وبعد خطوات كان يحتويهما ظلام شوارع الدقي، حيث الليل والأشجار والفوانيس الغازية الشاحبة المتباعدة ونقيق الضفادع في الخرائب الكثيرة وهي تستقبل مقدم الربيع.
وكان هناك نقيق مشابه في رأس حمزة يعلو ويعلو، كان في رأسه بدير الذي زامله عاما في مدرسة ثانوية وقابله بعد ذلك في القاهرة صدفة، ونشأت بينهما منذ ذلك الحين علاقة لا هي سياسية ولا شخصية ولا لأن فيه اتفاقا في الأمزجة، ومع هذا ظلت قائمة لا تموت ولا تنطفئ. اختفى حمزة عنده حين جاء بيفن إلى مصر، ومع ما حدث فلم يكن ساخطا عليه بقدر ما كان ساخطا على نفسه إذ الخطأ خطؤه. كان من الواجب أن يحاول بجدية أكثر أن يكشف عن الإنسان الذي في بدير وينميه، إنه حتى وهو يطرده كان يحس ناحيته بالعطف والحب والألم، وهي مشاعر نادرا ما كانت تطرق باله، وخيل لحمزة أن نظرته إلى بدير وإلى الناس عامة تغيرت، بل لا بد أنها تغيرت، ولا بد أنه كان مخطئا إلى حد ما في استيعابه للجماعة البشرية. كان يؤمن أن الناس تتطور ولكنه يدرك الآن أنه كان يرى ذلك بطريقة آلية. إن فهمه للناس كان شيئا كهذا: المجتمع يكون كسرا اعتياديا له مقام يعد بالملايين وبسط يعد بالآحاد أو العشرات، وأن المجتمع يتطور بتناقص البسط مع المقام، كل إضافة للبسط على حساب المقام وكل إضافة للمقام تنتزع انتزاعا من البسط، وأن الإنسانية ستظل في عذاب وحروب حتى يطاح بالملوك والأبسطة وتتحرر المقامات وتصل البشرية إلى المجتمع الواحد الصحيح، إنه يدرك الآن أن فهمه ذاك كان ناقصا؛ إن الناس ليسوا أرقاما ولإرادتهم ولعواطفهم دخل في تطورهم المحتوم. إن الناس ليسوا آحادا وعشرات لا تملك إلا أن تتكاثر وتتناقض وتصنع التاريخ بحركتها، ولكن الناس زهرات الحياة البائعات فيهم أرق ما أبدعته الحياة من إحساس، وأثمن ما استطاع التاريخ أن يضيفه على البشر من عواطف، وإن الإنسان يمضي في الحياة وحوله هالة من أحاسيسه وعواطفه وأفكاره لها قدسيتها ولها هي الأخرى قوانين ووجود، وكأنما كان ينقص حمزة أن يحب وأن يمضي وفوزية بجواره في ظلام الدقي ليحس بها كالينبوع الفياض الذي يغذيه بإلهام جديد يرى على ضوئه الناس وأعماقهم، ويرى ما في أعماقهم من نبل وجمال، ويرى في بدير بذور الإنسانية التي كان عليه أن يتعهدها ويرويها.
وسألته فوزية وهو يلمح السؤال يلح عليها: ما له بدير؟ اتجنن؟ - لا، حبك. - حبني؟ حبني ازاي؟ - دا مش حبك وبس، دا بيغار عليك كمان، وعشان كده طردنا، هو انت حد يشوفك إلا اما يحبك؟ - غريبة! يمكن، أنا كنت حاسة أن نظرته لي مش عادية أبدا، وبعدين. - ولا قبلين، بدير كويس بس دي حاجة عارضة، أنا حسيبه لما يبرد شوية وبعدين أبدأ أتصل به تاني، الحقيقة أنا اللي غلطان مش بدير. - ودلوقتي رايحين فين؟ - أعرف شوية ناس، حنجرب، معاكي فلوس لحسن حناخد تاكسيات كتير. - خد. - تروحي انتي بقى. - أروح ازاي؟ أنا معاك لغاية أما اشوف حتروح فين. - الساعة ستة ونص دلوقتي. - إن شا الله تكون اتناشر.
