الأخلاق، وتقسيمها إلى غريزية ومكتسبة
علم الأخلاق، وتقسيمه إلى نظري وعلمي
الاعتراضات على علم الأخلاق النظري، ومناقشتها
الأخلاق الفلسفية، والأخلاق الدينية
علاقة علم الأخلاق بالتربية
الأخلاق، وتقسيمها إلى غريزية ومكتسبة
علم الأخلاق، وتقسيمه إلى نظري وعلمي
الاعتراضات على علم الأخلاق النظري، ومناقشتها
الأخلاق الفلسفية، والأخلاق الدينية
علاقة علم الأخلاق بالتربية
كلمات في مبادئ علم الأخلاق
كلمات في مبادئ علم الأخلاق
تأليف
محمد عبد الله دراز
الأخلاق، وتقسيمها إلى غريزية ومكتسبة
يقول صاحب القاموس: الخلق هو الطبع والسجية ...
ويقول ابن الأثير في النهاية: حقيقة الخلق أنه لصورة الإنسان الباطنة - وهي النفس وأوصافها ومعانيها - بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة.
ويقول ابن مسكويه: الخلق حال للنفس داعية لها إلى أفعالها من غير فكر ولا روية.
وزاده الغزالي بسطا، فقال: «يقال فلان حسن الخلق والخلق؛ أي حسن الظاهر والباطن ... فالخلق عبارة عن هيئة راسخة في النفس، تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر، من غير فكر ولا روية.» •••
الخلق إذن هيئة أو صفة للنفس ...
غير أن النفس قوى مختلفة، ووظائف متنوعة؛ فهناك ملكات الإدراك، والتفكير، والحكم، والتخيل، والتذكر، وهناك الوجدانات والانفعالات، وهناك الغرائز والنزعات. فإذا كانت هذه القوى النفسية كلها تصدر عنها آثارها في سهولة ويسر، هل يسوغ لنا أن نسمي شيئا منها خلقا؟ ... كلا!
نحن بحاجة إذن إلى مزيد إيضاح وتحديد، تتميز به حقيقة المقصود من هذه التسمية، وينجلي به الإبهام الذي تنطوي عليه التعريفات السابقة.
ونبادر فنقول: إن الخلق ليس صفة للنفس في جملتها، ولكن في جانب معين من جوانبها. وليس هذا الجانب هو جانب العقل والمعرفة، ولا جانب الشعور والعاطفة؛ وإنما هو جانب القصد والإرادة.
ونضيف إلى هذا التقييد تقييدا آخر، فنقول: إن الخلق يتعلق بنوع خاص من الأهداف الإرادية، وهو تلك الأهداف التي ينشأ عن اختيارها وصف يعود على النفس بأنها خيرة أو شريرة.
من هاتين الخاصتين نستطيع أن ننظم التعريف التالي: «الخلق هو قوة راسخة في الإرادة، تنزع بها إلى اختيار ما هو خير وصلاح - إن كان الخلق حميدا - أو إلى اختيار ما هو شر وجور - إن كان الخلق ذميما.»
هكذا تتميز الحقيقة الخلقية عما عداها من الصفات النفسية.
ألا ترى أن جودة الذاكرة أو ضعفها، وسلامة الذوق أو سقمه، وبراعة الخيال أو تبذله، وحدة الذهن أو تبلده، لا مدخل لها في موازين الأخلاق، ولا يسري منها الحكم على صاحبها بأنه بر أو فاجر، تقي أو آثم؟
1
ثم ألا ترى أن من الأعمال الإرادية نفسها طائفة يستوي فعلها وتركها، فتدخل بذلك في نطاق المباحات، بحيث لا يترتب على فعلها مدح ولا ذم، ولا يقال لصاحبها إنه أحسن أو أساء؟ فهي خارجة أيضا عن موضوع البحث. وكذلك الأعمال الإرادية التي يترتب عليها مدح أو ذم، بمعناهما الأدبي أو الفني؛ كإجادة البيان، وإتقان التصوير، أو إساءتهما؛ فهنالك يكون المدح والقدح والإحسان والإساءة أحكاما تشابه في صورتها الأحكام الأخلاقية، ولكنها في المعنى ليست منها بسبيل؛ لأن الذي لا يحسن التعبير أو التصوير لا يقال إنه آثم أو شرير.
هذا، وينبغي ألا يشتبه علينا الفرق بين الخلق والسلوك.
فالخلق كما قلنا أمر معنوي، وهو صفة النفس وسجيتها. أما السلوك فهو أسلوب الأعمال ونهجها وعادتها، وما هو إلا مظهر الخلق ومرآته ودليله.
وإنه لكي تكون الأفعال علامة صحيحة على خلق صاحبها، لا بد أن يجتمع فيها عنصران؛ أحدهما: أن تتكرر الأفعال على نسق معين حتى تكون عادة مستقرة، وحتى تدل على قوة راسخة ونزعة ثابتة إلى هذه الأفعال؛ فإن الذي يدل على خلق المرء هو جملة تصرفاته في عامة الأوقات والأحوال المختلفة لا في النادر منها. الثاني: أن تقوم الأمارات على أن هذه الأفعال صادرة بطريقة انبعاثية عن النفس، وليست أثرا لأسباب خارجية، من الخوف أو الرجاء، أو الحياة أو الرياء، أو نحوها؛ مما يجعل صدور الأعمال تكلفا وتصنعا على خلاف سجية صاحبها، ويجعلنا نحكم بأن خلقه الحقيقي على النقيض مما يوحي به ظاهر هذه الأفعال.
وكما تتجلى العادات المستقرة في ثوب إيجابي، قد تبدو لنا في صورة سلبية. وهنا أيضا ينبغي أن نكون في يقظة وحذر عند إصدار أحكامنا؛ إذ قد يخفى علينا الخلق الحقيقي، لعدم البواعث والأسباب التي تقتضي ظهوره؛ كالفقير الذي لا يجد ما ينفقه، مع أن في نفسه نزعة البذل والسخاء، فلا تحكم عليه بالبخل لمجرد عدم إنفاقه، وكالشره الذي لا يجد ما يتناوله، فلا تحكم له بالعفة حتى تتهيأ الملابسات التي تبدي لنا كامن سجيته وشيمته. •••
سيقول قائل: إذا كان خلق الإنسان كما ذكرتم هو مزاج روحه، وهيئة نفسه الراسخة فيها، على غرارة الصورة الخلقية لبدنه، ألا يكون ذلك اعترافا من أول الأمر بأن الأخلاق فطرية دائما، لا سبيل إلى تغيير ما وجد منها، ولا إلى اكتساب ما ليس بحاصل فيها؟ وهذا الاعتراف ينطبق بلا ريب على بعض وجوه النظر في المسألة، ولكنه لا يساير جملة المذاهب فيها. فإذا سلمتموه أصبح علم الأخلاق وليس له موضوع متفق عليه، مسلم الثبوت في نفسه.
نقول: كلا، إن التعريفات المذكورة للخلق لا تنطوي على الاعتراف بشيء من هذه اللوازم؛ ذلك أننا نسمي خلقا كل قوة إرادية راسخة، نزاعة إلى الخير أو إلى الشر، سواء أكان هذا الرسوخ في كل أحواله من عمل الفطرة والجبلة ليس غير، كما يقول أهل الجبر، أم كان يحصل تارة بالجبلة والغريزة، وتارة بالكسب والرياضة، كما يقول غيرهم.
فها هنا إذن مذهبان، يجمل بنا تعرفهما، وبسط وجهة نظرهما.
فأما غلاة أهل الجبر، فهذا نموذج من أقوالهم:
يقول شوبنهاور (الفيلسوف الألماني): يولد الناس أخيارا أو أشرارا، كما يولد الحمل وديعا، والنمر مفترسا. وليس لعلم الأخلاق إلا أن يصف سيرة الناس وعوائدهم، كما يصف التاريخ الطبيعي حياة الحيوان.
ويقول كانت (الفيلسوف الألماني أيضا): إن الذي يشاهد موقف الإنسان في ظرف معين، ويعرف سوابق تصرفاته في مثل هذا الموقف، يستطيع أن يتنبأ تنبؤا صادقا بما سيفعله في هذا الظرف المعين، كما يتنبأ العالم الفلكي بكسوف الشمس وخسوف القمر في ساعة محدودة.
ويقول سبينوزا (الفيلسوف الهولندي): إن أفعال الناس، كغيرها من سائر الظواهر الطبيعية، تحدث ويمكن استنتاجها بالضرورة المنطقية الهندسية، كما يستنتج من طبيعة المثلث أن زواياه الثلاث تساوي زاويتين قائمتين.
ويقول ليفي بريل (الفيلسوف الفرنسي): إن ميولنا الحسنة أو القبيحة التي نجيء بها إلى هذا العالم عند ولادتنا، هي طبيعتنا. فكيف نكون مسئولين عن طبيعة، هي ليست من عملنا، أو على الأقل ليست من عملنا الشعوري الاختياري؟
ويقول هيوم (الفيلسوف الإنجليزي): إن شعورنا بالحرية ليس إلا وهما خداعا.
أولئك فريق من فلاسفة أوروبا، غلب على عصرهم البحث في القوى المادية وطبائعها، ورأوا ما فيها من قوانين علمية ثابتة، فأرادوا أن يبسطوا نتائجها على سائر العلوم ... حتى الاجتماعية، والأخلاقية. فهم لذلك يصورون لنا الإرادة الإنسانية سجينة في نطاق حديدي من الغرائز والطبائع، ويصورون لنا البشرية كلها عاجزة عن التحول والتطور. ففيم إذن كان إنزال الكتب وإرسال الرسل؟ وفيم إذن وضعت الشرائع والقوانين؟ وفيم كان ويكون عمل المؤدبين والمربين؟ ألا يكون ذلك كله عناء بغير جدوى؟ أولا تكون دراسة الأخلاق نفسها ملهاة أو شبه ملهاة؟!
