وفي مجال الأسرة الصغيرة - أسرة شوكت - يدير نجيب محفوظ صراعا مذهبيا بين أحمد شوكت وأخيه عبد المنعم؛ إنه الصراع الذي شهده المجتمع المصري بين اتجاهين متناقضين، لكل منهما نظرته العقائدية الخاصة إلى تنظيم الحياة الاجتماعية على أسس معينة. ومن داخل هذا القطاع العرضي الجديد، نتابع خط السير الفكري لأحمد التقدمي المتطور، والخط الآخر المضاد الذي يتخذه عبد المنعم، كشعار اتجاهي للإخوان المسلمين؛ يقول عبد المنعم في معرض النقاش بينه وبين أحمد: «لسنا جمعية للتعليم والتهذيب فحسب، ولكننا نحاول فهم الإسلام كما خلقه الله، دينا ودنيا وشريعة ونظام حكم؛ ماذا تعرف عن الإسلام حتى تهرف بما لا تعرف؟!» ويرد أحمد بهدوء: «أعرف أنه دين، وحسبي ذلك، أنا لا أؤمن بالأديان.» ويتساءل عبد المنعم مستنكرا: «ألديك برهان على بطلان الأديان؟!» ويجيب أحمد بنفس الهدوء: «ألديك أنت برهان على حقيقتها؟!» ويعقب عبد المنعم محتدا: «عندي وعند كل مؤمن، ولكن دعني أسألك أولا كيف تعيش؟» ويقول أحمد باعتداد: «بإيماني الخاص، إيماني بالعلم وبالإنسانية وبالغد، وبما ألتزمه من واجبات ترمي في النهاية إلى تمهيد الأرض لبناء جديد!» ويصيح عبد المنعم في غضب: «لقد هدمت كل ما الإنسان إنسان به!» ويواصل أحمد انطلاقه الجدلي: «بل قل إن بقاء عقيدة أكثر من ألف سنة ليست آية على قوتها، ولكن على خطة بعض بني الإنسان؛ ذلك ضد معنى الحياة المتجددة؛ ما يصلح لي وأنا طفل يجب أن أغيره وأنا رجل؛ طالما كان الإنسان عبدا للطبيعة والإنسان، وهو يقاوم عبودية الطبيعة بالعلم والاختراع، كما يقاوم عبودية الإنسان بالمذاهب التقدمية؛ ما عدا ذلك فهو نوع من الفرامل الضاغطة على عجلة الإنسانية الحرة!»
هكذا يرافق نجيب محفوظ موكب التطور الحياتي، للمجتمع المصري من مختلف زواياه، وما تزال الروافد الجانبية في العمل الروائي، تصب في المجرى الكبير؛ فشخصية سوسن هي الامتداد التطوري لشخصية أمينة. لقد حطمت المرأة المصرية قضبان السجن وخرجت إلى الحياة؛ من البيت إلى الشارع، ومن رق الزوجية إلى حرية الإرادة، ومن جمود الانطواء إلى حركة الانطلاق، ومن سلبية الوضع الاجتماعي إلى إيجابية المشاركة في توجيه المصير، ونظرة الرجل إلى المرأة تتفاوت هي الأخرى على مدار الأجيال: ينظر إليها أحمد عبد الجواد في صورة أمينة، كمصنع آدمي لإنتاج النسل، وكجارية تناديه دائما بكلمة «يا سيدي»، تجسيما للعبودية المعترفة بالاستبداد كحق مشروع! وينظر إليها في صورة زنوبة، وزبيدة وجليلة كنموذج ترفيهي في مجال العلاقة الجنسية؛ وينظر إليها فهمي في صورة مريم جارته الجميلة، التي تبلغ من فهم الحياة مرحلة تتساوى فيها مع أختيه خديجة وعائشة، وتتفوق فيها نسبيا على أمه؛ وينظر إليها كمال في صورة عايدة، كنموذج للمستوى المعيشي الرفيع، والجمال الأرستقراطي الباهر والثقافة الفرنسية المتميزة، كرد فعل لحرمان بيئته الشعبية من كل هذه القيم المغرية! وينظر إليها أحمد شوكت في صورة سوسن، الفتاة المكافحة المستنيرة، التي تكسب قوتها بعرق الجبين، ولا تستمد فتنتها الأنثوية في نظره من جمال الوجه، كما يفعل الآخرون، وإنما تستمدها من جمال الفهم لمشكلة الحياة وقضية الإنسان!
وعلى ضوء الرؤية النقدية لواقعية نجيب محفوظ الإيحائية، نستطيع أن ننظر إليه وهو يتخذ موقفه، إلى جانب التطور بالنسبة إلى الأطراف المتقابلة، حتى لقد جعل كمال في نهاية «السكرية»، يتفاعل تفاعلا إيجابيا مع خطوات النضال الجديد. ونجيب في واقعيته لا يفرض الشخصية على الموقف، وإنما يفرض الموقف على الشخصية، بمعنى أنه يضع الشخصية في مستوى عقلي معين، يتحتم معه أن ترتبط بسلوك موقفي مناسب، وهذا ما نلاحظه على شخصياته في مختلف المواقف والمستويات؛ إن فرض الشخصية على الموقف عند كتاب الواقعية الأيديولوجية، ناتج من كون الموقف جاهز الإعداد مقدما في ذهن الكاتب، وأن الشخصية قد تكون غير جاهزة الوجود في الواقع الخارجي، ومن هنا نشعر أن الكاتب الأيديولوجي غالبا ما «يجوف» الشخصيات ليملأها بأفكاره الذاتية!
