الجزء الأول
مقدمة بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
[1ب]الحمد لله الذي أيد الدين بالحجج والبراهين، وجعل لحفظ ذلك من اصطفاه لحفظ ذلك(1) من النبيين والمرسلين، ثم خلفهم بالأئمة الهادين، وجل(2)عليهم بآيات للمتوسمين، وصلى الله على محمد المبعوث بالحق المبين، والداعي إليه حتى أتاه اليقين، بعد أن لجب طرقه للسالكين، وكشف أنواره بالأدلة للمبصرين، وبالسيف القاطع لحلاقم المردة المدبرين، وعلى آله المتجردين لجهاد المتمردين، وسلم عليه وعليهم أجمعين أما بعد:
صفحه ۱
فإني كنت سمعت كثيرا من أخبار مولانا أمير المؤمنين، وسيد المسلمين المنصور بالله: القاسم بن محمد بن رسول الله سلام الله عليه ورحمته وبركاته من أصحابه الفضلاء والقادة النبلاء، وكانت ظاهرة عند الملأ معروفة عند العقلاء، فما زال الموت يأخذ ودائعه، ويذيق الأول فالأول فجائعه، فنظرت فما كنت أعرفه منهم بما كأني شاهده معهم، وإذا النسيان أخذ أكثره، وقد مضى من المعارف ما كان أظهره، وكنت لا أعد حفظي في جنب حفظهم شيئا، ولا أتكلم في محضرهم، وإن كنت فيهم حياء لحقارتي وجلالتهم، وقصوري عن محلهم، فأردت أن أحفظ ما بقي من أخبارهم على سبيل الجملة لئلا تذهب بالجملة، ورضيت بالقليل أحفظه لعقبي، مما أكتبه بقصور أدبي، لئلا يذهب الكثير مع القليل، ويخفى ما كان إليه من السبيل، والله تعالى أقصد فيما كتبت، وثوابه أطلب فيما حصلت، وجعلته توقيعا لسرد الجمليات لقصور الباع عما يفعله أهل هذه الصناعات، ليقتدي بهم المقتدي، ويهتدي إلى آثارهم المهتدي.
وقد تقدم ما حضرني من جمل أخباره -صلوات الله عليه-، وختمت ذكره -صلوات الله عليه- بدعوة ولده مولانا، وإمامنا، وقدوتنا، ووسيلتنا إلى ربنا الإمام الأعظم، والحجة لله في زمنه على العرب والعجم، أمير المؤمنين، وسيد المسلمين المؤيد بالله: محمد بن أمير المؤمنين المنصور بالله: القاسم بن محمد بن رسول الله.
[2أ]وصفة قيامه ومن حضر دعوته، وأجاب واعيته من الفضلاء الأعلام والجهابذة الكرام، وتاريخ قيامه، قد ذكرنا شدة الوقت الذي توفي فيه الإمام -عليه السلام- وقوة شرة الطغام، فإنا سمعنا عن كثير من كتابهم أن عدة جنود الظالمين في اليمن من المدائن والحصون والبنادر والبلاد ومن صار إليهم من شرار العرب سبعون ألفا والله أعلم.
صفحه ۲
فقرر مع محمد باشا الصلح الذي كان عقده حي والده -سلام الله عليهما- وحفظ المقام وأنفذ الأحكام، وأنقذ في تلك المجاعة الأرامل والأيتام بل الخاص والعام، فإنه استقبل -عليه السلام- أعظم مما كان في عام موت أبيه -عليهما السلام- من الشدة حتى كان أهل النفقات واللائذ بشهارة المحروسة بالله من جميع الجهات ما لا يحصره قلم على جهة التحقيق، وإن كان على سبيل التقليل والتقريب يكفيك أن الوزعة لإخراج المخروج بنظر الفقيه الفاضل عماد الدين: يحيى بن محمد بن حنش رحمه الله فوق خمسة أنفار مع كل واحد كيال للمخروج وأعوان، ولا يراهم أحد ينفكون نهارا وبعض الليل عن تفقد المسلمين على طبقاتهم ممن اجتمع من الملهوفين، ولقد رأيته -سلام الله عليه- مرارا يخرج إليهم ولا يقدر أن يحفظ نفسه من تهافتهم عليه عن(1) رؤية طلعته الكريمة إلا بأن يركب حصانا مشهورا بالقوة ثم يرتفع إلى عال، فيتفقد أهل الحاجات ويقرر كفايتهم من القوت والكسوة وقد يستقيم مرارا عند حاجبه، ثم يستدعي الضعفاء(2) وأهل المتربة حتى يملأ الإيوان الكبير، ثم يحضر معهم مع كاتبه ويقف معهم كأحدهم، وقد استوثق من الباب ويسأل كل واحد عن حاجته فيقضيها فلا يقوم عن مجلسه حتى يكملوا، وهكذا كان -سلام الله عليه- حتى مضى لسبيله -صلوات الله عليه-.
ولقد رأيت في تلك الأيام عجبا كبيرا، من ذلك أنها لما كثرت العقائر من الواردين للتعزية في والده رضوان الله عليهما أمر -عليه السلام- أن يجعل حصة منها لأهل المدارس الإمامية على طبقاتهم، وقد ذكرنا في الجزء الأول قدر المكاتب.
