مقدمة المترجم
الكتاب الأول: العدالة
الكتاب الثاني: المدينة السعيدة
الكتاب الثالث: دستور المدينة
الكتاب الرابع: الفضائل الأربع
الكتاب الخامس: المسألة الجنسية
الكتاب السادس: الفلاسفة
الكتاب السابع: المثل
الكتاب الثامن: الحكومات الدنيا
الكتاب التاسع: المستبد
صفحه نامشخص
الكتاب العاشر: التقليد وجزاء الفضيلة
مقدمة المترجم
الكتاب الأول: العدالة
الكتاب الثاني: المدينة السعيدة
الكتاب الثالث: دستور المدينة
الكتاب الرابع: الفضائل الأربع
الكتاب الخامس: المسألة الجنسية
الكتاب السادس: الفلاسفة
الكتاب السابع: المثل
الكتاب الثامن: الحكومات الدنيا
صفحه نامشخص
الكتاب التاسع: المستبد
الكتاب العاشر: التقليد وجزاء الفضيلة
جمهورية أفلاطون
جمهورية أفلاطون
تأليف
أفلاطون
ترجمة
حنا خباز
مقدمة المترجم
الدولة برجالها والأمة بآحادها. على هذا المحور يدور القسم الأكبر من مباحث الجمهورية، والتاريخ كله أدلة قاطعة تثبت هذه النظرية؛ فقد أنشأ الإسكندر المكدوني الدولة اليونانية، وشارلمان بابين الدولة الفرنسية، وبطرس الكبير الدولة الروسية، وغاريبلدي ورفقاؤه الدولة الإيطالية، وقس على ذلك مئات الشواهد في كل العصور.
صفحه نامشخص
تحيا الأمة أو تموت، وتعلو أو تسفل، وتسعد أو تشقى؛ بقياس ما فيها من الآحاد - النوابغ - وبقياس معاملتها أولئك الآحاد، فأمة أو دولة تقدر آحادها أقدارهم وتطلق أيديهم في إبراز ما أوتوا من علم أو فن أو إبداع، وتمهد لهم الوسائل للفوز والفلاح؛ هي أمة أو دولة سعيدة خالدة، أما الدولة التي تغل أيدي نوابغها وتقيم العقبات في سبيلهم، فهي دولة معتسفة تاعسة.
فتربية الرجال ومكانتهم ورعايتهم وما لهم من النفوذ في الدولة، يشغل القسم الخيالي في جمهورية أفلاطون، وقد رمز بذلك إلى الرجل الفذ الأريحي، الحكيم الشجاع العفيف العادل، الذي يدعوه «المثل الأعلى»، وهو ركن الدولة المثلى. فإذا سرح القارئ رائد طرفه في الجمهورية رأى أمامه جوا صافيا حافلا بالمثل، مزدانا بغرر الأفكار، فتثور في نفسه محبة الجمال، وتنطبع تلك النفس بطابع الجمال الذي رأت مثله في تفكير أفلاطون من نزاهة نفس، وسديد رأي، وثاقب نظر، وعالي همة، وترفع عن التقليد والزلفى، وعن مسايرة البيئة؛ وبالإجمال، عن كل ما يغل الفكر من عادات وتقاليد وأوهام؛ ففي هذا الموقف يتجلى للذهن جمال الحقيقة الخلاب، فتصير ضالته المنشودة وإلاهته المعبودة. هذا هو الرجل الذي يفتقر شرقنا إليه، وهو ما أرجو أن تكون هذه الجمهورية من وسائل خلقه وتنشئته.
فالنتيجة الصحيحة لهذه المقدمة في منطق القارئ النبيه، هي أن تكون ترجمتي سهلة المأخذ، واضحة البيان، لتكون في متناول العامة إذا أمكن، فتقود النفس بسهولة إلى رؤية الجمال. ذلك ما توخيته في الترجمة، وقد علقت على صفحات الكتاب الهوامش، وبدأت كل فصل منه بتمهيد يشتمل على خلاصته، ووضعت في الهوامش الأرقام التي تسهل على المطالع المراجعة والاستشهاد؛ كل ذلك لتسهيل فهمه على مطالعيه.
