جان لاک: مقدمهای کوتاه
جون لوك: مقدمة قصيرة جدا
ژانرها
لا شك أن ما كتبه لوك كان بغرض الإعلان عن الحق في الثورة، لكنه لم يكن معاديا للسلطة السياسية على الإطلاق؛ فالسلطة السياسية - في إطار حدودها السياسية الواجبة - تعود بنفع هائل على الإنسان. وحتى بعيدا عن التعريف التشريعي لتلك الحدود، يمكن - بل ينبغي أيضا - أن تكون ممارسة الحق الملكي من أجل الصالح العام، على الرغم من حرفية القانون. فمن المتوقع فعليا أن تحوز السلطة السياسية الثقة التي تستحقها إذا مورست على أساس من الحكمة والمسئولية، وإذا كان التمسك بالمبادئ الدستورية بمنظوره الضيق هو في نهاية الأمر محاولة لضمان حكومة تكون السيادة فيها للقانون وليس لفرد، فإن لوك وضع - كملاذ أخير - نوايا البشر الحسنة فوق الصرامة الدستورية؛ وفي النهاية، فإن كل الحكومات التي مرت على البشرية كانت حكومات أفراد (الفكر السياسي لجون لوك). اهتم لوك في جانب كبير من الرسالة الثانية بالقضايا الدستورية، لا سيما العلاقات القائمة بين الملكية الخاصة والرضا الشعبي والمؤسسات النيابية وسلطة سن القوانين (السلطة التشريعية)، وحازت الرسالة الثانية على استحسان المستعمرين الأمريكيين بعد مرور ما يقرب من قرن من الزمان، بفضل إصرارها الشديد على عدم مشروعية فرض الضرائب دون تمثيل نيابي. لكن على الرغم من المعالجة البارعة للقضايا الدستورية في «رسالتان في الحكم»، فإنها لم تكن في صميم التزاماتها الجوهرية عملا مؤيدا للمبادئ الدستورية، بل كانت تنادي بحقين يستعصي تحقيقهما؛ وهما: حق الحاكم في مجتمع سياسي شرعي في استغلال النفوذ السياسي على نحو يتنافى مع القانون من أجل خدمة الصالح العام؛ وحق جميع الأفراد في الخروج على الحاكم - حتى لو كان في مجتمع سياسي شرعي - متى أساء استخدام نفوذه على نحو صارخ.
مركزية الثقة
تقع فكرة الثقة في صميم مفهوم لوك عن الحكومة، وتلعب دورا محوريا في إدراك ازدواجية هذه الرؤية وتناقضها؛ فالحكومة - من وجهة نظر لوك - عبارة عن علاقة بين أفراد، بين أناس يتمتعون بالمقومات التي تجعلهم جميعا أهلا للثقة، ويمكن لأي من هؤلاء الأفراد خيانة هذه الثقة، بل هذا ما يئول إليه الأمر أحيانا. والثقة من أقدم المفردات الواردة في فكر لوك، ووجوب الثقة وخطورتها ضروريان للوجود البشري؛ فالناس «يحيون بالثقة» كما كتب لوك عام 1659. وبعدها بسنوات قلائل، وجه لوك في محاضراته انتقادا غاية في الحدة إلى الرأي القائل بأن مصلحة الفرد يمكن أن تكون الأساس الذي يبنى عليه قانون الطبيعة، وذهب في نقده إلى أن هذا الرأي لا يجعل قانون الطبيعة متناقضا في ذاته فحسب، وإنما تستحيل معه أيضا فكرة المجتمع ذاته والثقة التي هي ميثاق المجتمع (مقالات حول قانون الطبيعة)، ومن أبرز الأمثلة وأوضحها على أهمية الثقة في حياة الإنسان القسم وقطع الوعود؛ فالوعود والأقسام ملزمة لله نفسه (رسالتان عن الحكم). ولعل اللغة هي «الوسيلة المهمة، والرابطة المشتركة التي تربط أفراد المجتمع» (مقال في الفهم البشري)، لكن ما أتاح لها أن تكون فعلا وسيلة للربط