صفحه ۳
[2/ب] في تلك المدة وأن يجعل لهم ذلك ويفرق فيهم مع الطعامات الواسعة، وأنه عين علي في بعضها الحضور على تفريق ذلك فعلوت مرتفعا على المكان المشرف على ذلك، وعند جدار المطبخ اثنان من أهل القوة يعصدان في دست عظيم ويخلفهما مثلهما عند التعب ، وقد وصل من عند الفقيه الفاضل عماد الدين الحمالون بما يقوم بأولئك من الطعام على أنواعه، فأمرت عليه حفظته في جانب ثم يدعى الناس بتوقيع القائمين عليهم ونحن في انتظار تمام أهل التواقيع وحضور الأعوان، والأبواب محفوظة فرأيت امرأة ضعيفة في رأي العين تصيح وعلت الجدار المشرف على ذلك الدست العظيم وأهله في ذلك العمل الشاق، وجزل الحطب ووهيج النار تحته، فلما عاينت العصيد فتحت فاها وأنا أنظر كأن وجهها كله فم، وتقول بصوت مرتفع: اعتقوني أطعموني أو كذا، فصحت بمن كان قريبا منها من أهل ذلك الدست أعطها أعطها وأكثرت فغرف ملئ مغرفة حديد مما تقرب من ثلاثة أرطال وأعطاها ذلك وهي متعلقة بالجدار ولا يقدر أحد من أولئك أن يصعده فقبضتها بكف كأنما هو كله بنان، وجعلتها في فيها مرة واحدة، فناديت الآخرين يعطونها لحما وطعاما آخر، فلم يجدوها وأرسلت في أثرها فلم يرها أحد، فظننت والله أعلم أنها من الجن.
فصل
نذكر فيه بعض صفاته الشريفة وما يتعلق بها وهي: نسبه الشريف، وحليته، وتأريخ مولده، ومدة خلافته، وموضع قبره، ونشأته وعلمه، وخصائصه، وكراماته، وزهده، وورعه، وكرم أخلاقه، وسعة صدره، وحلمه، وسخاؤه، وشجاعته، ومروءته، وصبره، وحسن تأليفه الشارد، ومقابلة الصادر والوارد، وهذا مما لا يحصره فطين، ولا يحيط به قرين، وسيرته، ويسيرا مما امتدحه أهل الفضل والإجادة، وذكر مشاهير العلماء في وقته القائلين بإماماته، ولنتبرك بذكر القليل من الكثير، فالنوء المطير يشير إلى الوابل الغزير، كما أن الأثر يدل على المسير، ووفاته، وموضع [3أ] قبره.
صفحه ۴
نسبه أما نسبه الشريف فقد تقدم في ذكر نسب والده -سلام الله على أرواحهما-، وأمه -عليه السلام- الشريفة الفاضلة الطاهرة مريم بنت ناصر بن عبد الله بن علي بن داود الغرباني الأميري، من ذرية القاسم بن علي العياني -عليه السلام-.
حليته
وأما حليته فكان معتدل القامة ربعة، أسمر اللون، منور الوجه ممتد، واسع الجبهة، أهدب الأشفار يعلوه البهاء، معتدل اللحية طويلها إلى الكبر أقرب، عبل الذراعين.
مولده
وأما مولده فإنه ولد لليلتين خلتا من شهر شعبان سنة تسعين بتقديم التاء الفوقانية وتسعمائة سنة بتقديم التاء أيضا في دار الإمام الناصر لدين الله الحسن بن علي بن داود المؤيدي -عليه السلام- في بيت عداية من جبل سيران كما نقل عن خط والده -عليهما السلام-.
ومدة خلافته سيأتي ذكرها، وكذا موضع قبره -سلام الله عليه-.
نشأته
وأما نشأته فكان -عليه السلام- من صغره معروفا بالطهارة والبعد عن قرناء السوء وأهله، وإنما همه العلم والشغل به حتى كان كما سيأتي طرف من ذلك لا يعرف في غير المكتب، ثم بعده في الطلب، وسمعته -سلام الله عليه- مرارا يتكلم بما يعرف منه أنه لا يعرف غير الطاعات، فمن ذلك أنه بلغه أن قوما من وادعة وجد عندهم شجرة التتن التي تهالك فيها عالم من الناس فرأيته يتغيظ كثيرا ويقول: ومن أين أتى ذلك إليهم وكيف وصوله بلدهم؟! وأكثر من ذلك، ومن ذلك أن رجلا من بلاد سجدا حمل إليه وقد قتل قريبا له فقضى بينهم بالقصاص مع استكمال شرائطه ثم قال له قائل: هؤلاء اقتتلوا وهم على الخمر وفي حال السكر فعظم عليه كثيرا وقال: ومن أين دخل عليهم هذا البلاء وكيف، ومن أعلمهم وكذا وغير ذلك كثير.
