جدد وقدماء: دراسات ونقد ومناقشات
جدد وقدماء: دراسات ونقد ومناقشات
ژانرها
وبينما فرح غارق في لجة مبادئ نيتشه الهائجة، إذا به يقف نشر رواية مريم، واعدا بطبع تتمتها على حدة، لينشر رواية ملفا للروائي مكسيم غوركي ، وهكذا التقى الصيف والشتاء على سطح واحد، فكأن صاحب الجامعة أراد أن يوفق بين اسمها ومسماها، وفي هذا العام لفظت الجامعة آخر نفس، فماتت مبكية من أحرار العالم العربي، أو الكتاب الديمقراطيين كما يسميهم أخي الأستاذ يوسف يزبك. (3) فرح أنطون القصصي
لماذا لا تكتب عن أديب إسحاق، عن نجيب الحداد، عن ناصيف اليازجي وابنه إبراهيم، عن بطرس البستاني وابنه سليم، عن الأحدب والأسير، عن كرامة ومراش وزيدان، عن البارودي وشوقي وصبري وحافظ وولي الدين ... إلخ.
من كتاب أديب
الجواب يا سيدي: هذا لا يعنيك، وكتابك يذكرني بلوائح المطاعم، فإذا كنت جائعا حتى ترى الحجارة خبزا كما سيحدث يوم يجيء المسيح الدجال، أتستطيع أن تزور جميع القدور المذكورة في اللائحة، أم تختار ما تشتهي نفسك أكثر، وتؤجل ما تحب إلى علفة ثانية؟ فبحياتك تدعني ومعلفي، أنا أحب الهريسة فلا تكرهني على الملوخية، الأدب كالطعام يا سيدي، فكل أنت ما تشتهي، ودعني وشأني، أما لك معدة وأضراس مثلي؟ •••
مات فرح أنطون فكتبت مجلة الهلال: إن الجامعة خير آثاره، ونتاجه بعدها دونها قيمة، فساءت كلمتها هذه شقيقته الكريمة السيدة روزا، فردت على الهلال، ثم ضرب جورج دوماني في مجلته «الريفو اجبسيان» على هذا الوتر، فرد عليه الأستاذ محمد لطفي جمعة.
ليس لدي من تآليف فرح الأخيرة إلا مسرحية واحدة: «صلاح الدين ومملكة أورشليم»، وهذه إذا وضعت في الميزان قبالة الجامعة رجحت الجامعة، وشالت هذه كأبي جرير في ميزان الأخطل، وإذا قلنا الجامعة عنينا سبعة مجلدات ضخمة كلها جديد طريف، وعنينا أيضا تلك الكتب النفيسة التي ألفها فرح: ابن رشد وفلسفته، الحب هو الموت، الدين والعلم والمال، الوحش الوحش الوحش، أورشليم الجديدة، مريم قبل التوبة، والتي ترجمها: الكوخ الهندي، بولس وفرجيني، أتالا، ابن الشعب، نهضة الأسد، تاريخ المسيح، تاريخ الرسل، زارتوسترا، ملفا، وكلها من كنوز الأدب العالمي، ولن نذكر ما لخص من كتب، فقد مر ذلك في المقال السابق.
وعندي أن قول الهلال هذا لا يضير فرح أنطون، كما لا يبخس الجاحظ أشياءه قول القائل: كتاب الحيوان خير آثار الجاحظ عمرانا، فأدباء مصر أقروا لفرح بالسبق في ميدان الأدب العالي، ثم بالنضال السياسي والدفاع عن أسمى قضاياهم فقال فيه محمد لطفي جمعة يؤبنه: «عندما ذهب الآخرون يلعبون بذهب المعز كنت أنت أيها الغريب لا ترهب سيفه، فما أعظم هذا الفضل لك علينا! ها نحن فئة قليلة من الأقارب والأحباب حول قبرك؛ لأنك لم تكن من هؤلاء الذين تتحرك في ركاب نعشهم المركبات الضخمة ويسير في جنازتهم ذوو النفاق والخديعة.»
وقال سلامة موسى، زعيم المجددين في مصر، يوم مات فرح: إن الفراغ الذي أحدثته وفاة فرح أنطون في الأدب العربي لن يملأه أحد في أيامنا الهوجاء هذه، كان ميدانه الأدب، لا يتعداه إلى غيره؛ ولذا بزغ فيه وألم بأطرافه وابتدع فيه واخترع، فهو أول من تطاول إلى نجمين من نجوم الأدب الإفرنجي تولستوي ونيتشه، وحاول أن يستضيء بضوئهما ولكن الظلام الذي كان يكتنفه كان أشد مما يحسب.
وقال صاحب جريدة الإكسبرس: لم يتزوج فرح؛ لأنه لم يجد متسعا في وقته لأداء واجب العائلة، وكان مع ذلك مستقيما عفيفا، ولم نره يوما في كنيسة، ولا سمعنا أنه حضر قداسا، على أن ذلك لا يمنع من أن يكون مسيحيا مخلصا كما يفهم من كتاباته.
وكتب الشيخ إبراهيم الدباغ: كتبت عنه - عن فرح - الصحف بأقلام فاترة عن نفوس جامدة غير جازعة كأنها تكتب عن بعض الأفراد، فأوجد تقصير الصحف تجاه فقيدنا الجليل عندنا موجدة عليها، ثم قال: فرح أنطون الكاتب السوري تقوم قيامة تأبينه في جامعة أميركية، أترى الجامعة المصرية تضيق جوانبها بإحياء ذكرى رجل لو كان من الحاضرين فيها لشاد للعالم بنيانا، وللآداب والأخلاق مكانا، لم أدر لماذا ضاقت هذه الحظيرة بتلك النفس الكبيرة، ألأنه كان من أحرار الفكر؟ إن الدكاترة طه حسين وهيكل ومنصور من أحرار الفكر أيضا، بل من أشد أحرار الفكر وطأة على العقائد! أم لأنه سوري مسيحي، مع أن مصر ليس فيها اليوم مسلم ولا مسيحي ولا يهودي بل فيها مصري، فمتى ينصف الشرق أبناء الشرق ومتى يقف الشرق في صفه ويأخذ محله؟
صفحه نامشخص