وأقول في صدد البحث عن أسباب الضحك: إنني أشبه هماما في هذه الخليقة، وإنني أحب أن أفهم ما أحسه وأن أحس ما أفهمه، وإنني جريت على ذلك في البحث عن أسباب الضحك منذ بدأت الكتابة وتدوين الخواطر والأفكار بين الخامسة عشرة والعشرين، ولهذا أذكر هذه العادة فيما نحن بصدده؛ لأنني إذا مررت بما اعتقدته من أسباب الضحك قبل العشرين وبعد العشرين، وفي خلال النظر والمطالعة والتجربة اليوم؛ تدرجت بهذه الأسباب في أطوار طبيعية تعين على المقارنة والتتبع والوصول إلى النتيجة.
كانت لي في نحو السادسة عشرة مفكرة يومية أدون فيها خواطري وتعليقاتي، جمعتها بعد ذلك باسم «خلاصة اليومية»، وحذفت منها عند الطبع كثيرا من الخصوصيات التي ترتبط بتلك الخواطر لا أذكره الآن.
وأحسبني قد كتبت فيها عن المضحكات أكثر مما بقي فيها بالنسخة المطبوعة، ولكنني لاحظت فيها أن المضحكات أكثر من الضحك، وقلت بهذا المعنى في الصفحة السادسة عشرة من النسخة المطبوعة:
إن المضحكات ليست بالقليلة، ولكن الذين يحسنون صناعة الضحك هم القليلون، فليس من الضروري أن نفتش عن الرجل من أمثال موليير لنغرب في الضحك؛ فإن في كل رجل من الذين نراهم ونعاشرهم موطنا للنقص، وفي كل عمل موضعا للكلفة والتصنع. والوادع الناعم البال - ولو كان مغمورا بالشقاء - ذلك الرجل الذي يعرف كيف يفطن إلى مواطن الغرور والرياء من أعمال الإنسان، فإنه لا يطبق فمه ما دام يفتح عينيه.
وهنا كنت أقرن أسباب الضحك بملاحظة النقص والادعاء والغرور والكلفة التي يحاول صاحبها أن يخدع الناس عن الحقيقة، وهي واضحة لمن يلتفت إليها.
ولا أذكر أنني تحريت الترتيب عند طبع الخواطر والمفكرات، ولكنني أجد في الصفحة الثالثة والأربعين هذه الخاطرة عن الضحك، وفيها أقول: إن «للضحك عدة أسباب، أكثرها يدور حول محور واحد هو الاغتباط بأنفسنا، إما بما نحسه من كمالها أو بسلامتنا من النقص الذي نكشفه عن سوانا ...» «ولما كان الإنسان لا يضحك إلا سرورا برجحانه فهو يضحك في الأحوال التي رجحانه فيها معروف غير محدود؛ فالرجل المعروف المكانة ليس يضحك من تصرف الصعلوك الوضيع وإن كان مضحكا في ذاته، إلا إذا كان يسخر من أهل طبقة ليباهي بطبقته أو من أهل بلاد ليباهي ببلاده.» «وقد يضحك الإنسان من نفسه إذا كان الاستهزاء لا يناله وحده ... فلما كان ملوك أوروبا وأمراؤها وسواسها وقوادها مجتمعين في سنة 1815 في فيينا وهم واثقون أنهم أحكموا الشبكة على بونابرت وقد جلسوا يصلحون ما أفسده ويعيدون ما درسه من معالم أوروبا؛ أعلن في المجلس أن الرجل قد أفلت من جزيرة ألبا وأنه قد عاد ثانية إمبراطورا على فرنسا، فوجموا هنيهة ثم ارتفعت لهم ضحكة طويلة عالية كأنما يقول كل منهم: إن هذا الكورسيكي لم يعبث بي وحدي، بل عبث بنا جميعا.»
ويلي هذه الخاطرة عن الضحك خاطرة عن البكاء قلت فيها: إن الإنسان «يبكي لغير ما يضحك له: يبكي حين يظهر به النقص والعجز ظهورا لا سبيل إلى المداجاة فيه، يبكي في المواضع التي يشعر لديها بالقهر التام ويتحقق له تجرده من الحول والقوة حيالها.» «في تلك المواضع يقول المسلم متمثلا: لا حول ولا قوة إلا بالله. كأنه لا يريد أن يكون ضعيفا إلا أمام الله الذي يتساوى الناس عزيزهم وذليلهم في الضعف أمام حوله وطوله، والأطفال المستضعفون أكثر الناس بكاء لأنهم أقلهم اقتدارا ... على أن عدم البكاء لا يفيد في أكثر الأحيان القدرة على دفع المصاب، فإن من أصحاب المظاهر والأبهة من يترفع عن البكاء ويتكلف الجلد والسكون حتى في الفجائع الفادحة كأنهم يأبون الإقرار بالانقهار على كل حال.»
الضحك والبكاء نقيضان
في هذه الخاطرة حسبت أن الضحك والبكاء نقيضان، وأن الإنسان يبكي لغير ما يضحك له، ومدار الضحك والبكاء معا على الغبطة بالنفس أو نقيضها، فإذا اغتبط الإنسان بنفسه ضحك، وإذا شعر بالمهانة والنقص بكى.
وليست هذه المقابلة بالصحيحة في جميع نواحيها؛ إذ نحن لا يضحكنا كل شيء لا يبكينا، وقد يكون الشيء مضحكا ومبكيا كما يقول أبو الطيب:
صفحه نامشخص