صفحه ۵
علمه وأما علمه الغزير وتحصيله الكثير فمما يضرب به المثل كان -عليه السلام- معروفا بكثرة السماعات والطرق والروايات، ولقد سمعت أنا وغيري في زمن والده الإمام المنصور بالله -سلام الله عليه - من كثير من العلماء أن سماعاته أكثر [3/ب] من والده - سلام الله عليهما- وكان العلماء يرجعون إليه ويعولون عليه.
أخبرني القاضي العلامة صفي الدين أحمد بن سعد الدين أطال الله بقاه أن عدة من كبار العلماء طلبوا من مولانا الإمام المنصور بالله -سلام الله عليه- سماع(1) (البحر الزخار) في بعض الأيام، فاعتذر بما هو أهم وقال: لكن يقرأون على الولد محمد حفظه الله فقرأوه(2)، ثم تشعبت عليهم الأنظار في بعض المسائل وكثر الخوض فيها فعرفوا الإمام -عليه السلام- فأقسم لا عنده غير ما رجحه مولانا محمد -عليه السلام - فيها، وكان المتولي للتدريس في زمن والده في الكتب الكبار وما يحتاج العلماء فيه إلى كثرة المراجعة والبسط وأنهم يعرفون من الإمام المنصور بالله -عليه السلام- الإشتغال بالجهاد فيعولون عليه ويفزعون في ذلك إليه، فكان إمام العلوم ومداوي الكلوم.
صفحه ۶
وأخبرني القاضي شمس الدين أحمد بن محمد السلفي رحمه الله في ابتداء دعوته -عليه السلام- بأن قال رحمه الله: الإمامة يا سيدي بتثبيت الله نعرفها في صاحبها في نشأته، هذا مولانا محمد حفظه الله تعالى نعرف أنه الإمام في صغره، ثم قال: نقف على حقيقة ما قلته ثم تناول نسخة البحر الزخار وأراني في آخرها صح لي سماع هذا الكتاب عن مولانا الإمام المهدي لدين الله محمد بن الإمام المنصور بالله وعلى ذهني أنه في سنة ثلاث عشرة أو في سنة اثني عشر وألف في كوكبان، ثم سماع آخر كذلك في كوكبان، ثم قال: نحن قاطعون في ذلك الوقت أنه المهدي المنتظر، ثم أخذ القلم وفعل عوض المهدي المؤيد بالله وكذا سمعت من غيره، وكان حسن المراجعة حسن البيان قليل المراء سريع الجواب في خطاب السائل في باب الدين والدنيا، كثير التأمل في الأدلة وفي باب الإحتياط في الصرف والمصرف كذلك. ومما سمعت من حي سيدنا الزاهد القدوة الإمام العالم محمد بن عبد الله الغشم نفع الله به، وقد قال له ولد أخيه حي القاضي العالم جمال الدين علي بن أحمد بن عبد الله الغشم رحمه الله: يا عم هذا بياض أريد أن أحصل فيه الأساس وذلك في آخر أيام الإمام القاسم -عليه السلام- [4/أ] فقال: غيره يا ولدي، فقال: إلا هو، فقال: غيره، فقال: ما أحصل إلا هو، فغضب وقال: إذا حصلته حرقته أو كما قال.
صفحه ۷
فرأيته منكرا عليه وعظم علي ذلك منه رحمة الله عليه وعرف ما وقع معي فقال: لا نظن إلا خيرا الإمام القاسم -عليه السلام- مهيب جدا فلا يكاد يستوفي من راجعه البحث والطلب وهو بشر يجوز عليه الخطأ وكذا. فطابت نفسي بعض شيء مما كان فلم أدر بعد ذلك إلا وسيدنا رحمه الله يحصله بنفسه ويحث على تحصيل شرحه، وأكثر من طلب ذلك من الإمام -عليه السلام- ومن حي السيد العلامة أحمد بن محمد الشرفي رحمه الله، ولقد وصله رسالة من السيد ناصر بن محمد صبح الغرباني مع قيامه كما سبق فيها طول، فكتب في ظهرها كلمتين إشرح الأساس واترك الناس والسلام، ولا زاد على ذلك شيئا، فسألته رحمه الله كيف رجعت إلى الأساس؟ فقال: هذا الإمام -عليه السلام- أشبه تواضعا بسليمان بن داود نبي الله -صلى الله عليه(1)- أنصفني في المراجعة حتى أني طلبته سماع هذا الكتاب وقلت له: إذا وجدت الحق في ترك هذا الكتاب أو شيء منه تركناه لا يفتح، فقال:ما معناه بل نحرقه أو كما قال، فشرطت عليه حفظ الباب حتى يتم المعشر، قال: ففعل وأسأت الأدب في حقه فكان الإذن إلي في الداخل، قال: فكنت في مواضع قد تقرر عندي من كتب المعتزلة قوتها لا أكاد أرجع عنها فيطيل لي المراجعة والتأمل والنظر، ولقد نقرأ في يوم كامل مسألة وفي يومين مسألة حتى(2) قال: إنه بقي هو والإمام ينظر في مسألة ثلاثة أيام فصح لي هذا الكتاب أنه قطعي أو كما قال.