وقد كان بين يدي ثلاث ترجمات إنكليزية، هي ترجمة تيار، وترجمة سبنس، وترجمة دافيس وفوغان، فكنت أقابل كل جملة فيها من أول الكتاب إلى آخره، وأقف على صورة التعبير في كل منها، وقد بذلت وسعي في اختيار أصحها؛ لأنها تختلف في كثير من مواقفها اختلافا كبيرا؛ فكنت أوثر أقربها لروح أفلاطون، معتمدا بالأكثر ترجمة دافيس وفوغان؛ لأني علمت أنها معتمدة في جامعة أكسفرد، ولأن أكابر الكتاب والفلاسفة والعلماء يعتمدونها، كدورانت ورسل والإنسكلوبيديا.
ولا يسعني إلا التنبيه إلى ما ورد في كتاب الجمهورية من الأشعار من نظم هوميروس وهسيودس، وغرض أفلاطون في ذلك نقدها وتفنيد ما تتضمنه من المبادئ الفاسدة والتعاليم المنكرة؛ فلا يضعن القارئ قلبه عليها، فإن مسألة شاعريتها وبلاغتها غير مرادة هنا.
ولا يفوتني إثبات شكري الوافر لحضرة فؤاد أفندي صروف، رئيس تحرير المقتطف، صاحب الفضل في نشر هذا الكتاب، وفي معاونته لي في مراجعة مسوداته، وقد راجعت مع ابني توفيق (ب. ع.) مدرس الترجمة في كلية غردون بالخرطوم - بالسودان - كل الكتاب، والترجمات الثلاث بين أيدينا؛ فأصلح وعدل في الترجمة شيئا كثيرا. فإذا شام القارئ في الترجمة شيئا من الضبط والاتساق، فالفضل بالأكثر لشريكي المذكورين، أما الأغلاط والخطيئات الواردة فيه فهي على مسئوليتي وحدي.
ورجائي إلى القارئ النبيه ألا يسرع في تقليب صفحات هذا الكتاب؛ لأنه ليس كتاب تسلية ولهو، بل هو من تحف الأدهار، وكما هو من نتاج أزكى العقول، فهو عشيق أزكى العقول. وحسب مؤلفه أفلاطون فخرا أنه قد مر على تأليفه نحو 2300 سنة، وهو يدرس اليوم في أرقى جامعات الدنيا، مع أن ملايين من المؤلفات التي صدرت من عهد أفلاطون إلى اليوم قد أصبحت نسيا منسيا، وكأي من مؤلف ضربت العناكب على تأليفه ولم تفسد أكفانه. وهذا كتاب الجمهورية يحسبونه كتاب الكتب في عصر بلغ النقد فيه أسمى مبالغه؛ فأرجو القارئ أن يتأنى في قراءته، وأن يعطيه حقه من الروية والإمعان؛ لأنه خير كاشف عن باطن أكبر فيلسوف عاش في كل الأجيال.
أجل إننا لسنا نوافق أفلاطون في كل نظرياته، وقد نشرناها على مسئوليته، ولكنا معجبون وأكثر من معجبين بنظام تفكيره، ورحابة صدره، وضبطه في الأحكام، وفيض بلاغته وبيانه، ونشاركه في غرض التأليف العام وهو «السعادة»، وفي الوسيلة الخاصة المؤدية إلى ذلك الغرض وهي «الفضيلة»، ونوافقه في أن الفضيلة تراد لذاتها ونتائجها، وفي أن الفرد دولة مصغرة والدولة جسم كبير، وأن ما يسعد الدولة يسعد الفرد، وأن الرجل الكامل - المثل الأعلى - هو الذي تحكم عقله في شهواته، وانقادت حماسته إلى حكمته، وعاش ومات في خدمة المجموع.
