وللقصة بقية طريفة وإن كانت لا تتصل اتصالا مباشرا بنيمت. أم نيمت، واسمها الست فهيمة، ابنة عم أبيها وهبي، وعمه هذا هو الذي رباه، وقد زوجه من فهيمة مقابل هذه التربية، فما كانت فهيمة لتستطيع أن تتزوج أحدا مطلقا إن لم يكن هناك سبب قوي يجعل من هذا الزواج اعتذارا كافيا عن قبحها الفادح. وقد انتهز أبوها فرصة تعلق وهبي بالدخول إلى الكلية فوضع زواجه من فهيمة ثمنا لهذا التعلق. وقارن وهبي بين قبح وهيبة العبقري وبين جمال ملابس الكلية، ووافق على الزواج. وكان العم من أذكياء الريف المصري، الذين يعرفون كيف يصرفون أمورهم، فاستكتب وهبي كمبيالة بخمسة آلاف جنيه، وجعل مؤخر الصداق خمسة آلاف أخرى .
وحين اتصلت أسباب وهبي بدول الخليج أصبح في مقدوره أن يدفع الآلاف العشرة، قارن مرة أخرى بين طريقين؛ أن تلهف فهيمة هذا المبلغ مقابل طلاقها أو أن يفرش شقة أخرى لفتاة جديدة تعوضه عن قبح فهيمة الذي لم تستطع السنون أن تجعله يتعود عليه. ولا شك أن الطريق الثاني كان أجمل وأمتع، ولكن القدر كان يخبئ له مفاجأة أخرى، فقد جاءت الفتاة التي اختارها محبة للفن، وتمكنت من وهبي، فجعلت منه منتجا سينمائيا، وجعلت من نفسها نجمة. وهكذا أصبحت الآلاف العشرة مبلغا لا قيمة له في غمار ما تكلفه إياه نجمة الشقة الجديدة.
زوج نيمت هو الأستاذ دري عبد الباقي، متخرج في كلية الحقوق، وهو شاب لبيب، قرر في لمحة ذكاء أن يكون تافها حتى يصبح صالحا لما يعد نفسه له من مستقبل سياسي، ويبدو أنه وفق في أن يجعل نفسه على قدر من التفاهة أهلته أن يكون في الصفوف الأولى من الاتحاد الاشتراكي. وقد صادقني الرجل وأنس إلي، وصار يلقي إلي بدخيلة نفسه، وكم دهشت لما عرفت هذه الدخيلة. لقد كنت أتصور أن رغد العيش الذي يحيا فيه يجعله في هناءة دائمة ومتعة لا مثيل لها، فإذا بي أجد الرجل يحيا في خوف دائم؛ فهو يترقب اليوم الذي يترك فيه منصبه في ذعر واجف هالع، فقد تعود حياة بعينها، فيها لين وفيها رخاء ودعة، ولا سبيل له أن يبقى على هذه الحياة لو أنه عاد إلى المحاماة. وهكذا يحس دري أن حياته معلقة بأن يبقى في منصبه هذا، فهو يبذل ما يملك وما لا يملك من كرامة ويهدر كل قيمة، ويتغاضى عن أي معنى من معاني الرجولة أو الشرف ليبقى في هذا المكان.
وتقول نيمت لي حين جلست إليها إن خوف الرجل وهلعه ينعكسان عليه في حياته، وفي خاصة تصرفاته، حتى لقد أصبحت تشعر أنها تعيش مع رجل نصف مجنون، يحاول جهده أن يحافظ على النصف الآخر من عقله بجهد فائق حتى لا تحل به الكارثة، وأحس من نغمة صوتها أن شيئا من الاحتقار داخلها بشأنه، فلا أوغل في الحديث ولا أدعها توغل حتى لا ينهار الرجل جميعه أمام عينيها.
ولكنني أدرك قبل أن تنتهي من حديثها أنها تشجعه أن يحصل على كل ما يستطيع من مال ليجد بعض الأمن حين يأفل نجم الوظيفة، وأدرك أيضا أن الرجل لا يحتاج إلى تشجيع في هذا المضمار.