صفحه ۸
مصنفاته وأما مصنفاته فلم يفرد لها كتاب فيما أعلم، وإنما له مسائل ورسائل مجموعة في جميع فنون العلم ما لو جمعت لصارت خزانة كاملة، وقد جمع القاضي المكين العلامة: أحمد بن سعد الدين أطال الله بقاه مجلدات كبار مفردة وكثيرا مجموعة إلى غيرها مما يطول، ولقد رأيته مرارا يتناول الأحكام عند ورود الفتوى، والمجلس غاص بأهله ما يترك له في غالبها حجرة، ولا يقطع السلام ولا الكلام ويده مستمرة بذلك، فإذا كثر عليه رفع [4ب] نظره إلى سقف المنزل ليجتمع له فكره، فكان كثير من الفضلاء يتحدثون مع ذلك سرا ويقولون: يتناولها من السقف لما يرون فيها من البسط واستيفاء المسألة وأدلتها الواضحة، وكذا رأيته يسود للكاتب الرسالة الطويلة بالحجج النيرة، ولا يعيد فيها نظرا فيراها بعد ذلك كأنما قد حصلها في خلوة وطول نظر.
صفحه ۹
ومما أخبرني القاضي العلامة صفي الدين وبركة المسلمين: أحمد بن سعد الدين أطال الله بقاه، قال: كنت كثيرا أقوم من مجلسه الخاص وقد مضى من الليل أكثره، ولا أجد لي من القوة إلا ما أحمل بها نفسي إلى منزلي من الإشتغال والعمل في كتب العامة والخاصة وهو معي في ذلك، فلا أرى له مثلما أجد من التعب بل يزداد صبره واجتهاده، وأترك شيئا مما كنت أعينه فيه فأجده قد أصلحه، وأذهب من عنده، غير مرة على هذه الحالة وكتبه مرصوفة، فآتي الصبح فأجدها مفتحة مطالعا فيها أو في أكثرها، فما خلتها إلا كما ترى الحجارة الكثيرة عند العمار الماهر المطيق، ومما رأيت أنا من مثل ذلك أنه دعاني مرة قبل صلاة الفجر في منزله من درب الأمير وسألني بعد الصلاة عن شيء وبسط، ثم تناول شيئا من الطعام بعد القهوة، ثم تحدث قليلا ثم قال لي: اسكن أنام قليلا، ثم اضطجع قليلا إلا وهو يغط ثم انتبه وطلب قهوة ثم قال لي: إني لم أدرس، وكان قراءة الفضلاء عليه في البحر الزخار(1)، فدرس نحو خمس ورق، وأحضر من كتب الفن المذكور اثنين وعشرين كتابا طالع موضع المعشر منها ثم علمها، ثم أمر بفتح الباب لأهل القراءة، فترى هذه القوة وبركة الأوقات الخارقة للمعتاد.
ومن ذلك أني عرضت عليه الحسابات والتقريرات والتذاكر وأهلها فكانت فوق مائة ألف وستين ألفا، فأقسم بالله أنه أمرها على نظره الكريم نظر تحقيق وسؤال عن كل شيء باسمه في ساعة أو ساعتين، وأثبت شيئا وأبدل غيره بتحقيق، وما حصلناها إلا بليال مع معاونة كاتبين:
وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد(2)
صفحه ۱۰
خصائصه وأما خصائصه وكراماته الباهرة، فكان كثير الإخبار بما يقع كما تراه في عمارته [5أ] للبيت الذي عمره لمولانا: أحمد بن الحسن(1) أيده الله(2) وهو في بلاد يافع(3) وأياس ما يرجى من عوده. ومنها في صنعاء لم يرض أن يضع لأحد شيء من قانونها أو بيوتها قبل فتحها، وكان يقول من وقته وبعد الإطلاع عليها ويخبر بفتحها وفتح غيرها.
وأما في البحث عن الغائب والظالة ونحو ذلك، فكان نادرة حتى يظن كثير أن ذلك من نحو التوابع من الجن، فلا يكاد يخفاه شيء من ذلك، وربما ذلك رؤيا صادقة كما أخبرني مولانا الحسن رحمه الله تعالى، وقد سألته عن مثل ذلك لحي والده الإمام -عليه السلام- فقال: ما أظن والله أعلم إلا أنه لرؤيا يراها أو دعاء يستروح معه الإجابة، وهذا من ذلك والله أعلم، وهذا باب واسع وقد يأتي من ذلك كثيره في السيرة.
كراماته
وأما كراماته، فكان مجاب الدعوة لا يدعو غالبا بخير إلا حصل، ولا يدعو على ذي شر إلا وهلك، من ذلك: قضية شمس الدين الطلقي من جنب، فكان وصل إليه إلى حبور أيام والده الإمام المنصور بالله-سلام الله عليهما-، وأحسن إليه وقربه، وأراد أن يفتح على يده بلاده، فخان(4) وصار إلى الترك أقماهم الله فدعا عليه، فما كان تمام الشهر إلا وقتلوه بالخازوق، وصفته كما تقدم في سيرة والده-سلام الله عليه- أنهم ينخرون(5) خشبة ويدخلونها من دبر الرجل حتى يخرجوها من فيه لعنهم الله. ومن ذلك قضية محمد بن إبراهيم من أهل شهارة الفيش، كان من كبار الجند الإمامي وأهل النجدة، فغاضب الإمام -عليه السلام- في شيء، فأراد الإمام يؤدبه وقد تناول عصا، فقبض على يده حتى آلمه بالقبض، فدعا عليه فجن من حينه، وبقي مدة حتى عفا عنه وشفي.