حنا خباز
مصر، 12 أغسطس سنة 1929
صفحه نامشخص
أفلاطون (نقلا عن كتاب «قصة الفلسفة»، تأليف الدكتور ول دورانت).
الكتاب الأول: العدالة
خلاصته
لما انحدر سقراط وغلوكون إلى بيرايوس لحضور حفلة العيد الذي اقتبسوه حديثا من الثراكيين، التقى ببوليمارخس وأديمنتس ونيسيراس وغيرهم من الأصحاب، فأقنعهما هؤلاء أن يصحباهم إلى بيت سيفالس والد بوليمارخس، وتحادث سقراط وسيفالس في محن الشيخوخة وآلامها، فأفضى بهما الحديث إلى هذه المسألة: ما هي العدالة؟ فانسحب سيفالس تاركا ميدان البحث لولده بوليمارخس.
فبدأ بوليمارخس البحث بإيراد حد العدالة المأثور عن سيمونيدس، وخلاصته: العدالة هي أن يرد للإنسان ما هو له. فاعترضتهما مسألة أخرى، وهي: ماذا عنى سيمونيدس بكلمة «له» أو حقه؟ لأنه واضح أنه أراد بها أكثر قليلا من حق التملك، وعنده أن طبيعة الحق تتوقف على طبيعة العلاقة بين المتعاملين؛ وعليه: جعل العدالة «نفع الأصحاب ومضرة الأعداء».
فسأله سقراط أن يحدد «الأصحاب»، ولما أجابه بوليمارخس أن الأصحاب «هم الذين نعتقد فيهم الأمانة والصلاح»، رد عليه سقراط قائلا: لما كنا معرضين للخطأ في الحكم في صفات الناس، فإن ذلك - ولا شك - يجرنا إما إلى مضرة الصالحين، وهو تعليم فاسد، أو إلى أن العدالة هي مضرة الأصحاب، وهو ضد حد سيمونيدس على خط مستقيم.
فللتخلص من هذا المشكل عدل بوليمارخس موقفه، وأفرغ نظرية سيمونيدس بهذا القالب: العدالة هي مساعدة الأصحاب الأمناء ومضرة الأعداء الأشرار.
فبرهن سقراط في رده على أن الإضرار بالإنسان يجعله أكثر شرا وأقل عدالة، فكيف يمكن أن يضعف الإنسان العادل بعدالته عدالة الآخرين؟ فحد سيمونيدس، حسب التعديل الأخير، غير صحيح.
فتعرض ثراسيماخس للبحث، وبعد اللتيا والتي حدد العدالة بأنها: منفعة الأقوى. وأسند تحديده إلى البرهان الآتي:
انتهاك حرمة الشريعة يحسب تعديا عند كل حكومة.
صفحه نامشخص
تسن الشرائع لصيانة مصلحة الحكومة.
الحكومة أقوى من الرعية.
والنتيجة أن العدالة هي مصلحة الأقوى، أو: «الحق للقوة.»
فرد سقراط بأن الحكومة قد تخطئ في سنها شرائع مضرة بمصلحتها، والعدالة في رأي ثراسيماخس توجب على الرعية إطاعة الشريعة في كل حال؛ فإذا: كثيرا ما تكون العدالة إضرار الرعية بمصلحة الحكومة، فتكون العدالة ضد مصلحة الأقوى. فلا يمكن قبول هذا الحد.
فهربا من هذه النتيجة تراجع ثراسيماخس من موقفه هذا وقال: إن الحاكم اصطلاحا لا يغلط باعتبار حاكميته، فالحكومة كحكومة تسن دائما ما هو في مصلحتها، وذلك ما توجب الشريعة على الرعية إطاعته. فأثبت سقراط في رده أن كل فن - وبالجملة فن الحكم - لا يتناول مصلحة أربابه أو الأعلى، بل مصلحة المحكوم أو الأدنى. فاقتضب ثراسيماخس الكلام محولا الموضوع إلى أن الحكام يعاملون الشعب معاملة الراعي قطيعه، فإنه يرعاه ويسمنه لمصلحته هو؛ ولذلك فالتعدي أفضل وأنفع كثيرا من العدالة.
