مقدمة
جغرافيتها
تاريخها القديم
مدة الفرسان (الشفاليه)
استيلاء الدولة العثمانية على رودس
آثار رودس ومعاهدها
جزيرة رودس في عهد دولة إيطاليا
خاتمة
خلاصة تاريخية عن أشهر جزائر بحر إيجه
الجزائر التابعة لدولة إيطاليا
أشهر الجزائر التابعة لدولة اليونان في بحر إيجه
مقدمة
جغرافيتها
تاريخها القديم
مدة الفرسان (الشفاليه)
استيلاء الدولة العثمانية على رودس
آثار رودس ومعاهدها
جزيرة رودس في عهد دولة إيطاليا
خاتمة
خلاصة تاريخية عن أشهر جزائر بحر إيجه
الجزائر التابعة لدولة إيطاليا
أشهر الجزائر التابعة لدولة اليونان في بحر إيجه
جزيرة رودس
جزيرة رودس
جغرافيتها وتاريخها وآثارها، تليها خلاصة تاريخية عن أشهر جزائر بحر
إيجه
تأليف
حبيب غزالة
مقدمة
الحمد لله الذي يسر بالسير والنظر أسباب الاستفادة والاعتبار، وجعل في أخبار السلف عظة للخلف وذكرى لأولي الأبصار، وبعد، فلما كانت رودس من الجزائر التي اشتهرت بطيب هوائها وصفاء جوها؛ قصدتها في سنة 1910 ترويحا للنفس والتماسا للراحة، فحدتني الرغبة في استطلاع غرائبها إلى ارتياد آثارها ومعاهدها، فرأيت من الحصون المنيعة والأسوار الشاهقة ما يدل على ما بلغته هذه الجزيرة في غابر الزمن من السؤدد وعلو الشأن؛ لوقوعها بين أعظم الممالك القديمة، فكانت بهذه المثابة من أهم المراكز البحرية، وملتقى جميع السفن التجارية والحربية، فطمحت إليها الأنظار وتبارى في امتلاكها كبار الفاتحين والغزاة، وتداولتها أيدي الفينيقيين والفرس واليونان والرومان والعرب والفرسان (الشفاليه) ودولة آل عثمان. ووقع فيها من الوقائع والحروب ما يعد من أشهر حوادث التاريخ، وقد أتى عليها حين من الدهر استبحر فيه عمرانها وأينعت فيها رياض العلوم والفنون، فأمها العلماء والفلاسفة من كل أوب لاجتناء ثمارها. فجزيرة هذا شأنها وتلك آثارها ومفاخرها لجديرة بأن يوضع لها في اللغة العربية كتاب شامل لتاريخها، وهذا ما دعاني إلى تدوين ما وقفت عليه من أخبارها ووصف آثارها ومعاهدها، وقد تصفحت لذلك أشهر ما ألف عنها باللغات الإفرنجية من الكتب القديمة والحديثة، غير ما ورد فيه ذكرها من المعاجم الكبرى والنشرات العلمية ونحوها من المظان، وقد اعتمدت في جميع ما دونته على أشهر المصادر وأوثقها، ولم أتعرض للبحث في موضوع تاريخي أو علمي إلا بعد أن أعددت له عدته، وأخذت له أهبته، وتحريت حقيقته.
وكنت أترقب فرصة يصفو لي فيها الوقت لجمع ما دونته ونشره، فحالت الشواغل دون هذه الأمنية. وفي سنة 1912 استولت إيطاليا على هذه الجزيرة، فذاع يومئذ ذكرها وتحدثت الصحف بأخبارها، فكتبت نبذة أودعتها خلاصة تاريخها ووصف بعض آثارها ونشرتها في مجلة الهلال.
1
وقد رغب إلي الآن بعض الأفاضل ممن رحلوا إليها من عهد قريب في أن أجمع شتات ما كتبته عنها وأطبعه في كتاب تعميما لفوائده؛ إذ لم يعن أحد إلى الآن باستيعاب تاريخها وتدوينه باللغة العربية، فاستعنت بالله في القيام بهذا العمل خدمة للناطقين بالضاد.
ولما كان أهم ما وقع في هذه الجزيرة من الحوادث حصار السلطان سليمان القانوني لها في سنة 1522م، والوقائع الهائلة التي دارت رحاها وقتئذ بين جيشه وبين الفرسان (الشفاليه)؛ فقد ذكرت هذه الوقائع بالتفصيل معتمدا في ذلك على ما ورد في رسالة خطية باللغة التركية دون فيها مؤلفها أخبار ذلك الحصار يوما فيوما، والرسالة المذكورة لم تطبع إلى الآن، ولكنها ترجمت إلى اللغة الفرنسية؛ لأهميتها وما حوته من التفاصيل الوافية.
ولم أقتصر في ما دونته بهذا الكتاب على ذكر الحوادث التاريخية، ووصف المعاهد والآثار، بل تخلل ذلك مباحث شتى عن الأمم التي وفدت على بلاد اليونان في أقدم العصور، وآراء العلماء في أصلهم ومنشأهم، وأول من استعمر منهم هذه البلاد. وساقني الكلام على الآثار والمعابد القديمة إلى البحث في أساطير اليونان، وذكر أشهر معبوداتهم، ومقارنتها بما يماثلها من معبودات الأمم المتوغلة في القدم، كالمصريين والهنود والآشوريين والبابليين والفينيقيين والفرس والرومان والعرب أيام الجاهلية، وتعريف كل من هذه المعبودات بعبارة موجزة تغني عن مراجعة الكتب المطولة والموسوعات، وأفردت بابا لبيان ما قامت به إيطاليا في رودس من الأعمال العظيمة التي بلغت بها هذه الجزيرة أسمى درجة في النظام والعمران، وختمت الكلام بخلاصة تاريخية عن أشهر الجزائر التي كانت تابعة لولاية بحر سفيد في عهد الحكومة العثمانية، ومنها الجزائر التي استولت عليها إيطاليا، وصدرت الكتاب بخريطة الجزيرة منقولة عن الخريطة الكبيرة التي وضعتها البحرية الإنجليزية في سنة 1841م؛ لأنها وافية البيان وغاية في الدقة والإتقان، وحليته بكثير من الرسوم والمناظر التي تنجلي بها الحقيقة للعيان. والمأمول من أولي الفضل أن يتلقوه بالإقبال والقبول، وحسبي شرفا أنه ثمرة من ثمرات هذا العصر الذي ازدهرت فيه رياض المعارف، في ظل صاحب الجلالة فؤاد الأول ملك مصر المعظم، أبهج الله أيامه، ونشر بالعز والتأييد أعلامه.
جغرافيتها
هذه الجزيرة أشهر جزائر بحر إيجه، وهو الجزء الشرقي من البحر المتوسط المنحصر بين آسيا الصغرى ومملكة اليونان، ويعرف ببحر الأرخبيل، وفي هذا الجزء جزر كثيرة تنقسم بحسب وضعها الجغرافي إلى قسمين كبيرين، أحدهما يشتمل على الجزائر الواقعة في الجانب الشرقي منه، ويطلق على مجموعها اسم «أسبوراد» أي المتفرقة، والثاني على جزائر الجانب الغربي وتسمى «سيكلاد»، ومعناها الدائرة، ورودس من جزائر القسم الشرقي المعروفة بالأسبوراد، وهي مستطيلة الشكل كالسفينة، كما ترى في الخريطة، وطولها 77 كيلومترا، ويختلف عرضها باختلاف شكلها، معظمه بين رأس «لاردوس» ورأس «مونوليتوس»، ويبلغ نحو 37 كيلومترا، ومساحتها 1404 كيلومترات مربعة، وتخترقها طولا سلسلة جبال متعرجة متشعبة أعلاها جبل «تايروس»، علوه 1216 مترا، وكان عليه هيكل عظيم لزفس «جوبتير» كبير الآلهة، ولا تزال آثاره باقية إلى الآن، ويليه في الارتفاع جبل «اكراميتى» وارتفاعه 820 مترا، ثم جبل النبي إيليا وعلوه 790 مترا. وهذه الجزيرة صخرية، لكن فيها أودية خصبة وعيون عذبة وغابات واسعة، وبعض جداول تصب في البحر، وهي معتدلة الإقليم صافية الجو، نقية الهواء لا ينقطع عنها النسيم اللطيف لا صيفا ولا شتاء، وأقصى درجات الحر فيها أيام الصيف 28 درجة مئينية «سنتجراد»، وفي الشتاء لا تتجاوز الصفر غالبا، وغاية ما تصل إليه 5 درجات تحت الصفر، وذلك في النادر جدا. ومهما تربدت السماء وتكاثفت الغيوم، فلا تلبث أن تنقشع وتتبدد فلا يمر فيها يوم إلا وترى الشمس ساطعة والجو صافيا، وجبالها لا يغشاها الثلج ما عدا جبل تايروس، فقد تتجمع على قمته الثلوج، ولكنها لا تلبث أن تذوب متى اشتدت حرارة الشمس.
وقد تغنى الشعراء بمحاسن هذه الجزيرة ووصفوها بالمنيرة والجميلة ووردة الجزائر، وقال عنها أبقراط إن الصيف والشتاء فيها معتدلان، فلا يعرف فيها حر ولا برد، وسبب اعتدال إقليمها وصفاء جوها وقوعها في الجنوب الغربي من آسيا الصغرى، فهي بهذا الوضع في مأمن من الرياح الشمالية الشرقية؛ لأن جبال الأناضول تحول بينها وبين مهاب هذه الرياح ومدارجها، وقد وصفها المتأخرون بما يؤيد أقوال المتقدمين، وحسبنا ما كتبه عنها «لامارتين»،
1
فقد قال إنه لم ير مثلها في صفاء جوها وخصب تربتها، وأنها جمعت من محاسن الطبيعة ما لم يجتمع في غيرها.
وفي هذه الجزيرة من أنواع النبات ما يفوق الحصر، ومن الحيوانات الأليفة والبرية أجناس كثيرة، وفيها مناجم رخام ومغاص للإسفنج والمرجان، وعدد سكانها حسب الإحصاء الأخير 45000، واللغات المتداولة فيها اليونانية والتركية والإسبانية، وأكثر اليونانيين يعرفون التركية، والترك يعرفون اليونانية، أما الإسبانية فهي خاصة بالإسرائيليين وأصلهم من جالية إسبانيا.
تاريخها القديم
سميت هذه الجزيرة قديما بعدة أسماء، منها «هليوزا» نسبة إلى «هليوس» (الشمس)، و«أفيوزا» (جزيرة الحيات)؛ لأنها كانت كثيرة الحيات قبل استعمارها، و«تلخينا» نسبة إلى التلخينيين، وهم من الأمم التي استوطنتها في العصور الخالية، و«ترينكاريا» ومعناها: ذات القواعد الثلاث أي العواصم، و«كورمبيا» (المتوجة) لشهرة أهلها في الفروسية والألعاب الرياضية، وأشهر أسمائها «رودس» وأصله «رودون» (الورد) أو «روديون» (الرمان) باللغة اليونانية، وقيل إن أصله «رودو دفنه» (نوع من الغار)، وذهب بعضهم إلى أنها سميت باسم «رودانيم» أحد أبناء يافث بن نوح، ويتصل تاريخها القديم بأساطير اليونان الخرافية، فقد قيل عنها في الميثولوجيا أن «أبولون» أخرجها من لجج البحار وأن «هليوس» (الشمس) أحب رودس بنت بوسيدون إله البحار، وهو نبتون عند الرومان، فتزوجها وولدت له سبعة بنين، هم أول من سكن هذه الجزيرة. ذلك ما ورد في الميثولوجيا، وقد دل البحث على أن البلاسجة استوطنوها في أقدم العصور، وهم قوم لا يعرف أصلهم ومنشؤهم بالتحقيق، وغاية ما عرف عنهم أنهم وفدوا في العصور الغابرة على بلاد اليونان وجزائر الأرخبيل وسواحل آسيا الصغرى وإيطاليا وكانوا طوائف شتى، وقيل إنهم استعمروا بلاد اليونان قبل التاريخ المسيحي بألف وتسعمائة سنة، وكانوا معاصرين للفينيقيين، وذهب بلاس ساردا من كبار علماء الهند في الكتاب الذي ألفه بالإنكليزية عن تقدم الهنود في الحضارة والمدنية
1
إلى أن أصل البلاسجة من الهند، وأتى على ذلك بأدلة منها أنهم سموا بهذا الاسم نسبة إلى ولاية في الهند كانت تسمى قديما «بلاسا»، وهي المعروفة الآن بولاية «بهارا»، وأن لفظة «هيلاس» الدالة على بلاد اليونان أصلها اسم قبيلة في الهند، سميت بهذا الاسم نسبة إلى جبال «هيلا» في «بلوخستان» التي كانت قسما من الهند، وأن كلمة
Greek
في اللغة الهندية القديمة علم على قاعدة «مجدا» وهي من ولايات الهند. وقد استنتج من ذلك أن الأمم التي استعمرت بلاد اليونان في قديم الزمان نزحت إليها من الأنحاء الشمالية الغربية في الهند، ويؤيد هذا الرأي ما ورد في إلياذة هوميروس، التي عربها نظما العلامة سليمان البستاني، شرحا على أبيات تشير إلى إحراق الجثث، وهذا نصه: «ولعلها بقية من عادات قبائل البلاسجة الذين قدمت طائفة منهم بلاد اليونان بعد أن برحت الهند منذ عهد عهيد.»
2
وروى بعض المؤرخين أن البلاسجة وفدوا على مصر في عهد الدولة العشرين، وأنهم ذكروا على آثار هذه الدولة باسم «الدانائيين» أي الطوائف البحرية، وروى ماسبرو أن الملك تحوتميس الثالث هزمهم وطردهم، وأنهم كانوا من أهل الجزائر.
3
هذه خلاصة ما عرف إلى الآن عن أولئك القوم، وليس هناك دليل قاطع على أنهم أول من استعمر بلاد اليونان، فربما خلت من قبلهم أمم درست آثارها لتقادم عهدها، وانقطعت عنا أسباب العلم بأخبارها، وقد تعاقب على بلاد اليونان بعد البلاسجة طوائف شتى، أشهرها الهيلين والإخائيون والأيوليون والدوريون واليونيون. وفي سنة 1643ق.م وفد إليها سكروبس المصري مع جالية من المصريين وأسس مدينة أثينا واثنتي عشرة مدينة أخرى من بلاد اليونان، وسن الشرائع ووضع نظاما للزواج، وأنشأ محكمة الأريوباغوس، وعلم أهل البلاد فلاحة الأرض، وفي سنة 1550ق .م أو نحوها نزل بها قدموس الفينيقي مع جماعة من الفينيقيين وأسس مدينة طيبة اليونانية ونشر العلوم في سائر بلاد اليونان، أما الفينيقيون فهم من الأمم المتوغلة في القدم، وقد عاصروا المصريين والآشوريين والبابليين في العصور السابقة للتاريخ، كما تدل على ذلك آثارهم، وفاقوا أهل الأرض في سلك البحار وإنشاء السفن، وكان لهم مستعمرات في جميع الأقطار، وأكثر الجزائر منها جزيرة رودس، وهم الذين نقلوا حروف الكتابة إلى بلاد اليونان، ومنها انتشرت في سائر البلاد، فإن الحروف اللاتينية التي هي حروف أكثر لغات أوروبا مأخوذة من الحروف اليونانية المشتقة من القلم الفينيقي، وهو مستنبط من القلم المصري (الهيراتي). وخلاصة القول أن الفينيقيين كانوا هداة الأمم ورسل الحضارة في العصور الأولى، بما نشروه من العلوم التي اقتبسوا أنوارها في طيبة وممفيس وبابل وآشور، كما كان العرب أول من قام في القرون الوسطى بإحياء علوم اليونان والرومان ورفع منارها في آفاق أوروبا بعد أن سحب الدهر عليها ذيل العفاء، وتوالت عليها القرون وهي في طي الخفاء.
ولنعد إلى الكلام على جزيرة رودس، فنقول إن أول من استعمرها - على ما رواه أكثر المؤرخين - التلخينيون، وكان مقرهم في ياليسوس إحدى مدنها القديمة، وكان اسمها وقتئذ «أفيوزا» (جزيرة الحيات)، فسموها «تلخينا» نسبة إليهم، وقيل إن أول من استعمرها الفينيقيون. ومن الأمم التي استوطنت هذه الجزيرة في العصور الخالية الدوريون والميسنليون، وقد دلت المباحث الأركيولوجية الحديثة على أن الدوريين استوطنوها قبل المسيح بنحو ألف سنة، وأنه كانت تسكنها من قبل طوائف أخرى كالتلخينيين والفينيقيين. ولعل الفينيقيين أتوا بعد التلخينيين واستعمروا «كاميروس» من مدنها القديمة، بدليل ما وجد من آثارهم في أطلال هذه المدينة، وأشهر مدن رودس القديمة ياليسوس وكاميروس ولندوس، وأقدمها ياليسوس وتليها كاميروس، وقد عفت آثارهما ودرست معالمهما، أما لندوس فباقية آثارها إلى الآن، وسيأتي الكلام عليها، وبالجملة فإن تاريخ رودس في تلك العصور تغشاه الظنون والأوهام.
أمثلة من نقود المدن القديمة.