بين أفراد المجتمع هو قدرتها على التعبير عن التزامات بعضهم تجاه بعض، وعن التعهدات والأقسام الوعود المغلظة التي تبنى عليها بالضرورة ثقة بعضهم في بعض، والتي تشكلت منها الروابط التي تربط حياتهم المشتركة (رسالة في التسامح). وكانت مخاطر الإلحاد أنه أزال كل الشق الإلزامي من هذه التعهدات؛ مما اختزل قانون الطبيعة إلى مصالح فردية متضاربة وبدد كل الأسس التي تؤيد ضرورة وجود الثقة بين البشر. ولما حرم البشر من العناية الإلهية وتركوا لحالهم، لم يكن لدى الناس أي سبب وجيه ليثق بعضهم في بعض؛ ومن ثم فقدوا القدرة على العيش معا في مجتمع. ولولا فساد الإنسان (سقوط الإنسان)، لظل الناس ينتمون إلى مجتمع واحد (رسالتان في الحكم، الرسالة الثانية). الفساد الأخير هو أن يصير الإنسان غير مدرك لحقيقة اعتماده على خالقه؛ وهو ما أدى إلى تفسخ «الجماعات الصغرى والمتشعبة» العديدة في زمن لوك، إلى أولئك الأفراد المنعزلين والعديمي الثقة الذين كانت تتألف منهم تلك الجماعات. وبقدر ما يستحق البشر ثقة بعضهم في بعض، فإنهم يساعدون في تماسك المجتمع الذي قصده الله لهم، وبقدر ما يخونون ثقة بعضهم في بعض، فإنهم يساعدون في انحلاله وتفسخ أركانه. ومما لا شك فيه أن الممسكين بزمام السلطة السياسية هم من لهم هذه السلطة؛ إما لتعزيز مقاصد الله، وإما لمخالفتها على نحو سافر للغاية. ونظرا لأن الأفراد على دراية تامة بحاجتهم إلى أن يثقوا بعضهم في بعض، ولأنهم يستشعرون العون الذي يمكن أن تقدمه لحياتهم هذه السلطة المجمعة المعنية بتنفيذ القانون الطبيعي، فإنهم بوجه عام سيولون حكامهم الثقة الكاملة على نحو يفوق ما يستحقه هؤلاء الحكام. ولأن السلام ضروري للغاية من أجل العيش في «أمان وراحة ورخاء» (رسالتان في الحكم، الرسالة الثانية)، فإن ثقتهم في حكامهم على هذا النحو هو أمر مرغوب ومستحب بوجه عام.
لم يشكك لوك - على غرار اللاسلطويين المحدثين - في السلطة السياسية نفسها، على الرغم من إدراكه التام بالمخاطر التي تمثلها، وإنما ما شكك فيه بالأحرى هم البشر الذين ترك لهم الحبل على الغارب، أولئك الذين لم يعودوا يفهمون معنى اعتمادهم على خالقهم. يرى البشر الذين لا يزالون على وعي بهذا الاعتماد أن محاولة ثقة بعضهم في بعض، حكاما ومواطنين على حد سواء، هي أمر واجب في ظل قانون الطبيعة، لكنه واجب طلبا للسلام وليس واجبا لإنكار الدروس المستفادة بحكم الخبرة والتجارب. ولا يعني واجب الثقة أن يكون المرء ساذجا، بل ربما لا يكون أيضا حقا ممنوحا للمرء يخول له ذلك، وحتى الملك المستبد - في ظل الحالة الأصلية هو ورعاياه - ليس ببعيد عن أن يكون محل ثقة غيره من البشر. ويحق للحكام المدنيين أن يحظوا بثقة أكبر؛ وإذا كانوا يستحقونها، فربما هم على ثقة في أن ينالوها. لكن خيانة الثقة أمر محتمل لأي إنسان، حتى حاكم المجتمعات الأكثر مدنية، وهكذا هي حياة البشر، ولا بد أن نحاول الوثوق بعضنا في بعض، على المستوى الشخصي وكذلك على المستوى السياسي؛ لكن علينا جميعا أيضا أن نقدر الوقت والحد الذي خان به الآخرون ثقتنا فيهم.