فأصلح سقراط هذا القول بأن الراعي لا يسمن المواشي لمصلحته الخاصة، وأخذ من قاعدة ثراسيماخس أن غرض الرعاية الخاص توخي مصلحة الرعية. زد على ذلك: كيف نعلل قبض الحاكم راتبا على عمله إن لم يكن ذلك العمل لخير الشعب وليس لخيره ؟ فكل فني، بأدق معاني الكلام، يكافأ بفنه مكافأة غير مباشرة، ولكنه يكافأ مباشرة بما أسماه سقراط «فن الأجور»، وهذا يصحب غيره من أنواع المكافأة. ثم أعاد النظر في القول: التعدي الكلي أنفع من العدالة التامة؛ فاستخرج من فم ثراسيماخس الاعتراف ب «أن العدالة فطرة صالحة»، و«التعدي سياسة حسنة»؛ وبالتالي سياسة حكيمة صالحة فعالة، فقاده سقراط بذلاقة لسانه إلى التسليم بما يأتي: (1)
يحاول المتعدي خدعة العادل والظالم معا، أما العادل فيقتصر على خدعة الظالم فقط. (2)
كل حصيف في فن وهو صالح وحكيم، لا يحاول غلبة الحصيف، بل غلبة الغبي. (3)
فلا يحاول الصالحون سبق أمثالهم، بل سبق الأغيار، فينتج من ذلك أن العادل حكيم وصالح، والمتعدي شرير وجاهل. وحينذاك تقدم سقراط لتبيان أن التعدي يلد النزاع والانقسام، أما العدالة فتؤدي إلى الاتساق والوئام، وأن التعدي يقضي على كل ميل إلى الاتحاد في العمل، في الأفراد وفي الجماعات؛ لذلك كان التعدي عنصر ضعف لا قوة.
وأخيرا أوضح سقراط أن النفس كالعين والأذن وغيرهما من الحواس، لها عمل أو وظيفة تتمها، ولها أيضا فضيلة بها تتمكن من ذلك الإتمام، وتلك الفضيلة في النفس هي العدالة، فلا تستطيع النفس إتمام عملها إتماما حسنا دون سلامة فضيلتها؛ لذلك لا يمكن أن يكون التعدي أنفع من العدالة. مع ذلك صرح سقراط أن هذه الحجج غير قاطعة؛ لأنه لم يتوصل بعد إلى اكتشاف طبيعة العدالة الحقيقية.
صفحه نامشخص
متن الكتاب
المتكلمون: سقراط، وسيفالس، وبوليمارخس، وغلوكون،
1
وأديمنتس، وثراسيماخس.
الرواية بلسان سقراط. المكان: بيت سيفالس في بيرايوس.
قال سقراط: انحدرت البارحة إلى بيرايوس، صحبة غلوكون بن أريسطون، لتقديم العبادة للإلاهة، مع الرغبة في مشاهدة حفلات العيد وكيفية إقامتها، وقد اعتزموا على ممارستها للمرة الأولى؛
2
فسرني موكب مواطني الأثينيين، على أن موكب الثراكيين لم يكن دونه بهاء. وبعد الانتهاء من مراسم العبادة، وإشباع عاطفة حب الاستطلاع، قفلنا راجعين إلى أثينا، فرآنا بوليمارخس بن سيفالس عن كثب ونحن راجعون، فأرسل غلامه يستوقفنا ريثما يصل هو، فأمسك الغلام بأطراف ردائي من وراء قائلا: سيدي بوليمارخس يرجوكما انتظاره قليلا. فالتفت وسألته: أين هو؟ قال: ها هو قادم، فانتظراه. قال غلوكون: إنا منتظران. وللحال وصل بوليمارخس، وأديمنتس أخو غلوكون، ونيسيراتس بن نيسياس، وآخرون غيرهم كانوا راجعين من الحفلة، فبدأ بوليمارخس الكلام.
