مقدمة المؤلف
1 - الحياة الشاعرة
2 - الحياة الاجتماعية
3 - الحياة القومية
4 - الفكر والعمل
مقدمة المؤلف
1 - الحياة الشاعرة
2 - الحياة الاجتماعية
3 - الحياة القومية
4 - الفكر والعمل
جوامع الكلم
جوامع الكلم
تأليف
غوستاف لوبون
ترجمة
أحمد فتحي زغلول
مقدمة
بقلم توفيق الرافعي
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فهذا كتاب «جوامع الكلم» لنابغة الفلاسفة الدكتور غوستاف لوبون، قد لخص فيه كثيرا من آرائه في مؤلفاته على ما قاله في مقدمة هذا الكتاب وتراه مبثوثا في تضاعيف أسطره وثنايا أوراقه.
والدكتور غوستاف لوبون ليس بدعا من الفلاسفة، فقدما سارت حكمهم وأمثالهم مسير الشمس في الفلك والنور في الحلك يتناقلها الرواة ويشيد بذكرها الركبان، يرد نميرها الملك والأمير، ويهتدي بهديها الغني والفقير. هذا، ومكانة صاحب هذا المؤلف مكانته بين فلاسفة الغرب والشرق ومنزلته منزلته عند رجال الحكمة وأمراء البيان.
ولذا اعتنى علماء الأمم وكتابها بجميع ما خط يراع هذا الفيلسوف العظيم، وفي مقدمة هؤلاء الأستاذ العلامة المرحوم أحمد فتحي زغلول باشا.
فقد كان لهذه المؤلفات منزلة خاصة في نفسه، جعلته يحرص كل الحرص على ترجمتها وتعميم فائدتها، فنقل إلى اللغة العربية منها «سر تطور الأمم» و«روح الاجتماع» وهذا الكتاب، وحالت المنية بينه وبين إتمام ترجمة باقيها.
ولما كانت هذه الكتب مما تحتاج إليه الأمم الشرقية، لا سيما في أيام نهضتها ودور انتقالها، آثرنا إعادة طبعها ونشرها إلى الناس، فنشرنا لهم: سر تطور الأمم، وروح الاجتماع، وهذا الكتاب. والله نسأل أن يوفقنا لخدمة هذه الأمة والعمل لمصلحتها، والسلام.
القاهرة في مارس سنة 1922
مقدمة المؤلف
الغرض من هذا الكتاب تلخيص بعض الأفكار المنثورة في مؤلفاتي على اختلاف أنواعها، وإبرازها في صورة قضايا جامعة؛ لأن الصيغ المختصرة تأخذ باللب، وتبقى في الذاكرة، ولذلك شاعت جوامع الكلم في عالم الأدب.
يتناول العقل أكثر الحقائق المقررة عندنا، أعني ما يرتسم فيه من صور المعلومات على شكل أفكار موجزة، وما فتئ الناس يلخصون تجاربهم في قضايا وحكم ترسل أمثلة، هي جوامع كلم الأمم، فالمرء يفكر بواسطة القضايا الموجزة، ويسير في حياته مدفوعا بها؛ ذلك لأنها تعفيه من إطالة التفكير قبل الإقدام على فعل ما يريد.
بجانب هذه المزايا مضار. فالمثل خلاصة تقريرات ينبغي للمرء أن يستحضرها، فإذا سهل تصور الدليل، كان المثل صيغة من البديهي، وإذا عسر تناول ذلك تعذر فهم المراد منه، ويظهر من ذلك أنه لا يفيد إلا في استحضار الحقائق الإجمالية البديهية غالبا، وذلك هو الواقع في معظم الأمثلة، ولكني لم أحجم عن ضم بعض القضايا، وإن صعب إدراك الغرض منها وحدها لأول وهلة؛ لأنها مبسوطة في مؤلفاتي، فهذا المختصر جامعها.
غوستاف لوبون
پاريس: مارس سنة 1913
الفصل الأول
الحياة الشاعرة
(1) الخلق والذات
المرء مسير بخلقه لا بذكائه.