والمحقق في التاريخ أن الفرس افتتحوها سنة 616ق.م ثم دخلت في حوزة أثينا بعد حرب انتصرت فيها على الفرس، وفي أوائل القرن الخامس ق.م أسست مدينة رودس، وقد وضع رسمها المهندس الشهير أيبودامس، واتحد وقتئذ أهل المدن الثلاث وصاروا يدا واحدة لدفع غائلة من عساه أن يسطو عليهم من الأجانب، ولم يشعروا بالحاجة إلى الوحدة إلا بعد أن أغار عليهم الفرس ثم اليونان، فاشتد ساعدهم وقويت عصبيتهم وارتقوا في معارج المدنية والعمران، وقد أصبحت مدينة رودس في ذلك العصر من المدن العظيمة، وكان محيطها نحو 15 كيلومترا، أوسع مما هو الآن، ولها حصون منيعة، تعلوها القلاع والأبراج المشيدة، وفيها الهياكل والتماثيل. قيل إن عدد التماثيل بلغ نحو 3000 تمثال، عدا ما كان فيها من دور الكتب والمراصد الفلكية، والمدارس التي كان يقصدها الطلاب من جميع الأقطار، وروي أن كثيرا من الكتب النفيسة التي كانت في مكتبة الإسكندرية نقلت إليها من رودس في عهد بطلميوس فيلادلفوس، وأن الإمبراطور طيباريوس الذي اشتهر بحبه للعلم وفد إليها لاقتباس أنوار علومها، وقد نبغ فيها طائفة كبيرة من الفلاسفة والعلماء والشعراء والمؤرخين والأبطال، فمن الفلاسفة كليوبولوس وهو أحد حكماء اليونان السبعة الذين هم أساطين الفلسفة، وقبره في لندوس إحدى المدن القديمة التي مر ذكرها، ومن كبار الفلاسفة بانيتيوس، وله مصنف جليل في «واجبات الإنسان»، ومن الشعراء بيساندروس وإزيتومينوس وهيرونيموس وانتاغوراس وسيمياس، ومن العلماء جيمينوس وليونيداس وبوسيدونيوس صاحب المصنفات المفيدة في العلوم الرياضية والطبيعية والفلك، ومن أئمة اللغة والأدب أبولونيوس وأريستوكليس وأسكينوس الذي أسس مدرسة جامعة في رودس، وهي التي اشتهر اسمها وذاع ذكرها ورحل إليها كبار العلماء والفلاسفة والعظماء لاجتناء ثمار علومها، مثل شيشرون وبروتوس وبومبيوس وكاسيوس، ومن المؤرخين أفاغوراس وهو من لندوس وكليتوفون وأوديموس وأرغاس، وله تاريخ كبير عن الفينيقيين، وكاستور صاحب المؤلفات الجليلة عن مصر وبابل، ودنيس وله مصنفات عدة، أشهرها المقدمة في التاريخ، وهي في عشرة أجزاء، ومن واضعي الروايات أنتياس وأنتيفانوس وأنكاندروس، ونبغ في التصوير والحفر عدد كبير بعضهم من أبناء الجزيرة، والبعض ممن تلقوا فيها الفنون وتوطنوها، منهم بروتوجينوس المصور الشهير، وقد أنشأ في رودس مدرسة لتعليم الرسم والتصوير، وأبولونيوس واجيزندروس وهما من كبار الحفارين، وفي متحفي روما ونابولي تماثيل كثيرة من عملهما، وهي غاية في الإبداع والإتقان، وليسيبوس ومن أعماله مركبة بديعة أهداها إلى أبولون إله الشمس، وكانت في الهيكل الذي شيد له في رودس، وأشهرهم خارس ولاخس، وهما اللذان صنعا التمثال الهائل المعروف بصنم رودس، وسيأتي الكلام عليه. ومن أبدع ما صنعه أهل رودس الجياد الأربعة التي في مدخل كنيسة القديس مرقس في البندقية وهي من النحاس. ومن الأبطال الذين أحرزوا القدح المعلى في الفروسية والألعاب الرياضية دياغوراس، وهو الذي امتدحه بندار الشاعر الكبير. واشتهر أهل رودس في النسيج الموشى وصناعة القاشاني والأواني الخزفية، وطليها بالمينا ونشقها بألوان بديعة، وقد أهدى صاحب المآثر الجليلة الأمير يوسف كمال إلى دار الآثار العربية مجموعة كبيرة من هذه النفائس والآثار الثمينة.
وكان لرودس تجارة واسعة ومستعمرات في جميع الأقطار، أشهرها مستعمرات إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وصقلية وهاليكارناس (بودروم) وكيليكية (أطنة)، وكانت قوانين هذه الجزيرة أحكم وأوفى قوانين سائر الدول، وخاصة قانونها البحري، وكثير من أحكام الشريعة الرومانية مستنبط من تلك القوانين، وأول من اقتبسها الإمبراطور طيباريوس، وتابعة في ذلك الإمبراطور تراجانوس بعد موافقة المجلس الأعلى (السناتو).
قضت هذه الجزيرة دهرا وهي ترفل في مطارف العز والسؤدد، وتخفق على ربوعها أعلام الأمن والحرية، ثم سرت فيها عوامل الفتن والشقاق، فانقسم أهلها فريقين أحدهما انحاز لإسبرطة والآخر لأثينا وتحاربا، ولما حمل إسكندر المقدوني على آسيا، كانت رودس في جملة ما دخل في حوزته، ثم استقلت بعد موته، ولكنها كانت مطمحا للأنظار وهدفا لسهام المطامع بسبب موقعها الجغرافي، فتنافست الدول في محالفتها أو محاربتها. وأهم ما وقع فيها من الحوادث في ذلك العصر حصار ديمتريوس ملك مقدونية الملقب ببليورسيتوس أي فاتح المدن أو الغازي، وهو ابن أنتيغون أحد قواد الإسكندر وخلفائه، وسبب ذلك أنه أراد أن يستنجدها ويستعين بسفنها على محاربة بطلميوس ملك مصر، فأبت فزحف عليها سنة 35ق.م بأسطول عظيم مؤلف من 200 بارجة و260 سفينة كبيرة لنقل الذخائر والمؤنة، عدا السفن الصغيرة وعددها حسب رواية ديودوروس الصقلي نحو 1000 سفينة. و40000 راجل غير الفرسان والمتطوعين، فحاصرها مدة 12 شهرا، ولم يقو على فتحها، وقد أمدها وقتئذ صاحب مصر بالمال والجند والذخائر، وانتهت الحرب بعقد الصلح، فترك ديمتريوس لأهل رودس جميع الآلات والعدد الحربية إقرارا ببسالتهم وثباتهم، فباعوها وأنفقوا ثمنها في عمل تمثال عظيم يخلد به ذكر هذا الانتصار وهو المشهور بصنم رودس. وذكر المؤرخون أن ثمن هذه الآلات والعدد الحربية بلغ مليون وثمانمائة ألف إفرنك، وكان هذا الصنم مصنوعا من الصفر أو الشبه (البرونز) على صورة هليوس (إله الشمس)، وهو من عمل خارس الشهير وتلميذه لاخس اللذين تقدم ذكرهما، قيل إنهما قضيا 12 سنة في عمله، وقد اختلف المؤرخون في صفته والمكان الذي كان قائما عليه، وذكروا أنه كان هائل الحجم طوله نحو 32 مترا، وروى بعضهم أنه نصب عند مدخل الجزيرة واقفا متباعد الساقين تمر السفن بينهما، وفي إحدى يديه مصباح يهتدى به ليلا، كما تراه ممثلا في الشكل الآتي، وهو أحد الآثار التي عدها القدماء من عجائب الدنيا السبع وهي (1) أهرام مصر. (2) حدائق الملكة سميراميس في بابل. (3) تمثال زفس نحت فيدياس الشهير. (4) ضريح الملك موزوليوس. (5) منارة الإسكندرية. (6) صنم رودس. (7) هيكل أرطميس (ديانا) في أفسس. وقد سطت عوادي الدهر على هذه الآثار العجيبة فأبادتها، ولم يبق منها غير الأهرام التي قيل فيها:
بناء يخاف الدهر منه وكل ما
على ظاهر الدنيا يخاف من الدهر
وفي سنة 222ق.م انتابت رودس زلزلة شديدة قوضت مبانيها وسقط صنمها الكبير وتحطم، فتسابقت الدول وقتئذ إلى نجدتها وأوفدت إليها المهندسين والصناع، فأصلحوا ما تهدم ورأبوا ما تصدع من مبانيها، وأعادوا الأصنام إلى مكانها ما عدا الكبير، فإنهم تركوه وبقيت كسارته إلى زمن معاوية بن أبي سفيان الذي فتح الجزيرة سنة 653م، فنقلت وقتئذ إلى «صور» وبيعت من تاجر إسرائيلي من حماة، قيل إنه نقلها إلى بلده على تسعمائة جمل، وقد عادت رودس بعد هذه النكبة إلى ما كانت عليه من العز والسؤدد، وكانت سفنها الحربية من أشهر السفن، ولم تهزم لها راية في جميع الحروب التي نشبت بينها وبين أكبر الممالك في ذلك العصر، وكانت عونا للمملكة الرومانية في كثير من الحروب، وفي سنة 22ق.م فرضت الدولة البيزنطية ضريبة على السفن التي تمر من البوسفور، فأسخط ذلك أهل رودس؛ لأنه يضر بتجارتهم، فأشهروا الحرب على هذه الدولة وانتصروا عليها، وبعد ذلك وقعت بينهم وبين فيلبس الثالث ملك مقدونية عدة حروب بين سنة 205 و200ق.م وانتهت بانتصارهم عليه.
صنم رودس.
ولما خرج اليونانيون على الدولة الرومانية في آسيا وأوروبا أيام متريدات ملك بنطش طالبين الاستقلال، أبت رودس الانقياد لزعماء الثورة، وظلت موالية لهذه الدولة؛ لأنها كانت حليفتها، فقصدها متريدات وحاصرها سنة 63ق.م فانتصرت عليه بعد وقائع جسيمة، وفي سنة 42ق.م حاصرها كاسيوس الجنرال الروماني وفتحها عنوة وأباحها للنهب والسلب، وأخذ من الذخائر الثمينة شيئا كثيرا، وأتى مثله فيما بعد أنطونيوس الذي هام بحب كليوبطرة، فإنه أغار عليها وهدم كثيرا من الهياكل والمباني طمعا في ما عساه أن يكون مخبوءا فيها من الأموال، ولما وفد هيرودس ملك اليهودية على هذه الجزيرة سنة 31ق.م وكان مولعا بالفنون أعاد بناء هيكل «أبولون» وهو أكبر معابد الجزيرة. ولما ظهرت النصرانية أتى إليها بولس الرسول كما ورد في أعمال الرسل، وكان لها في ذلك العصر امتيازات بموجب معاهدات أبرمت بينها وبين المملكة الرومانية، حتى إذا تولى كلوديوس عرش هذه المملكة نسخ أحكام تلك المعاهدات ثم أعادها إليها، وتوالت على هذه الجزيرة محن عدة انتهت بدخولها في حوزة العرب سنة 653م في عهد معاوية بن أبي سفيان، ولم يحصل وقتئذ ما حصل حين استيلاء الرومانيين عليها من النهب والسلب والتخريب والتدمير. قال البلاذري في فتوح البلدان: «وكان معاوية بن أبي سفيان يغزي برا وبحرا، فبعث جنادة بن أبي أمية الأزدي إلى رودس، وجنادة أحد من روي عنهم الحديث ولقي أبا بكر وعمر ومعاذ بن جبل، ومات في سنة 80، ففتحها عنوة وكانت غيضة في البحر، وأمره معاوية فأنزلها قوما من المسلمين، وكان ذلك في سنة 52، قالوا: «ورودس من أخصب الجزائر، وهي نحو من ستين ميلا، فيها الزيتون والكروم والثمار والمياه العذبة»، وحدثني محمد بن سعد عن الواقدي وغيره قالوا: أقام المسلمون برودس سبع سنين في حصن اتخذ لهم، فلما مات معاوية كتب يزيد إلى جنادة يأمره بهدم الحصن والقفل.» ا.ه.
ولما خرجت الجزيرة من يد العرب، دخلت ثانية في حوزة دولة الروم البيزنطية، وفي سنة 1248م قصدها أسطول من مملكة جنوى فحاصرها وافتتحها، ثم عادت إلى دولة الروم وبقيت تابعة لها إلى أن استولى عليها الفرسان (الشفاليه)، وفي أيامهم بلغت ذروة مجدها وعزتها.
مدة الفرسان (الشفاليه)
الشفاليه جمعية سياسية دينية تعرف بجمعية فرسان أورشليم أو فرسان القديس يوحنا، أنشئت في بادئ الأمر لعمل الخير، وكان لها دار في أورشليم بناها بعض التجار الإيطاليين سنة 1048م، بالقرب من كنيسة القيامة، وجعلوها مثوى لفقراء الحجاج ومستشفى للمرضى، ولما فتح الصليبيون مدينة أورشليم سنة 1099، وانتخب رئيسهم «غودفروا دي بويون» ملكا عليها؛ أقطع هذه الجمعية أرضا كبيرة، وانضم إليها في ذلك الوقت كثير من الصليبيين وبنوا كنيسة باسم القديس يوحنا، وتنقل هؤلاء الفرسان في بلاد شتى بين عكا وقبرص ورودس وإقريطش (كريد) ومالطة، ولما عقدوا النية على فتح رودس وجعلها مقرا لهم؛ كانت هذه الجزيرة في رعاية دولة الروم البيزنطية، وكان الحكم فيها مختلا والفوضى ضاربة فيها أطنابها، وقد أضحت ملجأ للقرصان، فحمل عليها الفرسان سنة 1309م. وفتحوها بقيادة «فلك دي فيلاريه»، فانتخب هذا القائد رئيسا أعظم، وهو لقب من كان يتولى الحكم من أولئك الفرسان، ولما استقام لهم الأمر في هذه الجزيرة؛ قاموا بتحصينها فشادوا الأسوار والقلاع وغيرها من المباني العظيمة.
وفي عهد الرئيس «ريمون بيرانجه»، وهو سادس الرؤساء الذين تولوا الحكم على الجزيرة، غزا الفرسان سواحل سوريا واستولوا على طرابلس وطرسوس واللاذقية.
وفي سنة 1444م جاء من مصر أسطول كبير وحاصر الجزيرة مدة 42 يوما، وكان ذلك في عهد الرئيس «جان دي لاستيك» الحادي عشر من الرؤساء الذين قاموا بالحكم فيها، فأبلى في الدفاع عنها بلاء حسنا، ولم يفز هذا الأسطول بطائل.
ومن أشهر الحوادث التي وقعت في عصر هؤلاء الفرسان، الحروب التي دارت رحاها بينهم وبين السلطان محمد الفاتح، فإنه حاصرها في سنة 1454م بقصد فتحها، ولم يفز بمراده، وفي سنة 1480م أعاد الكرة فسير إليها أسطولا عظيما من 160 بارجة ومائة ألف جندي، وكان ذلك في عهد الرئيس «دي بوسون» الخامس عشر من الرؤساء، ودامت هذه الحرب ثلاثة أشهر وقعت فيها معارك هائلة وقتل عدد كبير من الفريقين، ولم يتمكن السلطان محمد من فتحها، وبلغ عدد من قتل من الجيش العثماني في هذه الحرب على ما رواه المؤرخون 9000 جندي وعدد من جرح 15000 غير السفن التي دمرت والأموال التي أنفقت.
والرئيس «دي بوسون» أشهر الرؤساء الذين تولوا الحكم على الجزيرة لما له من المآثر الجليلة، وما اتصف به من البسالة والمهارة في الفنون الحربية، وكان حائزا لرتبة كردينال.
وفي عهد الرئيس «أمري دامبواز» السادس عشر من الرؤساء، سير قنصوه الغوري سلطان مصر أسطولا مؤلفا من 25 سفينة حربية إلى سواحل آسيا الصغرى، ولما علم الرئيس بقدوم هذا الأسطول أرسل 22 سفينة حربية، فالتقت به ودمرته.
ولم يقتصر هؤلاء الفرسان على الذود عن الجزيرة؛ بل كانوا عونا لبعض ملوك أوروبا في حروب كثيرة، وأتوا من المهارة في الفنون الحربية ما بلغوا به أوج الشهرة والفخر.