أما أنصار الحرية والتقدم فإنهم لا يرون في هذه المقالات جميعها إلا ضروبا من الدعوة المجردة، أو السفسطة المموهة، أو الخلط بين موضوع الأخلاق وغيره، كما سنبينه فيما يلي: (1)
وأول ما نلاحظه على هذه الأقاويل شذوذها على إجماع المفكرين الأسبقين؛ فإن هؤلاء المفكرين وإن اختلفوا في شأن الفطرة الإنسانية على مذاهب ثلاثة
2
إلا أنهم من جهة جعلوا هذه الفطرة عامة في جنس البشر، فلم يزعموا أنها خيرة في البعض شريرة في البعض، بل هي إما هذا، وإما ذاك، وإما كلاهما معا، في الجميع. ومن جهة أخرى فإنهم اتفقوا ثلاثتهم على قبول هذه الفطرة للتغير والتبدل؛ وذلك إما لامتزاج هذه الفطرة وتركبها (كما في المذهب الثالث)، وإما لمرونتها وقبولها للانقلاب (كما في المذهبين الأولين). (2)
فإذا سلمنا أن فطرة الخير والشر ليست موزعة على السواء في البشر، واعترفنا بأن بعض
3
الناس يولد خيرا بطبعه، وبعضهم يولد شريرا بطبعه، فإننا نفهم من هذه الأسبقية في ظهور أحد الطبعين منذ الطفولة أن يكون التحول إلى الطبع المقابل له أصعب وأبطأ، لتوقفه على عوامل خارجية جديدة . لكن أي دليل يدل على أن الطبع البدائي الذي يولد عليه الحيوان، بل الإنسان، يصل إلى ذلك الحد الذي وصفوه لنا من الجمود والاستعصاء على كل تحويل وتبديل؟
يجيب الجامدون المتشائمون، وهم الذين يسميهم الغزالي أهل البطالة والكسل، محتجين على دعواهم بحجتين؛ الأولى: مقايسة نظرية، وهي أنه كما لا يمكن الإنسان تحويل خلقته الظاهرية من الدمامة إلى الوسامة، كذلك لا يمكنه تغيير طبيعته الباطنة من الشرية إلى الخيرية؛ إذ لا فرق بين فطرة وفطرة، كلاهما من صنع الله، الذي لا تبديل لخلقه. الحجة الثانية: تجربة عملية، وهي أن كثيرا من أهل المجاهدة والرياضة حاولوا في أنفسهم تحطيم قوتي الشهوة والغضب، وإسكات غريزتي الأمل والألم، فباءوا بالفشل. وإذا كانت هذه هي الوسيلة الوحيدة لاكتساب الخلق الحميد، وقد ثبت استحالتها، كانت غايتها محالة كذلك.
ونحن ندحض هاتين الحجتين، واحدة واحدة، على عكس ترتيبهما: (3)
أما الحجة العملية فإن الدليل التجريبي قائم على عكس ما زعموا فيها؛ فقد وفق الإنسان في كل عصوره إلى نقل طباع الحيوان من النفور إلى الإلف، ومن الصعوبة والحزونة إلى السلاسة والانقياد، ومن اعوجاج السير واضطرابه إلى اعتداله وانتظامه ... حتى إن الإنسان ليرقص الخيل، ويلاعب الطير، ويعلم الجوارح ألا تطعم مما تمسكه لربها وهي في أشد الحاجة إليه ... فإذا كان هذا هو الشأن في غرائز العجماوات، فكيف بالغرائز الإنسانية التي أثبت علم النفس المقارن أنها أسلس قيادا، وأعظم مرونة، بسبب تنوعها وتعارضها
4
وقبولها للمزج والتعديل بينها بترجيح بعضها على بعض؟ (4)
ولو سلمنا جدلا استعصاء الطباع الإنسانية في أنفسها على المحو والإثبات، فإننا لا نسلم استعصاءها على التهذيب والتنظيم. ألا وإننا ليس يلزمنا في تصحيح مذهبنا أن نثبت لأنفسنا سلطانا على قلب طباعنا وتحويل جرثومتها الأولى، بل يكفينا أن نثبت اقتدارنا على تعقيم هذه الجرثومة أو على إخصابها، ثم على تربيتها بعد ذلك أو إهمالها. ومثل ذلك مثل حبتي عنب وحنظل؛ فإنك لست ببالغ ولو حرصت أن تجعل العنب حنظلا أو الحنظل عنبا، ولكنك تملك أن تضع إحدى الحبتين أو كلتيهما على صخرة جافة ملساء لا تغذيها تربة ولا يرويها ماء، فلا تعطيك زهرا ولا ثمرا؛ وتملك أن تضعها في أرض طيبة تؤويها من الأعاصير، وتحميها من الحشرات والطفيليات، ثم تتعهدها بالماء والسماد، حتى تنبت لك النبات الذي تؤهلها له طبيعتها، ثم لا تزال تلاحقها، تقويما لأغصانها، وتهذيبا لأشواكها، وتسوية لها طولا أو عرضا على الشكل والمقدار الذي ترضاه لها. فكذلك الروح وما فيها من قابليات واستعدادات، وسجايا وجبلات، لا تستطيع أن تبدل عناصرها تبديلا، ولكنك أهل لأن تتعهد عناصر الخير فيها؛ إمدادا بماء العلوم والمعارف، ورفدا بالعمل الصالح، وصقلا وجلاء، بالندم على السقطات والزلات، وبما شئت من تزكية وتنمية، كما قال الله تعالى:
خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ، وأنت أهل كذلك لأن تدع مرآتها يعلوها صدأ الجهل، وتغشاها عدوى خلطاء السوء، وتتراكم عليها أنقاض العادات الذميمة، كما قال الله تعالى:
كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون .
وبالجملة فإنما يكون الجهاد الخلقي عبثا في أحد افتراضين لا ثالث لهما: أن تكون النفس الإنسانية قد خلقت خلقا كاملا مستجمعا لكل أطوارها، أو أن تكون خلقت بتراء جامدة غير قابلة للكمال. أما وهي كما قال الغزالي ناقصة بالفعل ولكنها منطوية على إمكانيات الكمال، قابلة بالقوة لما شاء الله من درجات الترقي والتدلي، فقد اتسع ميدان الجهاد أمام كل مجاهد. وذلك كله مما توحي به الآيات القرآنية الكريمة، حيث يقول الله تعالى:
ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها ، فجعل تسوية النفس من فعل البارئ المصور، ولكنه جعل تزكيتها أو تدسيتها من عمل الإنسان.
وهكذا تسقط حجة المعارضة بشقيها النظري والعملي.
ذلك أننا نقبل تحديهم لنا بالمقايسة على الخلقة البدنية، ونقول إننا وإن لم نملك أن نغير طبيعة أبداننا وأن ننشئها خلقا آخر، فإننا نملك أن نعالجها من أمراضها، وأن نهذب شذوذها بتقليم الأظفار، وإزالة ما يغشاها من الشعث والغبار، وأن نجملها بما نشاء من الزينة الظاهرة. وإن رسالتنا في الجهاد الروحي لا تعدو هذا النمط. وكذلك نقبل الحجة التجريبية ونقول إننا ليس علينا أن نمحو من أنفسنا غريزتي الشهوة والغضب كما زعم المجادل. كيف وهما أداتنا في الحياة، لاجتلاب نفعها، واستدفاع ضرها؟ فمثل غريزة التشهي والتمني كمثل كلب الصيد الذي تبعثه في طلب رزقك. ومثل غريزة الألم والغضب كمثل كلب الحراسة الذي تدفع به اللصوص والمعتدين عن نفسك وحريمك. فكما أنه ليس من الحكمة والرشد أن تقتل كلبيك، كذلك ليس من الحكمة والرشد أن تقتل غريزتي الغضب والشهوة فيك، ولكن عليك أن تعلم كلب صيدك ألا يختطف الطير الأليف المملوك، وأن تعلم كلب حراستك ألا ينبح في وجه الضيفان. وهكذا واجبك أن تنظم سير غرائزك إقداما أو إحجاما، على مقتضى قانون الشرع والعقل. وإذا كانت التجربة القاصرة الناقصة قد فشلت في هذه المهمة، فإن التجربة الصابرة المثابرة، التي لا يزيدها الإخفاق إلا معاودة وإلحاحا وتشبثا بالمثل العليا، قد أثبتت دائما نجاحها وانتصارها، تشهد بذلك سير الحكماء والمربين، في أنفسهم وفي تلاميذهم. (5)
وبعد فإننا نلاحظ أن في دعوة المعارضة إحاطة وتعميما، في مقام كان حقه التفصيل والتقسيم. ذلك أن ها هنا فصيلتين من السجايا: (1)
طباعا قاصرة الأثر على نفسية صاحبها، بمعني أنها لا تهتف به إلى عمل حميد أو ذميم. (2)
وطباعا حافزة له على الخير أو الشر.
ولعل أكثر ما جربه المعترضون هو من قبيل الفصيلة الأولى.
فهم إذا قالوا لنا مثلا: إن المرء قد يولد متفائلا أو متشائما، مرحا أو كئيبا، ألمعي الذهن أو بطيء الإدراك، ذكورا أو شديد النسيان، متذوقا للفن أو محروما من حاسة الجمال، نزاعا للانطواء، كثير الانزواء، أو ميالا للخلطة نفورا من الوحدة، وإنه لا حيلة له في تغيير هذه السجايا، قلنا: وماذا يضيرنا هذا العجز إذا كانت هذه الصفات المتقابلة لا تمنع أصحابها - في أي الطرفين فرضوا - أن يكونوا فضلاء أتقياء، مؤدين لواجباتهم نحو الخالق والمخلوق؟
فهذه الفصيلة كلها لا صلة لها بقانون الأخلاق، ولا تنقض مذهب الجمهور فيه.
وإنما الذي يتصل بموضوعنا من الطباع الإنسانية هو ما يكون منها ذا نزعة عملية نحو الفضيلة أو الرذيلة، كما لو قيل لنا إن صنفا من الناس ينشأ منذ طفولته شجاعا جريئا مغامرا، وصنفا آخر ينشأ جبانا مترددا رعديدا، وإن الرجل قد يولد سخيا أو شحيحا، لين العريكة أو شكسا خشن الجانب، إلى نحو ذلك؛ وإن كل ضرب من هذه الأخلاق يوحي إلى إرادة صاحبه حتما تنفيذ مقتضي جبلته.