صفحه ۱۱
ومن ذلك أن رجلا يسمى مسعود بن سيلان بن قاسم بن شايع من الأهنوم غاضبه كذلك وأخذ سلاحه وقال: هو قرنه إن خدمه وصار إليه ويريد اللحوق بالترك لعنهم الله فانبطح من حينه عقيب قوله وخر صريعا وأفاق بعد ذلك وتاب.
ومنها ما أخبرني الفقيه الأفضل جمال الدين: علي بن قاسم الأهنومي المعروف بابن الملك أنه أخبره الفقيه الفاضل هلال بن قاسم عم المذكور أنه أخبره [5/ب] من فيه أنه وصل إلى مولانا محمد -عليه السلام- إلى حبور أيام الإمام المنصور بالله -عليه السلام- فأغاضه بكلمة، فذهب ليلحق بالترك إلى السودة، فوصل إلى ما يقرب من المدائر، ودخل سقاية من سقايا الطرقات ليشرب الماء فخاض الماء، فإذا باب السقاية منسد بثعبان عظيم فاتح فاه قد ملأ الباب، قال: فأخذت الخنجر والدرقة لأدافع عن نفسي ثم عرفت عدم الطاقة لذلك، وعرفت ما كان مني إلى ابن الإمام -عليه السلام- ثم تبت عما فرط مني فيما بيني وبين الله تعالى واستغفرت، فما كان بأسرع مما انصرف عن الباب ذلك الثعبان ولم أره بعدها.
قال الفقيه علي المذكور: وسماع هذه القضية مشهور شائع في تلك النواحي انتهى وآخران ........ (1) من الأهنوم من شهارة الفيش لحق بالعجم فدعا عليهما فهلكا.
ومن ذلك قضية الجراد في حرب عولي كما سيأتي إن شاء الله، وأما العقوبة لمن كتمه حقا أو منعه واجبا أو مطلبا فلا ينحصر لكثرته يعرفه القريب والبعيد، واشتهر في اليمن وانتشر من ذلك أن كل أنعام يخفيها صاحبها أو يتحيل في إسقاط زكاتها أو الإعانة(2) منها تهلك وتنقطع حتى إذا أخفى السخل(3) هلك، وكذا زكاة النحل وغيرها، ولو نذكر ما كان من ذلك عندنا وباطلاعنا لطال كيف في جميع البلاد، وذلك أنه -عليه السلام- يتحرى في الصرف كما يتحرى في الأخذ، فلا يضع ولا يرفع إلا بعد النظر الصحيح، وتحري الأقرب إلى رضى الرب سبحانه.
صفحه ۱۲
وفي هذا التوقيع من السيرة كثير تجده فيها: حفظت شيئا وغابت عنك أشياء(1)
قال مولانا السيد العلامة شمس الدين: أحمد بن محمد بن صلاح الشرفي نفع الله به: ومن كراماته -عليه السلام- ما رواه الفقيه الفاضل: عبد الله بن إبراهيم بن سلامة أنه رأى في النوم عقيب وفاة الإمام المنصور بالله -عليه السلام- في اليوم الثالث منها قال: لما بلغ وفاة الإمام وقع مع الناس ما وقع من الغم والكرب وهون ذلك بقيام الإمام المؤيد بالله -عليه السلام- مقامه، فبقيت تلك الليلة مفكرا في نفسي وقلت: إن المؤيد بالله دون والده في العلم، فرأيت [6/أ] كأني سرت أنا وبعض الأصحاب إلى مكان، فلما وصلنا بالقرب إلى ذلك المكان، فإذا نحن(2) بحنش أبيض قصير يخرج من موضع ثم يدخل فيه مرة بعد مرة وهو يتنحنح مثل تنحنح الرجل، قال: فرجمته بحجر فلم تصبه، فقال: لولا حجار بلادكم لأكلتكم أحناش منع، فقلت: ما نسمع بمنع إلا أن يكون ينبع فقال الحنش: نعم اسم ينبع منع، وأقسم الحنش بيمين نطق بها بالجلالة فقال: والله لقد قالت بإمامة الإمام محمد الجن والإنس.
ومنها ما حكاه السيد الفاضل علم الدين قاسم بن نجم الدين أيده الله قال: وجدت في لوح أضحية مكتوبا بخط بين الإمام محمد أمير المؤمنين.
