أحد؟
المبدأ الثاني: ديمقراطية «أنا وحدي»
في حديث قريب العهد لهيكل،
2
يتحدث ببطولة عن موقف حازم، وقفه ضد وزير طالبه بأن يعرض مقالاته على الرقابة قبل ثلاثة أيام من نشرها، فرفض هيكل بشدة، وأرسل إليه يقول: «إنني لا أستطيع أن أكتب وفي ضميري أن ورائي من سوف يجري بقلمه على ما أكتب ...» ثم يقول: «إنني لم أكتب بانتظام، وتحت عنوان: بصراحة، إلا بناء على اتفاق مع الرئيس عبد الناصر ألا يخضع شيء مما أكتبه للرقابة.»
موقف رائع، بطولي، أليس كذلك؟ ومع ذلك فإن دلالات هذا الموقف محزنة ومؤسفة، والمؤلم حقا أن هيكل يتحدث عن هذا الموقف في معرض التفاخر، ودون أن يلمح من ورائه شيئا آخر. إن هيكل هنا يجعل نفسه فئة قائمة بذاتها، فئة مستثناة، فجميع الكتاب الآخرين يخضعون للرقابة، أما هو فقد اتفق مع عبد الناصر على أن يكتب بلا رقيب، وأعجب ما في الأمر أنه على وعي بالاختناق الذي يصيب الكاتب من جراء الرقابة، ويدرك بوضوح كيف أن قلم الرقيب يشل ضمير الكاتب، ومع ذلك فإنه لم يحاول أن يعالج القضية بالنسبة إلى الجميع، أو يكتب إلى المسئولين منتقدا «مبدأ» الرقابة، وإنما كتب يقول: لا بد أن أنال حريتي ... أنا وحدي! وتكتمل المأساة حين يصور هذا الموقف كما لو كان بطولة عظيمة، وتنشره الصحيفة المعارضة دون أن تعلق عليه أو تستخلص دلالاته.
ولقد أثبت هيكل في مواقف أخرى كثيرة، أنه يقف بحزم ضد التصرفات الاستبدادية، عندما تمسه شخصيا، أو تمس المقربين منه، ويتمسك «بالإعفاء الشخصي» من تجاوزات الحكام، ولكنه لا يحاول الدفاع عن «المبدأ» نفسه، أو أن «يحب لأخيه ما يحب لنفسه.» كما تقول النصيحة المشهورة. فحقوق الآخرين لا أهمية لها ما دام حقه الخاص مكفولا، وإذا حلت مشكلته الشخصية، مع أجهزة قمع الحريات، فإن كل شيء يصبح على ما يرام ... هذا، في نظر هيكل، هو الوضع الطبيعي، أما ما يتجاوز ذلك فلا يهمه في شيء.
صفحه نامشخص