فنقول: ها هنا أيضا يجب أن نفصل بين الإيحاء وقبول الإيحاء. فكل عمل الطبيعة والجبلة أنها تدعونا وتلح علينا أن نتخذ اتجاها معينا في سيرنا؛ ولكن في وسعنا نحن أن نلبي الدعاء، وأن نرفض الرجاء. وما أحكم التعبير القرآني البليغ حين يقول:
إن النفس لأمارة بالسوء ، فلم يقل: لحاكمة بالسوء أو لملجئة إلى السوء. ولنستمع إلى قوله سبحانه حين يحكي محاجة الشيطان لأوليائه وقوله لهم:
وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ، هكذا حصر كل سلطانه في مجرد الدعوة، وألقى عليهم المسئولية بأنهم هم الذين استجابوا لتلك الدعوة. ذلك أن المسئولية إنما تتقرر في الأعمال الإرادية، والإرادة وإن كانت جهازا متصلا بسائر الأجهزة النفسية، إلا أنها في الوقت نفسه منفصلة عنها. وبعبارة أخري إنها متصلة بها اتصال استشارة واستنارة، وليس اتصال ائتمار وارتباط آلي ولا شبه آلي. فموقف الإرادة في استقلالها عن العواطف والنزعات، وعن الأفكار والذكريات، وغيرها، مع ارتباطها بها في المجموعة النفسية، كموقف القاضي في استقلاله بالنطق بالحكم. مع ارتباطه بجهاز العدالة كله، من اتهام وشهادة، وحجاج ودفاع؛ أو كملك له بطانتان تصف له إحداهما الخير وتحببه فيه، وتزين له أخراهما السوء وتغريه به. والأمر في النهاية إليه. (6)
وأخيرا فإننا نستطيع أن نتنزل مع هؤلاء الجبريين إلى النهاية، وأن نسلم جدلا كل المقدمات التي سبقت مناقشتها؛ فنسلم لهم أول كل شيء أن الناس ليسوا في الجبلة العامة، وأن الطبيعة تؤهل كل طائفة منهم لناحية معينة من السلوك في الحياة، ثم نسلم لهم أن هذا الميل الطبيعي لا حيلة للمرء في نزعه ومحوه، ولا في تنظيم آثاره؛ ونسلم أخيرا أن هذا العجز لا يسري على الطباع العادية وحدها، بل على السجايا المتصلة بصميم السلوك الأخلاقي كذلك.
غير أننا نلفت نظرهم بعد هذا كله إلى أنهم، حين يتحدثون عن جمود الطباع واستعصائها، إنما يتحدثون عن ذلك الطبع الذي يستنتج بالظن من العادة المستمرة للمرء في سلوكه، لا عن الطبع الحقيقي الكامن الدفين، الذي قد تغطيه طبقة سميكة من عوائدنا الشخصية، أو الوراثية، أو السارية إلينا من عدوى المجتمع؛ حتى إنه ليخفى أمره على الناقد البصير، بل قد يخفى على المرء نفسه كنه نزعاته وميوله، وينخدع في حكمه على استعداداته؛ إما لقلة عنايته بتحليلها، وإما لفقد الفرص المواتية لظهورها؛ كما يجهل الزوج الذي لم يرزق ولدا قط مبلغ حنان الأبوة ورأفتها، وكما يجهل طالب العلم كنه ميوله الأدبية أو العلمية، في فترة طويلة من سني دراسته، وكما يجهل الجندي مدى قدرته على سياسة الجماعة وتصريف أمورها؛ لأنه لم يتول أمر القيادة يوما ما، فإذا تغيرت ظروف كل واحد منهم أشرقت فيه صفات وملكات جديدة، وعرف من نفسه ما كان ينكره منها، بل رب كلمة نصح تصادف القلب، ورب حادث مفاجئ يصدم الشعور، فإذا مجرى الحياة كلها قد تغير في طرفة عين، وإذا المعوج يعود مستقيما، والفاجر العربيد تقيا نقيا.
وجملة القول في هذا الوجه أننا إذا سلمنا أن الرياضة والمعالجة وتقليب وجوه التجارب لا تخلق طبعا جديدا، فإنها على الأقل تكشف
5
لنا من الطباع الحقيقية ما لم يكن في حسبان أحد وجود جرثومته في النفس، وكفى بهذا فائدة للتربية والتهذيب.
وهكذا يتبين لنا أن الذي يعتمد على ظواهر السلوك وعلى مجاري العادات في حكمه بعدم تطور الطباع، إنما يعتمد على جرف هار؛ وأن مثله كمثل من يحكم على الصحراء القاحلة الجرداء بأنها لا تقبل الإنبات، دون أن يجرب سقيها وحرثها ومعالجتها بسائر ضروب المعالجة.
فعلة ما يتوهمه الناس من جمود الطباع هو هذا اليأس، وهو فقد الثقة بالنفس. ومفتاح الخير كله في العمل والأمل، واليقظة والجد، والحرص على الإصلاح والتقدم. وتلك هي الوصية الذهبية التي أوصانا بها صاحب الرسالة حين يقول: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز.» وتلك هي حقيقة الجهاد الأعظم الذي قال فيه الرسول الكريم: «المجاهد من جاهد نفسه.» وقد وعد الله الذين يحافظون على عمل الصالحات بأن يصير الصلاح ملكة لهم، فقال:
والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين ، كما وعد المجاهدين لأنفسهم بإبلاغهم غايتهم من الهداية، فقال جل شأنه:
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ، وهي آية مكية لا تعرف الكفاح بالسيف، ولكن بالصبر والقناعة، وقوة الإرادة، وتحدي المغريات والمثيرات، والصمود أمامها كالصخرة الراسية أمام الرياح العاتية. وقد جاء في الحديث الصحيح أن الرجل لا يزال يصدق ويتحرى الصدق حتى يكون صديقا. ومن أوضح الأحاديث الصحيحة في الدلالة على فضل الجلد والمثابرة وأثرهما في إزالة الرعونات الجبلية، وتكوين الخلق الحميد المضاد لها، قوله عليه السلام: «وإنه من يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله.»
والله ولي التوفيق.
علم الأخلاق، وتقسيمه إلى نظري وعلمي
لقد يكون في وسع الإنسان أن يستغني طول حياته عن بعض مسائل العلم والمعرفة، فلا تخطر له ببال، بل قد يستطيع أن يستغني عنها جميعها فترة طويلة أو قصيرة من عمره ... ولكن أحدا لن يستطيع أن يخلي همه من المسألة الأخلاقية طرفة عين.
إنها ضرورة الحياة العملية: عند كل حركة أو سكون، وعند كل نطق أو سكوت، وعند كل هم بفعل أو قول، تلجئ كل واحد منا أن يستفتي نفسه: هل يحسن به أن يقدم أو يحجم. وإنها ضرورة الحياة العملية، تطالب كل واحد منا بالجواب السريع على هذا الاستفتاء، قبل أن يفوت وقت العمل، وتطالبه بأن يكون جوابه مسببا، معتمدا على مبدأ يرضاه قاعدة لسلوكه، ومعيارا لحكمه وتقديره، أخطأ في ذلك أم أصاب، أساء أم أحسن في اختيار القواعد والأسباب.
من هنا مست حاجة كل عاقل إلى أن يكون عنده قانون حاضر يلقنه الجواب الصحيح عند كل استفتاء، ويعصم إرادته عن الخطأ في التوجه والاختيار.
ذلك القانون هو علم الأخلاق.
فهو جملة القواعد التي ترسم لنا طريق السلوك الحميد، وتحدد لنا بواعثه وأهدافه.
هذا إجمال له تفصيله؛ فكلمة «علم الأخلاق» لفظ مشترك بين نوعين من البحث:
أحدهما:
بحث عن أنواع الملكات الفاضلة التي يجب علينا التحلي بها؛ كالإخلاص والصدق، والعفة والشجاعة، والعدل والوفاء، وأمثالها. ويسمي «علم الأخلاق العملي». وهذا النوع في الحقيقة هو أمس الضربين بالحياة، وأحقهما بأن يكون نبراسا في كل يد. فهو الغذاء اليومي، بل هو الواجب العيني، ولذلك لا تكاد تخلو أمة في القديم والحديث من معرفته والحث على آدابه التي تصل إليها بالفطرة، أو بالفكر، أو بالتجربة، أو بالوراثة والرواية.
والثاني:
بحث عن المبادئ الكلية والمعاني الجامعة التي تشتق منها تلك الواجبات الفرعية؛ كالبحث عن حقيقة الخير المطلق، وفكر الفضيلة من حيث هي، وعن مصدر الإيجاب ومنبعه، وعن مقاصد العمل البعيدة، وأهدافه العليا، ونحو ذلك. ويسمى «فلسفة الأخلاق» أو «علم الأخلاق النظري»، وهو من علم الأخلاق العملي بمنزلة أصول الفقه من الفقه.فهو شأن الخواص والمجتهدين، ولا يطلب من غيرهم إلا كما تطلب النافلة بعد تمام الفريضة؛ ولذلك لا نجد له من الأقدمية ولا من الشمول ما لعلم الأخلاق العملي.
فالوثائق التاريخية التي وصلت إلينا لا تشير إلى أن قدماء المصريين عرفوا هذا النوع من الفلسفة، إلى جانب الفلسفة النظرية المعروفة لهم في الإلهيات والكونيات، ولعل فلاسفة اليونان هم أول من قسم الفلسفة إلى قسمين؛ «فلسفة نظرية» تبحث عما يجب علمه واعتقاده، و«فلسفة عملية» تبحث عما يجب عمله والتحلي به.
ومعني كون فلسفة الأخلاق فلسفة عملية أنها تتعلق بالعمل، لا أنها هي من نوع العمل؛ فإن الفلسفة كلها بحوث نظرية وإن اختلفت مادتها وموضوعها. فإذا تعلقت بالحق الذي يعتقد، كانت نظرية في أداتها، وفي موضوعها معا. وإذا تعلقت بالخير الذي يفعل، كانت نظرية في أداتها، عملية في موضوعها، بل علم الأخلاق العملي نفسه هو أيضا من قبيل النظر لا العمل، وإن كان العمل مادته كما هو مادة العلم النظري؛ مع هذا الفارق الوحيد بينهما: وهو أن العمل الذي هو موضوع العلم العملي أنواع من الأفعال لها مثال في الخارج، كالصدق والعدل ونحوهما؛ بينما موضوع العلم النظري هو جنس العمل المطلق، وفكرته المجردة، التي لا يتحقق مسماها خارجا إلا في ضمن الأنواع التي يبحث عنها العلم العملي، تلك الأنواع التي تعد من قبيل الوسائل لتحقيق الخير المطلق أو الفضيلة الكلية التي يبحث عنها العلم النظري.