ومن الحوادث الغريبة التي حدثت في أيامهم، ما رواه المؤرخون عن الحيوان الهائل الذي ظهر في الجزيرة، وهو أنه في عهد الرئيس «هليون دي فيلنوف» الذي تولى الرئاسة من سنة 1319 إلى سنة 1346م وجد في الجزيرة وحش مفترس شديد الأذى، وكان يأوي غيضة في سفح جبل سان أتيان القريب من المدينة،
1
وكان إذا خيم الظلام يخرج من وجاره ويكمن في مكان قريب منه، حتى إذا رأى حيوانا أو إنسانا أسرع إليه وافترسه، وكانت تنبعث من مأواه رائحة كريهة وتنتشر في الأنحاء المجاورة، فبات أهل المدينة في رعب ووجل، وامتنعوا عن الخروج من مساكنهم بعد الغروب، وقد هم كثير من الفرسان بقتل هذا الوحش، فعاد بعضهم بالخيبة والبعض ذهب فريسته، فنهاهم الرئيس عن مهاجمته خوفا عليهم من غائلته، وقضى بعقاب من خالف نهيه، بيد أن أحد الفرسان واسمه «ديودونيه دي جوزون» وكان مشهورا بالشجاعة والإقدام، صمم على قتله، فرقبه عن كثب عدة ليال حتى رآه وصنع تمثالا من خشب على صورته، وأضرى كلبين من كلاب الصيد على مهاجمة التمثال، ثم قصد الغيضة ليلا ومعه اثنان من خدامه والكلبان، ولما كان غير بعيد منها أمر الخادمين بأن يتواريا في أجمة هناك، ويرقبا ما يكون من أمره مع الوحش، فإن افترسه عادا أدراجهما، وإن رأيا أنه استظهر عليه خفا إلى نجدته، ثم قصد الغيضة يتبعه الكلبان، ولما رآه الوحش خرج إليه فاغرا فاه فطعنه برمحه، فانكسر الرمح لغلظ جلده وصلابته، فأخذ الكلبان يناوشانه وينهشانه، فانتهز الفارس هذه الفرصة ونزل عن جواده وطعنه بالسيف في عنقه فنفذ فيه، وما زال يطعنه حتى سال دمه، وخارت قواه، فحضر الرجلان وأجهزا عليه برمحيهما، ووجدا الفارس مغشيا عليه من شدة المجاهدة والرعب، ولما علم بذلك أهل الجزيرة فرحوا، واطمأنت قلوبهم، أما الرئيس فلم يجد مندوحة من عقاب الفارس لمخالفته الأمر، كما يقضي بذلك القانون، فسجنه وبعد أيام عفا عنه وأثنى عليه. وقد وصف المؤرخون هذا الحيوان بأنه نوع من التماسيح كبير الجثة جدا واسع الفم، بأنياب كأسنة الرماح، وله أربع أرجل ذات براثن حادة، غائر العينين براقهما، وجلده غليظ مغشى بحراشف صلبة لا يعمل الحديد فيها، وطوله مع ذنبه نحو 20 قدما. وليس في هذا الحادث ما يبعث على الريب في صحته؛ فقد اشتهرت رودس قديما بكثرة الحيات ونحوها من الدواب الخبيثة، حتى سميت «أفيوزا» أي جزيرة الحيات، وقد تلاشت هذه الدواب بمر الزمان وانتشار العمران، فلا يبعد أن يكون هذا الحيوان من بقايا تلك الدواب، فإنه ظهر في سنة 1342م أي من نحو ستة قرون، وكانت الجزيرة وقتئذ قفرا موحشا، ويحتمل أن هذا التمساح كان في النيل فاكتسحه التيار في زمن الفيضان ولم يعترضه شيء، فوصل إلى البحر وما زال عائما حتى ألقت به الأمواج على ساحل الجزيرة، أو يكون قد تسرب وهو صغير في إحدى السفن التجارية الراسية في بعض الموانئ المصرية، واختفى فيها ثم أتت به إلى رودس، فخرج وآوى إلى تلك الغيضة وعاش فيها حتى كبر، وبلغ هذا الحجم الهائل. وعلى أي حال فلا غرابة في وجود مثل هذا الحيوان في الجزيرة، ولعل في ما ذكره المؤرخون من صفاته تهويل أملاه عليهم ما كان له من الروعة في النفوس لشدة بطشه.
هذه هي أشهر الحوادث التي وقعت في عصر أولئك الفرسان، أما ما شادوه من الحصون المنيعة والقصور الفاخرة، فهي باقية إلى الآن تشهد بما كان لهم من السؤدد وعظيم الشأن، وأشهرها حصن سان نيقولا،
2
بناه الرئيس زاكوستا الثالث عشر من رؤسائهم سنة 1464م وهو في مدخل مينا مندراكي من جهة الشرق، عدا ما شادوه من الأبراج الشاهقة والقلاع والقصور في ضواحي المدينة وفي القرى، مثل تريانده وفيلانوفا وكاستلوس وكاتافيا ولندوس وأركنجلوس وسوروني وفانزومونوليتوس، وسيأتي الكلام على أشهر هذه الآثار. ومن أبدع وأفخم مبانيهم كنيسة القديس يوحنا التي تقدم ذكرها، وروى المؤرخون أن هذه الكنيسة أقيمت على أنقاض معبد يوناني قديم في عصر «فلك دي فيلاريه» أول من تولى الحكم على الجزيرة، وتم بناؤها في عهد خلفه الرئيس «دي فيلنوف» وكان طولها 46 مترا وعرضها 16 مترا، وكان فيها كثير من النفائس والذخائر والآنية الثمينة.
وقد توالت أحكام الفرسان على رودس إلى أن افتتحها السلطان سليمان القانوني في سنة 1522 بعد حصار دام نحو خمسة أشهر، وهو أهم ما وقع في هذه الجزيرة من الحوادث، بل هو أعظم حصار ورد ذكره في التاريخ؛ لما وقع فيه من المعارك الهائلة، وسيأتي ذكره فيما يلي. وتولى الرياسة على الجزيرة 19 من أولئك الفرسان ومدة حكمهم 212 سنة، وهاك جدولا بأسمائهم ومدة حكم كل منهم وشارته الرسمية «الأمرة».
اسم الرئيس
مدة حكمه
شارته (1) فلك دي فيلاريه
Foulques de Villaret
1310-1319 (2) هليون دي فيلنوف
Helion de Villeneuve
1319-1346 (3) ديودونيه دي جوزون
Dieudonné de Gozon
1346-1353 (4) بيير دي كورنليون
1353-1355 (5) روچيه دي بنس
Roger de Pins
1355-1365 (6) ريمون بيرانجيه
Raymond Beranger
1365-1374 (7) روبير دي جولياك
Robert de Julliac
1374-1377 (8) فردينان ديريديا
Ferdinand d’Heridia
1377-1396 (9) فيليبير دي نلياك
1396-1421 (10) أنطوان فلوفيان
Antoine Fluvian
1421-1437 (11) جان دي لاستيك
Jean Bonpar de Lastic
1437-1454 (12) جاك دي ميللي
Jacques de Milly
1454-1461 (13) بيير ريمون زاكوستا
1461-1467 (14) جان باتست دي زورسن
Jean Baptiste des Ursins
1467-1476 (15) بيير دي بوسون
1476-1505 (16) إمري دامبواز
Emery d’Amboise
1505-1512 (17) جي دي بلانشفور
Guy de Blanchefort
1512-1513 (18) فابريس كاريتو
Fabrice Caretto
1513-1521 (19) فيليه دي ليل آدم
Villiers de l’Isle-Adam
1521-1522
استيلاء الدولة العثمانية على رودس
جلس السلطان سليمان القانوني على عرش السلطنة العثمانية، وفي نيته فتح رودس تعزيزا لقوته البحرية، وتسهيلا للمواصلات بين مصر والآستانة، والسفر إلى الحرمين الشريفين، وكان يقول إنه ليس للدولة العثمانية طريق إلى الغرب غير بلغراد ورودس، فبعد فتح بلغراد أخذ يتأهب لفتح رودس، فأمر بحشد الجيوش وإعداد المعدات وتجهيز السفن؛ لعلمه بمناعة هذه الجزيرة وشهرة فرسانها، وأعد أسطولا من 300 بارجة كبيرة و400 سفينة لنقل الذخائر و10000 جندي بحري بقيادة الوزير الكبير مصطفى باشا الذي عين سر عسكر لهذه الحملة، وأقلع الأسطول قاصدا رودس في 10 رجب سنة 928ه / يونيو سنة 1522م، ثم سار إليها السلطان سليمان بنفسه في 18 رجب، وكان حاكمها يومئذ «دي ليل آدم»، وهو آخر من تولى أمر الجزيرة من هؤلاء الفرسان، ولما وصل الأسطول إلى جزيرة هركيت دعاها الوزير إلى الطاعة والتسليم، فأبت فحاصرها وفتحها عنوة في 20 شعبان/15 يوليو، ثم سار حتى مر من بوغاز رودس ورسا أمام فيلانوفا، وهي من أقاليم الجزيرة، فاستعد جنودها للحرب، فعمد الوزير إلى المخادعة، وكان مشهورا بالدهاء والمهارة في الفنون الحربية، فترك 200 سفينة في فيلانوفا وعاد ببقية السفن إلى البوغاز للوقوف في أوكوزبورنو، فلما مرت السفن أمام الحصون أطلقت عليها القنابل من القلاع، فأصابت بعضها، ورأى الوزير أنه إذا رسا في أوكوزبورنو أصبح عرضة لقذائف المدافع الكبيرة، فسار بأسطوله ووقف في مرفأ مرمريس - وهي مدينة في بر الأناضول تجاه رودس، ويسميها الإفرنج مارمارتسا - ولما وصل السلطان سليمان نزل بها أيضا، وعين يوم 5 رمضان/29 يوليو لضرب المدينة، وكان الأسطول قد استولى على جبل سان أتيان وعلى قرية سان جورج، وكلاهما من ضواحي المدينة، وقبل اليوم المعين للحرب انتقل السلطان سليمان من مرمريس إلى رودس. ونصب فسطاطه على رابية في «قزل تبة»
1
لمراقبة حركات الجيش وإصدار الأوامر، وكانت حصون المدينة في منخفض من الأرض لا يظهر منها للخارج غير شرفاتها، ولها متاريس عرضها 5 أمتار و25سم تحميها خنادق محفورة في الصخر عرضها من 30 إلى 45 مترا، وعمقها من 12 إلى 18 مترا، ومن داخلها القلاع والأبراج وهي باقية إلى الآن، وكان الميناء الكبير (المعروف بميناء الكمرك) محصنا وفي وسطه برج العرب، وقد ربط الفرسان في مدخله سلسلة ضخمة لمنع السفن من اجتيازه، وسدوا الميناء الثاني (المعروف باسم مندراكي ويسميه الترك الترسانة) بمراكب شحنوها حجارة وأغرقوها فيه، وكان عدد الفرسان 292، ثم انضم إليهم كثير ممن كانوا في أوروبا ومن المتطوعين حتى بلغ عددهم 650 فارسا، وكان جيشهم مؤلفا من 6000 جندي، وقد اختصت كل طائفة من الفرسان بالدفاع عن قسم من الحصون والقلاع، وكانت الحصون مقسمة سبعة أقسام موزعة على فرسان فرنسا وألمانيا وإنجلترا وإسبانيا والبرتغال وإيطاليا وبروفنسا وأوفرن، أما الجيش العثماني فكان عدده مائة ألف غير الرؤساء، وقد أحاط بالمدينة من الشمال والجنوب وصوب مدافع الحصار الكبيرة نحو الحصون والقلاع، وبعض تلك المدافع من النوع المعد لقذف الكرات الحجرية الضخمة، ولا يزال كثير من هذه الكرات في رودس حتى الآن، يشهد بصحة ما رواه المؤرخون عن حجمها الهائل، وفي اليوم المعين ابتدأت الحرب ووضعت اللغوم في عدة مواقع، وفي 16 رمضان/9 أغسطس أتت نجدة مصرية من 24 سفينة حربية انضمت إلى القوة العثمانية، وفي 4 سبتمبر انفجر لغم فنسف جانبا من زاوية حصن الفرسان الإنجليز، فهجم الجنود العثمانيون على هذا الحصن كالأسود، ووثبوا من ثغرة فيه على الفرسان، وغنموا منهم سبعة أعلام، ولما رأى الرئيس الأعظم حرج الموقف نزل بنفسه إلى ميدان القتال بقوة عظيمة، ووقعت معركة كبرى كان النصر فيها للفرسان، وبلغ عدد من قتل من الجنود العثمانية نحو ألفي رجل، وبعد ستة أيام أعادوا الكرة فانهزموا وقتل منهم عدد لا يقل عن الذين قتلوا في الواقعة الأولى، وقتل من عساكر الفرسان ثلاثون رجلا منهم قائد المدفعية وحامل لواء الرئيس الأعظم، وبعد يومين هجمت الجنود العثمانية مرة أخرى على الحصن وعبرت من الثغرة التي فيه ورفعوا عليه خمسة أعلام، أخذ الفرسان منها علما بعد قتال عنيف، وفي 23 سبتمبر صدر الأمر بالهجوم في اليوم التالي هجوما عاما، وأعلن هذا الأمر ليلا في الجيش كله، وفي فجر الغد قامت الحرب على قدم وساق، وامتد القتال من الشمال إلى الشرق والجنوب، وحمي وطيسه في عدة أماكن، وكان أشده في حصون فرسان إسبانيا، وكانت الجنود العثمانية تعبر الخنادق وتتسلق الأسوار وتقتحم الأهوال لا تصدها القنابل ولا السيوف، ولا ما كان يصبه الفرسان عليهم من المواد الملتهبة حتى غصت الخنادق وشرفات الحصون بجثث القتلى والجرحى، وقتل من الجنود العثمانية في ذلك اليوم خمسة عشر ألف رجل، وفي 22 أكتوبر حاولوا الهجوم على حصن الفرسان الإنجليز مرة أخرى فانهزموا، ثم زحفوا على حصون فرسان إيطاليا وبروفنسا، فقتل منهم خلق كثير وأعادوا الكرة على حصن إيطاليا، فقتل منهم خمسمائة رجل، ثم حملوا على حصون فرسان إسبانيا وإيطاليا، فقتل منهم ثلاثة آلاف رجل، ولما رأى السر عسكر ما حل بالجيش بعد انهزامه مرارا عدل عن الهجوم، وعزم على الاستمرار في حصار المدينة بواسطة الخنادق واللغم. وفي 10 ديسمبر فاوض السلطان سليمان الفرسان في تسليم المدينة وأمهلهم ثلاثة أيام، ووعدهم بالكف عن القتال إذا أذعنوا لطلبه، فعقدوا مجلسهم وتفاوضوا في الأمر، فاختلفت آراؤهم وعارض أكثرهم في التسليم، وعزموا على طلب الإمهال للنظر في الأمر، وخابروا السلطان في ذلك، فكبر عليه وأمر بالاستمرار في الحرب، وفي 18 ديسمبر هجمت الجنود العثمانية على حصن فرسان إسبانيا فانهزموا ثم أعادوا الكرة على هذا الحصن بقوة عظيمة واستولوا عليه، وكان الفرسان في خلال ذلك قد أدركهم الضعف والوهن، فثبطت هممهم وخارت عزائمهم، فطلب رئيسهم دي ليل آدم من السلطان سليمان المفاوضة في التسليم.
حصار العثمانيين لرودس.
دي ليل آدم أمام فسطاط السلطان سليمان.
وقد تم ذلك بشروط عرضها «دي ليل آدم» وقبلها السلطان، وروى المؤرخون أن الجيش العثماني لما عجز عن فتح الجزيرة بعد تلك المعارك الهائلة فترت همته وكاد يكف عن القتال، وإذا برسالة أتته في سهم من فوق أسوار المدينة، وفيها من الأنباء عن قوة الفرسان ومواقع الضعف ما شدد عزيمته، فأعاد الكرة وفاز ببغيته، وقد أرسلت هذه الأنباء بإيعاز من أحد كبار القواد واسمه «أندريه دامرال»، فقد كان هذا القائد يطمح من زمن في تولي الرئاسة، ولما وقع الانتخاب على «دي ليل آدم» حقد عليه وأضمر له السوء، فكان يرصده بالغوائل حتى نشبت هذه الحرب، فانتهز الفرصة ليشفي غلته، وقد انكشف أمره فأمر الرئيس بعقد مجلس حربي لمحاكمته، وقد أبان التحقيق أنه كان يبعث للجيوش العثمانية برسالة في كل أسبوع عن حالة الحصون والذخيرة وعدد القتلى، فحكم المجلس عليه بالقتل بعد تجريده من رتبه ودرجاته، فقتلوه ومثلوا به.
وبعد أن وضعت الحرب أوزارها دعا السلطان سليمان الأمير دي ليل آدم لمقابلته، وكان شيخا طاعنا في السن وعلى محياه أمارات الهيبة والشجاعة، فحضر في الوقت المعين للمقابلة؛ (انظر دي ليل آدم أمام فسطاط السلطان سليمان) وعند وصوله إلى الخيمة الشاهانية كان الوزراء في حضرة السلطان للمفاوضة في بعض الأمور، فانتظر دي ليل آدم خارج الخيمة مدة طويلة هو ومن معه من الفرسان، وكانت الأمطار تهطل بشدة والأرض تغمرها المياه، ثم أذن له السلطان في الدخول بعد أن خلع عليه جريا على العادة المتبعة في تلك الأيام، فكان ملتقاهما مؤثرا جدا، إذ لبث كل منهما صامتا حتى ابتدأ السلطان بالحديث فقال: «اعلم أيها الأمير أن الأيام دول والملوك والممالك مصيرها إلى الفناء، وأن الدوام لله وحده، وإني معجب بشجاعتك وثباتك وآسف لما حل بك وبقومك»، وبعد أن بالغ في إكرامه انصرف هو ومن معه من الفرسان.
