جوهر انسانیت
جوهر الإنسانية: سعي لا ينتهي وحراك لا يتوقف
ژانرها
فيما يتعلق بالبيئة، فإن زراعة محاصيل تقاوم الجليفوسات، مثلا، أو تحتوي على السم المستخرج من البكتيريا الممرضة للحشرات (سنتحدث عن هذا بعد قليل)، تفيدها على نحو مباشر. على أي حال، ألا نستخدم ثمار التكنولوجيا الحيوية في المنزل والحديقة طوال الوقت دون وجود عواقب خطيرة؟ فإذا كانت لديك رقعة مزروعة خضراوات، هل أنت متأكد من عدم لجوئك قط إلى أي إجراءات من أجل القضاء على الحلزون الذي يتغذى على الخس والكرنب الذي تزرعه؟ وإذا كنت تملك حيوانا أليفا، ألم تستخدم أبدا دواء «فرونت لاين» (فيبرونيل) أو دواء «أدفنتيج» (إيميداكلوبريد) من أجل القضاء على البراغيث التي تصيب قطتك، أو دواء «إنترسيبتور» (ميلبيمايسين أوكسيم) من أجل القضاء على الديدان التي تصيب كلبك؟ ألن تستخدم أدوية مشابهة إذا اكتشفت إصابتك ببراغيث أو ديدان؟ أمتأكد من أنك لم تستخدم رشا للذباب في المناخ الحار، أو تستخدم - إذا كنت تعيش في إحدى الولايات الجنوبية في الولايات المتحدة الأمريكية - الهكسافلوميرون أو مسحوق بيرميثرين ضد النمل الأبيض الذي يمكنه تدمير أساسات منزلك إن لم تفعل هذا؟ يأتي رد المنتقدين على هذا: أجل، لكن هذه كلها إجراءات قصيرة الأمد؛ فهم يرون أنهم لا يغيرون البيئة على نحو دائم. لكن أليس هذا ما يفعله الإنسان بالضبط منذ بدأ في تقطيع الأشجار، وتربية حيوانات أليفة، وحراثة الحقول منذ عصر الهولوسين فصاعدا؟ هل تعتقد حقا أن البيئة كانت تشبه حينها ما هي عليه في عصرنا الحديث ولو من بعيد؟ أعتقد أن التدمير المتعمد لمساحات شاسعة من الغابات المطيرة الطبيعية أمر مستهجن؛ فهو لا يؤدي فقط إلى خسارة أنواع قيمة من النباتات والحيوانات، بل إلى زيادة مستوى ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي من خلال منع امتصاص أوراق الأشجار له؛ ومن ثم يسهم هذا في الاحترار العالمي عبر تأثير «الصوبة الزجاجية». ولأن ثاني أكسيد الكربون يطلق باستمرار في الغلاف الجوي نتيجة للأنشطة التي يمارسها الإنسان،
15
فيؤدي الافتقار إلى إعادة امتصاصه عبر قطع الأشجار إلى تغير واضح في درجة الحرارة. على سبيل المثال، في حوض نهر الأمازون وحده، أصبح معدل تضاؤل حجم الغابات المطيرة مثيرا للقلق؛ ففي عام واحد فقط (1996) فقد نحو 18 ألف كيلومتر مربع، ويضاف إلى ذلك مساحة من 10 آلاف إلى 15 ألف كيلومتر مربع من أوراق الأشجار نتيجة لتقطيع الأشجار داخل الغابة نفسها. ومع ذلك، فإن مثل هذا العبث بالبيئة لا يشبه الاستعاضة عن الذرة بطيئة النمو بنوع سريع النمو.
