جان لاک: مقدمهای کوتاه
جون لوك: مقدمة قصيرة جدا
ژانرها
بعد مرور سبع سنوات، وبعد أن هرب لوك من عالم التدريس العتيق في أكسفورد إلى العالم البراق والمثير للعمل مع شافتسبري، أعاد لوك النظر في هذه المسائل من زاوية مختلفة تماما، وتوصل إلى نتائج مختلفة إلى حد كبير. تظهر هذه النتائج في كتابه «مقال في التسامح» الذي لم ينشره بنفسه، على عكس عمله الشهير «رسالة في التسامح». كان الحكم العملي الذي توصل إليه في هذا المقال يتطابق إلى حد كبير مع رأي شافتسبري: يعمل التسامح على إرساء دعائم النظام والوئام المدنيين عن طريق «زيادة القوانين التي تنظم المشاركات الكنسية قدر الإمكان» (حياة جون لوك). وتظل مسئولية الحاكم صاحب السيادة هي تنظيم الممارسات الدينية بما يضمن استقرار شعبه وسلامته وأمنه؛ لكن مع أن الحاكم يظل هو بالتأكيد الذي بيده النظر فيما من شأنه تعزيز هذه الغايات، فإنه لم يعد من المتوقع أن يحظى حكمه عمليا بثقة أكبر من حكم أي مؤمن آخر؛ إذ:
يتعين عليه أن يأخذ بالغ حذره كي لا تسن مثل هذه القوانين، ولا تفرض مثل هذه القيود، لأي سبب من الأسباب فيما خلا ضروريات الدولة ورفاهية الشعب الذي نادى بها، وربما لا يكفي أن يظن في ضرورة أو ملاءمة تلك التكليفات أو هذه الصرامة، إذا لم يكن قد فكر فيها مليا دون تحيز، وخاض نقاشات حول ما إذا كانت ضرورية وملائمة أم لا، كما أن رأيه (إذا أخطأ) لن يبرر له سن مثل هذه القوانين، تماما مثلما لن يغفر له ضمير الرعية أو رأيهم مخالفته لتلك القوانين، لو اتضح أن التفكير والنقاش كانا سيؤديان به إلى رأي أكثر استنارة (حياة جون لوك، المجلد الأول).
يشمل نطاق الأمور التي يكون للحاكم حرية التصرف فيها «الأمور الحيادية» بأكملها، لكن ممارسته لحرية التصرف محكومة بشدة بالغاية التي وجد الحاكم من أجلها. وإذا بذل قصارى جهده للاضطلاع بالواجبات المترتبة على هذه الغاية، فلن يكون حتى «مساءلا في العالم الآخر عما فعله بصفة مباشرة من أجل حماية شعبه واستقراره، بحسب علمه» (حياة جون لوك، المجلد الأول). لكن إذا حاول التدخل في القناعات الدينية لشعبه على هذا النحو (على غرار ما كانت السلطات الأنجليكانية تحاوله بالتأكيد من التدخل في القناعات الدينية للمنشقين)، فإن تصرفاته ستكون جائرة بقدر ما هي باطلة؛ فكل فرد مسئول عن خلاص نفسه، وما من إنسان يمكن أن يكون لديه سبب وجيه كي يعهد بخلاصه لتقدير إنسان آخر، وهو ما يكون تقديرا قاصرا بالضرورة (حياة جون لوك، المجلد الأول). على أية حال، وعلى نحو أكثر حسما، حتى لو ابتغى الإنسان أن يعهد بخلاصه لتقدير إنسان آخر، فلا أحد «يستطيع» أن يفعل هذا بمنتهى البساطة:
ما من إنسان يستطيع أن يمنح غيره سلطانا ... على شيء لا يملك هو نفسه سلطانا عليه. والآن يتجلى من التجربة وطبيعة الفهم عدم قدرة الإنسان على التحكم في فهمه أو تحديد الرأي الذي سيعتنقه غدا على نحو قاطع، فطبيعة الفهم لا يمكنها أن تدرك إلا ما يبدو لها، مثلما لا يمكن للعين أن ترى ألوانا في قوس قزح غير ما تراها، سواء أكانت هذه الألوان موجودة فعليا أم لا (حياة جون لوك، المجلد الأول).
