ولم يكن حمزة قد فكر في مشكلة كتلك فقال: سيد يا أخي، الطويل قوي ده الرفيع. - آه قول كده أمال، سيد محمد براهيم، أيوه أنت لازم قصدك سيد محمد براهيم، مش كدة واللا أنا من غير مؤاخذة غلطان؟ - لأ، لازم هو، هو فين؟ - هو، هو من غير مؤاخذة راح يعمل زي الناس وجاي، زمانه جاي، اتفضل! هو حضرتك يعني لا مؤاخذة عايز حاجة؟ - آه، أصل أنا طالب في كلية الطب وباجي آخذ منه عضم، بس ده بيني وبينك. - عيب يا بيه، هو انا لا مؤاخذة عيل صغير واللا عبيط؟ دانا ياما أفندية وبهوات، ولاد حلال زي جنابك جولي كتير، كانوا بييجوا بعربيات فخفخه قوي ويقفوا هناك هنا هه، وأروح أنا أجيب لهم العضم أشكال وألوان، ويقولوا لي: عايز كام يا عم سماعين؟ أقول: والله ما يتبعني ولا مليم؛ هو انا اشتريته واللا تعبت فيه؟! من هنا لهنا يتحايلو علي واللي يديني نص جنيه واللي جنيه، مش كله، حاكم صوابعك مش زي بعضها، ومرة واحد إداني بريزة، طب تصدق بإيه؟ صعب علي وادتهالو تاني. - هو حضرتك بتشتغل هنا؟ - إلا دي، دانا مولود هنا، وإن مت بإذن الله حموت هنا واندفن هنا (وأشار إلى مقبرة قريبة)، دانا جاني علي باشا إبراهيم الله يرحمه ويحسن إليه ياخد مني عضم، كان أياميها لا باشا ولا حاجة، كان زي حضرتك كده لابس طربوش برضه ، أمال! دانا هنا وأبويا كان هنا وجدي هو اللي ناشئ الملك دا كله، طب تصدق بإيه؟ أنا مرة جبت لواحد بيه زي حضرتك كده جثة كاملة واداني يومها عشرة جنيه في إيدي دي اللي بكره حياكلها الدود، أنا هنا؟ وإن ماكنتش أنا هنا يبقى مين هنا؟ بس تقف عند باب الوزير وتقول سماعين أبو دومة فين يجيبوك لغاية عندي، أيها خدمة يا بيه؟ عايز بقى عضم مشكل واللا هيكل بحاله؟ قول بس وفي دقيقة تبص تلاقيني جايبلك اللي أنت عاوزه، عايز ايه جنابك؟ - أنا عايز سيد. - آه سيد، زمانه جاي، أصله من غير مؤاخذة راح يعمل زي الناس، ما هو انا وسيد واحد مافيش فرق كلنا اخوات.
وجاء سيد، بدا من بعيد لطوله ونحافته وكأنه شاهد قبر هبط فجأة على الأرض وأخذ يمشي، وما إن لمحه حمزة حتى أسرع إليه تاركا أبو دومة يقول: أي خدمة يا بيه؟ كلنا اخوات، بس تقول فين سماعين أبو دومة ألف من يدلك.
وسلم عليه سيد بحرارة، ولم يتبادلا كلمة واحدة حتى ابتعدا كثيرا وتاها في كثرة المقابر، وحينئذ قال سيد: خير إن شاء الله؟ - اسمع يا سيد. - إيه؟ - إنت فاكر حسن؟ - أوي! ماله؟ دا واد جدع قوي. - اتقبض عليه. - يا نهار أسود! ازاي؟ - كده، لازم ننقل الأسمنت النهاردة. - وحسن اتقبض عليه؟ - أيوه ما قلتلك. - يا خسارة! يا فتاح يا عليم يا رب! ما تخدوني بقى يا أخي، الواحد قرف من العيشة دي. - حييجي يوم ناخدك بس كل حاجة بأوان، واللا إيه؟ - وحنعمل ايه؟ - ياللا هاته عشان نعبيه في الشنطة دي.
ومشى سيد وقد اكفهرت ملامحه وتغضن وجهه المتغضن وازداد نحولا.
ومشى حمزة وراءه يراقب أقدامه الحافية الكبيرة وهي تترك آثارها على الرمال، وجلبابه الذي عقد ذيله من ناحية والعقدة تتأرجح لكل خطوة، وكانت المقابر تسبح في هدوء يوم الشتاء ذاك، هدوء مهيمن كبير أكبر من السماء والأرض، وأشعة الشمس ما تكاد تصل حتى يشلها الهدوء، فتكمل رحلتها إلى الأرض زاحفة عليلة ، وكانت رياح باردة تهب، رياح ذات طعم مختلف تماما عن رياح المدينة وكأنها تهب من فجوة خاصة في أحد المدافن، والقبور متراصة مزدحمة تكاد تحسبها قطيعا مهرولا من ركائب مسرجة، ولا يستطيع الإنسان أن يميز شيئا بذاته؛ فهو يرى القبور من خلال يوم الشتاء البارد، ويحس بالريح من خلال القبور والزمهرير، ولا يرى الشمس إلا مضيئة مدفنا أو زاحفة أشعتها فوق تراب حفرة. وتنبه حمزة من تأملاته على آثار أقدام سيد وهي تنقطع وتؤدي إلى باب فتحه سيد وأحدث فتحه في الهدوء الشامل صريرا مزعجا، ودخل سيد ودخل حمزة وراءه: كان المكان مظلما لا يتسرب إليه الضوء إلا من خلال شقوق موجودة بين ألواح نافذته، وكانت هناك رائحة لا تستحب؛ لا لأنها كريهة، ولكن لأن فيها شيئا ما ينفر، كانت بلا ريب الرائحة التي تصاحب عملية تحول الإنسان إلى تراب، وما أشد نفور الإنسان من رائحة تحوله إلى تراب!
وانقض سيد على بقعة في ركن المكان وأعمل فيها أصابعه، وظل يعمل بلا هوادة، وحمزة قد مل الوقوف فوضع الحقيبة وارتكز عليها، وتكشف التراب الذي كان يزيحه سيد عن «مجاديل» مصنوعة من أحجار طويلة موضوعة بعضها إلى جوار بعض وتغطى فجوة.
وأدخل سيد أصابعه الجافة بين مجدالين، وناضل بقوة حتى اقتلع واحدا، وخف حمزة ليساعده ولكن سيد رفع إليه وجهه الذي كان مغطى بتراب وبعرق كثير يلمع في ظلام تضيئه رقائق الضوء وقال: عنك أنت يا أستاذ خليك مستريح، هيه!
قال «هيه» وهو يعتل ويقتلع حجرا آخر.
وبعد أن رفع الأحجار كلها وجفف عرقه بجلبابه حدق في الحفرة، وحدق حمزة كذلك، وتبين بعد أن تعودت عيناه ظلام الحفرة أن بها درجات تؤدي إلى القاع ما لبث سيد أن هبط عليها بغطائها.
وجاءه صوته بعد فترة مخنوقا محشورا: خد يا أستاذ.
صفحه نامشخص