تشهد أوروبا حاليا احتجاجا عنيفا بشأن نبات تفل العنب؛ فلا يمكن لأي مسافر عبر أوروبا أو أمريكا الشمالية ألا يلاحظ الحقول ذات اللون الأصفر الزاهي في بداية فصل الصيف، وهذا نبات الشلجم أو الكانولا، أحد أقارب نبات الخردل؛ حيث حل نبات الشلجم تدريجيا محل محاصيل الحبوب في نصف الكرة الشمالي، ومنذ ذلك الحين بدأت أسعار هذا النوع من الحبوب ينخفض نتيجة لفرط الإنتاج. يتسم الشلجم بغناه بالزيوت، التي تستخدم في أطعمة الحيوانات، وفي صنع السمن الصناعي، وزيوت الطهي ومنتجات أخرى. وعند اكتشاف أن معظم حبوب الشلجم «الخالية من التعديل الجيني» التي زرعت في أجزاء من أوروبا كانت تحتوي بالفعل على نسبة مقدارها نحو 1٪ من الحبوب المعدلة جينيا،
16
اشتد غضب المحتجين. فتحدثوا بغضب عن الأخطار المحتملة على البيئة وبدءوا في تدمير الحقول. ولم يكونوا بحاجة إلى فعل هذا؛ فمن أجل تهدئتهم أصدرت الحكومة البريطانية وحكومات دول الاتحاد الأوروبي أمرا بتدمير المحاصيل - 12 ألف فدان في المملكة المتحدة وحدها - ودفعت تعويضا للمزارعين؛ فقد طغى الخوف من فقدان الأصوات الانتخابية على إرهاق الإقناع وصعوبته؛ فهذه في النهاية مجرد أموال دافعي الضرائب التي تعوض ضعف الوزراء. ومع ذلك لم يكن يوجد أي دليل على أن بذور الشلجم المعدلة جينيا تشكل تهديدا على البيئة. ماذا كانت طبيعة محتوى البذور المعدلة جينيا التي بلغت نسبتها 1٪؟ كانت تحتوي على جين يجعل النبات - سواء كان شلجما أو ذرة أو صويا - يقاوم مبيد الأعشاب الضارة الذي يسمى جليفوسات. بعبارة أخرى: يؤدي التعديل الجيني إلى مجرد «حماية» النباتات التي تزرع ضد منع نموها نتيجة لاستخدام الجليفوسات. يعتبر الجليفوسات مبيدا آمنا ورخيصا وفعالا للأعشاب الضارة، لكنه ليس انتقائيا ويقتل كل النباتات النامية؛ ومن ثم يكون استخدامه في الزراعة محدودا، إلا إذا أمكن التوصل إلى كائنات تقاومه؛ وهذا ما حققته تكنولوجيا التعديل الجيني بالضبط. فمثل هذه المحاصيل المعدلة جينيا لا تمثل تهديدا على الحيوانات أو البشر أكثر من الجليفوسات نفسه؛ يرجع هذا إلى أن التمثيل الغذائي لدى الحيوانات يختلف عن الموجود لدى النباتات من حيث التفاعلات التي يمنعها الجليفوسات، فلا تتأثر الحيوانات ولا البشر لا بتركيب جينات مقاومة الجليفوسات ولا بمنتجاتها.
ماذا لو انتقل جين المقاومة بشكل أو بآخر إلى محاصيل أخرى؟ سيكون هذا بالتأكيد أمرا جيدا؛ إذ سيجعلها تتأقلم بالمثل بسهولة مع رشها بمبيد الأعشاب الضارة. صحيح أنه يوجد احتمال لنمو «أعشاب فائقة» معدلة جينيا، لا تتأثر هي نفسها بالجليفوسات، لكن خطرها لن يكون أكبر من خطر تحول الأعشاب لتصبح مقاومة لأي مبيد آخر للأعشاب يستخدم حاليا. ومع ذلك يخضع ذلك الجيل غير المتعمد من الأعشاب الفائقة للمراقبة بعناية.
17
لا يزيد الخطر من تغيير البيئة عبر استخدام محاصيل معدلة جينيا عن الخطر الذي تسببه طرق الاستنبات التقليدية. فإذا انتقلنا لدقيقة من الافتراضات بشأن تكنولوجيا التعديل الجيني إلى الحقيقة، سيصبح الوضع واضحا. أدخلت البذور المعدلة جينيا في الزراعة منذ أكثر من 10 سنوات؛ وأجريت أكثر من 24 ألف تجربة ميدانية عليها في الولايات المتحدة وحدها، وطوال هذه الفترة لم تحدث حالة مثبتة واحدة من الدمار للبيئة (أو الصحة أيضا). وأنا أرى أن الحجج ضد إدخال جينات توفر مقاومة لمبيدات الأعشاب، ومقاومة للجفاف وللصقيع، وتؤدي إلى محاصيل أكثر، أقل ما يقال عنها إنها غير مقنعة.
ويستمر النقاش؛ ففترة عشر سنوات فترة قصيرة نسبيا لاختبار تكنولوجيا جديدة. فربما يكون للتعديل الجيني آثار غير متوقعة طويلة الأمد خارج سيطرتنا. انظر لما حدث مع جنون البقر في إنجلترا؛ أتذكر كارثة الثاليدوميد؟ توجد لمثل هذه الذكريات جاذبية عاطفية، لكنها تفتقر إلى المنطق. حدثت كارثة مرض جنون البقر بسبب تجاهل المزارعين للتقاليد القديمة، وجعل ماشيتهم تتغذى على جثث النافق منها؛ فكان لا بد لهم من معرفة أن أكل الحيوان لحيوان مثله ليس من أصول تربية الحيوانات الناجحة. وكان لا بد على الحكومة إنهاء العملية بمجرد معرفتها بها. يتمثل وجه التشابه بين كارثة جنون البقر والجدل حول التعديل الجيني في شك الناس في اختبارات أجريت في دولة مختلفة؛ فقد رفض الفرنسيون والألمان تقبل الاختبارات البريطانية التي أظهرت أن لحم البقر أصبح تناوله آمنا أخيرا (وربما لم تغب الفوائد الاقتصادية لحظر استيراد منتج منافسهم بالكامل عن تفكيرهم). وحاليا يتجاهل المعارضون للأطعمة المعدلة جينيا في أوروبا الاختبارات التي لا حصر لها التي تجرى في الولايات المتحدة الأمريكية.
صفحه نامشخص