نهايته، كتب عليكم الهم والغم كما كتب على الذين من قبلكم.
وأدار رأسه إلى المرأة: يا ولية اسمك إيه؟ - خديجة. - خديجة إيه؟ انطقي. - خديجة محمد. - يا ولية اتحركي، محمد إيه؟
وقبل أن تجيب أرقد قلمه، وأسند كوعيه إلى الصفحة ووضع رأسه بين يديه وقال من تحت حافة «الكاب»، والمصباح الذي أمامه يهتز كالبندول فيتحرك ظل رأسه على الحائط الذي خلفه، يتحرك رائحا غاديا كقرد كبير: أنا المجني عليه والنبي، هي حكاية محضر؟ هو انا عجزت من شوية؟ تلاتين سنة خدمة وحياتك ويوميا بهذا الشكل ، جبتها من المنزلة لعنيبة ومن العريش لمرسى مطروح، وشفت اللي ادبح عشان عود قصب، واللي حرق جرن عشان كوز درة، الناس اجننت، هو الواحد شاب من شوية؟
وأنهى كلامه فجأة وانقض على يد كانت تمتد إلى المكتب وخبط عليها بعنف وعصبية قائلا: قلتلك ميت مرة شوفلك نشافة تانية، هو مافيش في القسم كله الا دي؟ أعوذ بالله، احنا في سوق النور!
قال هذا وانتظر حتى اختفى صاحب اليد مهيض الجناح، والتفت إلي بوجهه الجاد المشدود الملامح: والواحد يبقى حارق دمه، وأولاد ال... ولا هاممهم وعمالين يهزروا.
وكان يشير بعينيه وهو يتكلم إلى حجرة التليفون حيث اجتمع بعض العساكر حول زميل لهم بدين مترهل وله كرش كبير، وكان بعضهم يكتفه والآخرون يحاولون جذب بنطلونه وإنزاله، والرجل يلهث ويناضل بكل ما يسمح به شحمه من قوة.
وبركن عيني لمحت الصول فرحات يبتسم ويضحك ويقهقه، ثم ينسى كل شيء ويمد رقبته يتابع المعركة، وظهر عليه أسف حقيقي حين انتهت المعركة بانتصار صاحب الكرش وتخلصه ممن حوله، ورفع حينئذ صوته قائلا بلهجة صعيدية خالصة: آه يا نسوان! ماقادرنشي على أبو كرش كليته «شغت»؟!
وما كاد يتم كلامه حتى فتح باب جانبي وظهر المعاون في الفناء، وأصبح القسم فجأة أصم أبكم، وهبطت الصرامة تجمد كل شيء، وقال الصول للمرأة في حزم: بتقولي اسمك خديجة محمد إيه؟
وتركته يحقق وشغلتني عنه داورية الليل، وقد بدأت تتجمع في الفناء، وحين تجمعت بدا منظرها عجيبا: صفان من الظلام التام ليس فيه إلا بريق الزراير النحاسية الصفراء، وفوق الظلام نار من الطرابيش الحمراء الفاقعة، وأمام كل صف صف آخر من الأيدي الممدودة تسند البنادق بلا حماس، وتسمع في الظلام همهمات وضحكات تموت سريعا كالشهب، وقد يشذ عن الأيدي الممدودة كوع ويلكز جاره.
وفتش عليه المعاون وأنفه - كالديك الرومي - في السماء، وعينه على زرار لا يبرق أو حذاء نفض عنه بعض سواده، وراح وجاء ثم دخل حجرته، والظاهر أنه تعشى؛ فقد خرج وهو لا زال يمضغ وعلى شفتيه لمعة، وفتش مرة أخرى وهو يجفف يديه بعد أن اغتسل.
صفحه نامشخص