بوليمارخس :
يا سقراط، إذا لم أخطئ الظن، فأنتما عائدان إلى المدينة؟
صفحه نامشخص
سقراط :
لم تخطئ الظن.
بوليمارخس :
أفلا تريان وفرة عددنا؟
سقراط :
دون شك إنا نراها.
3
ب :
فعليكما إما أن تبرهنا على أنكما أقوى منا فتسيران، أو مكانكما.
س :
صفحه نامشخص
بل إن هنالك رأيا آخر، وهو أن نقنعكم أنه يجب أن تأذنوا لنا بالذهاب.
ب :
أويمكنكما إقناعنا إذا نحن أبينا الإصغاء؟
غلوكون :
كلا.
ب :
فكونا على يقين أننا لن نسمع لكما.
أديمنتس :
أولا تعلمان أنه سيكون الليلة طراد بالمشاعل إكراما للإلاهة؟
س :
صفحه نامشخص
أعلى متون الخيل؟ إنه شيء جديد، أفعازمون هم على تبادل المشاعل بالأيدي والخيول مغيرة بهم؟ أو ماذا تعني؟
ب :
إنه كما تقول، عدا ذلك سيكون عندنا الليلة احتفال يستحق الفرجة، فسنقوم عن العشاء ونشهد الحفلة، فنجتمع بكثيرين من الشبان ونطارحهم الحديث. فالمرجو أن لا ترفضوا التماسنا.
غلوكون :
يظهر أن بقاءنا لازم.
س :
فلنبق إذا شئت. (فسرنا إلى بيت بوليمارخس، حيث لقينا أخويه ليسياس وأثيديموس، وثراسيماخس، وشارمنتيدس البيوني، وكليتيفون بن أريستونيموس. وكان سيفالس والد بوليمارخس أيضا في البيت، وقد تبينت فيه ملامح الهرم؛ إذ لم أكن قد رأيته من عهد بعيد، وكان جالسا في سريره مكللا بإكليله الكهنوتي؛ لأنه كان يقدم الذبائح في السراي. فجلسنا حوله، ولما رآني حياني قائلا):
سيفالس :
أطلت الغيبة يا سقراط، فلم تزر بيرايوس، والأمل أنك لا تبخل زيارتنا، ولو كان الصعود إلى المدينة سهلا علي لما كان عليك أن تتحمل مشقة المجيء إلينا، أما وإنا على ما ترى فأتوقع أن تواصل افتقادنا، وأؤكد لك أني وجدت ضعف الملذات الجسدية يتناسب مع زيادة ميلي إلى المحادثة الفلسفية، والرغبة في المسرة الناشئة عنها؛ فلا ترفض طلبي ولا تحرم هؤلاء الشبان فوائد الاجتماع بك، بل زرنا كأصدقاء حميمين.
