فقط لو يعرف أين تقوده قدماه، خيل إليه أنه يطرق أرضا غريبة، وثمة إحساس يتحرك حركات ملتوية رفيعة في نفسه ويقول: إنه ليس على ما يرام، وإن شيئا ينقصه. - امسكوه، حلق يا أخينا، حرامي، حرامي.
جاءه الصوت هذه المرة قريبا، حتى خاله وراءه تماما، بل خيل إليه أن الكلمات تخرج من رأسه هو، ووجد نفسه دون وعي يبتسم، إن مطارديه يقولون للناس حرامي لينتبه إليه الناس حتى يسرقوهم هم، ما ألطفها مسرحية، سيقولونها ذات يوم لفوزية.
لا بد من مكان يختفي فيه، أممكن أن يدخل في أحد الأبواب الكثيرة التي تمر أمامه؟ فقط لو تطول المسافة بينه وبينهم دقيقة واحدة كان يستطيع التفكير، إنه الآن لا يفكر ولا يرى أنه يجري، ويجري تقوده غريزة، وتقوده الجدران؛ الجدران المتماسكة المتراصة هي التي تحدد طريقه، أين هو الآن؟ إن هذه المباني لا تمت إلى السيدة ولا إلى المدبح ولا إلى زين العابدين، إنها غريبة وكأنه يجري في قرية من قرى الهند، دخل حارة ليس فيها أحد، خاوية إلا من عربة من عربات النظافة ذات العجل الكبير الواسع، العربة بعيدة عنه، إنه يخاف أن يصطدم بها، هناك قوة تجذبه إليها، حالا ستشطره، فليبتعد، ليتجنبها بأقصى ما يستطيع، ولا يستطيع، جدران على اليمين، وجدران على اليسار، وعربة كبيرة هائلة الحجم تسد عليه الطريق، لا تدع له منفذا، كيف حدث هذا؟ كيف؟ لقد مرت بجواره ولم تقتله، من أين جاء الفراغ الذي مرق منه؟ الحارة نهايتها تبدو قريبة، إنه يرى أناسا كثيرين متجمعين عند نهايتها، إنهم قطعا يتربصون به، وينتظرونه: أنا وطني أنا وطني! وتلفت خلفه، مطاردوه قد تكاثروا، أصبحوا عشرات، لا يمكنه التوقف، ولكن إلى أين؟ لا بد من مكان خال، مكان أمين، بعيدا عن الناس، يخفيه تماما، ولا يدع عينا تراه.
إنه لا يحس بالتعب، ولا بالراحة، زكريا لديه فرص أوسع، إنه عداء سريع، حتى لو أمسكوه سيكون زكريا قد أفلت ولن تموت اللجنة، لن تموت، الناس الذين عند نهاية الحارة كثيرون، إنه يقترب منهم في اندفاع أهوج، إنه لا يستطيع أن يمنع اندفاعه أو يقلل من سرعته، إنه يقترب جدا من الناس، الأصوات تنبعث من خلفه امسك حرامي، عليه أن ينبه المتجمعين أمامه حتى يتركوه يمر وصرخ: أنا وطني أنا وطني!
وحتى لم يسمع الكلمات وهي تغادر فمه؛ فقد ضاع صوته تماما حين وجد نفسه في اللحظة التالية في شارع السد وفي ضجته الهائلة التي تتضاعف أيام الجمع، ولدهشته كان الناس الذين خيل إليه أنهم يترقبونه كانوا هم المزدحمين في الشارع لا أكثر ولا أقل، الرائجين الغادين الذين يتقابلون ويصطدمون ويتلاحمون كالعادة، وكان عليه أن يجري حتى لا يدركه المطاردون مخترقا الصفوف المتكاثفة من الناس، لقد هبطت سرعته جدا ، أصبح لا يكاد يستطيع نقل قدميه أو المسير، فقط المسير، المطاردون إذن قابضون عليه لا محالة.
وكان أخوف ما يخافه حمزة إذا وجد نفسه في ازدحام ما أن تسقط نظارته، ولهذا وبحركة لا إرادية رفع يده إلى نفسه يمسك بها النظارة، وروع بأنه لا يجدها، لا على أنفه ولا على أذنيه، كيف حدث هذا؟ وأين سقطت؟ لا بد أنها وقعت أثناء محاولة فراره، لا بد أنها دشدشت تماما حين سقطت.
الله! وكيف كان يجري إذن؟ كيف استطاع قطع كل تلك المسافة دون أن يصطدم أو يتعثر أو يسقط؟ كيف؟ ثم كيف يمشي الآن بغيرها؟ إنه فعلا يرى، لا يرى الأشياء والناس بكل دقائقها ولكنه يرى والرؤية واضحة.
وتطلع إلى الوراء - وكان قد تعمق داخل الازدحام - ليقدر المسافة الباقية للقبض عليه، ولم ير إلا قفا ضخما يحجب عنه الرؤية، وقد سد الثغرة التي ناضل بقوة حتى اخترقها منذ هنيهة، بل لحمها القفا وكأنه «قصدير» بشري، ومال حمزة إلى اليمين عله يتمكن من التطلع ولكن كانت تسد اليمين امرأة تحمل ابنها فوق كتفها، وحاول أن يتطلع من اليسار ولكنه وجده مغلقا تماما بشاب يحمل فوق رأسه قفص عيش طابونة، وصبي جزار حاملا فخذة كندوز، ومدخنة فرن بطاطة فوق عربة يد، ورأس حصان يحاور الذباب ويداوره، ومقطف لا يرى من يحمله وكأنه معلق بين السماء والأرض.
الله! عليه أن يحدد مكانه بالضبط من مطارديه ليحدد سرعته وإلا ضاع، وحاول أن يزاحم ليصل إلى مكان غير مزدحم يستطيع منه الرؤية ولكنه لم يستطع حتى التحرك، بل وجد نفسه مسوقا رغما عنه بحركة جيرانه وجيران جيرانه إلى التحرك قدما إلى الأمام.
وأصابه اليأس والضيق، ولم يكن في مقدوره أن يفعل شيئا آخر ليحدد مكانه إلا أن يصيخ بأذنيه ليسمع نداءهم المعهود: امسك حرامي، وأصاخ آذانه ولكنه سمع هديرا هائلا من: معسلة قوي يا بطاطة، إمساكية السنة الجديدة، امسك شيش بيش، اسمع يا جدع، أمساء النجف، عسل يا تين، زي صدر البكارى يا رمان، يا جدع دانا اللي شاري الحلو وبابيعه، اوعى رجلك، أيها الناس اتقوا الله في أنفسكم واذكروا يوما عبوسا قمطريرا، يا أم هاشم، امشي يا ابن ال... اسمع يا جدع وصلي على الحبيب، دا الخواجة فلس وباع نصيبه ...
صفحه نامشخص