وتمر على حافة قلبي أسراب الغبطة والفرح لما سألاقيه في المساء من حسن الضيافة والجلوس معه أمام الجدول الرقراق في الحديقة العطرة بين الأغصان المتدلية والأزهار الرقاصة على ممر النسيم، ويخيل إلي وأنا أجتاز تلك المسافة أني أسمع نبرات صوته العذب وأشعر بقلبه المحب يخاطبني بتلك العاطفة وذلك الشعور اللذين طالما رأيتهما يضطربان من خلال عينيه؛ ففي أحد الأيام، عندما بلغت قمة الجبل وسمح الأفق المطلق لمقلتي المغلفتين بالأثير العطري أن تريا مقدم مقره، وضعت بندقيتي على أحد الصخور ومسحت جبيني بعد أن كان النسيم البليل قد نشفه بأطراف ردائه الأثيري، ثم جعلت أحدق في البعيد باحثا عن ثوبه الأسود بين تلك الأشجار المدلة بالثمر والحديقة المغروسة فيها أنواع الخضر، وما زالت أجيل نظراتي حتى تراءى لي مصراع نافذته موصدا، فحولتها إلى مدخن الموقد فلم أر الدخان صاعدا من فوهته، فاستغربت الأمر ومرت رعشة عنيفة وخيال رهيب على نبضات قلبي، وبدون أن أعرف سبب اضطرابي أخذت بندقيتي وأسرعت بالمسير.
كنت أفتش بعيني عن أحد أسأله، غير أنه لم يكن في ذلك الحقل المقفر لا قطيع ولا راع سوى محراث مضطجع بين الأتلام ودابة ترعى الأعشاب النابتة على أقدام الصخور، ولم يكن يسمع في تلك الساعة إلا صراخ الصرصر بدلا من نغمات العنيز.
بلغت المنزل وعبثا طرقت الباب: حتى إن كلبه الأمين لم يسمع دقاتي فيعلنها بنباحه، وأخيرا دخلت إلى الساحة فوجدتها خرساء فارغة. فارغة؟ يا للأسف! لا، لا، شاهدت وجها مبدل القسمات متكئا على يد نحيلة كأنه بائس مسكين على عتبة كنيسة القرية، أجل! رأيت امرأة ساكنة لا تبدي حراكا وقد غشت الدموع عينيها وأحرقت الزفرات ما بقي على وجنتيها من نضارة الحياة، فأدركت حينئذ هول الموقف وشعرت بالموت ناسجا أكفانه السوداء في ذلك المقر المقدس، حيث كان صديقي المخلص يردد صلاته عند آخر شعاع من أشعة المغيب. أجل! أبصرت الخادمة الأمينة تبكي سيدها المحب وقد تاهت نظراتها في مذاهب الفضاء! أحقيقة يا مرتا أنه مات؟ قلت لها ذلك وقد اغرورقت عيناي بالعبرات وأطلقت زفرة من صدري أفاقت عندها ذكريات قريبة العهد، فنهضت تلك الخادمة وأمرت أناملها على عينيها ثم حدقت إلي، وقالت: «أجل! مات! ولكنه لا يزال في غرفته، فاصعد إليه وزود نفسك منه آخر نظرة قبل أن يواريه التراب، فسوف لا يدفن قبل فجر غد، لقد كان اسمك آخر كلمة قالها عند موته»، فصعدت أدراج الغرفة حتى دخلت إليه فوجدت المكان قفرا مظلما لا يضيء فيه غير شمعتين ترسلان إلى جبينه بعض أشعة مأتمية كأنها الأمل الخالد وظلمات الحياة يتنازعان في الساعة الأخيرة من ساعات السكرة الرهيبة! بقيت هنيهة متأملا ملامحه العذبة، وقد مرت عليها أجنحة السماء تاركة على بسماتها مثل ما تترك الفراشة على براعم الأزهار، وكان ثوبه الأسود ملقى على فراش الموت، وصليبه العاجي راقدا على صدره الساكن كأنه صديق مخلص راقد على قلب صديقه، وكان كلبه الأبيض جالسا على أقدام السرير يلتفت تارة إليه، مستغربا رقاده الطويل، وقد مضى على حراسته برهة من الوقت لم يستفق في خلالها، وطورا ينبح نباحا شديدا ثم يصغي إصغاء تاما عله يسمع لهاثه أو يرى عينيه، وكان بالقرب من وسادة الميت، حسب الرتب المقدسة، غصن من البقس اليابس مبلل بالماء المقدس، فأخذته بيدي بخشوع واحترام ورسمت به على جسده شارة الصليب، ثم قبلت يديه وقدميه، وكانت صورة الخلود مرتسمة على جملة وجهه، فلم تر عيناي إلا قديسا من أصفياء الله مضطجعا بجلال بين جدران تلك الغرفة المظلمة، فجلست على كرسي أمام الميت وجعلت أبكي وأصلي حتى إذا ما جاء الصباح بعد أن أحرقت الليل بزفراتي، غيبنا الجثة في ضريح قائم على مقربة من باب الكنيسة ورمى كل من القرويين قليلا من التراب المقدس على التابوت علامة الحداد، ثم جعلت أنظر إلى ذلك التابوت يتوارى شيئا فشيئا تحت الرماد، وكلما ألقى الحفار حفنة من رفشه
1
أسمع زفرة من أفواه القرويين! «أيها الصديق القديس! قلت له عندما احتجبت آخر خشبة من خشبات الكفن، نم، فليس قلبي هو الذي أسف عليك بل عيني! إني لعالم أن صديقي لم يبق في هذا الوجود بل ذهب إلى حيث أشعلت فضيلته مصابيحها المنيرة، وتقدمت زفراته جلال نفسه الطاهرة!»