س :
صفحه نامشخص
حقا أيها السيد سيفالس إني أسر بمحادثة الشيوخ، رغبة في الإفادة منهم كسابقين تقدمونا في طريق ربما بلغناها بعدهم فنعرف منهم ما هي؟ أوعرة أم سهلة؟ أو هينة أم عسرة؟ ويسرني أن آخذ عنك وأنت قد بلغت الموقف الذي يدعوه الشاعر «عتبة الأبدية»، فأعرف ما هو رأيك في هذا الطور، أثقيلة الحياة فيه أم ماذا؟
سيفالس :
إني أفضي إليك باختباري الخاص يا سقراط، فإننا نحن الشيوخ نجتمع معا حينا بعد حين، ونحن أقران سنا، طبقا للقول: «شبيه الشيء منجذب إليه.» فيندب أكثرنا سوء حاله أسفا على مسرات الصبا، وما فيها من ولائم وغرام وحلقات شرب وطرب، وما إلى ذلك؛ فيندبون زمن الفتوة وخسرانهم مسراته المستحبة، وأنهم كانوا حينذاك يعيشون عيشة راضية، أما الآن فيحسبون أنفسهم في عداد الموتى، ويشكو بعضهم ما يلقى ضعفهم من ازدراء الأقارب، حاسبين الهرم علة هوانهم. على أني يا سقراط لا أراهم يلمون بسبب تعاستهم الحقيقي، فلو أن الهرم هو العلة لكنت شريكهم فيها، ولكان كل هرم من مذهبهم، والواقع خلاف ذلك كما أكد لي كثيرون من الشيوخ، أخص بالذكر منهم صفوكليس الشاعر، فإنه لما سئل في حضرتي: ما هو شعورك بلذائذ الغرام يا صفوكليس؟ أقادر أنت على التمتع بها؟ أجاب السائل قائلا: يا صاح، يسرني أني نجوت من تلك اللذات، نجاتي من سيد غبي غضوب. فرأيت أنه بحكمة أجاب؛ لأن في دور الهرم سلاما طافحا وحرية تامة من القيود الثقال، فمتى خفت حدة الشهوات وهانت مغالبتها، حق قول صفوكليس وتحررنا من سادة عنف. أما الشكاوى التي ذكرها رصفائي، وما يلقونه من معارفهم من صنوف الهوان، فلها سبب واحد لا غير، ليس هو الهرم يا عزيزي سقراط، بل هو خلق الشيوخ، فلو أن لهم عقولا حسنة الاتزان، لينة العرائك، لما كان الهرم عليها حملا ثقيلا، وإلا فكلا الأمرين - الشيخوخة والشباب - ثقيل. (قال سقراط: فاعتبرت ما أملاه علي سيفالس، ورغبت في استدراجه استزادة للفائدة، فقلت له):
س :
أظن يا سيدي سيفالس أن الكثيرين لا يوافقونك في ذلك، بل يرون أنك استسهلت الشيخوخة ، لا لحسن خلقك بل لثروتك الطائلة؛ لأن في الغنى تعزيات جمة.
سيفالس :
أصبت في قولك إنهم لا يوافقونني في ذلك، وفي ما قالوه شيء من الحق، ولكن ليس بقدر ما وهموا؛ فلقد أجاد ثموستكليس القول ردا على من ازدراه من السيرافيين، زاعما أن شهرته لم تستند إلى كفاءته الشخصية بل إلى قوميته؛ قال: «ولو كنت سيرافيا نظيرك لما اشتهرت، ولا أنت لو كنت أثينيا نظيري.» وهو قول ينطبق على فقراء الشيوخ الذين يئنون تحت أثقال الهرم: لا يهون حمل الهرم على الفقير وإن كان ذا كفاءة، ولا يريح الثراء عديمها.
س :
أوطارف ثراؤك أم تالد يا سيدي سيفالس؟
سيفالس :
صفحه نامشخص
تسألني هل جنيت ثروتي، فأجيبك أني من حيث المالية بين أبي وجدي، فلما كان جدي وسميي «سيفالس» في سني، كان يملك ما أملك الآن، وقد ضاعف ثروته أضعافا؛ أما والدي ليسباس فأنقصها عما هي الآن، وأنا راض بأن يرث أولادي ليس أقل مما ورثت عن والدي، بل أكثر قليلا.
س :
سألتك هذا السؤال لأني أراك معتدلا في حب الثروة شأن الذين ثراؤهم تالد، أما الذين جنوه فحرصهم عليه أضعاف حرص أولئك، وكما يولع الشعراء بحب ما نظموا، والوالدون بحب من نسلوا، هكذا الذين جنوا ثروة هم كلفون بها، لا لمجرد استخدامها كما يفعل السوي؛ بل لأنها جني حياتهم، وذلك يجعلهم عشراء سوء؛ لأنهم لا يمتدحون إلا الثروة.