تتكون الذاتية من عناصر متنافرة غالبا، فوحدتها صناعية كوحدة الجيش.
روح الفرد مؤلفة من أرواح مجتمعة: روح الشعب، وروح العائلة، وروح الفريق الذي هو فيه عادة، وقلما أفلت من هذا الجمع المطبق عليه.
سبب تغير الخلق تغيرا فجائيا، طروء حوادث من شأنها إيقاظ إحدى الأرواح الكامنة فينا.
من المتعذر الحكم على مشاعر الإنسان بما قد يأتيه في أمر معين، فالمرء في حال ليس هو هو في جميع الأحوال.
إنما يعرف المرء عند عظائم الأمور، ولا سيما حين الفتنة (الثورة) فهناك تظهر مكنونات خلقه.
أصل ثبات الخلق ثبات البيئة.
قلما تكون الأسباب التي ينتحلها المرء لأعماله هي الداعية إليها حقيقة، وإنما هي تصلح لتعليل نزعاته الداعية إلى العمل الصادرة عن المشاعر أو التدين.
سبب تناقض خلق المرء، راجع في الغالب إلى مغايرة إرادته الشاعرة لإرادته اللاتنبهية.
قد تكون الفطنة والإرادة اللاتنبهيتان، أرقى من الفطنة والإرادة الشاعرتين؛ لذلك تجد من الناس من سقم رأيه وحسن عمله.
من ظن لغيره من المشاعر ما عرفه لذاته، فقد سد على نفسه باب معرفة الناس.
العادة تهدي المرء في كل يوم إلى ما يجب التفكير فيه وقوله وعمله.
المتردد لا يسير بمقتضى رغباته، بل بمقتضى ما يفترضه من ذلك لنفسه وقت اضطراره للعمل.
من لم يزاحم بإرادته، أضر غالبا بسكونه.
ليس الذي تكبر الجماعات شأنه متصفا حتما بما يعزى إليه من الأخلاق، ولكنه كثيرا ما يكسبها في النهاية.
قلما تترتب عظائم الأعمال على مجهود عظيم، ولكنها في الغالب ثمرة مجهودات صغيرة.
مثل «من قدر على الكثير قدر على القليل.» ليس صحيحا دائما؛ فذو العقل الكبير ينجح في العظائم أكثر مما ينجح في الصغائر.
الغرور علة رضا البليد عن نفسه، لأنه يسهل عليه أن يرى لنفسه من الفضائل ما لا يكون له أبدا.
من وثق من نفسه، غير محتاج إلى مدح غيره إياه. ومن طلب الثناء، فقد دل على ارتيابه في قيمة نفسه.
من انحاز لمذهب، فقد أضاع ذاتيته، ومن لم يكن من فريق فلا يطمحن إلى النفوذ في الناس.
أخطأ من قال إن كبار الأفكار تأتي من القلب، فمصدرها العقل. وإنما هي تستمد من القلب قوتها.
قلما اجتمع لامرئ خلق وذكاء، لذلك ينبغي له أن يختار أصدقاءه من أهل الخلق، ومعاشريه من أهل الذكاء.
روح من كان سريع التأثر كالبحر المائج: تنعكس فيه أشعة الأشياء في كل يوم بلون جديد.
ما أشبه العقول الكبيرة بالنباتات الضخمة التي تعظم بالمعالجة ويرجع خلفها على الدوام إلى المثال الوسط لنوعها.
لا يملك الإنسان رغباته، ولكنه يملك إرادته غالبا.
لا شيء يقف أمام إرادة قوية دائمة، حتى الطبيعة، حتى البشر، حتى القدر.
من كان له إرادة قوية، غلب أن يكون له رغبة قوية تدعمها، فالرغبة روح الإرادة. (2) الشعور والمعقول
المشاعر أس الحياة، فإذا ما حل التعقل محل الإخلاص والبر والحب والخيالات، وهي التي تسير المرء في الحياة، فقد انتفى كل داع إلى الحركة.