وهكذا يمكن اعتبار القسم العملي «فنا» أي علما تطبيقيا، بالنسبة للقسم النظري، ويمكن اعتباره في الوقت نفسه «علما نظريا»، بالقياس إلى ضروب التخلق وأساليب السلوك، التي هي التطبيق الفعلي الحقيقي لقواعد ذلك العلم.
ومن تأمل ضروب الواجبات الأخلاقية وكثرتها وتزاحمها على الأوقات، وشدة الحاجة في تطبيقها إلى دقة في الفهم، وسلامة في الذوق، وحكمة في السياسة، للتوفيق بين مختلف المطالب الحيوية والاجتماعية والروحية وغيرها، على نسب قد تختلف باختلاف الظروف والملابسات، أدرك أن السلوك الأخلاقي جدير بأن يعد فنا من أرقى الفنون الجميلة، لمن عرف كيف يؤلف من حياته اليومية صفة منسقة كاملة، على منهاج قول الرسول ذي الخلق العظيم: «إن لربك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا، وإن لزورك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه.»
الاعتراضات على علم الأخلاق النظري، ومناقشتها
في القرن الماضي (التاسع عشر الميلادي) ظهرت في فرنسا مدرسة فلسفية جديدة، أسمت نفسها «المدرسة الاجتماعية»، ومهد لها «أوجيست كونت» بفلسفته الواقعية، وكان من أكبر دعاتها «إميل دوركايم» و«ليسيان ليفي بريل»، اللذان حاولا هدم النظريات القديمة في الدين، والفلسفة، والمنطق، والأخلاق، قائلين إنها لا تهبط من السماء، ولا تنبع من عقلية الفرد، بل هي وليدة العقل المشترك، الذي هو ضرورة من ضرورات الحياة الاجتماعية.
ولنقصر بحثنا هنا على الحملات التي وجهتها هذه المدرسة إلى علم الأخلاق، فقد ذهب «ليفي بريل» في كتابه الذي وضعه في أول هذا القرن «العشرين» تحت عنوان «الأخلاق وعلم الآداب العرفية» إلى أنه لا يوجد ولا يمكن أن يوجد علم نظري للأخلاق، وأيد دعواه بأربعة أوجه، نوجزها فيما يلي: (1) أن فكرة «فلسفة عملية» هي ذاتها فكرة متناقضة. (2) أنها على فرض إمكانها فإنها عبث ليس له جدوى. (3)، (4) أنها مبنية على فرضين غير مسلمين؛ أحدهما: أن الفطرة الإنسانية واحدة في الناس جميعا، لا تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، والثاني: أن الوجدان الخلقي وحدة لا تتنازعها العوامل المتباينة، وأن الواجبات الأخلاقية مجموعة متماسكة لا تنافر فيها ولا تعارض.
وسنرى عند بسط هذه الاعتراضات أنها وإن كانت تتجه في شطرها الأول إلى إبطال القسم النظري وحده، إلا أن شطرها الأخير يهدف إلى إبطال القسمين: النظري، والعملي جميعا. والواقع أن مهمة هذه الفلسفة محو كلمة الوجوب من معاجم الأخلاق كلية، بحجة أن السؤال «عما يجب أن يكون» لا محل له في العلوم، وأن مطلب العلم إنما هو البحث «عما هو كائن» فالذي تطلب دراسته في الأخلاق هو: «ماذا يفعل المجتمع في الواقع؟ وماذا يترك؟» وهكذا يريدون أن يصبح علم الأخلاق فرعا من فروع علم الاجتماع، يسمى علم الآداب العرفية، أو علم الاجتماع الأخلاقي، وتقتصر مهمته على وصف سلوك الناس وأخلاقهم على ما هي عليه لا كما يجب أن تكون. فلنعد إلى بسط الاعتراضات الأربعة ومناقشتها:
تقرير الاعتراض الأول، وهو التناقض في فكرة الفلسفة العملية
بيان ذلك أن من طبيعة الفلسفة أو العلم النظري أنها تبحث عن الحقائق وتكشفها على ما هي عليه في الواقع، فلا بد من وجود معلوم في الواقع يكشفه هذا العلم. لكن قضية كونها عملية، أي تشريعية آمرة ملزمة، أنها تطالب بتحصيل شيء يجب أن يكون ليس واقعا بالفعل؛ لأن الأمر بالشيء إنما يكون قبل وقوعه، لا بعد وقوعه، ولا في حال وقوعه. وهكذا يكون موضوع هذه الفلسفة موصوفا بوصفين متناقضين: أنه واقع وأنه ليس بواقع، ويكون الحكم الواحد في هذا العلم يمت إلى فصيلتين متباينتين أيضا؛ لأنه باعتبار أنه وصف لموجود، يكون حكما وقوعيا، وباعتبار أنه طلب لما ليس بموجود، هو حكم قيمي مثالي، فيكون وقوعيا مثاليا معا، أو إخباريا إنشائيا في آن واحد، من جهة واحدة، أي من جهة حقيقته ومعناه، وهذا بين البطلان. ولا يقال إن ها هنا حكمين منفصلين؛ أحدهما: وصفي وقوعي، والآخر: تشريعي قيمي، والثاني منهما تابع للأول ونتيجة له؛ لأن هذه محاولة محال، فإن الواقعة لا تلد مثالية أبدا، والخير لا ينتج إنشاء بحيلة من الحيل.
هذا هو تصوير الاعتراض.
ولكنا لو تأملنا مليا لاكتشفنا ما فيه من المغالطات الخفية؛ فإن كلمة «الواقع» في تعريفنا الفلسفة بأنها «البحث عن حقائق الأشياء على ما هي عليه في الواقع.» لا تعني الواقع في الزمن الحاضر، بل في الحقيقة ونفس الأمر، سواء أكان وقوعه في الماضي أو الحال أو الاستقبال، فتشمل ما كان وما هو كائن وما سيكون، وتشمل النهائي واللانهائي، بل تشمل المعدوم الذي لا يرى ضوء الوجود، وتشمل من المعدومات الممكن والمحال، وتتخطى المباني إلى المعاني، وتتجاوز المحسات إلى المجردات. وبالجملة فإن التأمل الفلسفي يتناول كل ما يتعلق به الفكر ويخطر بالبال، لمعرفة الحق فيه، بل يتناول الفكر نفسه وحدود عمله ومنهاج سيره، وما فيه من مبادئ ثابتة أو متحولة، وما يتطلع إليه من قيم عالية أو نازلة. فلا عجب إذن أن يكون للأخلاق فلسفة، كما للعقائد فلسفة. ألا وإن الفلسفة في كل شأن تتناوله ترد الفروع فيه إلى أصولها الأولى وقواعدها العامة، وتزن كل طائفة من المعاني بميزانها اللائق بها، فتزن الأحكام والأوامر الأخلاقية بميزان العدل والقسط، طبقا لمنطق القضايا الإنشائية، كما تزن العقائد والقضايا الإخبارية بميزان الحق والصدق، الذي يقتضيه وضعها العقلي.
وهكذا يتبين بجلاء أن فلسفة الأخلاق فلسفة وصفية تصويرية، كاشفة لأصول القيم الأخلاقية؛ ولكنها بتقرير هذه الأصول وإرسائها تبعث في النفس إيمانا بعدالة تلك القيم، واقتناعا بأنها تستند إلى حقائق ثابتة، وتنتسب إلى مقدسات سامية. ومن شأن هذا الإيمان بدوره أن يوحي إلى النفس أمرا علويا بوجوب تحقيق تلك القيم الكبرى.
فها هنا إذن حكمان منفصلان لا اختلاط بينهما، ولا التباس في أمرهما. وإن أولهما يستتبع ثانيهما حقا، لكنه لا يستتبعه استتباع المقدمات القياسية لنتائجها المنطوية فيها، حتى يقال إن الخبر لا ينتج إنشاء، بل استتباع الأسباب لمسبباتها والوسائل لمقاصدها؛ فإن معرفة مبررات القانون، والاقتناع بعدالته يجذب النفوس إلى امتثاله، ويغريها بطاعته عن محبة وطواعية.
تقرير الاعتراض الثاني، وهو أن بحوث الأخلاق النظرية جهود ضائعة
ذلك أنه كان المنتظر، عند الاختلاف في المبادئ النظرية العامة، أن يستنبط من كل مبدأ قواعد عملية تناسبه، مخالفة للقواعد الأخرى. غير أننا إذا استقرأنا الفلسفات الأخلاقية على تنوعها وتنازعها نراها تتلاقي عند قواعد عملية متشابهة بل متماثلة، حتى إن أنصار المذهب النفعي ينادون - كغيرهم - بمبدأ «أحب عدوك كما تحب أخاك. وأحب أخاك كما تحب نفسك.» وأنصار المذهب الحيوي التطوري يوافقون الواجبيين على التزمت الصارم الذي لا قيد فيه ولا استثناء. وهكذا نرى القواعد التطبيقية تسير مستقلة تمام الاستقلال عن المبادئ النظرية. ويا ليت أمر الفلسفة الأخلاقية وقف عند حد خلوها عن النتائج العملية، وبقيت لها فائدة نظرية تمس عقائد المجتمع وآراءه؛ ولكننا بينما نرى الفلسفات العلمية والفلسفات الدينية تترك أثرها في المجتمع، وتلاقي من رجال الأديان حركة قوية في تأييدها أو معارضتها، نرى هذه النظريات الأخلاقية تسير على حافة الحياة لا يحس بها أحد، بل يحدث التطور في آداب المجتمع بعيدا عن التأثر بها إطلاقا. وهكذا نراها عاطلة عن كل فائدة تشريعية أو اجتماعية.
