بين التصورات القديمة والجديدة. فالعقل البشري ينمو في كل الأحوال عن طريق تعميق التفسيرات التي يقدمها للطبيعة، وتحويلها من مرحلة التقيد بالمظاهر الخارجية إلى مرحلة كشف القوانين الكامنة، ولكن أساس هذه التفسيرات يظل واحدا، والعناصر الأساسية باقية، والمقولة الأساسية في فهم التاريخ هي مقولة التوازي لا مقولة المسار الخطي الصاعد.
ولقد أورد «سيباج
Sebag »
7
مثلا للفرق بين المنهج التاريخي والمنهج البنائي، مستمدا من دراسة لجورج دوميزيل
G. Dumezil
في مجال علم الأديان المقارن؛ فقد انتهى «دوميزيل» إلى أن كل دين من أديان الشعوب الهند-أوروبية يتضمن تقسيما ثلاثيا لموضوع العقيدة، وأن هذا التقسيم يتمثل لدى الجميع، وإن تفاوتت صوره واختلف في مدى وضوحه ونقائه. وهكذا نكتشف، من وراء تباين الآلهة والشعائر ووظائف العقيدة في كل حالة، تقسيما ثلاثيا واحدا يظل على ما هو عليه مهما تنوعت الحضارات. وعلى العكس من ذلك؛ فإن النظرة التاريخية إلى هذا الموضوع ذاته تستخلص كل شكل من أشكال الألوهية من الواقع الديني الخاص بكل شعب على حدة؛ ولذلك لا تتوصل إلا إلى دلالات جزئية، وتضيع منها التشابهات البنائية الموجودة وراء السطح الظاهري لتعدد العقائد. والواقع أن النظرة التاريخية إذا توصلت إلى أي نوع من البناء، فهي إنما تتوصل إليه بعد دراسة مضنية للجزئيات وللأمثلة الفردية، ولن تستطيع رغم ذلك أن تتوصل إلى بناء أساسي. ولذلك تعكس البنائية الآية، فتضع التغيرات التاريخية الجزئية في «إطار البناء الثابت»، وتفسرها من خلاله؛ فالتاريخ يدور في إطار البناء، ويفسر بواسطته، لا العكس. والعملية التاريخية الخلاقة لا تفهم إلا من خلال البناء الذي ظل موجودا طوال ألوف السنين. ولذلك يمكن تشبيه العلاقة بين البناء والعمليات التاريخية العينية التي تدور في إطاره، والتي تضفي الحياة على البناء اللاواعي، وتنقله إلى مجال الوجود الفعلي - يمكن تشبيهها بالعلاقة بين «الشفرة
Code » والرسائل المختلفة التي نحصل عليها بعد معرفة هذه الشفرة.
ولقد تأثر علم التاريخ بهذه الحركة الجديدة التي بدأت بها البنائية عهدا جديدا، فظهرت مدرسة تاريخية تركز جهدها على كشف عناصر الثبات في المسار التاريخي، وعلى كشف المعالم العامة للحضارات التي تمتص في داخلها الأحداث وتصبغها بصبغتها الخاصة، بدلا من أن تتشكل بالأحداث وتسير في تيارها. ولكن ظهر أيضا رد فعل مضاد بين مؤرخين رأوا في هذه النظرة البنائية هدما لكل ما هو أساسي في التاريخ؛ ذلك لأن البنائيين يركزون على فكرة انعدام التغير
invariance . أما بالنسبة إلى المؤرخ؛ فهناك على الدوام مؤثرات وتناقضات داخلية، تتجه دائما إلى إحداث توازن جديد. فالتحليل التاريخي يؤكد فكرة الحركة، وهو نقيض السكون الذي يؤكده التحليل البنائي. ولذلك يرى أنصار هذا الاتجاه المعارض للبنائية
صفحه نامشخص