إنما ظهر شأن العقل في كوكبنا الأرضي متأخرا، فكم عاشت الكائنات وتقلبت بدونه.
تطور المشاعر مستقل عن الإرادة، وليس في طوع امرئ أن يحب أو يكره كما يهوى، وأقوى الناس نفسا لا سلطان له على ما فيه من إحساس وشعور إلا بقدر ما يكسر من حدتهما.
المشاعر قليلة التغير ولكن محلها متغير غالبا، ومن هنا يظنون أنها متقلبة.
ما أسرع تولد اليقين من الخيال في دائرة المشاعر.
قد يؤدي التظاهر بمشاعر كاذبة إلى اكتسابها.
قوة البديهيات الإحساسية، تظهر في عدم الاعتداد بالبديهيات العقلية.
قد تجتمع في النفس الواحدة معقولات شتى، كالتي منشؤها الدين والشعور والعقل، ولكنها لا تأتلف أبدا.
إنما يعالج الشعور بالشعور، أو يتصور الشعور في الذهن. ولكن المعقول لا ينجع فيه.
ما يأتيه المرء كبرا، أكبر مما يأتيه وجوبا.
دوافع الشعور والاعتقاد أشد فعلا في سيرة المرء من مستظهرات العقل كلها.
إذا لم يكن للرأي سند من الشعور أو الدين، بطل فعله وأشبه الطيف لا نفوذ له ولا قوة ولا بقاء.
حياة الأمم قائمة على المشاعر والمؤثرات الدينية والاجتماعية.
صحة الأمر عقلا لا تقتضي الأخذ به دائما. (3) اللذة والألم
ما عرف المرء إلا حقيقتين مطلقتين: اللذة والألم، فعليهما تقوم حياته منفردا ومجتمعا.
ما اهتدت الشرائع الدينية، ولا القوانين الاجتماعية، إلى أس تدعم به تعاليمها، إلا رجاء اللذة وخوف الألم: فعقاب أو ثواب، وجنة أو جحيم.
أطوار الشعور محدودة؛ لذلك لا يلبث المرء أن يصل إلى غاية اللذة أو منتهى الألم.
لكثرة تجدد الإحساس بذاته أثر نفسي، قد نسميه قانون الفتور وهو يلجئ إلى تنويع الرغبات غالبا.
يعترف المؤمنون بأن شدة الشوق إلى الجنة آتية من خوف الجحيم.
اللذة عارضة، والرغبة أبقى؛ لذلك يقاد الناس برغباتهم، أكثر مما يقادون باللذات.
الغالب في السعادة أنها أمل محقق ولما يتحقق.
الرجل الذي يعمل بمشورة البوذية، فيقتل الرغبة في نفسه، يفقد كل باعث له على العمل.
الرغبة مقياس مقدرة الرجال. وخيال كل أمة جامع رغباتها.
أكبر قواد الرجال خلاقون للرغبات. وما المصلحون إلا قوم يحلون رغبة محل رغبة.
لولا الأمل في السعادة الوهمية، والأسف على عدم تحقيق ما يتصور منها، لسئم الناس طول الحياة.
الرجل العاقل يملك نزعات قلبه كلها، غير أن العقل لا يقتضي السعادة حتما.
السعيد نفور من مرأى التعاسة. وقلما تدوم المحبة بين شقي وسعيد.
الجذب والدفع يحكمان تطور العوالم كلها. والحب والكراهية صورتان منهما يسودان تطور الأشخاص .
ما طول الحياة بعدد سنيها، بل بتنوع المشاعر في مداها. (4) الروح النسائية
خلقت المرأة أشد تأثرا بالمشاعر والدين منها بالمعقول.
الغالب أن الإلهام فوق العقل. فبه تفطن المرأة، وإن ضعف معقولها، إلى أمور لا يفقهها الرجل قويم النظر.
النساء حساسات أكثر منهن متعقلات، فلا يحسن حالهن بقهرهن على إطالة التفكير.
تفضل المرأة الرجل أو يفضلها على حسب متعلق حركة كل منهما. ولكنها لا تساويه في موضع منها.