صفحه ۱۳
ومنها لما وقع الحرب بين آل عمار وسحار، واشتدت الفتنة بينهم وكان التعدي من آل عمار كما سنذكره من بعد إن شاء الله تعالى، ووقع مع آل عمار هزيمة كبيرة وقتل منهم جماعة، فاجتمع رأيهم على أن يصرخوا بجميع قبائل حاشد وبكيل لادعائه بهم(1) أنه منهم، فأرسلوا جماعة منهم لتنكيف هذه القبائل حتى وصلوا إلى بلاد بني صريم، وخارف، وسفيان ووادعة، والعصيمات، وقبائل الأهنوم، وبلاد برط، وأملح، وغير هؤلاء(2) حتى وصلوا إلى مشارف برط، وأسعدهم بعض هذه القبائل، واجتمع خلق كثير، فلما قربوا من صعدة ومرادهم أن يحاربوا قبائل سحار، فما زال ولد الإمام السيد الهمام شرف الإسلام يدافعهم بالكتب ويعرفهم أن آل سحار لا حجة عندهم، وأنه لا يرضى أن يصدر إليهم مكروه، فأسعده بعض القبائل، فلما رأى ذلك أرسل من عسكره جماعات في مواضع متفرقة مسعرين الحرب لمن قصدهم فحينئذ أجمع جميع القبائل، ورجعوا كل إلى بلاده، ووصل بعض مشائخهم إلى ولد الإمام، وكان من أعظم من ألبهم وجمعهم وأظهر الفساد والعناد رجل من آل عمار يسمى الشيخ واصل بن الشيخ، فلما وصل إلى بيته راجعا من تنكيفه حم ليلة واحدة فأصبح ميتا فأيقن الناس جميعا بهذه الكرامة.
ومنها أن رجلا من أهل حقل لما ذكر عنده الإمام المؤيد بالله -عليه السلام- قال: لا أرانا الله وجهه، فأصبح اليوم الثاني مريضا، ثم مات عقب [6/ب] ثلاثة أيام أو نحوها.
ومنها أن الأتراك جروا المدافع من صنعاء إلى عمران يريدون الرمي به على أصحاب الإمام -عليه السلام- في موضع قريب من عمران يسمى درب الموجمة فرموا به أربع رميات، ثم انفض في الخامسة وبطل نفعه لهم، ثم جروا مدفعا آخر فرموا به رمية واحدة، ثم انفض من وسطه وبطل نفعه لهم ولم يقع في المجاهدين منهما ضرر.
صفحه ۱۴
ومنها أن رجلا من آل عمار يسمى علي بن أحمد كان ممن منع العسكر الذين جهزهم الإمام -عليه السلام- إلى بيشة صحبة الشريف حسين بن مغامس كما سيجئ إن شاء الله، وأرجف عليهم ومحقهم وهرب فجرى بينه وبين أصحابه خصومة، فقتل وقتل معه غيره وبعض من كان من قبيلته الذين لحقوا العسكر أصابه الله بعلة في عينيه، ثم أراد السيد أحمد بن المهدي القبض عليه فوثب من طاقة فقصم ظهره.
ومنها ما أخبر به الفقيه الفاضل العالم شمس الدين أحمد بن يحيى الآنسي عافاه الله قال كرامات عظيمة لإمام زماننا المؤيد بالله- سلام الله عليه- ينبغي أن تكتب ظهرت أيام فتنة ابن راجح:
الأولى: أنه كان لرجل من المخادعين(1) بيت عظيم فلما أراد المجاهدون أن يحرقوه بذل لبعضهم شيئا على سلامته فأحرقوا حواليه وأحرقوا بعض ما يكون من شرافاته وتركوه، فنزلت صاعقة عظيمة أحرقته وأخربته بجرثومته.
الثانية: أنه(2) كان بعض المجاهدين(3) يسبه كثيرا فقتل في الحرب فأراد بعض المجاهدين أن يقطع رأسه فوجد لسانه قد أخذته الرصاصة إلى موضع بعيد فبقي الناس يعجبون من ذلك.
الثالثة: كانت امرأة تهجو أصحاب الإمام في مسرحها بكلام مزدوج يشبه الرجز، فاتفق أنها في بعض الأيام علت فوق صخرة فانكفأت بها فطاحت ولحقتها تلك الصخرة فوجدوا رأسها مرضوخا بين الصخرة والصفا.
ومنها أن بعض أولئك المحاربين مما يلي مكاننا أغار ودعا إلى أصحابه الذين وراءه أنهم يلحقونه بالحبال يحمل بها أبواب مسجد القاضي أحمد بن يحيى فوقعت في قفاه رصاصة وخرجت من فيه، وأخذت بعض أضراسه وأسنانه، وعاش ولم يمت من الرصاصة، وبقيت حياته التي هو فيها من الشناعة [7/أ] عبرة لمن رآه.
صفحه ۱۵
ومما نقله القاضي العلامة صفي الدين أحمد بن سعد الدين ما لفظه منقول من خط سيدنا القاضي العلامة عين العلماء الأكابر شمس الدين أحمد بن يحيى بن حابس طول الله عمره ما لفظه: رفع إلي بعض أهل الخير ممن لا يلمح إليه بتصنع أنه كان إلى ليلة الإثنين ثالث شهر شعبان سنة ستين وألف ورأى هذا الرجل الجيد رؤيا عظيمة غلبة الظن صدق ما اشتملت عليه، وأنها مندرجة من النوع الثالث(1) من أنواع الوحي وهي هذه:
قال الرائي: رأيت هذه الليلة أني في مسجد واسع بلا سقف بجدرات(2) وفي الجدرات أبواب كثيرة وإذا في المسجد رجل منفرد فسألته له: ما هذا المكان؟ فقال: هذا مسجد الفضلاء يصلون فيه فقف(3) حتى يدخلوا يصلون.