ونحن نجيب عن هذا الاعتراض بشقيه، فنقول: أما دعوى اتفاق أصحاب النظريات الأخلاقية كلهم على قواعد عملية واحدة فهي دعوى غير صحيحة؛ فهناك مثلا مذهب القوة الذي يتنكر لكل القواعد الأخلاقية المعروفة، ويرى أنها ما وضعت إلا لاستغلال الضعفاء والسيطرة على الجماهير، وأن القوة هي التي تجعل الحق حقا والباطل باطلا. وهناك مذهب المتعة والمسرة، الذي يوصي باغتنام اللحظة الحاضرة، واقتناص مشتهياتها، دون حساب للماضي ولا للمستقبل ... نعم يبقى السؤال عن الفائدة في دراسة المذاهب الأخرى، المختلفة في نظرياتها، المتحدة في تطبيقاتها. وجوابه أن تضافر النظريات المختلفة على قاعدة واحدة، كترادف الأدلة المتنوعة على الدعوى؛ فهي بمثابة التحريض بمختلف الوسائل على العمل بتلك القواعد، كأنها تقول لنا: من كان همه طلب الكمال الإنساني لذاته فعليه بالتحلي بالفضائل، ومن كان همه المتعة الروحية الحقيقية فعليه بالتحلي بالفضائل، ومن كان همه المصلحة للفرد أو الجماعة فعليه بالتحلي بالفضائل، وهكذا ... وأما قولهم إن قافلة الحياة الاجتماعية تسير غير مبالية باختلاف الفلاسفة في المبادئ العليا للأخلاق، فنقول إن المجتمع طبقتان: طبقة العامة والجماهير، ذوي الحياة الكادحة، الذين ليس لهم من الفراغ ما يتلفتون فيه نحو هذا النور؛ وطبقة الخاصة المثقفين، الذين لا يكتفون بمعرفة الطرق العملية، حتى يضموا إليها براهينها النظرية، ومبادئها الكلية. ولكل طائفة من هؤلاء المثقفين مشرب في الاستدلال، وغرض يسعى إليه في الحياة. فهؤلاء يعنيهم أشد العناية أن يستعرضوا هذه النظريات، ليختار كل منهم أقربها لاقتناعه، أو يتزودوا من جملتها ويتسلحوا بمختلف أسلحتها، للانتصار على مذاهب الهدم ونزعات التشكيك في حقيقة القانون الأخلاقي.
بسط الاعتراض الثالث
إن جميع النظريات الأخلاقية تدعي وجود قانون عام للإنسانية كلها؛ ووجود قانون عام كهذا يفترض وجود طبيعة إنسانية متشابهة، لا تختلف باختلاف الأمم والمدنيات، ولا باختلاف الأقطار والعصور، لكن الواقع أن هذه الفطرة الواحدة لا وجود لها؛ ذلك أن الناس صنفان: بدائيون ومتحضرون. فأما البدائيون فلا محل في عقولهم لفكرة القانون الأخلاقي؛ لأنهم لا يعرفون سوى الفوضى المطلقة التي لا رادع فيها من ضمير ولا قانون؛ وأما المتحضرون فإنهم وإن عرفوا فكرة القانون، إلا أنهم يعرفونها في صور متناقضة: فالأخلاق في الشرق غير الأخلاق في الغرب، والأخلاق عند الأمم القديمة غيرها عند الأمم الحديثة، الخير هنا شر هناك، والعدل هناك ظلم ها هنا.
هذه الحجة قديمة، كان يروجها سوفسطائية اليونان، ثم تجددت في عصر النهضة الأوروبية بقلم بعض مشاهير كتابها، أمثال «مونتيني» و«باسكال»، ثم انتحلتها هذه المدرسة الاجتماعية وتوسعت في سرد شواهدها نقلا عن الرحالة والسائحين، القدامى والمحدثين.
ونحن لا نطيل النقاش في قيمة هذه المصادر وضعف الثقة العلمية بها، لكثرة تناقضها، وقلة تحري كتابها، وضعف خبرتهم بالناحية الأخلاقية؛ ولأن ولوعهم بالغرائب إرضاء لشهوة قرائهم يدفعهم إلى ترك معالم التشابه والاتحاد بين الأمم، وتتبع المفارقات والشواذ منها لعرضها في صورة قواعد عامة؛ ولكننا نكتفي بأن نقول في صميم الموضوع: إن ما نسبوه إلى الجماعات البدائية من خلوها من كل قاعدة للسلوك هو على طرف النقيض من الواقع الذي تضافرت عليه كل الدلائل؛ وهو أن هذه الجماعات تبالغ في تشددها وتضييقها في أسلوب الحياة والمعاملات إلى حد التزمت أو الخرافة، وإن ما نسبوه إلى المتحضرين في الصين مثلا، من رمي الأمهات أطفالهن إلى الحيوانات المفترسة تخلصا منهم - إن ثبت - فإنما يحدث في أوقات الضرورات القصوى، التي تبيح كل محظور، حتى في أرقى المدنيات، وليس من المعقول أن تكون عاطفة الأمومة في الإنسان أشد قسوة وتحجرا منها في الحيوان، الذي قال في شأنه الرسول الرحيم: «جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءا، وأنزل في الأرض جزءا واحدا؛ فمن ذلك الجزء تتراحم الخلق، حتى إن الفرس لترفع حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه.»
على أنه ينبغي لنا عند اقتباس الشواهد الأخلاقية أن نفصل بين أعمال الناس وأحكامهم؛ فالذي يدل على خلو النفوس من قانون أخلاقي ليس هو وقوع الظلم، ولكنه استساغة الضمائر له وعدم استنكارها إياه. أما مجرد وقوعه فمعناه أن القانون لم يطبق ولم ينفذ. أرأيت لو أن رجلا أوروبيا جاء إلى بلاد الإسلام في عصرنا هذا، فأخذ يستقي قانون الإسلام وتعاليمه من واقع سيرة أهلها، أيكون حكمه صحيحا؟ فالذي يأتي المحرم عالما بحرمته شاعرا بتأنيب ضميره لا يقال إنه لا يعرف للأخلاق قانونا، ولكنه يعرفه ويخالفه. نعم لو وجدنا في أمة ما قانونا يبيح لها القتل والسرقة مثلا؛ فأصبحنا أمرين مستباحين عندها بلا استهجان ولا نكير من ضميرها، إذن لساغ لنا أن نقول بفقد قانون الأخلاق عندها. وما يذكر عن قدماء الرومان من أن رب الأسرة كان له حق الموت والحياة على زوجه وأولاده، يقتل من يشاء ويستحيي من يشاء، لا نستطيع أن نفهمه على معنى أن قلوب الآباء في هذه الأمة كانت مجردة من الرأفة على أهليهم، ولكن على معنى أن القانون خول لرب الأسرة فيها سلطة القاضي في العقاب والتأديب لمن يستحق. وكذلك ما يقال عن قانون إسبارطة، من أنه كان يبيح الاختلاس والنهب في بعض المواسم، نفهمه على أن ذلك كان نوعا من اللهو أو التدريب على أساليبهم في الغزوات والحروب، عن تراض منهم ...
وبعد فإننا حين ندعي أن حاسة التمييز بين الخير والشر مودعة في كل ضمير، حتى في ضمائر الأشرار والمجرمين، كما قال الله تعالى:
بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره ، وكما قال:
ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها ، لا نزعم عصمة العقول والضمائر من الخطأ في تحديد الحسن والقبيح والخير والشر، ولو في بعض الأحيان، ولكننا نستطيع أن نقرر مطمئنين أن هذه الأخطاء إنما تكون حيث يجتمع في الفعل الواحد جهتا خير وشر، فتختلف الأنظار في ترجيح أيهما، أو حيث تكون الإصابة في الحكم بحاجة إلى شيء من التروي البعيد عن الهوى، أو حيث تنطمس معالم الصواب في بعض الشئون ويخفى طريقه، حتى تعجز العقول عن الاهتداء إليه ما لم يمدها نور من الوحي السماوي. ومن أجل ذلك أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، إيضاحا لمعالم الحق، وتكميلا لمكارم الأخلاق.
شرح الاعتراض الرابع
قالوا إن وجود قانون عام للأخلاق لا يفترض وجود طبيعة إنسانية عامة متشابهة في الجماعات والمدنيات فحسب، بل إنه يستلزم قبل كل شيء أن يكون هذا القانون نفسه مؤلفا من واجبات متساندة متعانقة لا تناقض بينها، وأن يكون الوجدان الأخلاقي الذي ينبع منه القانون مؤلفا هو أيضا من عناصر مؤتلفة غير متضاربة ... لكن كلا اللازمين باطل؛ فالقانون الأخلاقي مجموعة متنافرة من الواجبات الفردية والأسرية والمهنية والوطنية والإنسانية، والحياة نفسها مجموعة متعارضة من المطالب البدنية والعقلية والسياسية والدينية، بل الوجدان الخلقي عند كل واحد منا هو مجموعة أحكام متناقضة: بعضها من محاكاة البيئة، وبعضها موروث من عصور متفاوتة: دينية أو قومية أو أجنبية.
هذا هو الاعتراض الرابع والأخير.
ونحن لا نشغل أنفسنا بمنع ما يحويه من المقدمات، ولكننا نسلم جدلا وجود تلك المفارقات في أحكامنا، وتلك المعارضات في واجباتنا، ونجيب بأن الفيلسوف في استنباطه للقانون الأخلاقي العام، لا يستفتي هذه الوجدانات الفردية المعقدة المتناقضة، بل إنه يسمو عن الجزئيات إلى المجردات، ويرجع إلى طبيعة الإنسان من حيث هي، ليعرف مقتضياتها وحقوقها العامة، ومتى استنبط لها هذا القانون الكلي أصبح هذا القانون بحيث يفرض نفسه فرضا على الوجدانات الفردية، وكان عليها أن تسمو هي إليه، لا أن ينزل هو إليها ... وإذا كانت الواجبات قد تتزاحم وتتنافس، فالأصل أن يبذل كل امرئ جهده في طلب التوفيق بينها؛ لإعطاء كل ذي حق حقه، فإن بلغ التزاحم فيها مبلغ التعارض، كان من تمام مهمة المشرع أن يضع لكل واجب رتبته تقديما أو تأخيرا، زيادة أو نقصا، ليبدأ العامل بالأهم قبل المهم، وبالمهم قبل غير المهم؛ فيجعل الضروري قبل الحاجي، والحاجي قبل الكمالي، ويضحي بالأدنى في سبيل المحافظة على الأعلى. وهكذا يستقيم الأمر جملة وتفصيلا، تشريعا وتنفيذا.