ليس للمرأة في عالم الفنون والأزياء إلا ذوق مستعار.
لا تغتفر المرأة للرجل أن يستنبط ما يجول بخاطرها من خلال كلامها.
إما أن تسود وإما أن تساد، كذا شأن النساء ولا وسط.
من المتعسر الإعراب عن المشاعر بألفاظ مناط معانيها العقل، فمحاولة تعقل الحب ضرب من الهذيان.
لو صح للنساء كسب فضيلة الإخلاص، لفقدن سلطانهن على الرجال.
قلما يصدق الرجل المرأة إلا إذا كذبت، وهو بهذا يلجئها إلى الكذب غالبا.
إصرار النساء والسياسيين عادة على إنكار البديهيات، هو أهم الأسباب التي تحمل الناس على الشك فيما يقولون.
تلوم النساء الرجال لكونهم لا يفهمونهن، وأي عقلين تنافرا وتفاهما؟
إنما يطيب المرء في الحب بالكلام هربا من سماع معقول.
الحب يرفع أو يخفض، ولا يدع المرء كما كان.
لا تزال أفعال المرأة صادرة عن الإلهام، لذلك تفضل الحب وإن كان خاملا، على المجد وإن علا.
عجبا للحب يخاف الريب، والشك ينميه، واليقين يميته.
أبقى المشاعر أكثرها اعتدالا، والإفراط في الحب مهدد بسرعة الضجر منه.
بشر الحب إذا أبصر بالزوال.
من يحاول استبقاء حب ينصرم، كمن يحاول استبطاء تعاقب الأيام. (5) الآراء
آراؤنا على الدوام مقدمات لمعتقدات تتكون ولما تستقر.
مصدر الرأي إما شعور أو دين أو عقل، والأخير أندرها.
رأي السواد الأعظم من الناس ليس قائما بالدليل، بل مبناه كراهية، أو عطف، أو رجاء.
البيئة تلد الآراء، والشهوات والمنافع تقلبها.
معظم الناس ضعيف عن الرأي الذاتي، ولكنه يتناول ما يختمر من الرأي في عشيرته.
قل من يقدر على النظر في الأشياء على حقيقتها: فمنهم من لا يرى إلا ما يريد، ومنهم من لا يرى إلا ما يريه غيره إياه.
لا يتحصل للمرء مدى الحياة خمسة أفكار ذاتية أو ستة إلا إذا كان عقله مطلقا من كل قيد.
السبب في أن الآراء السقيمة أعلق بالنفوس، كونها قائمة على شعور أو دين، مما لا سلطان للعقل عليه.
قد يتغير الرأي هنيهة من مطالعة كتاب، ولا تلبث الآراء اللاتنبهية أن تعود إلى سلطانها.
التشدد في الرأي يغلب على التسامح فيه؛ لأن الأول مبني على الشعور أو الدين، والثاني مبني على العقل.
عدم التسليم برأي مبناه الشعور أو الدين، تقوية له.
لا تخلق الجماعة الرأي، ولكنها تكسبه قوة؛ لأن رأي الجماعة شديد العدوى.
قلما تجد في هذا الزمان صحيفة بلغ من استقلالها أن تسمح لمحرريها برأي من عندياتهم.
فقدان ملكة النقد، يسهل قبول الآراء العامة اللازمة في حياة الأمة، فإذا انتشرت روح النقد في كل فرد من أفرادها، حان حينها.
قوة الرأي إذا عم لا تصد: من أوجده ملكه، ومن لم يقدر على إيجاده وجب عليه أن يذعن إليه. (6) الألفاظ والصيغ
لا مقابل للشعور من العقل، فلا يتيسر الإعراب عنه بلفظ مناطه العقل. وعليه يتعذر ترجمة المشاعر بالألفاظ ترجمة دقيقة.
من الألفاظ ما يشعر بوجود أفكار عدة لا تتناولها تلك الألفاظ.
إذا شاع اللفظ تشعبت معانيه، بحسب معقول مستعمليه.