قد تبدو الثقة مفهوما واهيا وأحمق لا يستدعي أن يتصدر مشهد الفهم السياسي، والعلاقات التي تربط بين آراء لوك الدينية ومفهومه عن مدى أهلية الإنسان للثقة لن تحبب الكثيرين اليوم (ومن المفترض ألا تحببهم) في تقديره لتلك الأهلية، لكن لم تكن رؤيته للسياسة وحياة الإنسان بصفة عامة - حسبما ارتآهما - باعتبارهما تستندان في النهاية إلى الثقة؛ وجهة نظر سطحية، وعدم دقتها كان أمرا ضروريا، وكانت استحالة الهروب من حالة عدم الدقة هذه هي نقطتها المركزية، ولا يزال هذا هو النهج في عالم السياسة.
الخيانة عكس الثقة؛ وكان علاج خيانة الثقة في عصر لوك هو الحق في القيام بثورة على الحاكم؛ فوجود سلطة حيادية يمكن اللجوء إليها كان أعظم فائدة يمكن أن يقدمها مجتمع سياسي شرعي لأفراده. وحيثما وجدت هذه السلطة، فإنها تستبعد حالة الحرب بين الأفراد، وتمحو الحاجة إلى الاحتكام إلى الله مباشرة، والذي كان يمثل عنصرا جوهريا وأصيلا في هذه الحالة (رسالتان في الحكم، الرسالة الثانية). لكن الحيادية إنجاز بشري وليست إحدى وقائع القانون الدستوري؛ فالحكام بشر بالمعنى الفعلي للكلمة، وهم يتبوءون السلطة بحكم القانون، وتنبع أحقيتهم في التمتع بطاعة رعاياهم من التطبيق الحيادي لهذا القانون، وحيثما يأتوا بأفعال تتنافى مع هذا القانون أو خارجة عنه بما يضر بمصلحة رعاياهم، فإنهم يصيرون طغاة، وحيثما ينتف القانون، يبدأ الطغيان (رسالتان في الحكم، الرسالة الثانية). والحاكم متولي السلطة الذي يستخدم القوة بما فيه إضرار بمصالح رعاياه وبما يتنافى مع القانون، إنما يدمر سلطته، فهو يضع نفسه في حالة حرب مع رعاياه المتضررين، ولكل فرد من هؤلاء الرعايا الحق في الخروج عليه تماما حسبما كانت ستتعين مقاومة أي معتد غاشم آخر (رسالتان في الحكم، الرسالة الثانية).
كان ينظر إلى هذا الفكر في إنجلترا في عصر لوك على أنه مذهب شديد التطرف؛ وبذل لوك قصارى جهده من أجل التقليل من فداحة الآثار الفعلية المترتبة عليه، وما من حاكم يقصد بحق الخير لشعبه سيخفق في أن يجعل أفراد شعبه يشعرون بذلك، ولا حاجة بمثل هذا الحاكم إلى أن يخشى مقاومة شعبه، وسوف تمر أعمال الطغيان الطائشة دون مقاومة، ما دام أنه لا يمكن لضحاياها توقع الدعم فعليا من إخوانهم المواطنين، ولا يمكنهم أن يأملوا التصدي للطاغية ومقاومته بمفردهم، ووحده التهديد الصريح - الفعلي أو المحتمل - لممتلكات الأغلبية وحرياتهم وحياتهم (وربما دينهم أيضا)، وهذه «سلسلة طويلة من الأفعال»، سيكون كفيلا بإشعال فتيل المقاومة ، لكن إذا اشتعلت نيران المقاومة حقا، فلا غموض حول المسئول عن اندلاعها. تعتبر مخالفة الحكومة وإزعاجها خرقا لقانون الطبيعة؛ والتمرد دون سبب عادل ضد حكومة شرعية يعني بدء حالة حرب (وبدء حالة الحرب فعل جائر، والحروب الوحيدة التي ينظر إليها بوصفها عادلة، هي تلك الحروب التي تشن دفاعا عن النفس). لكن عندما يقاوم المظلومون الطغيان، فإنهم ليسوا هم من يزعجون الحكومة أو يعيدون حالة الحرب؛ فالتمرد هو «معارضة ضد السلطة، وليس ضد أشخاص»، فلا سلطة للحاكم الظالم، والحكام الظالمون هم المتمردون الحقيقيون. وعلى غرار أي شخص يستخدم قوة الحرب لتنفيذ أغراضه على نحو جائر وفرضها على شخص آخر، فإن الحاكم الظالم ينسلخ عن طبيعته «ليتقمص الطبيعة الحيوانية عندما يتخذ القوة - التي هي من طبيعة الحيوانات والوحوش - قاعدة الحق التي يحتكم إليها»، وهو بذلك الصنيع قد جعل نفسه «عرضة لأن يطيح به الشخص المتضرر ومعه بقية البشر الذين سوف ينضمون إليه في تطبيقه للعدالة، شأنه شأن أي حيوان ضار أو مؤذ يستحيل للبشر التعايش معه، أو الشعور بالطمأنينة والأمن في وجوده (رسالتان في الحكم، الرسالة الثانية).»