الأخلاق الفلسفية، والأخلاق الدينية
اشتهر عند الباحثين من علماء الغرب أن قوانين الأخلاق الفلسفية تختلف اختلافا بينا عن قوانين الأخلاق الدينية، وأن هذا الاختلاف بينهما يبدو من وجوه شتى: من حيث موضوعهما (أي نوع العلاقات التي ينظمها كل منهما)، ومن حيث الواضع لهما (أي السلطة التي يصدر عنها الأمر الأخلاقي)، ومن حيث أساس التشريع (أي الأسباب التي يستند إليها)، ومن حيث بواعث العمل وأهدافه وجزاءاته، المقررة في كل منهما.
وإليك تفصيل هذه الخصائص التي ميزوا بها الطابع الأخلاقي في الأديان، عن الطابع الأخلاقي عند الفلاسفة: (1)
من حيث الموضوع:
فالأخلاق الدينية في نظرهم مهمتها تنظيم الصلة بين الخالق والمخلوق، ولا شأن لها بأمور المعاملات الإنسانية، بينما الأخلاق الفلسفية ترسم الطريق لسلوك الإنسان في نفسه أو في المجتمع، ولا شأن لها بنظام الشعائر والعبادات، لا بمعنى أنها تقف منها دائما موقف الحياد فحسب، أو أنها تتلقاها مسلمة من يد العرف الجاري في كل ملة، بل إنها قد تنكرها إنكارا، كما زعم الفيلسوف الألماني «كانت» حين قال إنه ليس على الناس واجبات قط نحو خالقهم؛ لأنه ليس لهم حق قبله، وكل واجب لا محالة يقابله حق،
1
وهكذا ينفصل موضوع الأخلاق الدينية والأخلاق الفلسفية انفصالا تاما. (2)
من حيث واضع القانون ومستنده:
مهما تتنوع المذاهب الفلسفية في مصدر الإلزام الأدنى: أهو العقل، أم الوجدان الخلقي، أم ضرورة الحياة في المجتمع، أم غير ذلك، فإنها كلها تلتقي عند كلمة واحدة، وهي أنه مصدر إنساني، وأن مستنده في التشريع اعتبارات إنسانية تبرر حكمه لدى العقل أو العاطفة. أما الإلزام في الدين فيقولون إن مصدره إلهي صرف، وإن مستنده هو محض تلك الإرادة العليا وقضاؤها المبرم، الذي لا يعنيه رضيت النفس أم كرهت، اقتنع العقل أم أبى. (3)
من حيث بواعث العمل وأهدافه وأجزيته:
قالوا: وتنفصل النظرة الدينية عن النظرة الفلسفية من هذه النواحي أيضا؛ ذلك أن الشرائع الدينية تضع لمن يمتثل أمرها أو يعصيه جزاء أخرويا: مثوبة أو عقوبة، وتتخذ للترغيب في الفضيلة وللتحذير من الرذيلة وسائل، تستمدها من معدن تلك الأجزية، جاعلة الهدف الوحيد للعامل هو نيل الثواب والنجاة من العقاب، وباعثه الوحيد على العمل هو الخوف أو الرجاء. وهكذا تصبح الاستقامة الخلقية عملا حسابيا لموازنة الربح والخسارة، وليست عملا بريئا من الأغراض، مجردا عن الغايات النفعية.
بينما قانون الأخلاق الفلسفية لا يفترض جنة ولا نارا ولا حياة بعد الموت، بل لا يلوح بجزاء للفضيلة سوى نتيجتها الطبيعية، من رضى العامل وطمأنينته، وشعوره باستكمال إنسانيته، وارتياح ضميره بأداء الواجب. وإن لوح بشيء وراء ذلك: من تحقيق المصالح الإنسانية التي يثمرها العمل، أو الفوائد الاجتماعية التي تعود على العامل، كحسن السمعة وطيب الذكر؛ فإنما هي أجزية أدبية عاجلة في هذه الحياة.
فلننظر في قيمة هذه الفوارق، ومدى انطباقها على وجهة النظر الإسلامية في الأخلاق: (1)
أما أن موضوع الأخلاق في الديانات ينحصر في مادة العبادة والشئون الإلهية، فهذه الخاصة إن صحت في دين ما فما أبعدها عن أن تكون طابعا لقانون الأخلاق في الإسلام. لا نكتفي بأن نقول إن هذا القانون لم يدع للنشاط الإنساني، في ناحيتيه الفردية والاجتماعية، مجالا حيويا أو فكريا أو أدبيا أو روحيا، إلا رسم له منهجا للسلوك وفق قاعدة معينة، بل نقول إنه تخطى علاقة الإنسان بنفسه، وعلاقته ببني جنسه، فشمل علاقته بالكون في جملته وتفصيله، ووضع لذلك كله ما شاء الله من الآداب المرضية والتعاليم السامية. وهكذا جمع ما فرقه الناس باسم الدين وباسم الفلسفة، ثم كان له عليهما المزيد ... (2)
وكذلك يرى الناظر في أسلوب الدعوة الأخلاقية في الإسلام، أنها منزهة عن ذلك الطابع التعبدي التحكمي الذي زعموه في الأخلاق الدينية، وأنها على العكس من ذلك تعتمد دائما على الحكم المعقولة المقبولة، مخاطبة الإدراك السليم، والوجدان النبيل، بالأسباب المقنعة التي تبرر أمرها بما تأمر به، ونهيها عما تنهي عنه، تفصيلا في ذلك تارة، وإجمالا فيه تارة أخرى. اقرأ إن شئت في الأسلوب التفصيلي أمثال الآيات الكريمة:
ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا ،
وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ،
ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ،
فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ،
إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ،
ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا ، وفي الأسلوب الإجمالي:
وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به ،
فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم ... حتى إنه في المواضع التي يذكر فيها الأمر مجردا عن كل تعليل، نرى النص يشفع ذلك الأمر بما يبين أنه ليس أمرا تعنتيا تفرض طاعته لمجرد أن صاحبه ذو سلطان قاهر واجب الطاعة؛ بل لأن هذا الأمر ذو علم واسع، وحكمة بالغة؛ فلا يأمر إلا بما يصلح البشرية ويهديها سواء السبيل:
كتب عليكم القتال وهو كره لكم ... والله يعلم وأنتم لا تعلمون ،
فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما .
بل ها هنا ما هو أعظم من ذلك خطرا!
يفخر الحكماء بأنهم اكتشفوا للإلزام الأدبي مصدرا آخر، غير الوحي السماوي؛ ذلك هو النور العقلي، أو الإحساس الأخلاقي الذي ينطوي عليه كل قلب إنساني. ألا فليعلموا أنهم لم يأتوا بجديد غريب عن الإسلام. فالقانون الإسلامي في رجوعه إلى العقل السليم والوجدان النبيل، يرجع إليهما لا باعتبار أنهما شهيدان له فحسب، يؤيدان حكمه ويشفعان له عند المخاطبين، كما بينا آنفا؛ بل إنه يقلدهما مقاليد الحكم، ويخولهما حق الأمر والنهي، في أطوار ثلاثة: قبل ورود الشرع، وفي أثناء نزول الشرع، وبعد انتهائه وتمامه.
أما قبل الشرع فإن القرآن يقرر في أصرح عبارة أن النفوس كلها قد منحت بفطرتها قوة التمييز بين الخير والشر، والعدل والظلم، والتقوى والفجور:
ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها ،
بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره ، ثم لا يكتفي بأن يجعل هذه البصيرة قوة كاشفة معرفة؛ بل يجعلها آمرة ناهية، وينعى على من يخالفها بأنه من أهل الضلال والطغيان:
أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون
هذه القضية المنفصلة لا تدع مجالا للشك في وجوب الخضوع لأوامر الأحلام والعقول، متى اتضح أمامها طريق الحق والخير. وكذلك يقول صاحب الرسالة الباهرة صلوات الله عليه: «إذا أراد الله بعبد خيرا جعل له واعظا من نفسه يأمره وينهاه.»
وبعد فما لي أراك ها هنا في شيء من الدهشة والاضطراب، كأنك تخشى أن نكون في هذه القضية قد أقدمنا على أمر خطير؟ لعلك سمعت بعض أهل العلم يقولون إن تحكيم العقول في حسن الأفعال وقبحها إنما هو مقالة أهل الاعتزال، وإن أهل السنة لا يرون للأفعال في نفسها حسنا ولا قبحا، وإنما الحسن ما أمر به الشرع، والقبيح ما نهى عنه الشرع!
ألا فاعلم أنه ليس في الدنيا عاقل: أشعري ولا معتزلي ولا غيرهما، ينكر ما منحه الله للإنسان من ملكة التمييز بين الأفعال والحكم عليها بالحسن أو القبح، بمعنى أن بعضها يعد صفة كمال، وبعضها يعد صفة نقص، أو أن بعضها يقبله الطبع المستقيم، وبعضها يمجه الذوق السليم، أو أن بعضها يمدح فاعله، وبعضها يذم مرتكبه ... فلذلك كله مما لا جدال فيه، وإنما الجدال الذي سمعت خبره بين الأشاعرة والمعتزلة كان في شأن آخر: وهو أن هذه الأحكام التي تصدرها عقولنا، هل تجزم بمطابقتها للواقع وبأنها هي حكم الله في نفس الأمر؟ وهل نعتقد أن الله كلفنا باتباعها، وسيحاسبنا عليها، ويجزينا بها مثوبة أو عقوبة، من قبل أن يرسل بها رسولا من عنده، أو ينزل إلينا بها كتابا نقرؤه؟ أم أننا ينبغي لنا ألا نتخذ أحكامنا مرآة صادقة لأحكام الله، ولا نجترئ على القول بأنها مقياس أمره ونهيه، إلا أن يبعث إلينا بسلطان من عنده، يقرنا عليها، ويلزمنا بقضيتها؟
هذا هو محل الخلاف هناك. ولكنه ليس مجال بحثنا هنا، وإنما الذي يعنينا في هذا المقام هو اتفاق الطرفين على أن الإسلام يقرر للعقل سلطانا أدبيا بالمعنى الإنساني الذي شرحناه آنفا، وهو المعنى الذي زعم علماء أوروبا أنهم اكتشفوه في المذاهب الفلسفية خاصة. هذا السلطان الأدبي الذي يسميه الفلاسفة «سلطان الضمير» يعترف الإسلام به على استقلاله وكماله في الفترة التي تسبق قيام الشريعة ووصولها إلى من وجهت إليه، كما بينا.