وفي يوم 26 ديسمبر دخل السلطان سليمان مدينة رودس في موكب عظيم وأطاف بالحصون وشاهد أماكن الوقائع، ولما بلغ قصر دي ليل آدم دخله مع بعض ياورانه، وكان قد أمهل الفرسان 12 يوما للجلاء عن الجزيرة، فسأله هل يريد مهلة أخرى، فتشكر له وقال: لا أريد غير المحافظة على الشروط التي اتفقنا عليها، فوعده السلطان خيرا وطيب خاطره. وهذا من الأدلة على ما كان عليه السلطان سليمان من السماحة وكرم الخلق. وفي اليوم الأول من شهر يناير سنة 1523 حضر دي ليل آدم عند السلطان ليودعه قبل سفره وأهدى إليه أربعة أوان نفيسة من الذهب الخالص، ثم غادر رودس مع سائر الفرسان قاصدين جزيرة إقريطش (كريد)، وارتحل معهم أربعة آلاف من أهل الجزيرة وقيل خمسة آلاف، وكان عدد السفن التي أقلتهم 30 سفينة كبيرة، وروى بعض المؤرخين أنها كانت 50 سفينة، ولعل الفرق بين الروايتين عدد السفن التي أمر السلطان بإعدادها لنقل المهاجرين غير سفن الفرسان، وفي ذلك اليوم ذهب السلطان سليمان في موكب حافل إلى كنيسة القديس يوحنا، وهي أكبر كنائس المدينة، وصلى فيها الظهر بحضور الوزراء ورؤساء الجيش والعلماء، وبعد حمد الله على هذا النصر تلي الخط الشريف المؤذن بجعل هذه الكنيسة جامعا، وأعلن في جميع أنحاء الجزيرة، ثم ألف السلطان مجلسا للنظر في شئون المدينة، وما تحتاج إليه من الإصلاح وترميم ما تهدم من الحصون، وأمر بإنشاء مأوى للفقراء (تكية) وعمل مآذن لجميع الكنائس وجعلها جوامع وبناء مساجد جديدة، والحكم بالعدل بين سكان الجزيرة على اختلاف مللهم وجنسياتهم.
وقد اشتهر حصار السلطان سليمان لرودس بما أطلق فيه من الكرات الحجرية الضخمة، وما وضع من اللغوم المخربة في أماكن كثيرة، ولما استقام الأمر للعثمانيين بعد خروج الفرسان (الشفاليه) حاسنوا الأهلين، وأبقوا ما في الجزيرة من التماثيل والآثار والرسوم، وما زالت الجزيرة في حوزتهم إلى أن احتلها الإيطاليان في سنة 1912.
منظر عام لمدينة رودس في العصور الوسطى.
آثار رودس ومعاهدها
أما مدينة رودس فهي في الطرف الشمالي الشرقي من الجزيرة، وما زالت الأسوار والخنادق والمتاريس كما كانت عليه في عهد الفرسان، وفوق الأسوار القلاع والأبراج الشاهقة، وفيها كثير من الكرات الحجرية الباقية من زمن الفتح، وبعضها كبير الحجم جدا يبلغ ثقله 500 كيلوجرام، أما المدافع القديمة فلم يبق منها شيء، وقد أهدى السلطان عبد العزيز بعضها إلى نابوليون الثالث إمبراطور فرنسا، وهي الآن في متحف الآلات الحربية بقصر الإنفاليد بباريس، وللمدينة عدة أبواب أشهرها: (1)
باب دامبواز (في الجهة الغربية) سمي بذلك نسبة إلى الرئيس «دامبواز السادس عشر» من الفرسان الذين تولوا الحكم على الجزيرة، ويسميه الترك «أكري قبو» أي الباب المنحرف؛ لأن الطرق المؤدية إليه من داخل المدينة وخارجها منحرفة عن اتجاه هذا الباب، ويسميه الأروام «توبروماسترو»؛ لأنه أقرب الأبواب إلى القصر الذي كان يقيم فيه الرئيس الأعظم، وأمام هذا الباب من الخارج خندق عميق فوقه قنطرة، وعلى جانبيه برجان عظيمان، وفي أعلى الباب تمثال ملك باسط جناحيه وبيده اليمنى شارة الفرسان، وفي اليسرى شارة الرئيس «دامبواز» وفوقه تمثال المسيح، وهما منحوتان في قطعة واحدة من الرخام. (2)
باب سان جورج (في الجهة الغربية) بالقرب من جامع السليمانية، وفي أول شارع الشفاليه. (3)
باب سانت كترين (في الجهة الشرقية)، ويسميه الترك موصلق قبو (باب الحنفية) وبازار قبو (باب السوق)، وعلى جانبيه برجان عظيمان، وتعلوه تماثيل ثلاثة أشخاص كبيرة من الرخام تمثل القديس بطرس، والقديس يوحنا والقديسة كترينة. (4)
باب سان بول (في الجهة الشمالية) ويسميه الترك «طامله قبو» (باب قطرات الماء) وهو يؤدي إلى مينا الجمرك. (5)
باب سان أتيان (في الجهة الجنوبية) ويعرف بالباب المسدود، وهو الباب الذي دخل منه السلطان سليمان إلى المدينة عقب فتحها في سنة 1522، ثم أمر بسده وبقي مسدودا إلى أن فتحه الإيطاليان في سنة 1922؛ أي بعد استيلائهم على الجزيرة بعشر سنوات، وبعد أربعة قرون من تاريخ الفتح العثماني. (6)
باب سان جان (في الجهة الجنوبية) ويسميه الترك «قزل قبو» واليونان «كوكينو»، ومعناهما في اللغتين الباب الأحمر، وهو الباب الذي دخل منه الجنرال إميليو قائد الجيش الإيطالي الذي استولى على رودس سنة 1912.
باب سانت كترين.
وقد رأيت أن أنقل هنا رسم هذا الباب ليتبين منه ما هي عليه أبواب المدينة من الضخامة والمناعة.
وفي المدينة جوامع كثيرة أشهرها جامع السليمانية، بناه السلطان سليمان عقب فتح رودس، وعلى جانبي بابه أعمدة من الرخام منقوشة نقشا بديعا، وتتخللها رسوم بارزة غاية في الدقة والإتقان، ومنها ما يمثل أنواع الملابس والسلاح التي كان يتقلدها الفرسان (الشفاليه )، وهي من بقايا المباني التي تهدمت في أثناء الحروب.
ومنها الجامع المعروف باسم «دميرلي جامعي» (الجامع الحديدي) سمي بذلك للقضبان الحديد المركبة على جميع نوافذه؛ لأنه كان فيه على ما يقال سرب (سرداب) ينفذ منه إلى خارج المدينة، وقد اختبأ فيه بعض الفرسان والجنود في أثناء الحرب، فلما فتح العثمانيون الجزيرة وضعوا عليه هذه الحواجز الحديد.
ومن أشهر الجوامع الجامع الذي بناه إبراهيم باشا وزير السلطان سليمان، وفوق بابه لوحة مكتوب فيها:
قد بنى سلطان البر والبحر السلطان سليمان ابن السلطان سليم خان الغازي جامعا جديدا في دار الفتح والغزوات، ومعبر الحج والعرفات، حماها الله من الآفات في داخل رادوس، تقبل الله الملك القدوس ووقع تاريخه، من دخله كان آمنا دائما سنة 947.
ومنها جامع «أندرون» وزعم بعضهم أن أصل هذا الاسم «قان طورو» بالتركية، ومعناها موقف الدم، ولهم في ذلك رواية لا دليل على صحتها، ولما كان هذا الجامع قبلا كنيسة باسم القديسة كترينة، فيظن أن لفظة «أندرون» أو «قان طورو» تحريف اسم كترينة.
ومن جوامع المدينة الجامع المشهور باسم «بالق بازار جامعي» (جامع سوق السمك)؛ لأنه كان بجوار السوق المعد لبيع الأسماك.
وهذا الجامع كان دارا للقضاء في عصر الفرسان، وبني سنة 1375م وعلى واجهته نقوش جميلة، وفي أعلى الإيوان الكبير شارات الفرسان مرسومة رسما بديعا بالألوان.
ومن الجوامع الجديرة بالذكر جامع السلطان مصطفى، وجامع رجب باشا، وجامع الأغا، وجامع عبد الجليل، وأيلك محراب، وجامع الرئيس مراد، وهو خارج المدينة المسورة وسيأتي ذكره، أما الجامع الذي كان كنيسة باسم القديس يوحنا، وقد مر ذكره عند الكلام على استيلاء السلطان سليمان على رودس، فلم يبق له أثر؛ لأنه في سنة 1856م انقضت صاعقة على مئذنته واتصلت بمخبأ كان فيه كمية عظيمة من البارود من عهد الفرسان، فالتهب ودمر هذا الجامع و60 بيتا من البيوت التي كانت بجواره، وأباد من الخلق نحو 800 نفس. وذهب بعض المؤرخين إلى أن هذه النكبة نتيجة ما أتاه القائد «دامرال» الذي مر ذكره من الأمور التي أراد بها خذل الفرسان، ونصرة الجيش العثماني في أثناء حصار الجزيرة، وكان هذا القائد وقتئذ أمينا على الذخائر، فيظن أنه أخفى أمر البارود الذي كان في المخبأ المذكور ليوهم رؤساء الجيش بأن الذخيرة أوشكت أن تنفد، فتثبط همتهم وتضعف عزيمتهم، ويكفوا عن القتال.
وتجاه جامع السلمانية الدار التي بناها السلطان سليمان للفقراء (التكية) ويسميها الترك «الأمارة»، وعلى واجهتها لوح من الرخام مكتوب فيه بالخط الفارسي الجميل «إنما نطعمكم لوجه الله».
وبالقرب من هذا الجامع برج شاهق (يسمى برج الساعة) وهو من الآثار القديمة، وعليه ساعة كبيرة وضعت سنة 1268ه، في عهد السلطان عبد المجيد، وهذا رسمه:
وللإسرائيليين 6 معابد في الحي الخاص بهم، ويسميه الترك «يهودي محله سي»، وهو أجمل أحياء المدينة وأكبرها، وأكثر المساكن التي فيه كانت قصورا للفرسان (الشفاليه).
أما الكنائس والأديرة فجميعها خارج المدينة، بعضها في الضواحي وبعضها في القرى، وعددها 45 كنيسة (غير الكنيسة التي بنتها حكومة إيطاليا باسم القديس يوحنا) و15 ديرا. وأشهر الكنائس كنيسة العذراء في يكي مراش، والكنيسة المتروبولية في دسبوت مراش، وكلها للروم الأرثوذكس، وللكاثوليك كنيسة باسم العذراء في يكي مراش، وهي للرهبان الفرنسيين أنشئت سنة 1719م وتجدد بناؤها سنة 1849م.
أما دار الكتب (الكتبخانة) التي أوقفها المرحوم حافظ أحمد أغا للنفع العام بمدينة رودس؛ فتحتوي على 1500 مجلد أكثرها في التفسير والحديث والفقه والفرائض وعلم الكلام والتصوف، وبعضها في اللغة والأدب والتاريخ والطب والفلك وكلها مكتوبة بخط اليد، وفيها قليل من الكتب المطبوعة، ومن المخطوطات النفيسة الموجودة في هذه الكتبخانة الرسالة التي حوت أخبار حصار رودس، وقد أشرنا إليها في المقدمة، وهي باللغة التركية، ولم يذكر فيها اسم مؤلفها، ولهذه الرسالة ترجمة باللغة الفرنسية، وقد اعتمد عليها مؤرخو الإفرنج فيما رووه عن ذلك الحصار، ومنهم المسيو بيليوتي والآب كوتريه في التاريخ الذي ألفاه عن رودس، وقالا عن هذه الرسالة إنها تأليف حافظ أحمد، على أن اسم مؤلفها غير معلوم كما تقدم، أما حافظ أحمد فهو صاحب الكتبخانة، وقد أوقفها لمدينة رودس في سنة 1211ه ؛ أي بعد الفتح بنحو ثلاثة قرون، على أن من تصفح الرسالة المذكورة وما حوته من الوصف والتفصيل ير أن مؤلفها كان معاصرا للحوادث والوقائع التي رواها؛ فإنه وصفها وصف من رآها رأي العين. وفي أثناء مطالعاتي عثرت في الجزء الثالث من تاريخ آداب اللغة العربية، تأليف المرحوم جرجي زيدان، المطبوع في سنة 1913 صفحة 319 (عند ذكر الكتب الموجودة في الروملي والأناضول) على اسم رسالة عنوانها «الرسالة الفتحية الرادوسية»، تأليف رمضان طبيب السلطان سليمان القانوني، وهي عن فتح رودس، ومنها نسخة في مدينة باريس، ولعل هذا الطبيب هو مؤلف الرسالة الموجودة في رودس، والرسالة التي ورد ذكرها في تاريخ زيدان نسخة منها، وربما كانت هي بعينها، وقد ظفر بها المرحوم حافظ أحمد، وأوقفها مع سائر كتبه لمدينة رودس، ومما يؤيد ذلك الترجمة التي نشرها المسيو ترسيه
Tercier
من علماء فرنسا في المجلد 26 من صحيفة مجمع (أكادمية) الكتابات القديمة المطبوع في باريس سنة 1759م. فقد صدرها بهذا العنوان: «مذكرات رمضان عن فتح السلطان سليمان لجزيرة رودس في سنة 1522».
شارع الشفاليه.
جامع الرئيس مراد.
وأشهر شوارع المدينة شارع الشفاليه، ويسميه الترك «أوزون يولي» أي الشارع الطويل، والدور التي على جانبي هذا الشارع كانت قصورا للفرسان، ويرى عليها كثير من شاراتهم وأسمائهم، وفي أول هذا الشارع قصر الرئيس الأعظم وهو الذي كان سجنا (حبسخانة) في عهد الحكومة العثمانية. ويتخلل الأحياء المحيطة بالمدينة مدافن قديمة، تكتنفها الطرق العمومية والأبنية الفاخرة، وأشهرها مدفن الرئيس مراد، وهو في الجهة البحرية الشرقية، ودفن فيه كثير من الوزراء وعظماء الرجال، وبعض الصدور العظام وغيرهم ممن نفوا إلى هذه الجزيرة، وقضوا فيها بقية عمرهم. ودفن فيه أكثر الضباط والجنود الذين قتلوا في أثناء حصار السلطان محمد الثاني لرودس في سنة 1480، وبجوار هذا المدفن جامع الرئيس مراد، وهو من أشهر الجوامع.
أما الأحياء الجميلة والحدائق الغناء والقصور الفاخرة، فجميعها في أرباض المدينة. ومن أجمل الأحياء الحي المعروف باسم نيخوري عند اليونانيين، ويسميه الترك يكي مراش،
1
والجهة المسماة «قومبورنو» ومعناه رأس الرمال وجبل سان أتيان، ويسمى مون سميث (جبل سميث)؛ لأنه لما جاء الأميرال الإنكليزي السير سدني سميث إلى رودس سنة 1802 أقام في بيت على قمة هذا الجبل لمراقبة أسطول نابوليون، ويسميه الترك «مرجان تبه» باسم أحد الأولياء، وضريحه بالقرب من بيت الأميرال سميث، وهذا الجبل هو القسم الشمالي من السلسلة الممتدة من الشمال للجنوب وقد مر ذكرها، وهو مشرف على البحر من الجهة الغربية وارتفاعه 90 مترا عن سطح البحر، وقد تجلت فيه الطبيعة بأبهى مظاهرها وكملت محاسنه بما أنشأته يد الصناعة من الطرق الموصلة للأبنية القائمة عليه، ففيه كثير من القصور الجميلة، وليس لوجهاء المصريين في هذا الجبل غير دار لصاحب العزة أحمد بك غالب نجل المرحوم علي غالب باشا ناظر الجهادية سابقا، وهو في أحسن موقع، وعلى قمته أرض كبيرة لصاحب العزة فؤاد بك سليم نجل المرحوم لطيف سليم باشا.
وأجمل ضواحي رودس «سنبللي دره» أي وادي السنبل ويسميها الأروام «روديني» ويقصدها الناس للرياضة والنزهة.
وفي ضواحي المدينة كثير من الأبنية والقصور الفاخرة، وأشهرها سراي الوزير المصري الكبير المرحوم حسين فخري باشا، وهي في أجمل حي وأقدم ما بناه المصريون في رودس، وأمامها سراي المرحوم شكيب باشا العضو الوطني في مصلحة الدومين سابقا، وسراي صاحب العزة حسن بك خيري نجل المرحوم خيري باشا، وهي أفخم مباني المدينة.
وأرضية أكثر المساكن ومماشى بعض الحدائق والطرق مرصوفة بالدملق وهي أحجار صوانية مستديرة الشكل ومتساوية الحجم، كأنها أفرغت في قالب واحد، وتوجد بكثرة على ساحل البحر، وهي مختلفة اللون فمنها الأبيض والأسود والأحمر، ولأهل الجزيرة مهارة فائقة في رصفها وتنسيقها، ويركبون منها رسوما غاية في الإتقان وأكثر مماشي الحدائق التي أنشئت في الجيزة والجزيرة في عهد المغفور له الخديوي إسماعيل مرصوفة بهذه الأحجار التي نقلت وقتئذ من رودس، واستقدم منها الصناع الذين نسقوها بهذا الوضع والإحكام.
هذا أهم ما شاهدته من آثار مدينة رودس وضواحيها، أما ما أنشأته دولة إيطاليا من المباني وما تم في عهدها من الإصلاح والتعمير والتجديد فسيأتي بيانه في الفصل الذي أفردته لذلك. (1) قرى الجزيرة
من أهم قرى الجزيرة وأوفرها عمرانا قرية ترياندا، وهي قريبة من المدينة، فيها من المناظر الطبيعية أبدعها، ومن المحاسن الخلوية أبهجها، وفي الطرف الجنوبي منها جبل فيلرموس الشهير، وهو بالقرب من مدينة ياليسوس التي تقدم ذكرها، ويسميها الترك أسكي رودس أي رودس القديمة، وارتفاع هذا الجبل 300 متر عن سطح البحر، وكان عليه معبد يوناني قديم عفت آثاره ودرست معالمه.