في ذلك المساء سمع الجرس ينوح عليه في ذرات الأثير فيمتزج نواحه الرهيب بنباح الكلب الأبيض، ذلك الحارس الأمين الذي لم يكن ليفهم معنى غياب سيده فيناديه في الليل ولا يسمع جوابا لندائه سوى حفيف الشجر في وسط ذلك السكون!
قضيت ذلك الحين مع مرتا، صارفا الساعات بالتنقل من الحديقة إلى الساحة، ومن الساحة إلى الحديقة، باحثا عن آثاره في كل موضع، مناجيا طيفه اللطيف وروحه الشريفة، قارئا بعض فصول من كتاب مقدس، وماسحا بأناملي دموع عيني، «ألم يكن يكتب في خلوته؟» - «أحيانا، أجاب مرتا، ولكنه كان لا يكاد يملي في ليلة واحدة ما يخطر له حتى يرمي بالورقة في سلة قديمة، وعند الفجر كنت أكنس تلك الورقة وأتركها مع باقي الأوراق تحت النافذة، فإذا شئت أن تطلع عليها فاجمع ما أبقته الفئران منها»، جمعت تلك الأوراق الصفراء، حيث مرت أنامله مرور أنامل كاتب خيالي، بعد أن عبث بها الشتاء ولاعبت بها أيدي النسمات ثم جعلت أقرأ أسطرها البالية بجهد عظيم، حتى تمكنت من إحياء ماضيه بين تلك الآثار المهدمة، كما تمتد الماء تحت الأكمات وتتوارى بين الأدغال المضطربة لدى خطرات النسيم، ثم تبرز نقية كالفضة في وسط مرجة خضراء، ثم تتكسر على بعض الصخور الرمادية وتعود تتجمع في غدير عذب بين الأزهار والرياحين، هكذا تجمعت تلك الصور القديمة من ذلك الدفتر اليومي بعد أن كاد البلى يمحو آثارها من الوجود.
العهد الأول
في 1 أيار سنة 1786
مضى النهار كما تذوب الثمرة اللذيذة في الفم تاركة بعدها الطعم والعطور، إن الأرض لملأى بالأفراح! شكرا لك يا الله على تلك النعم، نحن اليوم في أول أيار، على عتبة قصر الزهور، ففي الصباح وضعت والدتي طفلا ذكرا وبلغت أنا السادسة عشرة من عمري، كان النهار جميلا والوادي الصغير زاهيا زاهرا كأنه قطعة من الجنة! وكان كل مصراع من مصاريع النوافذ بمثابة صديق حميم يستقبل أول بسمة من بسمات الفجر، كنت أشاهد الدخان صاعدا من فوهة الموقد كأنه أعمدة من الأثير مرتفعة في مذاهب الفضاء، وكأن أسراب الدقات الخفيفة أجنحة هائمة من أجنحة الملائكة الأتقياء كانت تتصاعد من حناجر الأجراس وتقفز كالطيور على صخور الوادي! وكانت فتيات القرية يفتحن نوافذ منازلهن لدى تلك الأنغام ويتبادلن التحيات والبسمات، ثم يضفرن شعورهن متكئات على شرفاتهن، ويسرعن بعد ذلك إلى الحدائق عاريات الأرجل، حيث يجمعن باقات من الأزهار لا يزال ندى الصباح مضطربا على براعمها، ويعلقنها على صدورهن كأقراط من اللؤلؤ أو كعقود من المرجان، وكنت أرى على مقاعد الكنيسة بعض العذارى الجميلات ساجدات بخشوع أمام القربان المقدس كأنهن قد جئن يرفعن إلى الخالق المبدع أزهار نفوسهن وقد قطفنها من حدائق التقوى ومروج الفضيلة.
صفحه نامشخص