يبقى البحث في نظرة الإسلام إلى هذا السلطان العقلي، في أثناء نزول الشريعة السماوية وبعد تمامها: هل متى نزلت الشريعة وبلغت أهلها أصبح أمرها ناسخا لأحكام العقل وأوامره، كما يبطل التيمم بحضور الماء؟
كلا، إن النور لا ينسخ النور، ولكنه إما أن يؤكده ويؤيده، وإما أن يغذيه ويرفده، وإما أن يكمله ويزيده.
وتفصيل ذلك أن شئون الإنسان على ثلاثة أضرب: منها ما للعقل فيه مجال واضح، وحكم حاسم. وهو الأصول التي لا تتعارض فيها الأنظار ولا يختلف فيها اثنان؛ كحسن الصدق النافع، وقبح الكذب الضار، ونبل الإحسان في رد الإساءة، ولؤم الإساءة في جزاء الإحسان ... فيجيء الشرع في هذه المواضع مقررا لحكم الفطرة ومؤكدا. ومنها ما للعقل فيه نور ضئيل تغشاه الظلال، وتخالطه الأوهام. وهو مواضع الشبهات العقلية؛ كالخمر، والربا، والصدق الضار، والكذب النافع، واستبقاء الحياة المعذبة مع اليأس، والتضحية بها في سبيل الواجب مع القدرة على حفظها ... فهنا يجيء الشرع إمدادا لنور العقل، بترجيح جانب الحكمة والرشد فيه وتصحيح أخطاء الوهم التي تخالطه وتغشاه. ومنها ما لا مدخل للعقول فيه بإطلاق؛ كتفصيل أنواع العبادات وكيفياتها ومقاديرها ... فيكون ورود الوحي بها مكملا لما فات العقل إدراكه، ماحيا للظلمة التي تركها وراء حدوده. وهكذا يكون للفطريين الذين لا يتبعون إلا شريعة العقل، نور واحد، ويكون لأتباع الشرائع السماوية نوران اثنان، كما قال سبحانه:
نور على نور .
ولا تحسبن أن نور الشريعة فيما لم يهتد إليه العقل بمفرده قد أصبح مستغنيا عن نور الفطرة جملة، كلا، فإنه لا يزال في أشد الحاجة إلى رفده وعضده، من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول:
أن الشرع لا يزال يستند إليه عند مطالبته للمؤمنين بأداء واجباتهم الشرعية، لا باعتبار أنها أوامر إلهية فحسب، بل باعتبار أنها أصبحت أوامر أخلاقية بعد أن سبق تعهدهم بها تعهدا كليا عاما، بمقتضى عقد الإيمان الذي ينطوي على التزام السمع والطاعة. ألا ترى إلى قوله سبحانه:
واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا ، وقوله:
وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين .
الوجه الثاني:
أن أوامر الشريعة في معظم شأنها أوامر عامة كلية، يكل الشرع تفصيلها وتحديدها إلى تقدير الوجدان الخلقي، الذي أودعه الله في كل نفس، وفي كل جماعة بشرية. وكثيرا ما يصرح القرآن بتفويض هذا الوجدان الشخصي أو الجماعي في تحديد مقادير الحقوق والواجبات وأساليبها:
ممن ترضون من الشهداء ،
رزقهن وكسوتهن بالمعروف ،
متاعا بالمعروف .
الوجه الثالث:
وهو أعم وأدق، أن الإسلام لا يطلب، ولا يرضى، أن تنفذ أوامره تنفيذا آليا، خضوعا لصولة حكمه، بل لا بد قبل كل شيء أن تسري أوامره إلى أعماق الضمير، حتى يتشربها القلب، ثم تفيض عنه بعد أن تكون قد تحولت فيه إلى أوامر ذاتية انبعاثية ... ذلك أن أول خطوة في امتثال الواجب هي الإيمان بوجوبه وعدالته؛ والخطوة التي تليها هي أن يحمل هذا الإلزام إلى النفس على كف الضمير، مشفوعا بصوت منبعث من أعماقه ، يناديها: «أيتها النفس! إن الله يأمرك أن تفعلي، وأنا آمرك أن تطيعي أمره؛ فإنه حق وعدل، وإنه لا خيرة لك في رده.» فإن لم ينبعث من الأعماق هذا التبليغ، ولم يرتفع فيها هذا الصوت الداخلي، ترديدا لصدى ذلك الصوت السماوي، كان العمل كله هباء عند الله وفي نظر قانون الأخلاق.
القلب (أو الضمير) إذن هو بريد الشرع، الذي لا سبيل إلى الامتثال إلا عن طريقه. وكفى بهذا رفعا لمكانته في غضون أحكام الشريعة.
وبعد، فإن الشريعة نفسها، بعد أن بينت الحلال الصريح، والحرام الصريح، تركت المنطقة التي تختلط فيها الأوصاف، ويشتبه فيها الحكم، وفوضت لكل امرئ أن يستفتي فيها قلبه، ويتحرى فيها طمأنينة نفسه، أخذا بالأحوط والأسلم. هكذا قضى الرسول الحكيم حيث يقول: «الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه.» ويقول: «استفت قلبك واستفت نفسك، البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك.»
وأخيرا فإن سلطان الضمير في نظر الإسلام لا يقف عند هذا الحد، ولا ينتهي بانتهاء هذه الحياة، بل إن له دورا هاما عند المحاسبة في دار الجزاء، حيث يتقدم بين يدي فصل القضاء، ويصدر حكمه على صاحبه قبل أن يصدر عليه الحكم الأعلى. اقرأ إن شئت قوله تعالى:
وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا * اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا . (3)
وأما الحديث عن الأجزية والبواعث والأهداف، ودعوى اختلاف طبائعها في نظر الدين عن نظائرها في نظر الفلسفة، فإنه إن سلم في بعض الأديان الأخرى فهو أبعد ما يكون عن وجهة النظر الإسلامية، وهو في جملته أكثر انطباقا على المسيحية منه على اليهودية (إن صحت نسبة كتبهما المعروفة إليهما)، فقد كان الترغيب والترهيب في التوراة بوعود وإيعادات كلها عاجلة في هذه الدنيا، وتكاد تستأثر بها النزعة المادية الخالصة: الصحة، والرخاء، وكثرة الأولاد، وهزيمة الأعداء، للمطيعين، وأضدادها لأضدادهم،
2
ثم جاء الإنجيل على العكس من ذلك يحول أنظار معتنقيه من ملك الأرض إلى ملكوت السماء، ويبشر الخيرين بما أعد لهم في الآخرة، من جزاء القرض الحسن بأحسن منه ...
3
أما القرآن فقد نظم هذين الطرفين المتباعدين في سلك واحد:
لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر ،
4
ثم لم يكتف بذلك، بل قام إلى جانب مهمة الجمع والتوفيق، بمهمة البناء والإنشاء والتكميل، فوصف ما للفضيلة من الأجزية والآثار المعنوية الصالحة، روحية، وخلقية، وعقلية، وحسية، عاجلة وآجلة؛ بحيث تتذوق فيه كل نفس طعم الأمنية التي تشتاقها، وتسمع كل أذن نغمة الأنشودة المحببة إليها، اقرأ في الروحيات:
إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ،
فاتبعوني يحببكم الله ، وفي الأخلاقيات:
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ،
والذين اهتدوا زادهم هدى ، وفي العقليات
إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ،
ويجعل لكم نورا تمشون به ، ومن أجل هذه الجزية القرآنية نعمة الرضا والارتياح لأداء الواجب، وهي تلك المتعة التي تزعم الفلسفة الاستئثار بها:
وجوه يومئذ ناعمة * لسعيها راضية ، وفي الحديث الشريف: «من ساءته سيئته وسرته حسنته فهو مؤمن.»
هذا ولقد أكثر الجاهلون من المقارنة بين الجنة في الإسلام وفي المسيحية، فوصفوا الأولى بأنها دار طعام وشراب ومتع بدنية مادية خالصة، والثانية بأنها دار حياة روحية صافية. ولقد أخطئوا المرمى في كلا الوصفين؛ فالجنة في القرآن والإنجيل
5
كما يعرف بالرجوع إلى نصوصهما دار نعيم بدني وروحي معا. وحق لها أن تكون كذلك؛ فهي جزاء للإنسان في جملته، لا في أحد شطريه دون الآخر. على أن القرآن يضيف إلى تقرير الجزاءين بيان التفاوت العظيم بين قيمتهما، جاعلا المقصود الأهم هو المعنى الروحي منهما، فيقول بعد ذكر المساكن الطيبة في جنات عدن
ورضوان من الله أكبر ، وفي الحق أن هذه الجوائز المادية والمتع البدنية، مثلها كمثل الأوسمة التي يهديها الملوك، ليست قيمتها في صورتها ومادتها، ولكن في دلالتها ومغزاها، ألا وهو هذا التكريم والرضوان الذي أشار إليه القرآن. وقد أشار إلى مثل ذلك في الطرف المقابل؛ إذ عرفنا أن أعظم ما يخشاه العاقل من عذاب النار ليس هو آلامها الحسية، بل ما لها من دلالة معنوية على الخزي والإهانة:
ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته .
هذا هو تحقيق الحق في شأن الأجزية الدينية والفلسفية.
وبعد فإن الناس كثيرا ما يلتبس عليهم الأمر بين أجزية العمل وثمراته من جهة، وبين أهداف العامل وغاياته، من جهة أخرى. وهكذا يخلطون بين الغاية الفعلية بمعنى طرف الطريق وآخره، والغاية المقصودة بمعنى نية العامل وهدفه؛ ظانين أن وضع إحداهما هو وضع للأخرى، حتى كأن الإسلام يلوح للمؤمنين أن يقصدوا بأعمالهم تلك النتائج كلها، أو بعضها على التخيير. كلا إن الأمر ليس كما زعموا؛ فأنواع الأجزية التي قررها القرآن للفضيلة والرذيلة لا تحصى كثرة؛ ولكن الهدف الذي وضعه نصب عين العامل هدف واحد لا تعدد فيه ولا تردد؛ هو وجه الله محضا خالصا. وهذا كما ترى تعبير روحي عن معنى أداء الواجب لذاته. وهو معنى نجده في القرآن في أكثر من ألف موضع، كلها تحث على الفضيلة لما لها من قيمة ذاتية، بغض النظر عن كل آثارها. على أن تلك الأجزية الكريمة التي وعد الله بها المتقين، إنما وعد بها من كانت غايته من عمله هو وجه الله وحده، فهو الذي
أتى الله بقلب سليم ، وهو الذي
جاء بقلب منيب ، وهو الذي كان عمله
في سبيل الله ، وقد سئل النبي عليه السلام عن الجهاد بدافع الحمية، أو لطلب الغنيمة، أو بقصد حسن الذكر، فأومأ إلى أن شيئا من ذلك ليس في سبيل الله، قائلا: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله.» أما ما وراء هذه النية من مطامح ومطامع، فهو في نظر الإسلام إما رجس وفسوق من عمل الشيطان؛ كالرياء والسمعة ونحوهما، وإما عبث وضرب من المباح لا قيمة له ولا ثواب، ومن هذا الضرب الأخير أن يكون هدف العامل هو الجنة وما فيها من نعيم.