ومن أجمل القرى قرية «فيلانوفا» سميت باسم «فيلنوف» ثاني الرؤساء الذين تولوا الحكم على الجزيرة، وليس هذا الاسم تحريف «يلانلي أوه» كما يزعم البعض ومعناه «برية الحيات» باللغة التركية، وفي هذه القرية أملاك المغفور له علي باشا حلمي العضو الوطني بمصلحة الدومين سابقا، وفيها الرياض الزاهرة والحدائق الغناء والأشجار الباسقة، وتتصل برابية عالية حوت من المحاسن الطبيعية وأنواع النبات البرية والعيون العذبة ما لا يحيط به الوصف، ويعجز عن تصويره اليراع، وقد أنشأ رحمه الله في هذه الرابية كثيرا من الطرق والمجاري والحياض، وبنى في سفحها قصرا فاخرا يشرف على البحر، وتحدق به حديقة أخذت زخرفها وازينت بأنواع الأثمار والأزهار.
قلعة لندوس.
وأهم القرى وأشهرها «لندوس»، وهي إحدى المدن القديمة التي تقدم ذكرها عند الكلام على تاريخ الجزيرة، وهذه القرية واقعة على الساحل الشرقي، وعلى بعد 52 كيلومترا من المدينة، ولا تزال آثارها القديمة باقية إلى الآن تشهد بما كانت عليه من العظمة وعلو الشأن، وقد أنشأت دولة إيطاليا شارعا كبيرا للوصول إليها بالسيارات. وكان في مدينة لندوس الأكروبول الشهير، وفيه هيكل لأثينا ربة الحكمة (منيرفا عند الرومان) وهو على قمة جبل عال، وقد جعلت الدولة البيزنطية هذا الأكروبول قلعة للدفاع عن الجزيرة، ثم أصلحها الفرسان فكانت من الحصون المنيعة، ولما استولت الدولة العثمانية على الجزيرة رممت ما تهدم من هذه القلعة.
أمثلة من صحون لندوس.
ومن أغرب ما يرى في هذه الآثار رسم سفينة كبيرة محفورة في الصخر، وهي من طراز السفن التي كان يستعملها أهل لندوس في الحروب، وفي سفح الجبل من الجهة الغربية مدرج كبير منحوت في الحجر، وهو من بقايا ميدان الألعاب والتمثيل في عهد اليونان.
وفي هذه القرية قبر «كليوبولوس» أحد حكماء اليونان السبعة الذين هم أساطين الفلسفة، وروى ديودوروس واسترابون أن داناووس لما أتى رودس نزل بلندوس وبنى هيكل «أثينا» الذي مر ذكره، وأن أحميس الأول (أموزيس) من ملوك الدولة الثامنة عشرة المصرية أهدى لهذا الهيكل تمثالين من المرمر ودرعا منسوجا نسجا بديعا، وقد اشتهرت لندوس بعمل الأواني الخزفية وخاصة الصحاف (الصحون) وطليها بالمينا ونقشها برسوم بديعة، وامتازت بتطريز المنسوجات ووشيها.
وقد اكتشف الدكتور كنخ
Dr. Kinch
من أعضاء جمعية الفنون والآثار بدانيمارك مكان الأكروبول في لندوس، وعثر في أثناء الحفر والتنقيب على كثير من التماثيل البديعة والمسكوكات والأواني، وقد نقلت وقتئذ هذه النفائس والذخائر الثمينة إلى دار الآثار بالآستانة (موزه همايون) بعد أن أخذت منها أمثلة بالجبس لحفظها في دار العاديات بكوبنهاج، وحسبنا ذلك دليلا على ما لهذه الآثار من الأهمية التاريخية والمزايا الفنية. وقد رأيت - إتماما للفائدة - أن أتحف المطالع بنبذة في الآثار اليونانية؛ لما لها من الصلة بهذا الموضوع. (2) الآثار اليونانية
لكل أمة آثار تدل على ما كان لها من الشأن في الحضارة والمدنية، وما اشتهرت به من العلوم والفنون. والآثار من أهم الوسائل التي توصل بها العلماء إلى حل معضلات التاريخ وكشف مكنوناته، وحسبنا شاهدا على ذلك الآثار المصرية، فهي التي كان عليها المعول، بعد حل رموز الكتابة الهيروغليفية، في كشف القناع عن غوامض تاريخ مصر، وتصحيح ما رواه قدماء المؤرخين مثل مانيثون وهيرودوتوس وديودورس الصقلي واسترابون. قال «دي روجه» العلامة الأثري الشهير: «إن ما ذكره الكاهن مانيثون عن تقسيم الدول المصرية مبني على مزاعم واهية ومخالف لما دلت عليه الآثار.» ولما كان مدار الكلام في هذه النبذة على الآثار اليونانية التي هي موضوع البحث فنقول: إن من أكبر الأدلة على ما لهذه الآثار من الشأن والأهمية عناية الدول الكبرى بدرسها؛ فقد أنشئت لذلك عدة معاهد في أثينا عاصمة اليونان، أشهرها معاهد إنجلترا وألمانيا وفرنسا، غير البعثات العلمية الموفدة من قبلها إلى المدن اليونانية؛ للبحث والتنقيب عن تلك الكنوز الثمينة التي هي أعظم شاهد على ما كان لأمة اليونان من الحضارة والعمران، وما بلغته في أنواع الفنون من الإبداع والإتقان، وقد اكتشف العالم الأثري الشهير «فلندرس بتري» في مدينة نوكراتيس المصرية التي استوطنها اليونانيون في عهد الملك أحميس كثيرا من المعابد والمقابر اليونانية والمعامل التي كانوا يصنعون فيها الأواني والتماثيل. وما وجد من الآثار في أطلال هذه المدينة يشبه تمام الشبه ما عثر عليه العلامة شالزمان في مدينة كاميروس بجزيرة رودس من المصنوعات اليونانية، وقال الدكتور أبوستوليدس في رسالة موضوعها: «أثر الحضارة اليونانية في مصر»
2
ما ملخصه: «أن المصريين اقتبسوا من اليونان تلك الفنون البديعة والصناعات الدقيقة التي ظهر أثرها في عهد الدولة الثامنة عشرة، وبيان ذلك أنه لما استولى الملك أمنوفيس الثالث على أكثر جزائر الأرخبيل؛ انتقلت صناعة اليونان إلى وادي النيل، وأن ما يوجد في دار الآثار المصرية من مصنوعات هذه الدولة لا نظير له في آثار من سبقها وأعقبها من الدول.»
هذا ما قاله الدكتور أبوستوليدس، ولعلماء العاديات الرأي الأعلى والقول الفصل في ما عزاه إلى أبناء وطنه من التقدم والفضل، على أن الفن المصري قد ظهرت آياته وتجلت بدائعه، على ما أثبته «لنورمان» و«دي روجه» و«مارييت»، منذ الدولة الرابعة التي بنيت في عهدها أهرام الجيزة أي منذ 4000 سنة قبل المسيح، ومما وجد من آثار هذه الدولة وأودع في دار الآثار المصرية تمثال للملك خفرع (كفرين) باني الهرم الثاني، فقد أجمع أرباب الفن على أنه المثل الأعلى والآية الكبرى في الإتقان والإبداع، والتمثال المصنوع من الخشب والمشهور بشيخ البلد، وهو غاية في الدقة والإحكام، ومثله الكاتب المصري، وهو من آثار الدولة الخامسة، وفي متحف اللوفر بباريس تمثال آخر للكاتب المصري وهو من أبدع ما أخرجته يد الفن في محاكاة الطبيعة. أما ما ذهب إليه الدكتور أبوستوليدس في رسالته المذكورة من أن اسم «هانيبو» الذي وجد على الآثار المصرية يراد به اليونان، وأن وجود هذا الاسم على أقدم الآثار دليل على أن اليونان وفدوا على وادي النيل في أقدم العصور، فهو من الآراء التي يجدر بعلماء الآثار فحصها وتحقيقها علهم يفتوننا بما ينجلي به وجه الصواب ويكون فيه فصل الخطاب.
وسواء كان الفضل لليونان في ما بلغه المصريون من إتقان الفنون الرفيعة أو كان المصريون معلمي اليونان كما هو مشهور، فإن براعة اليونان في إتقان هذه الفنون لا تحتاج إلى بيان، ناهيك بتلك التماثيل التي يتجلى فيها من آيات الروعة والجمال ما يسحر العقول ويأخذ بالألباب، وذلك للدقة المتناهية في محاكاة الطبيعة بأكمل مظاهرها وأجمل معانيها، فمن إحكام في النسب ووضوح في عضلات الجسم وقسمات الوجه وملامحه، فضلا عن التفنن العجيب في أشكال هذه التماثيل وأوضاعها، وقد نسج الرومان على منوال اليونان في الحفر والتصوير فأبدعوا وأجادوا.
ولما كان وصف ما خصصت له الآثار اليونانية من المعبودات، وذكر ما يتصل بها من الأساطير لا يتسع له المجال، رأيت أن أقتصر هنا على بيان ما وقفت عليه في أثناء البحث من أوجه الشبه بين معبودات اليونان وعقائد سائر الأمم المتوغلة في القدم، كالهنود والمصريين والآشوريين والبابليين والفينيقيين والفرس والرومان والعرب أيام الجاهلية.
أشهر معبودات اليونان ومقارنتها بمعبودات قدماء الأمم
قبل الخوض في هذا الموضوع لا بد لنا من كلمة في الميثولوجيا؛ توطئة لما سيأتي ذكره من هذه المعبودات، وما تدل عليه من المعاني والصفات، فنقول: المثيولوجيا لفظة يونانية مركبة معناها «سير الآلهة» وموضوعها أساطير الأمم الوثنية، وثمرتها الوقوف على عقائد تلك الأمم وأحوالها وعاداتها وسير أبطالها، وعدا ما اشتملت عليه هذه الأساطير من الفوائد التاريخية والعلمية، فلا بد للأديب من التحلي بفرائدها وإلا تعذر عليه فهم منظومات فحول الشعراء من اليونان والرومان، ومن حذا حذوهم من شعراء سائر الأمم، فإن أشعارهم لا تخلو من الاستعارات والكنايات والشواهد والأمثال المقتبسة من تلك الأساطير، ناهيك بما اشتملت عليه من الحكم والعظات البالغة والرموز التي تشير إلى كثير من الحقائق التاريخية.
تمثال الذئبة والطفلين «شارة رومة» وتمثال الأيل «رمز جزيرة رودس» أقيما في مدخل المينا الشرقية سنة 1927.
ومن نظر في أساطير الأمم القديمة، رأى أنها عبدت في مبدأ الأمر كل ما له في النفس تأثير ورهبة وهيبة وروعة، كالشمس والقمر وسائر الكواكب، ثم تعددت المعبودات وتنوعت أساليب العبادة وتباينت أشكالها، وبعد أن كانت كل أمة مستقلة بمعبوداتها قد تسلسلت العقائد وانتقلت من أمة إلى أخرى؛ ولهذا نرى فيها من أوجه الشبه ما يدل على أنها مقتبسة بعضها من بعض، وقد اختلفت الآراء في منشأ ما تشابه منها، فقيل إن مصر مصدر هذه العقائد، وذهب بعضهم إلى أنها نشأت أولا في الهند، ثم انتقلت منها إلى مصر والصين وفينيقية وبلاد الكلدان والفرس وغيرها. وسواء كان مصدر هذه العقائد مصر أو الهند، فالمحقق أن اليونان قد توسعوا في عقائدهم وأتوا من التفنن والإبداع في أساطيرهم بما لم يسبقهم فيه سابق، وهذبوا ما تلقوه عن الأوائل، فنبذوا عبادة الحيوان والجماد، وإليك ما وقفت عليه أثناء المقابلة والمقارنة من المشابهات بين آلهة اليونان ومعبودات سائر الأمم: «من معبودات اليونان «زفس» كبير الآلهة، وهو في مقام «جوبيتر» عند الرومان، و«أندرا» عند الهنود، و«مردوخ» عند البابليين، و«أرمزد» عند الفرس، و«المشتري أو برجيس» عند العرب، وزوجته «هيرا» وهي «يونون» عند الرومان و«درجه» عند الهنود، وابنهما «إيروس» واسمه «كوبيدون» عند الرومان، و«كاما» عند الهنود، ومن أكبر معبوداتهم «أبولون» إله الشمس والفنون والآداب، ويسمى «هليوس» و«فيبوس»، وهو «أبولو» عند الرومان و«كرشنا» عند الهنود و«رع» أو «هوروس» عند المصريين، و«شماخ» عند الكلدانيين، و«مترا» عند الفرس، وورد في التوراة اسم صنمين كانا يمثلان الشمس، وهما «أرمون»، وكان في بقعة مجدون و«هداد» وكان يعبد في دمشق، وكان لأبولون تسع بنات هن ربات الفنون الجميلة، ويطلق على مجموعهن اسم «موسيه» باليونانية، ومنه لفظ موسيقى في أكثر اللغات، وقد أبدع اليونان وأصابوا فيما تخيلوه من أنهن أخوات؛ لما بين هذه الفنون من الصلة والارتباط. ومن معبودات اليونان «أثينا» ربة الحكمة وهي «مينرفا » عند الرومان و«نيث» عند المصريين و«سارسفاتي» عند الهنود، ومن معبوداتهم «هرقليس» وهو يشبه «ملكارث» عند الفينيقيين و«أدار» عند الآشوريين. ومنها «أفروديت» ربة الجمال، وهي «فينوس» عند الرومان، و«لخمي أو راتي» عند الهنود، و«ناهيد» عند الفرس و«الزهرة» عند العرب و«حاتحور» عند المصريين، و«عشتروت» عند الفينيقيين، ومن معبوداتهم «أرطميس» إلهة الصيد، وهي «ديانا» عند الرومان، ويرمز لها بالقمر، ومنها «هرمس» سفير الآلهة وإله التجارة والصناعة، وهو «مركور» عند الرومان و«تحوت» عند المصريين، و«نابو» عند الكلدانيين، و«نردا» عند الهنود، و«عطارد» عند العرب، ومنها «آرس» رب الحرب. وهو «مارس» عند الرومان، و«نرغال» عند الكلدانيين، و«اشكند» عند الهنود، و«بهرام» عند الفرس، و«المريخ» عند العرب، ومنها «خرونوس» (الزمان) وهو يشبه «ساتورن» عند الرومان من بعض الوجوه، و«مولوك» عند الكنعانيين، ويسمى «كيوان» عند الفرس، و«زحل» عند العرب، ومنها «بوسيدون» رب البحار، وهو «نبتون» عند الرومان، و«داجون» عند الكلدانيين، و«فارونا» عند الهنود، ومنها «أديس» ملك الجحيم والظلمات، وهو نظير «بلوتون» عند الرومان، و«ياما» عند الهنود، ومنها «هيفستوس» إله النار، وهو «فولكان» عند الرومان، ومنه لفظة بركان المستعملة في العربية للدلالة على جبل النار، واسمه «أدرملك» عند الآشوريين، و«شفاكرما» عند الهنود و«فتاح» عند المصريين، ومنها «ديميتيرا» ربة الزراعة والخصب، وهي مثل «سيريس» عند الرومان، و«سري» عند الهنود، ومنها «ديونسيوس» إله الخمر، وهو «باكوس» عند الرومان، ومن الآلهة التي عبدها اليونان والرومان باسم واحد «اسكولابيوس» إله الطب وهو «أشمون» عند الكلدانيين، و«إمحوتب» عند المصريين، و«بعل صيدا» عند الفينيقيين، ومن معبودات اليونان «أدونيس» الذي افتتنت به ربة الجمال والحب، ويشبه «تموز» من معبودات سوريا. وكان اليونان يضحون لبعض معبوداتهم بالضحايا البشرية اقتداء بالكنعانيين والآشوريين، ويضعون مع الميت أنواع الزاد مثل المصريين.»
ومما يدل على أن اليونان اقتبسوا عقائدهم من المصريين، أسماء المعبودات التي كان لها هياكل في رودس مثل «إيزيس» و«سيرابيس».
3
وكان أهل رودس يقسمون السنة إلى 12 شهرا، كل منها 30 يوما ويضيفون إليها شهرا صغيرا اسمه «باناموس» عدته 5 أيام وكل 4 سنوات يزاد يوما وهي السنة المصرية، ولعلهم اقتبسوا ذلك على أيدي الفينيقيين، فهم أول من نقل علوم مصر وبابل وأشور إلى بلاد اليونان .
جزيرة رودس في عهد دولة إيطاليا
احتلت دولة إيطاليا جزيرة رودس في خلال الحرب التي نشبت بينها وبين الدولة العثمانية بشأن طرابلس الغرب، وكان احتلال هذه الجزيرة في مايو سنة 1912 وبقيت تحت الأحكام العرفية إلى سنة 1921، حيث حلت محلها الأحكام المدنية، وفي المعاهدة الدولية التي عقدت في لوزان سنة 1923 نزلت تركيا رسميا لدولة إيطاليا عن هذه الجزيرة و13 جزيرة أخرى من جزائر بحر إيجه.