إن «مقال في التسامح» هو رسالة موجهة إلى الحاكم حول الكيفية التي ينبغي أن يوظف بها تقديره الخاص وحرية تصرفه، ويتلاشى بحذر أي تلميح بأن الرعايا لديهم أي حق في حرية التصرف في أمورهم في مواجهة أوامر الملك؛ فواجب الرعية هو الطاعة العمياء. لكن فيما يتعلق بالأمور الحيادية، حدد لوك فعليا منطقة تستحيل فيها الطاعة العمياء، والأبرز من ذلك أنه أوضح أن هذه المنطقة تتجاوز نطاق الأمور الحيادية وحدودها. ولا يمكن أن يخضع الإيمان البشري لمطالب السلطة، ولا يمكن لأي إنسان أن يكون لديه سبب وجيه يدفعه إلى التخلي عن معتقداته فيما يتعلق بالتكليفات التي يطلبها الله منه بأمر إنسان آخر؛ فالبشر - بوصفهم معتنقين للمعتقدات، وعلى نحو أكثر تحديدا بوصفهم معتنقين للمعتقدات الدينية - سواسية؛ فثمة «الأغلبية التي تضيق ذرعا بالقمع كالبحر المضطرب ... التي دائما ما يراها الحكماء وحوشا جامحة، ويطلقون عليها تلك الصفة» (مقالان عن الحكومة)، والحكام الذين تحتاج إليهم هذه الأغلبية لقمع احتيالها وعنفها بعضها تجاه بعض (حياة جون لوك، المجلد الأول). والكل يتحمل المسئولية الكاملة عن معتقداته، وسيتعين عليه الإقرار بذلك أمام الله يوم القيامة. لكن، في الوقت نفسه، على الحاكم أن يولي اهتماما صارما لضرورة الحفاظ على النظام المدني وإقراره، لا أن يحاول عبثا وبكل صفاقة أن ينوب عن الله ويحل محله. ولم يعد من الصعب أن نرى كيف أن واجب الطاعة العمياء سيبدو من وجهة نظر لوك ضربا من الحماقة الشديدة في ظل الظروف المختلفة تماما التي فرضها جدل فترة الإقصاء ومواجهة حاكم عدواني ومحب للانتقام.
رسالتان في الحكم
إننا لا نعرف بالضبط الوقت الذي كتب فيه لوك «رسالتان في الحكم»، بل لا نعرف أيضا يقينا مقدار ما كتبه من هذا العمل في المرة الأولى (أو ما أعاد كتابته باستفاضة) قبل نشره بفترة وجيزة عام 1689. وفي الواقع، ليس لدينا فعليا دليل قاطع أنه كتب أي جزء منه خلال الجدل الدائر في فترة الإقصاء، إلا أن الكتاب الذين تناولوا تلك المسألة في العقود الأخيرة، والذين كانوا على درجة كبيرة للغاية من الإبداع وسعة الاطلاع، اتفقوا على نقطتين على الأقل؛ أولهما: أن لوك كتب الأغلبية العظمى من النص الذي نشره عام 1689، في الوقت الذي رحل فيه من بلاده متجها إلى هولندا في أواخر صيف عام 1683، وثانيهما: أنه كتب فقرات مختلفة من الكتاب (بهيئته التي ظهر عليها عام 1683) على مدار بضع سنوات سابقة؛ ومن ثم يعكس النص عددا من الآراء المتغيرة التي تبناها حزب شافتسبري على مدار فترة الصراع.
وكما نرى هذا العمل اليوم، فإن «رسالتان في الحكم» هو عمل وضع في الأساس للتأكيد على الحق في مقاومة السلطة الجائرة؛ الحق في الثورة كملاذ أخير. (توجد بالطبع موضوعات رئيسية أخرى للكتاب؛ منها: توضيح الأسباب التي تمنح الحكومات شرعيتها في المقام الأول (نظرية التراضي)، والكيفية التي ينبغي أن يفسر بها الرعية والحكام علاقة بعضهم ببعض (نظرية الثقة)، والكيفية التي يمكن أن يصير بها للبشر الحق في حيازة السلع الاقتصادية ومدى أحقيتهم في فعل ذلك وحدوده (نظرية الملكية)، وأوجه التشابه والاختلاف بين الأنواع المختلفة للسلطة البشرية؛ وأخيرا أوجه الاختلاف بين السلطة داخل العائلة والسلطة في الدولة. تدرس كل تلك القضايا في سياق السياسة الإنجليزية في ذلك الوقت، وفي سياق المبدأ الدستوري الإنجليزي.) من الواضح، حتى من الموضوع الأول، أن «رسالتان في الحكم» كان يشكل هجوما على مزاعم الملكية