فلينظر كل امرئ أين يضع نفسه، وأين يوجه قصده؟
ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات .
علاقة علم الأخلاق بالتربية
«التربية» تفعلة، من ربا يربو، إذا زاد ونما. فهي تعهد الشيء ورعايته بالزيادة والتنمية والتقوية، والأخذ به في طريق النضج والكمال الذي تؤهله له طبيعته.
والتربية الإنسانية الكاملة هي التي تتناول قوى الإنسان وملكاته جميعا: (1)
تنمية لجسمه، وحفظا لصحته، وهذه هي التربية البدنية. (2)
وتقويما للسانه وإصلاحا لبيانه، وهي التربية الأدبية. (3)
وتثقيفا لعقله وتسديدا لتفكيره وأحكامه، وهي التربية العقلية. (4)
وتزويدا له بالمعلومات الصحيحة النافعة، وهي التربية العلمية. (5)
وترويضا له على وسائل الكسب لعيشه، وهي التربية المهنية. (6)
وإيقاظا لشعوره بجمال الكون، ومعاونة له على التعبير عن هذا الشعور؛ وهي التربية الفنية. (7)
وتعريفا له بحقوق المجتمع الذي يعيش فيه، وبما فيه من نظم وقوانين؛ وهي التربية الاجتماعية والوطنية. (8)
وتوسيعا لأفق شعوره بالأخوة العالمية؛ وهي التربية الإنسانية. (9)
وتوجيها مستمرا لأعماله على سنن الاستقامة، حتى تتكون منها العادات الصالحة والأخلاق الحميدة الراسخة؛ وهي التربية الخلقية. (10)
ثم تساميا بروحه إلى الأفق الأعلى بإطلاق؛ وهي التربية الدينية.
ولقد يذهب الظن بالناظر في هذا البسط والتقسيم إلى أن «علم الأخلاق»، إنما يعني شعبة واحدة من بين هذه الشعب، وهي شعبة «التربية الخلقية».
وليس الأمر كما يوحي به هذا الظن، فإن سلطان الأخلاق منبسط على وجوه النشاط الإنساني كلها، لا يشذ عنه عمل تربوي ولا غير تربوي، ولا يتفاوت في حكمه نشاط بدني أو عقلي أو فني أو أدبي أو روحي. فالفنان الذي يجافي بفنه قانون الحشمة واللياقة، ويهتك به ستر الحياء والعفاف يتصدى لمقت الضمير الحي، وإن لم تؤاخذه قواعد الفن. والمعلم الذي يختار مادة تدريبه العقلي واللغوي للناشئين من أحاديث الرفث، وأقاويل التحريض على الهجر والإثم، يسيء من حيث يحسب أنه يحسن. والمرشد الديني أو المبشر الذي يتوسل في الدعوة إلى دينه بوسائل الخداع والكذب، أو بشيء من الإغواء بالمال أو الجاه أو غيرهما، يرتكب جريمة من أشنع الجرائم ... وهكذا سائر أنواع التربية وشعبها؛ فإنها وإن اتخذت لها أهدافا أخرى اشتقت لنفسها منها أسماء معينة، إلا أنها يجب أن تخضع في وسائلها وأساليبها وبواعثها لقواعد الآداب، وأن تقيس ذلك كله بمقاييس الفضيلة. وإنما تمتاز «التربية الأخلاقية» من بين سائر الشعب بأن هدفها القريب، وغايتها المباشرة، هي التدريب على السلوك الرشيد، وتكوين الخلق الحميد. فصلة علم الأخلاق بها أقوى وأقرب.
فلننظر في كنه هذه الصلة.
وسنرى جانبا منها متفقا عليه، وجانبا مختلفا فيه.
فأما القدر الذي لا خلاف فيه فهو أن علم الأخلاق هو أول الوسائل وأولاها بعناية المربين؛ لأنه هو المصباح الكاشف لمسالك الرشد والغي، ولأنه هو المعيار الذي توزن به نوايا العاملين وبواعثهم. فمن صادف سبيل الهدى مصادفة من غير قصد ولا شعور بإلزام الواجب فيه، كان مثله كمثل الذي يقضي بين الناس خبط عشواء، وهو جاهل بما يقضي فيه. فلا فضل له إن أصاب، بل هو أحد القاضيين اللذين في النار، كما جاء في نص الحديث الصحيح.
1
وأما القضية التي اختلفت فيها مذاهب الفلسفة منذ القدم، فهي أن العلم بالفضيلة هل يكفي في تحصيلها والتحقق بها؟ وبتعبير آخر هل علم الأخلاق وسيلة تامة في التربية الخلقية؟
أجاب «سقراط»: أن نعم! فإن من عرف أن الهدف الذي تنزع إليه فطرة الإنسان هو سعادته الحقيقية، وأن الفضيلة هي الطريق الوحيد الموصل إلى ذلك الهدف، لا يمكن أن يخطئ طريقها، ولا يتصور أن يسلك أحد سبيل شقاوته وهو عالم به طائع مختار في عمله، فالأشرار وأراذل الناس لا ذنب لهم إلا جهلهم بحقيقة مقاصدهم، أو جهلهم بتحديد وسائلها؛ وعلاجهم إنما هو بتصحيح معلوماتهم، لا بتقويم نواياهم وعزائمهم، لأنهم لا ينوون إلا خير أنفسهم، ولكنهم يجهلون هوية هذا الخير، أو يجهلون وسائله. هكذا قرر مؤسس الفلسفة العملية.
أما تلميذه «أفلاطون» فقد اختلفت عبارته، فقرر في بعض مواضع من كتبه أنه ليس بالعلم وحده يصبح المرء فاضلا؛ فإن الرجل قد يعرف الشر ويأتيه، ويعرف الخير ولا يفعله،
2
وإنه لو كانت الفضيلة تنتقل بالتعليم، كما تنتقل العلوم من عقل إلى عقل بالأدلة والبراهين، لاستطاع حكماء أثينا أن يجعلوا تلاميذهم فضلاء مثلهم. وقال في موضع آخر إن الفضيلة التي لا تحتاج إلى تعليم إنما هي الفضيلة الفطرية الموروثة، التي لا تشعر بنفسها. أما الفضيلة الحقيقية فهي التي تعتمد على معرفة الخير ونيته.
ومن تأمل في كلا التقريرين من قول «أفلاطون» لم يجد بينهم اختلافا، ولم يجد في واحد منهما تأييدا لقول «سقراط»: إن العلم بالفضيلة كاف في تحصيلها.
على أن مؤرخي الفلسفة يميلون في تفسير هذه المقالة إلى ما أشار إليه «أفلاطون» من أنه ليس المقصود بالعلم مجرد المعرفة التلقينية، أو الإدراك العقلي الجاف؛ بل المعرفة التي تمتد من العقل إلى القلب، وتصبح إيمانا عميقا، وقوة ملهمة متحمسة. قالوا: ولا ريب أن هذا الضرب من العلم كاف في نجاح التربية وإثمارها للفضيلة، حتى إن الذي يفعل السوء يبرهن بفعله على نقص في معرفته بالخير وإيمانه به.
3
ونحن وإن كنا نوافق على أن المعرفة وحدها ليس لها كبير جدوى إن لم يكن لها رفد من قوة الإيمان، نرى مع ذلك أن ضم العنصرين غير كاف في تحقيق الفضيلة العملية، وأن التربية الناجحة لا غنى لها عن توافر عوامل طبيعية وعوامل إرادية، وأنه لا بد لها قبل كل شيء من إزالة الموانع والعقبات من طريقها. ومن أخطر هذه الموانع البيئة السيئة والقدوة الضارة، التي لا ينكر أثرها في سلوك الناشئين؛ كما أن منها الميول المعارضة والعوائد المخالفة في سيرة الناشئ نفسه، ثم يجيء بعد ذلك عوامل إيجابية نبه عليها خاتمة المحققين من فلاسفة اليونان، ونعني به المعلم الأول «أرسطو»، حين قرر أن الإنسان ليس عقلا فحسب، كما زعم «سقراط»، وليس عقلا وعاطفة وكفى، كما ظن «أفلاطون»؛ بل هو إلى ذلك إرادة فعالة، وعزيمة نافذة، وإذن فليست الفضيلة علما وإيمانا ينزعان بصاحبهما إلى العمل مع قصور الهمة عن تحقيق هذه النزعة، بل هي عمل يبرز إلى الوجود، ويرى ضوء الحياة.
فهذه واحدة.
والثانية أن هذا العمل حين يبرز إلى الوجود لا يكفي أن يقع مرة أو مرتين، بل يجب أن يتكرر ويستمر حتى يصبح عادة ثابتة، وخلقا راسخا، كأنه طبيعة ثانية، فلا بد إذن من رياضة وتدريب على العمل بما نعلم وتلك هي حقيقة التربية العملية.
وأخيرا فليست الفضيلة عملا آليا تسخيريا تمجه نفس فاعله، ويأباه طبعه؛ بل هي عمل انبعاثي محبب إلى القلب، حتى إن الذي يفعل الخير عادة، ولكنه لا يجد في نفسه أريحية له، ليس خليقا أن يسمى خيرا.
وإننا لنجد مصداق هذه النظرات الدقيقة السديدة في القرآن المجيد:
أفرأيت الذي تولى * وأعطى قليلا وأكدى ،
ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ،
ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون ،
ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون * فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم .
صفحه نامشخص