وما استتب الأمر لحكومة إيطاليا في هذه الجزيرة، حتى أخذت في تنظيم أمورها، والنظر في ما تتطلبه حالتها من الإصلاح، فعينت لذلك لجانا مؤلفة من خبراء في الأمور الهندسية والزراعية والصحية ونحوها، وأول أمر وجهت إليه اهتمامها إنما هو توفير أسباب الراحة وتسهيل سبل المواصلات وتعميمها في أنحاء الجزيرة، ومن الأمور التي كان لها من العناية أوفر نصيب، إصلاح أحوال الزراعة ونشر المعارف وتعميمها، وكان الشروع في إصلاح شارع الشفاليه والشارع الكبير الموصل إلى لندوس في عهد الحكومة العرفية. ولما عين الكونت بوسداري حاكما مدنيا على الجزيرة وجه عنايته لإنجاز هذه الأعمال، ولكن المنشآت العظيمة وأهم أعمال الإصلاح تمت في عهد الحاكم الحالي صاحب الفخامة ماريو لاجو من سفراء إيطاليا، وهو مشهور بحسن السياسة والإدارة وحبه للإصلاح والنظام.
وفي سنة 1925 صدر أمر ملكي نص فيه على ما يأتي: (1)
يكون لرعايا تركيا الموجودين من قبل في رودس حق التبعية لدولة إيطاليا. (2)
إعفائهم من الخدمة العسكرية.
ولما كان تفصيل ما تم في هذه الجزيرة من الأعمال والمنشآت العظيمة يستلزم شرحا طويلا؛ فقد اكتفيت هنا ببيانها إجمالا، وقد اعتمدت في ما ذكرته من الإحصاءات والأعمال الفنية، على البيانات الرسمية التي تفضل علي بها قسم هندسة الجزيرة.
المدارس
المدرسة الملكية للبنين (سنة 1928)
المدرسة الملكية للبنات (سنة 1928)
مدرسة الزراعة الفنية والعملية
مدرسة علم التاريخ والآثار القديمة (الأركيولوجيا)
المستشفى
المستشفى الملكي
الثكنات
ثكنة الملكة للمشاة (البيادة)
ثكنة البرنس أومبرتو - للمستحفظين
ثكنات صغيرة لمستحفظي قرى كاتانيا، وأفاندو، وسلاكو، وغيرها (وهي داخل المدينة)
المنشآت الدينية
كاتدرائية القديس يوحنا
بناء قبة لأجراس كنيسة «نوتردام دلافيكتوار» (سيدة النصر)
بناء مئذنة لجامع إبراهيم باشا
دار الأسقفية
جبانة المسيحيين
جبانة المسلمين
مباني الحكومة
سراي الحكومة
دار القومندانية البحرية
دار المحكمة
مكاتب الضرائب والرسوم
المجزر (السلخانة)
أماكن الحجر الصحي (الكورتينة)
دار الصحة البحرية
دار البريد والتلغراف
دار البلدية
الفنادق والأندية
أوتيل دي روز (فندق الورد)
فندق سافوي
أوتيل دي سير (فندق الأيائل) فوق قمة جبل الأنبياء
فندق ميرامار في ضاحية ترياندا
قهوة بلافيستا على شاطئ البحر
قهوة رودينو
نادي الفاشست
نادي «إيطاليا»
نادي الصيد
نادي لعب الجولف
ميدان لعب الجولف
ميدان لعب التنس
السينما
سينما سان جورج
سينما أكسلسيور
مساكن الموظفين
عدة مبان بعضها لسكن عائلة واحدة (فيلا)، وبعضها لسكن عدة عائلات
الموانئ
ميناء سنت أنج
تطهير مينا مندراكي وإصلاحها
تطهير المينا التجارية
إنشاء موردة بروسالي
بناء رصيف لمينا مندراكي
الحدائق
حديقة الأيائل
حديقة الفوروم
حديقة بيل أربر
Bel Arbre
حديقة شارع الملك
حديقة دار الحكومة
حديقة قصر الحاكم العام
الزراعة
بساتين سان مارك في قرية كاتاقيا
معهد المباحث الزراعية في قرية فيلانوفا وفيه محل مخصص للبحث في عمل المربيات وطرق تجفيف الأثمار والخضراوات
حقل التجارب الزراعية
معمل المباحث البكتريولوجية
دار تربية النحل وعمل الخلايا، حسب الطرق الحديثة
منشأة النباتات (مشتل) في قرية كوسكينو
حديقة البلدية
مغرس أشجار الغابات
معمل التحليل الكيميائي
مرصد الحوادث والظواهر الجوية (الميترولوجيا)
الشوارع
كانت الشوارع الموجودة في سنة 1912 لا يزيد طولها على 30 كيلومترا، وبلغ 98 كيلومترا في سنة 1923، وأصبح الآن 325 كيلومترا.
القناطر
أنشئت سبع قناطر (كباري) بالأسمنت المسلح في عدة أماكن، عدا الجسور والمجاري التي عملت للسيول.
وبلغ ما أنفق على إصلاح الطرق القديمة وإنشاء الشوارع الجديدة نحو 30 مليون إفرنك إيطالي
وقد تم إصلاح القناطر القديمة الموجودة في عهد الرومان، وعمل 4 مستودعات (خزانات) كبيرة للمياه، وقد بلغت نفقات هذه الأعمال نحو ثلاثة ملايين إفرنك إيطالي.
المياه المعدنية
دلت المباحث التي عملت في عدة أنحاء من الجزيرة على وجود ينابيع حارة ومعدنية، وقد فحصت مياهها لمعرفة العناصر التي تتركب منها وخواصها الطبية وشرع في استعمالها.
الخرائط والمساحة
شرع المعهد الجغرافي الحربي بفلورنسا في رسم خرائط بمقياس 25000 للجزائر التابعة لإيطاليا في بحر إيجه حسب المساحة التي قامت الحكومة بعملها، وقد تمت منها الآن خرائط جزيرة رودس وجزيرة لريوز (ليروس) وجزيرة استانكوي (كوس).
ومن أعظم المباني المذكورة المستشفى الملكي وقد بني في سنة 1926 على أحدث طراز، وأتم نظام، وتعالج فيه جميع أنواع الأمراض الطبية والجراحية، ما عدا الأمراض العقلية والمعدية والمزمنة والمصابين بالتدرن الرئوي، وفيه قسم للولادة والعناية بالأطفال، وقسم للفحص والمعالجة بالأشعة، ومعمل كيمائي تام المعدات والأدوات.
المستشفى الملكي.
مدرسة البنين.
مدرسة البنات.
سراي الحكومة.
أوتيل دي روز (فندق الورد).
أوتيل دي سير (فندق الأيائل).
ومن أفخم المباني مدرستا البنين والبنات والكنيسة الكاتدرائية.
ومما شادته حكومة إيطاليا في رودس سراي الحكومة، وقد تم بناؤها في سنة 1927.
ومن هذه المباني الفندق الكبير المسمى «أوتيل دي روز» أي فندق الورد، بني سنة 1927 على شاطئ البحر، وهذا الفندق لا نظير له في سائر المصايف الشهيرة في أوروبا، يحتوي على 150 سريرا، و50 حماما خصوصيا، وقاعات كبيرة للحفلات، وله حديقة غناء وساحات للألعاب.
وعدا هذا الفندق توجد فنادق أخرى أشهرها:
فندق سافوي يحتوي على 60 سريرا، وهو في بقعة مركزية موافقة لإقامة من لهم أشغال في المدينة.
فندق الأجانب (إدارة كارياني) يحتوي على 35 سريرا، ويصلح لإقامة العائلات.
فندق مصر وفيه 26 سريرا.
بنسيون باراديزو وفيه 15 سريرا.
وفندق رودس وفيه 36 سريرا.
وفندق ميرامار وهو في ضاحية ترياندا على بعد 5 كيلومترات من المدينة، وفيه 75 سريرا.
وأوتيل دي سير (فندق الأيائل) وفيه 40 سريرا، وهو على قمة جبل الأنبياء، وعلوه 790 مترا عن سطح البحر، ويكتنف هذا الفندق أشجار السرو والصنوبر، ويبعد عن المدينة نحو 50 كيلومترا.
ويوجد في الجزيرة أنواع كثيرة من الحيوانات والطيور البرية والأيائل والأرانب الجبلية والحجل، ولا يجوز الصيد إلا برخصة وفي الأماكن المعينة لذلك.
ومن أشهر المعاهد متحف العاديات، وهو من أهم المتاحف وأشهرها لما حواه من الآثار التاريخية النفيسة والتحف الفنية الثمينة والمسكوكات اليونانية والرومانية والأواني الميسينية، ونحو ذلك مما وجد في أطلال كاميروس وياليسوس ولندوس، وهي المدن القديمة التي تقدم الكلام عليها.
وقد نبشت أطلال هذه المدن من قبل، وأخذ المنقبون ما عثروا عليه من الكنوز الثمينة، غير ما نقل منها إلى دار الآثار بالآستانة (موزه همايون) وما ظفر به المتحف البريطاني ومتحف كلوني بباريس، وغيرهما من متاحف أوروبا.
ومن أجمل الآثار التي وجدت في رودس وأودعت في متحفها، تمثال لأفروديت (فينوس) وهذا رسمه:
تمثال فينوس.
ويفتح هذا المتحف من الساعة 9 صباحا إلى الظهر، ومن الساعة 2 إلى الغروب، وفي أيام الأحد من الساعة 9 إلى الظهر فقط.
أما المساجد والتكايا والمدافن والأسبلة التي كانت موجودة من قبل، فلم يحدث فيها تغيير، بل قامت الحكومة الإيطالية بإصلاح ما تشعث منها، وأعادت بناء ما تهدم وتخرب في جبانة الرئيس مراد، وأزالت ما كان مكدسا فيها من الأقذار والأتربة منذ مئات من السنين، وغرست فيها الأشجار والرياحين، وهذه الجبانة من أشهر جبانات رودس، وقد تقدم الكلام عليها.
مدافن العظماء في جبانة الرئيس مراد.
هذا مجمل ما قامت به حكومة إيطاليا في رودس من الأعمال والمنشآت العظيمة، التي بلغت بها هذه الجزيرة أسمى درجة في النظام والعمران، وأصبحت كما كانت أيام عزها وسؤددها، درة في تاج الجزائر، وواسطة عقد الاتصال بين الشرق والغرب، وأخذ عدد الوافدين إليها يزداد عاما فعاما؛ لما يجدونه فيها من وسائل الراحة، فوق ما تحلت به من المحاسن الطبيعية.
خاتمة
هذا ما أتيح لي تدوينه عن تاريخ هذه الجزيرة وآثارها ومعاهدها. وأنى لليراع، مهما أوتي من البيان، أن يقوم بوصف ما حوته من أودية وجبال، وغابات وأدغال، ومروج زاهرة، ورياض ناضرة، وعيون جارية، إلى غير ذلك من المحاسن التي تبتهج لها النفس وتقر بها العين، ولهذه المناظر من التأثير في الوجدان ما لا يحتاج إلى بيان، فهي تصقل مرآة الخيال، فترتسم فيها تلك الصور التي توحي إلى الشعراء ما تجود به قرائحهم من المعاني، وتحوم حوله أفكارهم من التشبيهات والاستعارات، ألا ترى أنهم شبهوا الوجه بالبدر، والثغر بالدر، والخد بالورد، والجبين بالصبح، والشعر بالليل، والقد بالغصن.
ولولا اختلاف المؤثرات لما تباينت المعاني وتنوعت أساليب الكلام، فمن أنعم النظر في ما نظمه العرب في الجاهلية، ير أنهم أبدعوا وأجادوا في وصف الخيل والإبل والسيف والرمح والأطلال والرمال، ونحو ذلك من الأشياء التي لم يروا غيرها في البوادي والقفار، ولما قاموا بتلك الفتوحات الباهرة في صدر الإسلام وتجلت لهم محاسن البلاد التي افتتحوها؛ اتسع لهم مجال التصور والخيال، وفاضت قرائحهم ببدائع المعاني المنتزعة من مظاهر الجمال، وقس على ذلك سائر الفنون الجميلة، فما هي إلا تمثيل ومحاكاة لمظاهر الطبيعة، ولله در من قال:
إنما الأرض والفضاء كتاب
فاقرءوه معاشر الأذكياء
فمن تصفح هذا الكتاب - كتاب الكون - تجلت له صور الجمال في أبهى مظاهر الجلال، وشاهد من بديع آيات الخالق جلت قدرته ما تحار فيه العقول، وتعجز عن إدراكه الأفهام. ولما كانت التشبيهات والاستعارات كلها منتزعة مما تراه وتتأثر به من مناظر الكون، فلا عجب إذا عجز البلغاء عن وصف تلك المناظر بما ينطبق على الحقيقة، اللهم إلا إذا شبهوها بنفسها كالذي شبه الماء بالماء، والسماء بالسماء، أو كما قال أحد الشعراء:
لله ذياك الحبيب وما أرى
شيئا أشبهه به إلاه
هو ما أشبهه به فكأنه
هو فانظروا، بالله ما أحلاه
وفوق ما للمناظر الطبيعية من الروعة في النفس وتعذر وصفها بعبارة تمثلها للذهن بحسب ما هي عليه، فإننا لا ندرك منها غير أجزائها الظاهرة، ونرى هذه الأجزاء حسب مواقع النظر لا كما هي في الحقيقة، فقد نرى الكبير صغيرا كما قيل:
والنجم تستصغر الأبصار رؤيته
والذنب للطرف لا للنجم في الصغر
ونرى البعيد قريبا، والقريب بعيدا، والمستقيم معوجا، ونحو ذلك من الظواهر التي ينخدع بها البصر، وأغربها السراب، وهو ما يرى أحيانا في البوادي الجرداء من أشجار وماء، وسببه انعكاس ضوء الأشباح القريبة في طبقات الجو وانتقالها بتموج الهواء على صفحات الصحراء.
ومن الناس من لا يرى بعض الألوان أو لا يميز بعضها من بعض، وقس على ذلك المسموعات، فإننا لا ندرك كل الأصوات، ومن الحيوان الأعجم ما هو أقوى سمعا وأحد نظرا من الإنسان.
وإذا نظرنا إلى اللغة التي هي آلة التعبير عما نراه ونشعر به نجدها، على سعتها وغزارة مادتها، قاصرة في الدلالة على كثير من الصفات. هذه الألوان مثلا، فإن أكثرها ليس له اسم خاص، ويسمى بما يشبهه من ألوان الأزهار والأثمار أو المعادن والحيوانات، فيقال اللون البنفسجي والوردي والزيتوني والفضي والذهبي والسنجابي والرمادي، وكذلك الروائح مثل رائحة المسك والقرنفل والورد، والأشكال كقولنا الشكل الصنوبري والبيضوي والإهليلجي ونحو ذلك، وليس هذا النقص خاصا باللغة العربية، بل عاما في سائر اللغات، ومن بحث في أسماء المعاني يجد أنها كانت في الأصل أفعالا أو من أسماء الذوات أي المحسوسات، كالفصاحة من أفصح اللبن، إذا ذهبت رغوته فبان، والبلاغة من بلغ أي وصل، والجزالة في الرأي والكلام من الجزل للحطب الغليظ، والمجد من مجدت الدابة، إذا وقعت في مرعى كثير، والشرف في النسب وغيره من الشرف للمكان العالي، والرأي من رأى بعينه، والعقل من عقل البعير أي ربطه، والحكمة من حكمة اللجام، ووعى جعله في وعائه أي حفظه، والذكاء من ذكاء النار، والإدراك من أدرك أي لحق، والرجل المهذب من هذب الشجرة، وغير ذلك مما يعلم بالبحث في الألفاظ الدالة على الأمور المعنوية.
ولا يقتصر عجز اللغة على المعاني والألفاظ، بل يتناول الحروف، فإن في الطبيعة أصواتا لا يوجد ما يحاكيها في حروف جميع اللغات، ولا يمكن التعبير عنها إلا بما يدل عليها من الأسماء كالهدير، والصفير، والصرير، والهزير، والزئير، والزفير، والرنين، والطنين، والهزيم، والصليل، والأزيز، ونحوها.
وقد اختلف العلماء قديما في نشأة اللغة، فذهب فريق إلى أنها توقيف ووحي، وقيل إنها اصطلاح وتواطؤ، والرأي الراجح أنها كانت في الأصل محاكاة لأصوات الحيوانات، وتفاعل قوى الطبيعة، ثم ترقت تدريجا بعوامل النمو، كالتكرار، والزيادة، والقلب، والإبدال، والنحت، والاشتقاق، ونحوها من التغيرات التي حدثت في الألفاظ على مر الدهور، كما أثبت ذلك الباحثون في أصل اللغات، مثل مكس مولر وأرنست رينان، وغيرهما من العلماء المتأخرين. على أن للعرب فضل السبق في هذا الرأي؛ فقد قال به علماؤهم من نحو ثمانمائة سنة، ووافقهم فيه جلال الدين السيوطي،
1
فقال في الزهر ما نصه: «وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات كدوي الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء، ونعيق الغراب، وصهيل الفرس، ونزيب الظبي، ونحو ذلك، ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد، وهذا عندي وجه صالح ومذهب متقبل» انتهى كلام السيوطي. وهذا الرأي كما قال بعض العلماء المحققين لا ينافي ما ورد في الكتب المنزلة، فإن المراد من تعليم آدم الأسماء كلها كما ورد في التوراة والقرآن، إنما هو الإلهام إلى وضعها والإقدار على الارتجال بطبيعة القوة الناطقة التي أودعها الله في الإنسان، وميزه بها على سائر الحيوان، وما قيل في اللغة يصدق على النظم؛ فإنه كان في الأصل محاكاة لأصوات الطبيعة، وبيان ذلك أن الذي أوحى إلى الأمم نظم الكلام، إنما هو الغناء، وأصل الغناء محاكاة أصوات الطبيعة كخرير الماء، وحفيف الأشجار، ودوي الأمواج، وتغريد الطيور، ونحو ذلك، ولا فرق بين الأوزان الشعرية والنغمات الموسيقية، فإن أصلها كلها حركات وسكون، فالنظم طبيعي، ووجد قبل أن توضع له هذه الأحكام والأصول التي استنبطها الخليل قياسا على ما نظمه شعراء الجاهلية، على أنه لم يعرف كيف نظموا الشعر على هذه الأوزان، والغناء وجد قبل وضع علم الأنغام، كما أن اللغة العربية وضعت بهذه الصفة من الإعراب والبناء في الكلم قبل وضع علم النحو.