وكأنما كانت هناك مؤامرة متفق عليها: الطالب الذي يعرفه في الجيزة مش موجود، وعلي الباز لا أحد يعرفه في العنوان الذي ذكره له، وقريبته الساكنة في شارع خلوصي وجد زوجها جاء من السفر وظهر رفضها واضحا في عينيها، وكان التاكسي لا يزال حائرا بهما كنحلة ضلت طريقها إلى خليتها، وشوارع القاهرة نهار وحاراتها فجر وأزقتها ليل بهيم.
والأحياء كثيرة، شبرا وعابدين والسيدة ومصر القديمة والأزهر وطولون وشارع فؤاد والدرب الأحمر، وبنايات ضخمة، خمسة أدوار وعشرة وعشرون، ومئات الآلاف من النوافذ وآلاف من الأبواب والبوابين، وعمارات نام سكانها وعمارات لم تنم وعمارات لا تنام، ورواد سينمات ورواد شوارع وفسح وكباريهات، وملابس سهرات، وما بعد ظهر، وبدل وأصواف ومعاطف، وفساتين فاقعة الألوان، ونساء جميلات في فتارين من البودرة والروج قد تقمصتهن فوريرات ثعالب ودببة، ويمكن نمور وأسود، وإشارات مرور حمراء وخضراء وصفراء، وأنوار نيون بكل الألوان، وعمال نظافة وعمال بلا نظافة، وعساكر سود وبيض على عجلات وعربيات وداوريات، ومباني بنوك هائلات ترقد ثابتات كأحدث أهرامات. الأهلي ومصر والكريدي ليونيه والأمة العربية وبنك المستعمرات وما وراء البحار، وخواجات وأروام وجريج ومن كل ملة ولون، وجامعي أعقاب وأصحاب عربات وشحاذين، وأناس ينتهي يومهم وأناس يبدءون اليوم، وأموات وأطفال يولدون، وراديو يذيع آخر الأنباء وبرقيات ومواعيد، وأسعار تهوي وأسعار ترتفع، وأناس يهوون ويرتفعون بلا أسعار، وخمور تخلط وحشيش، وعمليات اصطياد وصفقات، ومشاورات لتأليف الوزارة، وحناطير تنتظر وكاديلاك وتاكسيات تتجمع في أكوام كالذباب كلما بصق مكان رواده، وسواقون يتشاتمون ويمسون ويهزرون، وهؤلاء جميعا لهم مكان يأوون إليه وأمكنة لا يأوون إليها ولا حتى يعرفونها، وفوزية وحمزة يتسللان وسط هذا كله يحتميان من الظلام بسواده ومن النور بالعربات.
ورهيب ذلك الإحساس الذي يعتري الإنسان حين يرى هذا كله ويعيش داخله، وهو مدرك أن لا مكان له فيه.
وحمزة يسأل: طب والعفش يا فوزية حنجيبه منين؟ - مش مشكلة، حاخد أودة النوم بتاعة أمي. - حتقولي لابوكي إمتى؟ - الليلة، ضروري حيوافق. - حتى لو عرف إن أبويا عسكري دريسة. - عسكري إيه؟ - دريسة. - دريسة ايه؟ - عامل بيصلح سكك الحديد. - أبوك عامل؟ - أيوه. - يعني من صميم الشعب؟ - أيوه. - يعيش أبوك. - تعيشي أنت، تفتكري أبوكي حيوافق؟ - أظن كده، مش عارفة، بالكتير حيمط بوزه ويقول: انتي حرة، دا مستقبلك، اتصرفي فيه. - يعني مش حايرفض؟ - مش ممكن يرفض. - يعيش أبوكي. - وبعدين، الدنيا دي كلها ومش لاقيين مكان نبات فيه الليلة بس! - لازم حنلقى. - يعني بالعافية حنلقى؟ - أيوه بالعافية، أنا متفائل ومع ذلك مش مصدق اننا خلاص حنتجوز. - اعتبر الموضوع ده منتهي. - دا لسه ما ابتداش. - دا انتهى من أول يوم شفتك فيه وإيديك فيها جاز في الخيمة. - وحيبقى لينا ليلة دخلة؟ تعرفي ليلتها حا اعمل إيه؟ حاقفل الباب ورايا وأقول: يا زميلة فوزية حنتناقش، ما تتكسفيش. - يا جدع اتكسف انت. - إحنا لسه قفلنا الباب؟ - هس، الراجل ده باين عليه مخبر. - مش باين. - أنا أراهن. - لو ختي بالك كنتي عرفتي انه مش مخبر؛ لأنه أولا ماشي في وسط الشارع وماشي يتلفت، وباين عليه بيدور على حاجة، أهو لقاها، ووقف يستنى الأتوبيس، وأهوه ركب. - دا انا غبية قوي. - لأ، يمكن جديدة. - وحا اتقدم؟ - م، م منظور. - تعرف إنك لذيذ، أنا كل دقيقة باكتشف فيك حاجات تتحب. - وأنا كل دقيقة باحس بالتغيير اللي عملتيه في نفسي. - أنا عملت تغيير؟ - كتير. - مثلا. - مثلا، كنت واخد الكفاح بشكل بطولي، كنت فاهم اني باضحي عشان الناس فلازم يحبوني ويفردولي مكانة كأني مسيح، فاهماني ازاي؟ ودلوقتي شعرت بقضيتنا كبيرة وبدوري فيها متواضع، وكل ما باشوف ظلم باشعر إن اللي باعمله مهما كان قليل. مثل تاني ، كنت حاسس بالغربة وإني صحيح بقوم بدوري اللي بيخدم الناس، إنما كنت بعيد عنهم، إنت خلتيني أشعر بأني ارتبطت بالمجتمع ارتباط وثيق، إني بقيت منه، إننا كلنا عيلة، فاهماني ازاي؟ أنا وانت اندمجنا في كل الناس وأصبح تعدادنا بالمليون، أنا وانا ببص للناس حاسس كده، شايفة دول اللي مروحين واللي جايين، واللي راكبين على العربية الكارو دي، والمتشعبطين على السلم، واللي قاعدين ع القهوة دول؟ دول شعبنا، شايفاه ازاي مضروب ومبعثر؟ أنا حاسس دلوقتي إني با أحبه أكتر وإني عايز أفنى علشانه، وحاسس أكتر بحاجته للقائد اللي يلمه ويوصل بيه زي ما بتقولي للحب ولبكرة، فاهماني ازاي؟ - تعرف الكلام ده على لساني كنت عايزة أقوله، تعرف أنا اكتشفت اكتشاف خطير! - إيه! - أنا ما بقتش فوزية، أنا بقيت فوزية وحمزة. - وتعرفي أنا اكتشفت اكتشاف خطير! - إيه؟ - أنا مش حا اتجوزك بس، دا انا حا اتجوز بيكي المجتمع، فاهماني ازاي؟ - أنا بيتهيأ لي إن كل كلمة من كلامك ده بتخليني أحبك أكتر من الأول. - إحنا يا فوزية في كل لحظة حبنا بينمو؛ لأنه جزء من حبنا الكبير للناس والقيم الإنسانية، والناس بتتحرك وتتطور، وهو برضه النهارده مولود وباستمرار راح يكبر. - ولما نتجوز؟ - حايبقى شباب، في عز شبابه. - إنت الليلة دي رائع. - أنا شاعر بقوة جديدة، بطاقة من النشاط بتسري في تفكيري ونفسي وتكويني، دلوقتي حاسس بعمق إن بلدنا بلدنا فعلا، والناس دول ناسنا، وإننا لازم نعيش.
والليل يمضي لا يحفل بالمدينة، والمدينة تحيا غير حافلة بالليل، بناياتها الكبيرة تبدو صغيرة وبيوتها عشش نمل وشوارعها أضيق من ثقوب الإبرة، والناس كثيرون كثيرون، وفوزية بجوار حمزة وفي كيانه، وذراعها حول ذراعه، وصدرها قريب من صدره، وفي عينيها بريق وتحد والعيون كثيرة، والخطر في كل خطوة.
وفي مكان من شارع الملكة، والعربات طائرة كالريح والأسفلت يمتد طويلا أسود يلمع بضوء المصابيح المنمقة الموضوعة على جانبيه، خطر له خاطر فتوقف في الحال وقال: أما احنا مسطولين صحيح، ما أروح عند صاحبتك دي اللي قلتي إنها مستعدة تخبي ناس، اسمها ايه، ما ... قولي معايا.
فأجابت وهي تضحك: مافيش داعي تتذكر اسمها. - ليه؟ - لأنها موجودة هنا بس.
صفحه نامشخص