جدد وقدماء: دراسات ونقد ومناقشات
جدد وقدماء: دراسات ونقد ومناقشات
ژانرها
أم هل عرفت الدار بعد توهم
وكأنه لم يطمئن، ففتش عن مرعى لقريحته، فرآه في جلده فاستغله، والأرض السوداء مغلال.
واستيقظ العصر العباسي الأول، وهو عصر الثورة في الأدب العربي، فتفتحت عيون شعرائه الخلعاء على حضارة مجنونة بالترف والجمال، ففطموا أنفسهم عن الحليب واللبن، وعبدوا الأحمرين: الخمر واللحم، وكان شك وكان مجون، وكانت حرية بعيدة المدى، ولكن إلى أجل مسمى، فتقديس القديم من سجايا الناس الرئيسية، وهو منبع العبودية.
ثم همدت تلك الثورة بانطواء سجل هذه العصابة، وعاد الشعر بعدها إلى تزمته، فخلع ثياب المرافع ليلبس البجاد المفروض، فعاد الشعر إلى سمته، لا يتعداه إلا بمقدار محدود، فدار شعراؤنا على أنفسهم في حلقة ضيقة اختطها لهم القدماء، كأنهم أجرام النظام الشمسي، كل في فلك يسبحون.
وإذا كان النثر كالمشي، والشعر كالرقص، فجل شعرنا رقص الدراويش؛ أغراض موجزة كحياة البدوي، في ناقته تتجمع كل مرافق حياته، من وبرها يكتسي، ومن درها يغتذي، وبفحمها يصطلي، وهي مركبه إذا أسرى، وخيمته إذا لذعه الهجير، فمن يلومه إن وصفها جملة وتفصيلا، ومن ذا يعنفه إن استبدت صورتها بخياله، فتجلت لنا في تعابيره؟ فلو لم تخصه الطبيعة بذوق سليم لأضاف: لله وبرها وبعرها، إلى الله درها، وأورثناها.
ليس هذا عجيبا، ولكن العجيب الغريب هو أن يفرض أناس أوليون أساليبهم على من سكنوا الدور والقصور من ذريتهم، فانحلت الشخصية العربية، وذابت في خطة امرئ القيس، فلم يخرج عليه غير نفر قليل.
وقف هذا النفر في باب الصيرة وتنشقوا الهواء النقي قليلا، فلا يستسلمون إلى سجيتهم حتى يتذكروا الوقار والترصن المفروضين، فيخلعوا مباذلهم ليندسوا في بزة الشعر الرسمية، وهذا «مالوش» الأدب العربي و«فيلوكسيرا» الشعر.
تتراءى الشخصية في خلفاء امرئ القيس كوميض الحباحب في عتمة الغسق، فيسخر طرفة طرفة عين، ويتهكم زهير بآل حصن عابرا، ويهزأ ابن حلزة بإخوانه الأراقم مقتصدا، ويرشد الحطيئة إيثاره العافية إلى ذاته، من حيث لا يدري، فيقول لمهجوه التاريخي:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
صفحه نامشخص