وهنا أستميح المطالع الكريم معذرة لهذا الاستطراد الذي شط بي عن موضوع الكلام، فقد همت بجمال الطبيعة واستهوتني محاسنها وغرائبها، فتشعبت أمامي سبل الحديث، والحديث شجون، والإنسان ميال بطبعه إلى محبة الانتقال من فن إلى فن، ومن معهود إلى مستجد، كالطير يتنقل من شجرة إلى شجرة، ومن فنن إلى فنن، ولله در من قال:
تنقل فلذات الهوى في التنقل
ورد كل صاف لا تقف عند منهل
خلاصة تاريخية عن أشهر جزائر بحر إيجه
من نظر في تاريخ هذه الجزائر، رأى أنها سايرت الدول التي استولت عليها في جميع أدوار حضارتها، وكانت حليفتها في حروبها، وما وقع فيها من الحوادث العظيمة، كما تدل على ذلك آثارها التي هي أكبر شاهد على ما كان لها في غابر الزمن من الشهرة والشأن، وإذا نظرنا إليها من الوجهة الطبيعية؛ رأينا أنها مجال واسع لمن أراد البحث في طبقات الأرض، وأنواع المعدن والنبات والحيوان، ففي تركيب الصخور وتنوع أشكالها وأوضاعها وما فعلته الزلازل والبراكين والسيول ما يفيد في تطبيق قواعد علم الجيولوجيا ونحوه من العلوم الطبيعية وكشف الكثير من غوامضها، وهناك من أنواع المعادن، والركائز، وصنوف الأنجم، والأشجار، والأعشاب الغريبة، والحيوانات البرية، والأصداف البحرية، ما يفوق الحصر.
ويرى من الاطلاع على تاريخ هذه الجزائر وما نظمه الشعراء في وصفها؛ أنه كان لأكثرها عدة أسماء، منها ما يدل على ما اشتهرت به من الخصائص والمزايا، وبعضها أعلام ميثولوجية، كأسماء الآلهة التي اختصت بعبادتها في العصور الغابرة، أو هي أسماء رؤساء القبائل التي أغارت عليها واستعمرتها أو الملوك الذين حكموها، وبعضها صفات نعتها بها الشعراء الذين تغنوا بمحاسنها، فغلبت عليها الاسمية، أو هي أسماء مدنها الشهيرة، فأطلقت عليها من تسمية الكل باسم الجزء، ومن الأسماء ما اختلفت في معناه الآراء لما تطرق إليه من المسخ والتحريف.
وفي الوقوف على مآخذ هذه الأسماء وما تدل عليه من المعاني فوائد جمة؛ فهي من الوسائل التي توصل بها العلماء لحل الكثير من معضلات التاريخ واستجلاء غوامضه، ولولا دلالة الأسماء القديمة على مواقع المدن التي درست معالمها، لتعذر على علماء العاديات العثور على ما تحتويه من الآثار الثمينة والذخائر النفيسة. وخلاصة القول أن تلك الأعلام إنما هي خزائن أودع فيها من أسرار العلوم وكنوزها ما لا ينكشف إلا بحل رموزها.
أما تاريخ هذه الجزائر في العصور الخالية، فهو كغيره من تواريخ سائر المدن القديمة تغشاه ظلمات القدم، ولولا ما ورد عنها في أساطير اليونان وقصائد الشعراء، وبعض التواريخ القديمة، وما دلت عليه الآثار، لما عرف شيء عنها؛ ولذلك قد اطلعت على كثير من الكتب القديمة، وما نظمه الشعراء في وصفها، وما ورد فيه ذكرها من المعاجم الكبرى والنشرات العلمية وكتب الجغرافية، ونحو ذلك من المظان، ولم أدخر وسعا في البحث والتنقيب والتحقيق والتدقيق، ولم أقتصر في ما دونته على جغرافية هذه الجزائر وتاريخها، بل ذكرت ما اشتهرت به من الصناعات، ومن نبغ فيها من العلماء والفلاسفة والشعراء، ومساحة كل منها، وعدد سكانها، ونحو ذلك من الفوائد والمعلومات.
وقد حوت هذه الخلاصة تاريخ أشهر الجزائر التي كانت تابعة لولاية بحر سفيد، ومنها الجزائر التي استولت عليها إيطاليا، وهي الجزائر المعروفة «بالدوديكانيز» وعددها 13 (غير رودس) وجزيرة صغيرة اسمها «كاستلوريزو»، وتعرف عند الترك باسم «جزيرة ميس»، وتبلغ مساحة هذه الجزائر بما فيها رودس 2547 كيلومترا مربعا، ومجموع عدد سكانها حسب الإحصاء الأخير 118000 نفس.
الجزائر التابعة لدولة إيطاليا
(1) جزيرة استانكوي
Cos
سميت هذه الجزيرة قديما «نمفيا» (من إلاهات البحار والغابات) و«ميروبس» نسبة إلى «ميروب» رئيس إحدى القبائل التي استعمرتها في العصور الخالية، و«لانجو» سميت بذلك، على ما زعمه بعض المؤرخين؛ لأنها مستطيلة الشكل، وأشهر أسمائها «كوس»، وورد ذكرها بهذا الاسم في أعمال الرسل، إصحاح 21 عدد 1، وأصله «كو» وهو اسم ابنة «ميروب»، الذي تقدم ذكره، ومنه «استانكيو»، وهو من أسمائها القديمة و«استانكوي» الذي عرفت به عند الترك. وهذه الجزيرة أكبر جزائر إيطاليا في بحر إيجه بعد رودس، واقعة في مدخل خليج بودروم (هاليكارناس) في آسيا الصغرى، وهي مستطيلة الشكل كما ترى في الخريطة، طولها 44 كيلومترا، ويختلف عرضها باختلاف الجهات، ومساحتها 282 كيلومترا مربعا، وتخترقها سلسلة جبال أعلاها جبل خريستو، ارتفاعه 875 مترا، وعدد سكانها حسب الإحصاء الأخير 16170 نفسا، واشتهرت بخصب تربتها وجمال مناظرها.
وأهم حاصلاتها العنب والتين والزيتون والليمون والبرتقال، وفيها مياه كبريتية حارة ومياه حديدية، أما تاريخها القديم فتغشاه غياهب القدم، وورد عنها في الميثولوجيا روايات كثيرة يضيق المقام عن ذكرها، وقد استولت عليها الأمم التي أغارت على رودس وغيرها من الجزر القريبة منها، وحكمتها بعد اليونان الدولة الرومانية والمملكة البيزنطية وأمراء البندقية وحكومات جنوى، وافتتحها الفرسان (الشفاليه)، وبقيت في حوزتهم إلى سنة 1522م؛ حيث استولت عليها الدولة العثمانية، وقد شاد فيها أولئك الفرسان حصونا منيعة، وهي باقية إلى الآن، ولا تزال عليها شاراتهم، وكثير من النقوش والرسوم والنصوص التاريخية، وليس لهذه الجزيرة شأن يذكر في تاريخ اليونان، ولكنها بلغت أوج الشهرة والفخر بمن نبغ فيها من عظماء الرجال؛ فهي مسقط رأس أبقراط أبي الطب، ووطن أبيل المصور الشهير، وهو أبرع مصوري اليونان على الإطلاق، غير من ظهر فيها من العلماء والفلاسفة مثل أريستون، وهو من أكبر الفلاسفة، وفلياس من أشهر العلماء والشعراء، وكان معلما لبطلميوس فيلادلفوس، وفي هذه الجزيرة شجرة دلب ممتدة الأغصان وارفة الظلال، يقال إنها الشجرة التي كان يجلس تحتها أبقراط، ويجتمع حوله تلاميذه لتلقي علوم الطب، ولهذه الشجرة منزلة سامية عند أهل الجزيرة، وقد بلغ من عنايتهم بها وحرصهم عليها أنهم سندوا أغصانها الكبيرة بأعمدة من الرخام؛ لئلا تنكسر من عصف الرياح، ولما كانت شجرة الدلب لا تعيش أكثر من خمسة قرون، كما حققه علماء النبات، وقد مضى من عهد أبقراط
1
إلى الآن 23 قرنا، فيحتمل أن هذه الشجرة غرست فيما بعد مكان الشجرة الأصلية إحياء لذكرى أبقراط، وكان في هذه الجزيرة هيكل عظيم لأسكولاب إله الطب. (2) جزيرة نيسيروس
Nissyros
ويسميها الترك «أنجرلي» نسبة إلى التين، واسمها القديم «بورفيرس» وهو نوع من الرخام لونه ضارب إلى الحمرة بما يشبه الأرجوان. سمي بذلك لأن لفظة «بورفير» باليونانية معناها الأرجوان، وهذه الجزيرة واقعة بين جزيرة استانكوي التي مر ذكرها وجزيرة إيلياكي، وروى المؤرخون أنها كانت متصلة بجزيرة استانكوي في قديم الزمان، وانفصلت عنها بزلزلة هائلة. وفيها بركان خامد من زمن بعيد، وفوهته على ارتفاع 690 مترا، وأرضها خصبة، ومساحتها 39 كيلومترا مربعا، وعدد سكانها حسب الإحصاء الأخير 3160 نفسا، وهي هرمية الشكل، وأعلى قمة فيها ارتفاعها 722 مترا.
وقد اشتهرت هذه الجزيرة بمياهها المعدنية الحارة؛ لما حوته من الخواص في شفاء كثير من العلل والأمراض، ويقصدها الناس من جميع الأقطار للاستشفاء بهذه المياه من الرثية (الروماتزم)، وأمراض المعدة، والأمعاء، والكبد، والطحال، وداء السكر (الديابيطس) والزلال، والنزلات الصدرية المزمنة وغيرها ، ودرجة حرارتها الطبيعية من 37 إلى 50 درجة مئينية (سنتجراد). وقد رأيت أن أذكر هنا ما تحتويه هذه المياه من العناصر لما في ذلك من الفوائد، وخاصة لمن أراد مقارنتها بمياه المدن المشهورة في أوروبا بحماماتها، وهذا بيانها حسب التحليل الكميائي: كبريتات الصودا، كبريتات البوتاسا، الإيدروجين المكبرت، أوكسيد الحديد، كبريتات المغنيزيا، كلورور البوتاسيوم، كلورور الصوديوم (ملح الطعام)، كلورور المغنيزيا، كلورور الكلسيوم، كبريتات الجير، كاربونات المغنيزيا، طفل، حمض بيريتيك. (3) جزيرة بطمس
ويسميها الترك «باطنوز»، هي جزيرة صغيرة واقعة على بعد 20 ميلا من جزيرة ساموس (سيسام)، مساحتها 32 كيلومترا مربعا، وعدد سكانها حسب الإحصاء الأخير 2550 نفسا، وأعلى قمة فيها ارتفاعها 293 مترا، وهذه الجزيرة صخرية قاحلة، وهي التي نفي إليها القديس يوحنا الإنجيلي في سنة 94م في عهد الإمبراطور دوميسيانوس، وفيها دير قديم يحتوي على كثير من الكتب اليونانية النادرة، وتحت هذا الدير كهف يظن أن القديس يوحنا كتب فيه سفر الرؤيا. (4) جزيرة كربة
Scarpanto
اسمها القديم «كارباتوس»، وبه سمي الجزء الواقعة فيه جميع جزائر الأسبوراد الجنوبية في بحر إيجه، ومنها رودس، ومن أسمائها القديمة «تترابوليس»، ومعناه ذات المدن الأربع، و«هيباتوبوليس» أي المدن السبع، وهذه الجزيرة صخرية ومستطيلة الشكل كما ترى في الخريطة، وفيها غابات كثيرة ومناجم رخام وحديد وآثار قديمة، واختصت في عهد جاهلية اليونان بعبادة «بوسيدون» إله البحار وهو «نبتون» عند الرومان، وتنحصر صناعة أهلها في الزراعة وإنشاء السفن، مساحتها 277 كيلومترا مربعا، وعدد سكانها حسب الإحصاء الأخير 75000 نفس، وأعلى قمة فيها ارتفاعها 1204 أمتار. (5) جزيرة هركيت
Calchi
عرفت هذه الجزيرة عند الإفرنج باسم واحد وهو
Calchi ، ولكنهم اختلفوا في رسمه، فورد في الكتب التاريخية والجغرافية وفي الخرائط البحرية القديمة (الراهنامج) على صور شتى وهي
Chalki ،
Caravi ،
Charci ،
Carthi ،
Charchi ، وهي جزيرة صغيرة واقعة غرب رودس، وعلى مسافة قريبة منها، وهي صخرية وكثيرة الأنجاد والوهاد، وكان فيها هيكل لأبولون، وتربتها خصبة، وليس فيها شيء يذكر من الصناعات، وقد قاسمت رودس في جميع الحوادث التي وقعت فيها، والدول التي استولت عليها، مساحتها 30 كيلومترا مربعا، وعدد سكانها حسب الإحصاء الأخير 1300 نفس، وأعلى قمة في جبالها ارتفاعها 575 مترا. (6) جزيرة سومبكي
Symi
اختلف قدماء المؤرخين في أصل هذا الاسم، فذهب بعضهم إلى أنه اسم ابنة «ياليسوس» التي اختطفها «غلوكوس» من آلهة البحر، وأتى بها إلى هذه الجزيرة، فسميت باسمها، وقيل إنه اسم زوجة «بوسيدون» إله البحار، وهو نبتون عند الرومان، وورد ذكرها في إيلياذة هوميروس، وتنحصر صناعة أهلها في استخراج الإسفنج، وصيد السمك، وقد اشتهرت هذه الجزيرة قديما بعمل السفن المعروفة بالسمبك، وهي سفن صغيرة سريعة السير، ومنها الاسم الذي عرفت به عند الترك وهو سومبكي، وهي من الجزائر التي استولى عليها الفرسان، وقد شادوا فيها حصونا منيعة ومركزا للمخابرة بالإشارات مع جزيرة رودس، وقد أنشئ وقتئذ هذا المركز لمراقبة السفن التي تمر من الأرخبيل، وبقيت في حوزة الشفاليه إلى أن احتلتها الدولة العثمانية في سنة 1523.
ومساحة هذه الجزيرة 61 كيلومترا مربعا، وعدد سكانها حسب الإحصاء الأخير 7000 نفس. وأعلى قمة فيها ارتفاعها 548 مترا. (7) جزيرة قاشوط
Casos
واقعة بين جزيرة كربة التي تقدم ذكرها وجزيرة إقريطش (كريد)، وهي جزيرة صغيرة صخرية، معتدلة الإقليم طيبة الهواء، واشتهرت قديما بخمرها وعسلها، وليس فيها شيء يذكر من الصناعات، مساحتها 62 كيلومترا مربعا، وعدد سكانها حسب الإحصاء الأخير 1760 نفسا، وأعلى جبالها ارتفاعه 520 مترا. (8) جزيرة قاليمنوز
Calimno
ورد اسمها في بعض الكتب القديمة والخرائط على صور شتى، وهي
Calymnos ،
Calydna ،
Calamo ،
Calmine ، وهذه الجزيرة من المراكز التجارية الكبيرة، وفيها بعض آثار قديمة من عهد اليونان والفرسان (الشفاليه) ومغاوص للإسفنج، مساحتها 98 كيلومترا، وعدد سكانها حسب الإحصاء الأخير 24000، وأعلى قمة فيها ارتفاعها 685 مترا. (9) جزيرة لريوز
Leros
واقعة بين جزيرة «لبسوس» وجزيرة «كاليمنوز» التي تقدم ذكرها، (انظر الخريطة) وليس لهذه الجزيرة غير اسم واحد وهو «ليروس» ويكتبه الترك «لريوز»، وقد اشتهرت باعتدال إقليمها وطيب هوائها وصفاء جوها وعذوبة مائها وتنوع مناظرها، ويقصدها الناس في الصيف من جميع الأقطار، وقد بني فيها من عهد قريب فندق كبير على أحسن طرز وأتم نظام، مساحتها 63 كيلومترا مربعا، وعدد سكانها 4000 نفس، وأعلى قمة في جبالها ارتفاعها 380 مترا. (10) أوسترباليا
Slampalia
واقعة غربي جزيرة «استانكوي» التي تقدم وصفها، وذكرت هذه الجزيرة في بعض الكتب القديمة باسم «إستيباليا» و«أستروباليا»، وهي جبلية، وأعلى قمة فيها ارتفاعها 500 متر.