ومع ذلك فإن هذه الملحمة الروائية - كعمل فني يقف موقف الندية من أنضج الأعمال المماثلة في أدب الغرب - لا تخلو من بعض المآخذ، فنجيب محفوظ مثلا - وعلى الأخص في «بين القصرين» - يسرف أحيانا في رسم الأبعاد النفسية لبعض الشخصيات من خلال عملية السرد؛ وعيب هذه الطريقة أنها تطبع خط السير الحدثي بطابع البطء والرتابة!
إن الحركة بطيئة في بعض فصول الجزء الأول من هذه الرواية، ولو رسم نجيب تلك الأبعاد النفسية من خلال اللقطات الحديثة والموقفية، لرأينا تلك الحركة الجياشة، التي شملت الوجود الداخلي والخارجي للشخصيات في «قصر الشوق»، وبلغت الذروة في إبراز العنصر التجسيمي والتركيز لمختلف اتجاهات النسيج الروائي في «السكرية».
وهناك قطاعات عرضية قليلة، تخرج عن نطاق البعد الموضوعي الرئيسي للمشكلة في خطوطها العامة؛ وذلك حين يعمد نجيب إلى التفصيلات الجزئية، لما يدور أحيانا من أحداث ذاتية في الجو العائلي لآل شوكت، أو في جو المغامرات الجنسية لطبقة العوالم المغنيات، من أمثال زبيدة وجليلة زنوبة، أو في جو العلاقات البيئية والشعورية بين أحمد عبد الجواد وأصدقائه من طبقة التجار؛ لا تخلو عملية الالتقاط من الإسراف في تجميع كل الزوايا من أجل اكتمالية الصورة، وكنا نفضل لو لجأ نجيب إلى «الاختيار»؛ فاختيار الزاوية المعبرة قد تغنينا عن زوايا كثيرة، واختيار اللقطة الموحية قد تغنينا عن مجموعة كاملة من اللقطات!
الأخطل الصغير
دراسة فنية لشعره «عندما يتزوج الفكر الحياة، تولد التجربة في الفن.»
إذا لم تخني الذاكرة، فألبير كامي هو صاحب هذه الكلمات، وبقدر ما تحمل كلماته هنا من روح الشعر، فهي تحمل الكثير من منطق التحديد العلمي الضابط للمقاييس النقدية؛ ذلك لأن مفهوم المزاوجة بين كل طرفين متقابلين، هو أن تكون عملية ارتباط تفاعلية، يتحقق فيها عنصر التبادل المثمر والمشاركة المنتجة، إنها عملية يتوفر فيها جانب الإرادة، كما يتوفر فيها جانب الإدراك؛ لأننا حين نفكر في أن نرتبط بالطرف المقابل لوجودنا الإنساني، ندرك ما وراء اتجاهنا من رغبة ملحة في الشعور المكثف بالحياة؛ من خلال رؤية عقلية معينة، من هنا يتم تفتيت اللحظة الزمنية في بوتقة التفاعل المزدوج، بين الوجود الداخلي والوجود الخارجي، أو بين حركة التأمل الفكري للفنان، وحركة الحياة المندمجة في حركة الزمن. وتفتيت اللحظة الزمنية إلى جزئيات: متغيرة ونامية، هو ما نعبر عنه بمراحل التجربة. والتجربة النفسية في الفن تقتضي - لكي تتم لها كل أبعاد التجسيم - أن نعيش في قلب اللحظة الزمنية، وأن نراقب نموها من الداخل؛ ذلك لأن عملية المعايشة من الخارج، بعيدا عن مجال المراقبة التأملية الدقيقة، لا يفتح من نوافذ الرؤية لمراحل النمو المطرد غير تلك النافذة التي نطل منها على مرحلة التبلور النهائي، عندما يقتصر الفنان على أن يعطينا خلاصة التجربة. وعملية المعايشة من الخارج يترتب عليها من جهة أخرى أن تعرض التجربة وهي مبتورة، وبمعنى آخر: وهي جذور بغير امتدادات. وإذا ما اقتصرت هذه المعايشة على دور التفاعل الحسي بيننا وبين مشاهد الحياة، فهنا تتلاشى التجربة النفسية المكثفة، لتأخذ مكانها اللوحة الوصفية المجردة.
بشارة الخوري أو الأخطل الصغير - في هذا المجال التحديدي وعبر الرؤية النقدية - يبدو وهو شاعر اللوحة وليس شاعر التجربة؛ إنه رسام لوحات مبدع، وصاحب لغة شعرية ممتازة. وهو في محيط التعبير بالألفاظ والصورة، يتيح للنقد أن يعتبره واحدا من شعراء الجيل الماضي، وأن يعتبره في الوقت نفسه واحدا من شعراء هذا الجيل. إن النقد - على ضوء السمات التعبيرية لشعره - يستطيع أن يلحقه بمدرسة الشعر التقليدي إلى جانب شوقي ومطران، ويستطيع أن يلحقه بمدرسة الشعر التجديدي، إلى جانب إيليا أبي ماضي وعلي محمود طه؛ فكما نجد في شعره من ملامح المدرسة الأولى، ذلك الميل إلى التقرير والخطابية والاحتفاء برنين اللفظ، نجد من ملامح المدرسة الثانية تلك العناية بأن يحل التجسيم الإيحائي والموسيقى الداخلية والصورة المركبة، محل التقرير والخطابة والتعبير المباشر.
صفحه نامشخص