سيفالس :
هذا صحيح.
س :
فقل لي بحقك، ما هو الخير الأعظم الذي جنيته من الثروة؟
سيفالس :
إذا أبديت رأيي، فقلائل هم الذين يوافقونني فيه، فكن على يقين يا سقراط أنه متى شعر المرء بدنو الأجل، خامرت قلبه المخاوف والهموم التي لم تكن تروعه فيما سلف، يوم كان يهزأ بروايات ما وراء القبر، ومعاقبة الإنسان عما جنى. أما الآن فغدا يضطرب جزعا مخافة أن تكون تلك الروايات صحيحة، ويزيده تصديقا لها إما ضعفه الناشئ عن الهرم، أو قربه منها فعلا. ومهما يكن العامل فإنه تملؤه المخاوف والريب، فيأخذ يفكر: ترى هل أساء إلى أحد بشيء ؟ فإن كان قد أساء كثيرا في حياته، فإنه يستيقظ حينذاك من غفلته يقظة الأحداث من نومهم، وقد علت فوقهم الصيحات، فيسوده الذعر والشقاء. أما إذا لم يشعر بأنه أساء، فهو كما قال بندار:
يظل مبتهجا مهما يطل أجلا
صفحه نامشخص
وفي الرجاء له بشر وتهليل
وكلماته البديعة يا سقراط توضح إيضاحا جميلا أن كل من اتصف بالعدالة والطهارة، ففيه القول:
نور الرجاء جلا داجي الخطوب وقد
أحيا مسرته في لجة الهرم
4
وإن نأت عن سواه كل تعزية
فقلبه راتع في دوحة النعم
ففي شعر بندار هذا أدب ناضج وحكمة بالغة؛ وعليه: أرى أن الثروة جزيلة النفع، ربما ليس لكل إنسان، بل لصلحاء القلوب؛ لأنها تحررنا من التعرض للغش والخداع، فتنقذنا من مخاوف الانتقال من هذا العالم مدينين بشيء من الذبائح للآلهة، أو بشيء من الأموال للناس. وللثروة فوائد كثيرة غير ذلك. أما أنا، فبعد أن وزنت كلا منها، فإني أرى أن ما ذكرته منها هو أقل فوائد الثروة للحكيم.
س :
أحسنت البيان يا سيدي سيفالس، ولكن ماذا نفهم بالعدالة؟ وماذا نقول فيها؟ أنحدها بأنها ليست أكثر ولا أقل من صدق المقال ورد ما للغير؟ أم نقول إن الفعل الواحد يحسب في بعض الأحوال عدلا، وفي بعضها تعديا؟ أعني أن كل إنسان يسلم أنه إذا استعار من صديقه أسلحة خطرة، وصديقه سليم العقل، فليس من العدالة أن يردها له وقد أصيب في عقله وصار وجودها في يده خطرا على حياته، فلا يحسب من ردها عادلا، كما لا يحسب عادلا من أخبر إنسانا كهذا، في حال كهذه، كل الحقيقة.
صفحه نامشخص
سيفالس :
أصبت.
س :
فرد العارية وصدق القول ليس تحديدا صحيحا للعدالة.
بوليمارخس :
ليس إلا صحيحا يا سقراط، إذا كنا نثق بسيمونيدس.
سيفالس :
وعلى كل فإني أترك الحديث لكما؛ إذ قد حان وقت ذهابي للذبائح.
س :
فيرثك بوليمارخس في الحديث، أليس كذلك؟
صفحه نامشخص
سيفالس (مبتسما) :
من كل بد (قال ذلك وخرج لإتمام فريضة الذبائح) .
س :
قل لي يا وارث الحديث، ما هو حد العدالة المأثور عن سيمونيدس ؟
بوليمارخس :
العدالة هي أن يرد لكل ما له. وأرى أن سيمونيدس قد أجاد بهذا التحديد.