قال الراوي: فوقفت وإذا بمؤذن في الجو بين السماء والأرض يؤذن بالأذان المعروف وحين فرغ من الأذان رأيت كل باب يفتح وتدخل منه جماعة عظمى قاصدين للصلاة، فتقدم إمامهم وهو رجل ضخم يزيد جرمه على من في المسجد وعلى شكل سائر الرجال المعروف بإيوان كثيرة بحيث لا يرى في الرجال مثله، فصلوا، فلما فرغوا من الصلاة خرج كل زمرة من بابها التي دخلت منه ولم يبق إلا ذلك الإمام وذلك الرجل الذي وجدته أولا.
قال الرائي: فقدمت(4) إلى ذلك الرجل فقلت له: من هذا الإمام للجماعة؟ فقال: أوما عرفته هذا الإمام القاسم -عليه السلام-.
قال الراوي: فتقدمت إليه وسلمت عليه وسألته أن يدعو لي، فدعا لي وقال: أنت فلان بن فلان وصلت إلينا أنت وعمك فلان إلى صومل، قال: وصدق -عليه السلام- فإني وصلت في صغري أنا وعمي إليه كذلك، فقال: عمك المذكور من أهل الجنة.
صفحه ۱۶
قال الرائي: ثم سألت الإمام -عليه السلام- عن الإمام المؤيد بالله -عليه السلام- لأسلم عليه، فكان جوابه علي يا مسكين أو يا رحمة وأين محمد؟ ما بلغنا درجته وأشار بيده إلى الجو على حد ما يفعله المعظم للشيء، ثم قال القاضي أحمد بن يحيى حفظه الله: والله على ما نقول وكيل. انتهى.
ومنها ما أخبرني الفقيه الفاضل العالم [7/ب] محمد بن ناصر بن دغيش أطال الله بقاه عن السيد المجاهد العالم محمد بن أحمد بن أمير المؤمنين الحسن بن علي(1) أن الإمام -عليه السلام- كان مشفقا من عود الترك أقمأهم الله إلى اليمن بعد فتح بغداد في عام ثمان وأربعين، وكذا مولانا الحسن، ثم مولانا الحسين.
قال: وكنت عنده -عليه السلام- عقيب وفاة مولانا الحسن رحمه الله فلما تودعته قال لي: سلم على الصنو الحسين وقل له من أجل السلطان مراد وما كان عليه فقد كفى الله شره ورفع عن المسلمين ضره أو كما قال.
قال: فقلت في نفسي ومن أين هذا الخبر البعيد عن الأذهان والأبدان؟ قال: وعرف ما في نفسي فقال: يا ولدي لا توهم إني أعلم ما سيأتي أو أن لي غير الثقة بالله فما والله ذلك إلا حسن ظن في الله سبحانه وتعالى وأنه يرحم هذه البلاد التي قد طهرت من رجسهم وقد عاثوا في المسلمين في العراق فما سلطهم الله على اليمن بعدها أو كما قال، ولأجل النظير إذا ذهب نظيره، وهذا الذي راموه ما كان له إلا الله سبحانه وتعالى والصنو الحسن رحمه الله وحيث قد ذهب فما يبقيه الله بعده، ثم فاضت عيناه عند ذكر الحسن، وهذا من حسن الثقة بالله. فما كان أياما قلائل إلا والخبر يأتي بموت المذكور بعد تمام أخبار بغداد. انتهى.
صفحه ۱۷
ومنها ما سمعته ورأيته في بلد وعلان من سنحان أن شيخا من بني القطاش عرفته شخصا واسما أضافنا ورأيت إلى جنبه ولدا اسمه محمد وهو في حركاته يدعو للإمام فسألته فقال: لي مال ومكالف(1) ولم يكن لي ولد فحملتني الشفقة واليأس من الولد إن قصدت الإمام وشكوت عليه فحملت امرأتي بهذا الولد مع وصولي من عنده وسميته محمدا وأظن أن الإمام الذي عهد إليه بتسميته.
ومنها ما أخبرني الحاج محمد بن مسعود الحاجب قبل وفاة الإمام المنصور بالله -عليه السلام- بنحو عشرة أيام فقال: رأيت شخصا بهيا يطوي رايات الإمام القاسم -عليه السلام- ويجمعها على أنه يحملها أو يختم عليها فقلت له: لما فعلت وأنكرت عليه؟ فقال: هذه رايات الإمام محمد عوضها فنشر رايات كبارا أبهى من أولئك وأطول وهي حرير أحمر وأخضر.
[8/أ] ومنها ما أخبرني حي السيد الفاضل صالح بن ناصر من جبل بيش بعد وفاة الإمام القاسم أنه رأى قبل موت(2) الإمام أن نملا كثيرة خرجت من موضع في شهارة حوالي بركة الطوف وهي تنادي المؤيد محمد المؤيد محمد.
