في حديقة الأزبكية
أقيم بحديقة الأزبكية بالقاهرة في 21 يونيو سنة 1887 احتفال كبير لمناسبة مرور خمسين عاما على تولي الملكة فكتوريا عرش إنجلترا، فزينت الحديقة بالأنوار، وتقاطر إليها الناس زرافات ووحدانا نساء ورجالا وأولادا من جميع الطوائف والملل، وكلهم فرحون بما أعد في تلك الليلة من دواعي البهجة ومعالم الزينة.
وكان الناس يخطرون جماعات في طرقات الحديقة وحول بركتها وعلى جوانب الساحة التي كانت الموسيقى تصدح فيها. فلم تكن ترى بينهم إلا وجوها باسمة وقدودا مائسة، هذا يخاطب صديقا له ويمازحه، وذاك يداعب ولده ويلاعبه، وتلك تنادي فتاتها لتسير بجانبها خوفا عليها من أن تتيه بين الجماهير. وآخرون جالسون إلى موائد صغيرة يسمعون عزف الموسيقى أو يتأملون جمال الطبيعة وتلألؤ الأنوار.
وكانت أبواب الحديقة غاصة بالداخلين والخارجين، والحجاب يمنعون الناس من الدخول بغير رقاع الدعوة، والشرطة يهولون على الرعاع لئلا يكدروا بمزاحمتهم وضوضائهم صفو الاحتفال.
فلما كانت الساعة التاسعة مساء، وصل إلى أبواب الحديقة شاب يرتدي الملابس الإفرنجية، جميل الصورة، ربع القامة رشيقها، ولكن وجهه كان مقطبا عبوسا تلوح عليه علائم الكآبة والارتباك، ويبدو مستغرقا في التفكير، فلما رأى ازدحام الناس هناك انتبه بغتة كأنه هب من رقاد، ثم مد يده إلى جيبه وأخرج رقعة الدعوة ودفعها إلى الحاجب فسمح له بالدخول.
وقف الشاب بعد أن قطع خطوات داخل الحديقة، وبدا حائرا لا يدري إلى أي جهة يسير، ثم استأنف سيره إلى ساحة الموسيقى. وكان لارتباكه وهواجسه كأنه سائر في خلاء قفر لا يستوقفه منظر، حتى وصل إلى المقهى القائم بجانب الساحة فعرج عليه وجلس على كرسي به، ثم أشعل سيجارته وأخذ يدخن والناس يخطرون أمامه ذهابا وإيابا بين رجال ونساء وأولاد في مختلف الأزياء، وتلوح عليهم أمارات السرور، لكنه لم يكن ينتبه لحركاتهم وضحكاتهم، وبقي في شاغل عنهم بما يفكر فيه، ويده تعبث بعصاه، وكلما انتهى من تدخين سيجارة أشعل أخرى حتى امتلأ الجو حوله بالدخان.
ولم ينتبه من غيبوبته هذه حتى جاء غلام القهوة يسأله عما يريد، ولم يكن في حاجة إلى شيء يشربه أو يأكله، ولكن العادة قضت عليه بطلب المشروب فجيء به إليه، ثم عاد إلى ما كان فيه من الاستغراق في التفكير.
وفيما هو في ذلك شعر بيد لمست كتفه، وسمع في الوقت نفسه صوت هاتف باسمه يحييه، فالتفت مبغوتا فإذا بصديق له ينظر إليه مبتسما وقد مد يده لمصافحته، فنهض للقائه وصافحه، وشعر لدى مشاهدته بأنه كان في ضيق وأتاه الفرج، فدعاه إلى الجلوس قائلا: «أهلا وسهلا بك يا عزيزي سليم!» فجلس سليم وهو يقول: «إني سعيد برؤيتك يا عزيزي حبيب، لكن ماذا جاء بك إلى هنا وعهدي بك أنك مقيم بحلوان؟»
فقال حبيب: «جئت لتفريج كربتي بمشاهدة هذا الاحتفال، لكنني لم أزدد إلا كربا، وقد أرسلك الله إلي في ساعة الحاجة إليك.» ثم تنهد وواصل حديثه قائلا: «نعم أنا في ارتباك عظيم يا سليم، على أني أحمد الله إذ بعث بك لتعزيتي، ولا غرو فإن الصديق الصادق من شارك صديقه في السراء والضراء.»
وأشعل سليم سيجارته، ونظر إلى حبيب نظرة تفيض بالمودة والإخلاص، ثم قال: «لا أراك الله ضيقا يا صديقي، إنك والله لأعز من الصديق وأقرب من الأخ وإذا لم يدفعني إلى غوثك دافع الحب فعشرة الصبا وحقوق التربية تتكفلان بذلك.»
صفحه نامشخص