س :
يعز علي أن أرفض تحديد سيمونيدس لأنه حكيم وملهم، وربما تفهم أنت معناه يا بوليمارخس، أما أنا فلم أوفق إلى فهمه؛ لأنه واضح أنه لا يعني شيئا مما ذكرنا، أي: «رد الإنسان لصديقه مجنونا، ما أودعه إياه عاقلا»، مع أني أسلم أن الوديعة هي لصاحبها، أليست له؟
ب :
بلى.
صفحه نامشخص
س :
ومع ذلك فإذا طلبها في حال جنونه، فلا يجوز ردها له، أيجوز؟
ب :
حقا إنه لا يجوز.
س :
فالظاهر أن سيمونيدس قصد شيئا آخر بقوله: «إن العدالة هي أن يرد للمرء ما هو له.»
ب :
مؤكد أنه قصد شيئا آخر؛ لأنه يرى أنه على الأصدقاء أن يفعلوا لأصدقائهم خيرا لا شرا.
س :
فهمت، فمن رد ذهبا أودعه، وكان في الرد والاسترداد مضرة للصديق، فليس رده عدالة، مع أن الذهب هو لمن استرده. أليس هذا ما ترتئي أن سيمونيدس يعنيه؟
صفحه نامشخص
ب :
هذا هو بالتأكيد.
س :
حسنا، أفنرد لأعدائنا ما هو لهم؟
ب :
دون شك نرد ما هو لهم، فللعدو على العدو دين، قد يكون ضارا، والضرر مأثور في موقف كهذا.
س :
فيظهر أن سيمونيدس أعطانا حدا مبهما كاللغز في ما هي العدالة، وظاهر أنه يفهم جيدا أن العدالة هي إعطاء كل ما يوافقه. ذلك ما أسماه «حقه»، أو ما هو «له»، فائذن لي أن أسألك أن تجود علي هنا برأيك؛ لو أن سائلا سأله قائلا: يا سيمونيدس، إذا كان ذلك كذلك، فما هي الأشياء المقدمة للناس كواجبة ومفيدة في فن يدعونه طبا؟ وما الذي يتناولها؟ فماذا تظن أنه يجيب؟
ب :
لا ريب في أنه يجيب أن المتناول هو الجسم، والأشياء المقدمة هي العقاقير والطعام والشراب.
صفحه نامشخص
س :
وما الفن الذي يؤتي المواد ما يلائمها ويدعى طهيا؟ وما الذي يتناولها؟
ب :
الأشياء هي التوابل والبهارات، تتناولها أنواع الطعام.
س :
حسنا، فماذا يقدم الفن الذي يدعى عدالة؟ ومن الذين يتناولونه؟
ب :
إذا رمنا الصواب يا سقراط، باعتبار ما قررناه آنفا، فالجواب هو: أن العدالة تقدم النفع والضرر، والذين يتناولونهما هم الأصحاب والأعداء.
س :
فسيمونيدس يحسب نفع الصديق ومضرة العدو عدالة، أهذا معناه؟
صفحه نامشخص
ب :
هكذا أظن.
س :
فمن هو الأقدر على منفعة أصحابه ومضرة أعدائه إذا مرضوا، باعتبار الصحة وعدمها؟
ب :
هو الطبيب.
س :
ومن الأقدر على صنع الخير للأصدقاء أو الضرر للأعداء في أسفار البحار بالنسبة إلى أخطارها؟
ب :
الربان.
صفحه نامشخص
س :
حسنا، ففي أي عمل وأية حال يكون العادل أقدر على نفع الصديق ومضرة العدو؟
ب :
في حال الحرب، بمحالفته الفريق الواحد وعدائه الفريق الآخر.
س :
حسنا، فالطبيب يا عزيزي بوليمارخس عديم النفع للأصحاء؟
ب :
حقيقة.
س :
والملاح عديم النفع لمن هم على اليابسة؟
صفحه نامشخص