وأوشك أن أتساءل: لماذا هذا الخوف جميعه وزوجته على درجة من الغنى تستطيع أن ترد عنه كيد الحاجة، ولكنني لم ألبث أن أجد الجواب؛ فإن الغنى ليس غنى نيمت أو نعمات، وإنما هو غنى أبيها وهبي، ووهبي غارق لأذنيه في إنتاج أفلام لصديقته الجديدة التي أصبحت قديمة. ووهبي مستعد أن يمد زوج ابنته بالمال ما ظل زوج الابنة هذا في منصب مرموق، فإن زال عنه المنصب فإن وهبي لا يرى داعيا مطلقا أن يعطي دري شيئا. وبعبارة أخرى، إن كان لا بد من عبارة أخرى، أن وهبي مستعد أن يعطي صهره كل مال ممكن ما دام صهره في غير حاجة إلى مال، وهو حابس عنه كل أنواع المال حين يصبح محتاجا لأي نوع منه.
أما عزيزة راشد فسيدة من نوع خاص، وزوجها أيضا خيري عبد المولى من نوع خاص.
عزيزة راشد سيدة، تركت الحلقة الرابعة من عمرها منذ سنوات قليلة، وهي ذات جمال صارخ باذخ، وهي تعلم في نفسها هذا الجمال، فتلفه بكل أناقة وتزين نفسها في سرف ومرونة.كان أبوها موظفا من كبار موظفي مصلحة البريد حين تزوجت خيري الذي كان في الدرجة الخامسة يومذاك، وقد خرج الأب إلى المعاش بعد أن صار في درجة وكيل للوزارة، واستطاع قبل أن يخرج أن يثب بصهره إلى الدرجة الثالثة.
والذي يلقي نظرة عاجلة إلى خيري يجده متجهم الوجه، توحي ملامحه بالصلف والغلظة، وقد استطاع بمظهر الصلف وبالنفاق أن يصبح هو أيضا وكيلا للوزارة قبل أن يمسي في الخمسين من عمره. ومنصبه يمكنه أن يتصل بالعالم الخارجي ليعقد الصفقات لشئون وزارته، وهو لا يسرق في هذه الصفقات، وإنما ينال العمولة التي يعتبرها هو حقا ويراها القانون رشوة. ولما كان لا بد لهذه العمولة أن تصل إليه في خفية رسمية من القانون، فقد كان ماجد راشد أخو الست عزيزة هو الذي يحصل له عليها، فماجد راشد متخرج في كلية التجارة وصاحب مكتب محاسبة في ظاهر الأمر، ولكن مكتبه في الحقيقة متفرغ للصفقات التي يعقدها زوج أخته، والتي ينال هو عمولتها بعد أن يخصم نصيبه منها. وقد استطاع هذا النصيب على ضآلته النسبية أن يصبح عمارتين وأن يصبح غنى خياليا يعيشه ماجد.
أما خيري فشأنه في البيت عجيب، فأوامره صارمة، وكلمته حاسمة، وإشارته قاطعة، والست عزيزة تخشاه كل الخشية، وتصغي لأوامره وكلماته في إجلال وإكبار وتوقير، وهي مع كل هذا تصنع به ما تريد من خلال حبه للعظمة. فالظاهر في أمرها أنه صاحب الرأي، والحقيقة أنها تسحبه من أنفه إلى كل ما يعن لها، وهو بهذا سعيد كل السعادة، وهي أيضا بهذا سعيدة كل السعادة. كان هؤلاء هم أصدقاء النادي، وقد توطدت بيننا الأواصر، فكانت تحية تدعوهم إلى بيتنا، وكنا نلبي دعوتهم، حتى لنكاد نلتقي في كل ليلة. وكان ماجد دائما معنا في كل دعوة، وقد كان أيضا يدعونا لفيلته الفخمة التي تعتلي عمارته الشاهقة بالمنيل.
صفحه نامشخص