فالواقع أن الصناعة - باحتياجها الحيوي إلى مئات الخامات التي تتجمع لكي تدخل المصانع، واحتياجها الحيوي إلى تصريف السلع المصنعة وتوزيعها على أسواق الاستهلاك - توجب ارتفاعا كبيرا في خدمات النقل، بينما مناطق إنتاج الخامات المعدنية أو الزراعية في حاجة إلى شريان نقل ترسل بواسطته هذه الخامات إلى مناطق الصناعة.
ولا يقتصر تأثير العوامل البشرية في النقل على الكثافة السكانية ونوع النشاط الاقتصادي السائد، بل إن الحدود السياسية أيضا تقوم بدور هام في توجيه النقل من مكان لآخر، أو تقطع الاتصال بين شبكات النقل إلا في أماكن محدودة (راجع خريطة رقم 3-3).
ومن أمثلة تأثير العوامل السياسية نشأة الموانئ الجديدة في الدول التي استقلت حديثا كدليل على استقلال الدولة، ورغبة منها في توجيه تجارتها عبر موانئ تمارس سيادتها عليها؛ مثال ذلك بور سودان في السودان، أو تيما في غانا.
خريطة 3-3: تأثير الحدود السياسية على خطوط المواصلات الرئيسية والفرعية. (الخطوط الحديدية بين كندا والولايات المتحدة «منطقة تفصيلية غربي البحيرات العظمى».)
كذلك يدل على ذلك نشأة موانئ الترانزيت للدول التي لا تتمتع بواجهات ساحلية مثل بيروت بالنسبة للأردن، ودار السلام في تنزانيا بالنسبة لزامبيا أو شرق زائيري، وبنجويلا في أنجولا بالنسبة لزائيري، وبيرا في موزمبيق بالنسبة لروديسيا، أو تريستا الإيطالية بالنسبة للنمسا أو مرسيليا وجنوا وروتردام بالنسبة لسويسرا.
وكثيرا ما يؤدي تغير الأوضاع السياسية إلى توجيه تجارة دولة من ميناء لآخر. والحالة المثالية على ذلك ميناء هامبورج الذي كان يخدم القسم الشرقي من ألمانيا - جمهورية ألمانيا الديموقراطية الحالية - وتشيكوسلوفاكيا، وبعد انضمام هاتين الدولتين إلى كتلة الدول الشرقية وجهت المواصلات التجارية لهما إلى ألمانيا الشرقية على البلطيق بدلا من هامبورج.
وكذلك أحدث التغير السياسي لجمهورية كوبا تغيرا في نمط تجارتها الدولية، وبالتالي تغيرت أهمية خطوط المواصلات التي كانت تربطها بالولايات المتحدة إلى خطوط أخرى أكثر عالمية بدلا من تلك الخطوط الاحتكارية الأمريكية.
وعلى هذا النحو، يمكن أن نستمر في توضيح أثر الظروف البشرية على توجيه النقل ومواصفات الوسائل التي تستخدم في عمليات النقل، وخلاصة القول أن مجموع العوامل الجغرافية الطبيعية والبشرية تشارك مشاركة فعالة في رفع أو خفض كثافة خطوط النقل، هذا إلى جانب الشروط المختلفة التي تتحكم في اقتصاديات النقل، والتي سنوضحها فيما بعد. (2) التأثير المتبادل للنقل والنشاط الاقتصادي (2-1) أمثلة محددة
قلنا إن هناك علاقة حيوية بين هذين الموضوعين للدرجة التي تجعلنا ننظر إليهما على أنهما شقان لموضوع واحد. ومن الطبيعي أن ننظر اليوم إلى التفاعل المتبادل بين الإنتاج والتسويق والنقل على أنه شيء بديهي وضروري، ويرتبط هذا باعتيادنا الأمر الواقع، وهو اتجاه كل الإنتاج إلى السوق.
أما في الماضي فإن النظرة إلى هذا الارتباط لم تكن بديهية؛ لأن القليل من الإنتاج هو الذي كان يجد لنفسه الطريق إلى سوق محدودة، ومع ذلك كان النقل يشكل عنصرا حيويا في أحيان كثيرة، لكن هناك فارقا بين أهمية النقل في الماضي والحاضر؛ ذلك أن الارتباط لم يكن بغرض نقل السلع إلى السوق بقدر ما كان الغرض منه توفير مسببات النجاح في عملية الإنتاج في حد ذاتها؛ أي إن النقل كان موجها لخدمة الإنتاج في الأساس، وقد تسببت أشكال الطرق وطبيعتها - في الماضي - في نجاح أو تدهور الإنتاج في إقليم من الأقاليم؛ كما حدث في أيرلندا (راجع التقدمات) التي تسبب نقص الطرق والموانئ فيها في ركود اقتصادي خلال القرن السابع عشر، استمرت آثاره حتى هذا القرن.
صفحه نامشخص