المطلقة، وأنه توصل من خلال هذا الهجوم إلى استنتاجات قاطعة بشأن الحدود الدستورية الموضوعة على سلطات ملك إنجلترا، لكن من غير الواضح بالتأكيد أن لوك عندما استهل كتابة هذا العمل كان يقصد الدفاع عن حق العصيان من جانب مجلس العموم المنتخب، فضلا عن حصول الرعايا الأفراد المتضررين على هذا الحق واستخدامه، وهم الذين لا يشغلون منصبا رسميا داخل السلطة في مجتمعهم. «رسالتان في الحكم» هو عمل طويل ومعقد يحتوي على كثير من النقاشات والحجج، التي معظمها - بطبيعة الحال - حجج لم يطرحها لوك من قبل في أي عمل آخر، بيد أنه فيما يتعلق بحق المقاومة فقط، غير لوك صراحة وعلى نحو قاطع أحد الآراء النظرية التي كان قد دافع عنها بإسهاب في أعمال سابقة؛ ففي كل من «رسالتان في الحكم» عام 1660، و«مقال في التسامح» عام 1667، أكد لوك بوضوح أن واجب الرعية في مواجهة أوامر ملكهم الجائرة هو أن يطيعوا هذه الأوامر طاعة عمياء؛ ليس هذا بالطبع على سبيل الإقرار بعدالتها، لكنه على أقل تقدير على سبيل الاعتراف بالسلطة التي أصدرت تلك الأوامر، وبالتأكيد عدم عرقلتها بالقوة، فضلا عن مهاجمة من أصدرها. وفي وقت متأخر يرجع إلى عام 1676 تقريبا، رأى لوك مرة أخرى أنه على الرغم من أن السلطات السياسية البشرية تعين بموجب القوانين التي وضعها الإنسان، فإن واجب الطاعة السياسية قائم بموجب القانون الإلهي «الذي ينهى عن مخالفة الحكومات أو حلها»، وأنه يتعين على كل إنسان أن يطيع يقينا الحكومة التي يعيش في ظلها (الفكر السياسي لجون لوك).
شكل : التأكيد على حق المقاومة: كتاب لوك «رسالتان في الحكم». لاحظ غياب اسم المؤلف حتى بعد مرور ثماني سنوات على نشره للمرة الأولى.
من الواضح أن الباعث وراء تغيير هذا الرأي تولد مباشرة من مشاركة لوك السياسية خلال سنوات تأليف هذا الكتاب؛ فقد كان تحولا جوهريا في الحكم الفكري كما في الالتزام السياسي؛ إذ كان لوك نفسه قد بدأ يفكر في الآثار المترتبة على رأيه بشمولية بالغة. بالطبع، لم يفكر منهجيا في جميع الآراء التي أكد عليها في كتابه، واختار بالأخص ألا يخوض على الإطلاق في مناقشة الكيفية التي يعرف بها الإنسان بالفطرة قانون الطبيعة، وهو القانون الإلهي الملزم الذي - وفقا لموضوع الكتاب - تستند إليه كل حقوق الإنسان، وتستنبط منه غالبا وعلى نحو مباشر أغلبية واجبات الإنسان. أثار التغاضي عن مناقشة تلك القضايا كثيرا من النقد الفكري لدى كتاب النظرية السياسية الذين جاءوا فيما بعد، كما أنه أثار - إبان نشر الكتاب وفي الآونة الأخيرة - بعض الشكوك في أن النبرة الورعة التي يصطبغ بها نقاشه حول قانون الطبيعة ربما تكون مراوغة ومخادعة، لكن الأكيد أنه حدد بالفعل في محاضراته التي ألقاها عام 1664 في كلية كنيسة المسيح عن قانون الطبيعة، بعض الإشكاليات الرئيسية في المفهوم المسيحي التقليدي لقانون الطبيعة، وأنه غالبا شحذ فهمه لهذه الإشكاليات - خلال عمله الأولي المسجل في مسودات عام 1671 - من أجل عمله «مقال في الفهم البشري». وبحلول عام 1680، على سبيل المثال، كان يعلم بكل تأكيد أن السؤال عن الكيفية التي يعرف بها الإنسان محتوى قانون الطبيعة، هو سؤال إشكالي للغاية ومثار جدل بالغ، ومع ذلك يشير في «رسالتان في الحكم» إلى «معرفة» قانون الطبيعة كما لو أنها معرفة ملزمة بالفعل لجميع البشر، حتى مع تمتعهم بكامل حريتهم في الاختيار ما بين الإذعان لها أو الانصراف عنها؛ فهي «أمر محفور بكل وضوح في قلوب البشر كافة.»
صفحه نامشخص