صفحه ۱۸
ومنها ما أخبرني سيدنا القاضي العلامة شمس الدين أحمد بن سعد الدين أطال الله بقاه أن الإمام -عليه السلام- في أيام حصار زبيد مرض مرضا شديدا، ومرض أعوانه ومات بعضهم، واشتد به الأمر وحضر وقت إرسال أرزاق عسكره -عليه السلام- الذين في حصار زبيد فجمع الذي قدر عليه، وبقي أكثر من ألف حرف لم يجدها، وطلب القرضة فلم يحصل وقام من مجلسه بين اثنين من الضعف، ثم أغلق على نفسه وقد قلت له -عليه السلام- إن فلانا وفلانا من أهل الهجر منهم الفقيه صلاح بن سهيل لهم محبة وقدرة على القرض لو كتبت إليه يبذلون وسعهم، فقال: اكتب وأرسل رسولا معتادا لمثل ذلك، وكان ذلك بين الظهر والعصر وقمت من عنده -عليه السلام- على مثل ما تقدم وقد وقع معي ما شاء الله من حاجته وقلته مع المرض، فقلت: لو كنت الرسول ثم عدت عليه(1) وقد اشتدت به الحمى وعظم عليه حتى يقال: لا يكاد يعقل من شدة ذلك فناديته فتنبه وسألني فأخبرته بما رأيت من الرؤيا فقام باكيا وقال: توكل على الله ودعا بما أرجو من الله قبوله وقد دخل وقت صلاة العصر بكثير، وطلبت مركوبا فما وجد إلا بغلة ضعيفة رزوم وأنا لم قد صليت فقلت لعلي: أدرك الصلاة في غيل حوالي رجح موضعا معروفا، فوصلته وصليت وإذا الشمس مرتفعة، ثم عزمت وبارك الله في البغلة وأقول أصل الهجر بعد صلاة العشاء الأخيرة ، فوصلت الهجر والشمس باقية والمسافة بعيدة ورآني الأصحاب فاجتمعوا، ووصل الرسول الذي كان متجردا إليهم وقت غروب الشمس، فلمته على تقصيره وأمرت بحبسه، فأقسم بالله أنه صار عادته وجاء(2) طريقا أقرب من طريقنا وهذه الزيادة في النهار، وقطع هذه المسافة في هذا الوقت اليسير[8/ب] من الخارق للعادة قطعا، ثم قضى الغرض ويسر الله ذلك، وذكر كثيرا(3) يشبه هذه. انتهى.
صفحه ۱۹
زهده [22]وأما زهده فكان معروفا بالزهادة مجبولا عليها بحيث أنه مع سعة سلطانه وعموم صلاته وإحسانه كما يأتي إن شاء الله بعض الإشارة إلى جملها.
كان يلبس قميصا واحدا ضيق الكم وعمامة واحدة حواشيها القطن للجمعة، وقد ربما تخرق فيأمر برقعها. وكذا مأكله ما له قاعدة كما تقدم، وله في هذا ما يطول به الشرح، ولقد كنا نفد عليه من عند مولانا الحسن رحمهما الله تعالى، وكنا نرى ثيابنا دون الأصحاب فإذا رأيناه استحيينا من لباسنا مع لباسه فكأنما على ظهورنا الشوك.
ورعه
وأما ورعه فمما يضرب به المثل وأنه كان تصله النذور الكثيرة فيخرج ثلثها لبيت المال مستمرا وربما أخرج النصف وربما وصرف الباقي في بعض مصارف بيت المال فكان تراه كثيرا يتأمل الحقير من المقبوض أو المعطا، ويراجع نفسه، وربما يظهر بلسانه، وربما يرجع مما هو مباح.
كرم أخلاقه
وأما كرم أخلاقه وسعة صدره وحلمه فإنه يلطف بالغريب واليتيم والأرملة وأهل الحاجات حتى يخلط نفسه بهم كما سيأتي إن شاء الله بعد ذلك، ويخاطب أكثرهم بلغتهم ويعلمهم معالم الدين مستمرا حتى إذا عرف من هو من كبراء الناس جاهل الحكم وجه الخطاب إلى غيره ليسمع ذلك لئلا يأنف من التعليم، وربما أوهم الرجل بالصلاح وأن أهله وخدمه يصلون آمرون بالمعروف ناهون عن المنكر لرجاء قبول التعليم، وكان يسمع من كثير منهم الأذى والبذا فيصبر عليهم ويرشدهم على قدر ما يحتمله أفهامهم من البيان، إما الأدلة العقلية والسمعية أو العرفية التي يعرفها أولئك وتحتملها طباعهم.
أخبرني القاضي شرف الدين الحسن بن علي الأكوع عافاه الله تعالى أنه سمع الإمام يقول: أنه سمع قوما من أهل شهارة في أيام الحوزة في خلافة أبيه -صلوات الله عليه- يقولون لبعضهم بعضا سيروا بنا إلى هذا الكذا [9/أ] بما لا يجوز تصديره ابن الكذا(1) حسبهم الله وقاتلهم أن يعطينا كذا وإلا(2) كان كذا.
صفحه ۲۰