إن القضاء على الحيوانات الضارة هو حق مكفول للبشر كافة، لكن في المجتمع السياسي الشرعي لا يمكن أن ينظر حتى إلى أسوأ الطغاة على أنه حيوان ضار؛ فإلى جانب حق الفرد في الثأر نظير الأضرار التي تصيبه، عليه واجب أيضا، وهو الحفاظ على المجتمع المدني. الثورة من وجهة نظر لوك ليست عملا انتقاميا، وإنما هي عمل إصلاحي يهدف إلى إعادة بناء النظام السياسي المنتهك. وخلال أزمة الإقصاء، ومرة أخرى إبان حكم جيمس الثاني، صار الملك - من وجهة نظر لوك - طاغية، وأساء استخدام الترخيص الذي حصل عليه بموجب الصلاحيات التي يجيزها له منصبه (رسالتان في الحكم، الرسالة الثانية)، وفي إطار الدستور الإنجليزي، نظرا لأن الملك احتفظ بجزء من السلطة التشريعية المنوط بها سن القوانين، فلم تكن ثمة سلطة أعلى منه يكون ملزما بالمثول أمامها للمساءلة؛ لكن وراء الإجراءات الشكلية للدستور تكمن حقيقة المجتمع الإنجليزي، أو «جموع الشعب» حسبما أوردها لوك في الرسالة الثانية. وحيثما يثار الجدل بين الحاكم وقطاع من شعبه، وحيثما يرفض الحاكم قبول حكم المؤسسات النيابية التي عبرت عن إرادة شعبه، فلا بد أن يكون الفيصل المناسب هو الاحتكام إلى رأي جموع الشعب، التي كانت أول من وضعت ثقتها في الحاكم. وتستطيع جموع الشعب، بل يتعين عليها أيضا، أن تقدر في دخيلة نفسها ما إذا كان لديها سبب وجيه تتظلم به أمام الله للخروج على الحاكم وخلعه بالقوة (رسالتان في الحكم، الرسالة الثانية). وهذه المقاومة هي حق وواجب في آن واحد؛ لأن الشعب هو وحده من في مقدوره الجمع بين حق الانتقام الفردي ومسئولية إعادة بناء النظام السياسي، وحق القضاء على من خانوا ثقته، وواجب استعادة الثقة التي من دونها تستحيل عمليا حياة الإنسان. «رسالتان في الحكم» هو عمل موجه إلى المتطلبات السياسية لإنجلترا، ذلك البلد الذي أثبت قاطنوه - على مدى خبرة تاريخية طويلة - أنهم يشكلون كيانا واحدا، وأن لديهم الكفاءة السياسية للتصرف على هذا النحو. يوجد في إنجلترا دستور قديم ينبغي استرداده وإصلاحه (تمهيد الرسالة الثانية)، وما من وسيلة يمكننا أن نعرف من خلالها إلى أي مدى كان لوك يعتبر أن سكان البلدان التي نعمت بتجارب تاريخية أقل حظا تتمتع بالقدر نفسه من الكفاءة السياسية العملية، ولا شك أن سكان تلك البلدان أيضا لهم الحق - أفرادا كانوا أم جماعات - في مقاومة السلطات الغاشمة والانتقام منها من جراء الضرر الذي ألحقته بهم. لكن حيثما لا يوجد نظام سياسي شرعي من الأساس يستدعي إصلاحه، فمن غير المرجح أن تجتمع معا توقعات الانتقام والبناء. وعلى الرغم من التعقيد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي يشوب النظام الملكي الاستبدادي (علينا ألا ننسى أن لوك قد عاش لسنوات في فرنسا قبل الفترة التي بدأ فيها الكتابة)، فإنه لم يكن مجتمعا مدنيا على