استولى عليها أمراء البندقية في سنة 1207م. وافتتحتها الدولة العثمانية في سنة 1522، وبقيت في حوزتها إلى أن احتلها الطليان، مساحتها 95 كيلومترا مربعا، وعدد سكانها حسب الإحصاء الأخير 1370 نفسا. (11) جزيرة إيلياكي
واقعة بين جزيرة هركيت وجزيرة «أنجرلي» (نيسيروس)، وقد تقدم ذكرهما، وكانت تسمى قديما «تيلوس»
Telos
أو
Tilos ، وهي جزيرة صغيرة مستطيلة الشكل، وفيها قلعة قديمة قائمة على جبل في الجهة الغربية منها، وحكمها بعض أمراء البندقية في القرن الثالث عشر، ثم استولى عليها الفرسان (الشفاليه) وبقيت في حوزتهم إلى أن افتتحتها الدولة العثمانية، ثم احتلتها إيطاليا. ومساحتها 63 كيلومترا مربعا، وعدد سكانها حسب الإحصاء الأخير 1160 نفسا، وأعلى قمة في جبالها ارتفاعها 600 متر. (12) جزيرة لبسوس
Lipsos
واقعة شرقي جزيرة «بطمس» وشمالي جزيرة «لريوز»، وقد تقدم ذكرهما، وكانت تسمى قديما «لبسيا»
Lepsia
وهي جزيرة صغيرة ليس لها شأن يذكر في التاريخ، واشتهر أهلها في فلاحة الأرض وصيد السمك، وأهم حاصلاتها التبغ، مساحتها 16 كيلومترا مربعا، وعدد سكانها حسب الإحصاء الأخير 560 نفسا، وأعلى قمة فيها ارتفاعها 275 مترا. (13) جزيرة ميس
Castellorizo
ويسميها الطليان
Castelrosso ، ومعناه القصر الأحمر، وكانت تسمى قديما «ماجست»
Megiste
وهي جزيرة صغيرة قريبة من بر الأناضول، وتنحصر صناعة أهلها في إنشاء السفن واستخراج الإسفنج والملاحة، واستولى العرب على هذه الجزيرة في سنة 888م ثم الفرسان (الشفاليه)، وبنوا فيها حصونا منيعة، وبقيت في حوزتهم إلى أن افتتحها العثمانيون، واحتلتها إيطاليا في سنة 1912، وترتدي نساؤها ثيابا من الطرز الشرقي القديم، تشبه ملابس الألبانيين (الأرناؤد)، مساحتها 9 كيلومترات مربعة، وعدد سكانها حسب الإحصاء الأخير 2740 نفسا، وأعلى قمة في جبالها ارتفاعها 252 مترا.
أشهر الجزائر التابعة لدولة اليونان في بحر إيجه
(1) جزيرة مدللي
Mitylène
هذه الجزيرة من أعظم وأشهر جزائر بحر إيجه ، واقعة على ساحل آسيا الصغرى بين جزيرة «ساقز» جنوبا وجزيرة «تندوس» (بوزجه) شمالا، وهي أكبر من رودس، مساحتها 2870 كيلومترا مربعا، وعدد سكانها 140540 تقديرا، وورد ذكرها في أعمال الرسل فصل 20 عدد 14، ومن الروايات التي تناقلها المؤرخون عن هذه الجزيرة أنها كانت متصلة ببحر آسيا وانفصلت منه بفعل البراكين التي ثارت في قديم الزمان، ودفعت أمواج البحر الأسود بشدة عظيمة، فطغت على بحر إيجه وخسفت جزءا منها، وأن الجزر الصغيرة التي في جوارها إنما هي قمم جبالها التي غاصت وقتئذ في لجج البحر، ولهذه لجزيرة عدة أسماء، منها «إيسا»
Issa
وهو اسم أحد مدنها القديمة، سميت به من إطلاق الجزء على الكل، ولما نزل بها البلاسجة سميت «بلاسجيا» نسبة إليهم، ثم سميت «ماكاري»
Macarie
باسم أحد ملوكها، ولما خلفه في الحكم زوج ابنته ليسبوس
Lessbus
سميت باسمه «ليسبوس» وهو الاسم الذي اشتهرت به في عهد اليونان، ومن أسمائها القديمة «هيمرت»
Himerte
لانهماك أهلها في الترف والخلاعة، و«لاسيا»
Lassia
لكثرة الغابات فيها، و«أثيويا»
Ethiope
نسبة إلى الأمازون الذين حكموها على ما يظن في قديم الزمان، وأصلهم من إثيوبيا، و«أجيرا»
Egira
باسم أحد مدنها الشهيرة، واسمها الحديث متيلين
Mitylène ، ومنه مدللي الذي عرفت به عند الترك.
ويخترق هذه الجزيرة من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب سلسلتان من الجبال. وقد اشتهرت باعتدال إقليمها وطيب هوائها وجودة أثمارها. وأهم حاصلاتها العنب والتين والزيتون، وفيها عيون عذبة وغابات واسعة، ومناجم رخام، ويوجد فيها العقيق، وحجر ثمين أسود، يسمى ليسباس نسبة إليها، وامتازت بخمرها وقد امتدحه الشعراء، وكان يضرب به المثل فيقال «خمر لسبوس»، كما يقول العرب «خمرة بابل»، واشتهرت نساؤها بالجمال، وكان فيها هيكل لأبولون، وكانت تجتمع فيه الحسان من ربات الحجال مرة في السنة للمباراة والتنافس بمحاسنهن، ومن حازت منهن قصب السبق على أترابها في هذا المضمار كانت تكلل بإكليل من الغار، وهو رمز الفخر والانتصار.
وفي هذه الجزيرة ينابيع معدنية لها خاصية في شفاء الكثير من العلل والأمراض، بعضها درجة حرارته الطبيعية 76 درجة مئينية (سنتجراد)، وفي هذه الجزيرة آثار قديمة، وقد أصبحت محطا لرحال علماء العاديات الذين يفدون إليها من جميع أنحاء أوروبا وأمريكا للبحث والتنقيب عما حوته أطلال مدنها القديمة من الآثار النفيسة والذخائر الثمينة، وأقدم هذه المدن كانت بالقرب من المدينة التي تسمى الآن «كاسترو»
Castro .
أما تاريخها القديم فهو كغيره من تواريخ المدن القديمة، تحجبه ظلمات القرون الخالية وتغشاه الظنون والأوهام. وأقدم من استوطنها، على ما وصل إليه البحث، هم البلاسجة، وجاء بعدهم الأيوليون، وروى بعض المؤرخين أنه في أثناء حروب طروادة نزل بها عولوس ومن كان معه من اليونانيين، وأن مينيلاس أتى إليها مع ديوميدس بعد تلك الحرب، وهي من الجزائر التي استولى عليها الفرس والرومان والدولة البيزنطية وإسكندر المقدوني، وحكمتها جمهورية البندقية وحكومة جنوى، وأغار عليها العرب وافتتحوها واستولت عليها الدولة العثمانية.
ونبغ في هذه الجزيرة طائفة كبيرة من العلماء والشعراء والفلاسفة والمؤرخين وأرباب الفنون، أشهرهم «بيتاكوس» الفيلسوف، وهو أحد الحكماء السبعة الذين هم أساطين الحكمة، ولد فيها سنة 649، وتوفي سنة 569ق.م، و«ثيوفراست» من كبار الفلاسفة، قيل إنه ألف نحو 200 كتاب في جميع العلوم والفنون، وهيلانيكوس من أشهر المؤرخين، ولد سنة 496، وتوفي سنة 415ق.م، ومرتيل المؤرخ الكبير، ومن مؤلفاته تاريخ هذه الجزيرة، و«هرمياس» وله تاريخ عن جزيرة صقلية (سيسيليا) من أقدم الأزمنة إلى سنة 376ق.م، و«هراقليط» وله تاريخ كبير عن مقدونية، و«ثيوفانوس» وكان مؤرخا وشاعرا ومن كبار رجال السياسة، و«خارس» مؤلف تاريخ إسكندر المقدوني، وهو في عشرة كتب، ومن الشعراء الذين نبغوا في هذه الجزيرة «ثرباندر»، ولد سنة 676ق.م، وقد برع في فن الموسيقى، وقيل إنه هو الذي أضاف ثلاثة أوتار إلى العود، وكانت قبلا أربعة أوتار، و«أريون» من أشهر الشعراء والموسيقيين، و«ألسيه» الشاعر الكبير
Alcee
الذي افتتن بحب «سافو»
Sapho
الشهيرة، وهي من أهل هذه الجزيرة، ولدت سنة 621ق.م، وتعد أكبر شاعرة على الإطلاق، ولها فنون مبتكرة في النظم والموسيقى، ولشهرتها نقشوا صورتها على بعض المسكوكات، ووضعوا تمثالها في أحد الهياكل وسموها بنت أبولون العاشرة؛ لأنه كان له تسع بنات، هن ربات الفنون الجميلة، وممن اشتهروا في الحفر والتصوير «ليسباتينوس»، وهو من أهل هذه الجزيرة. (2) جزيرة ساقز
Chio
من أسمائها القديمة «أوفيوزا» ومعناه جزيرة الحيات؛ لأنها كانت كثيرة الحيات قبل استعمارها «وبيتيوزا» نسبة إلى شجر الصنوبر؛ لأنه كثير فيها، و«أثاليا» لحرارة إقليمها، أما الاسم الذي اشتهرت به هذه الجزيرة فهو «كيو»
Chio ، وهو مختزل من اسم
Chione ، بنت «أونوبيون» أول ملوكها، وقيل إنها سميت باسم ابنها من زوجها أوريون، وكان اسمه «كيو» ومعناه الثلج؛ لأنه ولد في يوم قر، وذهب بعضهم إلى أنه لفظة سريانية معناها المصطكى لكثرتها في هذه الجزيرة، كما سماها الترك «ساقز» والعرب «جزيرة المصطكى».
وقد اشتهرت هذه الجزيرة بطيب هوائها وخصوبة تربتها وجمال مناظرها، وفيها مناجم حديد وأنواع من المرمر النفيس المختلف الألوان، وحجر اليشب، وأهم صادراتها العنب والتين والبرتقال والليمون واللوز والمصطكى والحرير والصوف والزيت والنبيذ، وهي من المدن السبع التي زعمت أنها مسقط رأس هوميروس، أكبر شعراء اليونان، وهذه المدن هي: أزمير، وقولوفون، وسلامين، وأرغوس، ورودس، وأثينا، وساقز.
وقد اشتهر نساء هذه الجزيرة بالجمال، ونبغ فيها كثير من الفلاسفة والعلماء والشعراء والمؤرخين، وكان فيها مدرسة مشهورة، ومكتبة تحتوي على 12000 مجلد من أنفس الكتب، وعلى نقودها القديمة صورة أبي الهول ذي الجناحين وأمامه عنقود عنب أو إناء خمر، وهما رمز الخصب والنماء. وأقدم من استوطنها من الأمم طائفة البلاسجة، وقد وفدوا إليها من تساليا. ودلت الآثار على أن الفينيقيين استعمروها في قديم الزمان. وفي أواسط القرن الثاني عشر قبل المسيح استوطنها اليونانيون. وهي من الجزائر التي استولى عليها الفرس في عصر داريوس، وبقيت في حوزتهم إلى أن افتتحها إسكندر المقدوني في سنة 333ق.م، وآل أمرها إلى خلفائه من بعده، ثم استولت عليها الدولة الرومانية، ووقعت فيها حروب كثيرة وتداولتها فيما بعد أيدي الدول التي حكمت هذه الجزائر، مثل جمهورية البندقية وحكومة جنوى، ثم استولت عليها الدولة العثمانية، وفي سنة 1595م، أرسل فرديناند أمير توسكانا إلى هذه الجزيرة أسطولا كبيرا بقيادة الأميرال الشهير فرجينيو أورسينو، فحاصرها واستولى عليها، وفي أثناء ذلك هبت عاصفة شديدة ألجأته إلى الرحيل، فترك في قلعتها 500 رجل، وعاد بالأسطول فهجم الترك على هؤلاء الرجال، وأعملوا فيهم السيف حتى أفنوهم عن آخرهم، وعلقوا رءوسهم فوق أسوار المدينة، وفي سنة 1694 استولت عليها جمهورية البندقية، ثم عادت إلى الدولة العثمانية، ويبلغ عدد سكانها بوجه التقريب 74000 نفس. (3) جزيرة ليمنى
Lemnos
سميت قديما «أثاليا» ومعناه الملتهبة؛ لوجود بركان فيها، و«ديوسبوليس» أي ذات المدينتين؛ لأنه كان فيها مدينتان مشهورتان هما «هيفاستيا» و«ميرين»، ومن أسمائها «هيبسبيل»، وهو اسم بنت «ثولس» أحد ملوك هذه الجزيرة و«فولكانيا» نسبة إلى «فولكان» إله الجحيم، وهي من أكبر جزائر بحر إيجه، ومساحتها 600 كيلومتر مربع، وعدد سكانها 29000 تقديرا، وهي واقعة شرقي الجبل المسمى «أجيوس أوروس» أي الجبل المقدس، من جبال الروم إيلي وهو المشهور في كتب الجغرافية باسم «جبل أثوس»، وقبيل الغروب يمتد ظل هذا الجبل وينتشر على الجزيرة لارتفاعه ووقوعه غربيها، وكان في هذه الجزيرة تيه (لابرنت) وهو سرب تحت الأرض متشعب المسالك، وكان يوجد مثله في مصر وإيطاليا وجزيرة إقريطش (كريد)، وقال بلينوس إن لابرنت جزيرة ليمنوس يمتاز عن نظائره الثلاثة بمتانة بنائه، ووجود 150 عامودا فيه، وقد درست معالمه ولم يبق له أثر الآن.
وفي هذه الجزيرة عيون معدنية حارة درجتها الطبيعية من 38 إلى 40 درجة مئينية (سنتجراد) ولها خواص في شفاء الأمراض الجلدية والعصبية. (4) جزيرة بوزجه
Tenedos
ورد ذكر هذه الجزيرة في أشعار هوميروس وفرجيليوس، وكانت تسمى قديما «ليرنيسوس» و«فينيقه»، وهذا الاسم يدل على أن الفينيقيين وفدوا عليها، واستعمروها في قديم الزمان، وسميت «تندوس» باسم «تنيس» أحد ملوكها القدماء، وقيل إنه كان من ملوك صيدا في القرن الرابع عشر قبل المسيح، وهذه الجزيرة واقعة تجاه بوغاز الدردنيل الذي يصل بحر مرمره ببحر إيجه؛ ولذلك سماها الترك «بوغاز آطه سي» أي جزيرة البوغاز، وهي صغيرة ومستطيلة الشكل طولها 9 كيلومترات، ومتوسط عرضها 5 كيلومترات، وأهم حاصلاتها العنب، واشتهرت قديما بخمرها، وعدد سكانها 6000 نفس تقديرا، وكان فيها مدينة عامرة تسمى «أيوليس»، أو «أيوليكا»، ومعبد عظيم لأبولون، وهي من الجزر التي استولى عليها الفرس وإسكندر المقدوني والرومان والعرب وأمراء البندقية، ثم افتتحها السلطان محمد الفاتح، وفي سنة 1656م عادت إلى حكم البندقية، وفي سنة 1657 استرجعتها الدولة العثمانية، وبقيت في حوزتها إلى أن احتلتها اليونان، وعدد سكانها 6000 نفس بوجه التقريب. (5) جزيرة قاريوط
Icaria
سميت أولا «إيكاروس» ثم «إيكاريا» أو «نيكاريا» نسبة إلى «إيكار» ابن «ديدال»، وورد في الميثولوجيا (أساطير اليونان) أن «ديدال» كان مهندسا بارعا، وهو الذي بنى في جزيرة إقريطش (كريد) اللابيرنت (التيه) المشهور، وتطلق لفظة ديدال مجازا في أكثر اللغات الإفرنجية على أي طريق ذي شعاب، أو أي مأزق أو مضيق، ومن أسمائها القديمة «إيكتيسيا» أي جزيرة السمك، وهي واقعة غربي جزيرة ساموس (سيسام)، وهي صخرية وتخترقها طولا سلسلة جبال، وفيها غابات صنوبر وبلوط ومناجم ذهب وينابيع معدنية، وقد اشتهرت بطيب هوائها واعتدال إقليمها، وليس لها شأن يذكر في التاريخ، وهي من الجزائر التي استولى عليها الفرسان (الشفاليه)، وبقيت في حوزتهم إلى أن افتتحتها الدولة العثمانية، واشتهر أهلها في الملاحة وصيد الإسفنج، ويجلب منها الفحم المشهور بالقاريوطي نسبة إليها. (6) جزيرة أمبروز
Imbros
وسميت في بعض الكتب «لمبروس»، وهي جزيرة صغيرة مستطيلة الشكل، واقعة شمالي جزيرة «تندوس» (بوزجة)، طولها نحو 30 كيلومترا، ويختلف عرضها باختلاف شكلها، ومعظمه طوله 16 كيلومترا، وهي صخرية وفيها معادن ذهب ورصاص ومناجم فحم حجري وآثار قديمة، وعدد سكانها 5000 نفس بوجه التقريب. (7) جزيرة إبصاره
Ipsara
ورد ذكرها في الكتب القديمة باسم «بسيرا» وسماها هوميروس «بسيريا»، ثم عرفت باسم إبسارا أو بسارا، والترك يكتبونها «إبصاره»، وهي جزيرة صغيرة واقعة شمالي جزيرة ساقز، وغربيها جزيرة أصغر منها تسمى «أنتي بسارا»، وبعض جزر أخرى صغيرة، وهي معتدلة الإقليم طيبة الهواء، وعدد سكانها 560 تقديرا. (8) جزائر فورنوز
Fournis
واقعة بين جزيرة قاريوط وجزيرة ساموس (سيسام)، وهي عدة جزائر صغيرة ليس فيها ما يهم ذكره، وتقتصر صناعة أهلها على تربية الأغنام وعمل الفحم والجبن وصيد السمك، وفيها معادن رخام.
صفحه نامشخص