الإطلاق. وفي القرن التالي على ذلك عندما شرع ديفيد هيوم في نقد النظرية السياسية للوك، لم يسؤه شيء أكثر من هذا التناقض اللامبالي والضيق الأفق بين إنجلترا والنظم الملكية المستبدة في القارة الأوروبية. كان هيوم في بعض النواحي ناقدا غير متفهم لحجج لوك ولم يتحر الدقة فيها؛ وبحلول أواخر القرن الثامن عشر، اتضح من مسار الثورة الفرنسية أنه - حتى فيما يتعلق بهذه المسألة - تحمل مفاهيم لوك أكثر مما أقره هيوم. بيد أن هيوم أدرك حقا بوضوح بالغ المدى الذي اعتمدت به آراء لوك السياسية في «رسالتان في الحكم» على تجربة سياسية بعينها، والثقافة التي عززتها هذه التجربة، في مجتمع يتمتع فيه قطاع كبير من المواطنين العاديين بالحق في تمثيل أنفسهم سياسيا، وتوقعهم ممارسة هذا الحق. وكان جوهر فهم لوك نفسه لحق الثورة أنه حق المجتمع في الحفاظ على نفسه كمجتمع، وقدرته على الاضطلاع بهذا الدور، ولم يفترض لوك قط أن الانتقام العادل في حد ذاته سيكفي لخلق مجتمع مدني جديد من العدم.
رسالة في التسامح
كان آخر عمل رئيسي عن النظرية السياسية هو ما كتبه لوك في منتصف ثمانينيات القرن السابع عشر في هولندا، وكان يناقش قضية أوسع نطاقا؛ إنه كتاب «رسالة في التسامح»، وهو أبسط وأكثر شمولية من «رسالتان في الحكم»، وتعتمد حججه في حقيقة الأمر على التسليم بصحة الدين المسيحي (أو على الأقل، صحة بعض الأديان المؤمنة بوحدانية الله، التي يكون فيها الإيمان الصحيح مطلبا أساسيا للعبادة الدينية السليمة، والعبادة الدينية هي الواجب الرئيسي المنوط بالإنسان). لكن داخل العالم المسيحي الأوروبي الحجج محفوظة لكل بلد أو طائفة، إن كانت محفوظة على الإطلاق. ولأن الواجب الرئيسي للإنسان في حياته هو أن يسعى نحو خلاصه (رسالة في التسامح)، ولأن العقيدة والممارسة الدينية هما الوسيلة التي يتعين على الإنسان استخدامها في الاضطلاع بهذا الواجب؛ فلا يجوز شرعا أن يطغى نفوذ السلطة السياسية البشرية على أي منهما. والسلطة السياسية هي المنوط بها حماية الخيرات المدنية، على نحو أكثر تحديدا ثمار جهود الإنسان والحرية والقوة البدنية التي هي وسائل الإنسان لجني تلك الثمار (رسالة في التسامح)؛ فرعاية أرواح البشر ليست من سلطة الحاكم. إذا رأى الحاكم أن أفعاله للصالح العام، ورأى رعاياه العكس، فلا يمكن أن يكون ثمة حاكم بينهما على وجه الأرض (رسالة في التسامح)، ولا بد من ترك الحكم فعليا لله، وحيثما يشكل الاضطهاد العنيف القائم على أسس دينية تهديدا لممتلكات الأفراد وحياتهم، يكون للمضطهدين كل الحق في رد القوة بالقوة (رسالة في التسامح)؛ ويكون في مقدورهم ممارسة هذا الحق وسيمارسونه بالفعل. ويستثنى من حق التسامح الديني فريقان رئيسيان: فريق تتعارض معتقداته الدينية تعارضا مباشرا مع السلطة الشرعية للحاكم، وفريق لا يؤمن بالله.
صفحه نامشخص