لا دواء لعدم التفاهم بين من اختلفوا جنسا ومكانة، وذكورة وأنوثة؛ فاللفظ بذاته يثير في نفس كل معنى خاصا، فكأنهم لا يتكلمون لغة واحدة.
ليس للألفاظ الدالة على صور ذهنية في لغة، ترجمة محكمة في لغة أخرى، فاللفظ يدل على صورة عند أمة، وعلى صورة تخالفها عند أمة أخرى.
قد تثير الألفاظ الواحدة معاني مختلفة، في نفوس الذين تباين معقولهم، وتلك علة الخلف بين الأمم في أحوال كثيرة كما رواه التاريخ.
من ضرورات فن سياسة الأمم، معرفة طائفة من الألفاظ المؤثرة؛ لأن فعلها أشد من فعل الأدلة العقلية غالبا.
لبعض الصيغ الدينية قوة سحرية هائلة، فكم من أناس ضحوا نفوسهم في سبيل أقوال لم يدركوا مراميها، وإن تجردت عن كل معنى معقول.
أهمية المسميات في السياسة، دون أهمية الأسماء، فكم نفذت نظريات من الخرق بمكان، في ظل ألفاظ حسنة الانتقاء.
لبعض الألفاظ والجمل، قوة في استحضار الصور. لكنها لا تدوم طويلا، فتبلى ولا تعود ذات أثر في الناس.
لا يتغير اللفظ المخطوط إلا ببطء. أما معانيه والصور التي يحدثها، فسريعة الزوال، وعليه لا يدل الكلام القديم، إلا على معنى قديم.
اللسان يسبق العقل في كثير من الناس. أولئك إنما يعرفون ما يجول بخواطرهم، بعد أن يسمعوا ما يقولون. (7) الإقناع (7-1) الإلقاء في النفس، والتكرار، والعدوى
التوكيد والتكرار والنفوذ والتلقين والعدوى، خمسة أبواب لكتاب تام في فن الإقناع.
الإقناع حمل المخاطب على العمل، لا إلزامه الحجة.
قد تلزم الأدلة المخاطب الحجة، ولكنها لا تحمله على العمل دائما، وأما التلقين والتكرار والعدوى، فإنها تنفذ إلى المشاعر اللاتنبهية فتنقلب أفعالا.
عدوى العقول آكد عامل في نشر الأفكار والمعتقدات، وقلما تأتي المعتقدات السياسية من غير هذا السبيل، ثم يحاول صبغها بصبغة المعقولات لتبريرها.
سبب خطأ الجماعات دائما في نظرها كونه في الأصل خيال فرد تسرب إلى الجماعة بالعدوى.
متى ثبت في النفوس رأي بالعدوى أو الإلقاء، اختفى هذيانه، وقصر العقل عن النيل منه، وساد هو على الإرادة، وقاد الخطى.
إذا كثر تكرار النظريات الباطلة، نزلت إلى عالم اللاتنبهي وأمست بواعث للأفعال.
نيل المراد بالإلقاء في النفس، أفضل دائما من نيله بالرهبة.
ينحصر فن كبار قائدي الأفكار، في كونهم يخلقون فيمن يقودون أرواحا جديدة.
إذا أردت أن يكون لك سلطان مؤقت، كفاك غالبا أن تقنع الغير بأنه لك.
تقاد الأمم باستثارة شهواتها، أسهل مما تقاد بالاهتمام بمرافقها.
إذا أردت أن تؤثر تأثيرا صحيحا في الأمة، فاقصد روحها اللاتنبهية، واجتنب مخاطبة روحها الشاعرة.
من عرف كيف يهيمن أو يخلب، استغنى عن الخطاب ليقنع. (7-2) النفوذ
ذو النفوذ غني عن القوة.
قد يغني النفوذ عن القوة، ولا تغني القوة عن النفوذ.
القوة تقهر النفوس على الطاعة، والنفوذ ينزع منها خاطر العصيان.
لا طاعة بالاختيار من غير احترام، ولا احترام لمن لا نفوذ له.
النفوذ يملأ النفوس إعجابا واحتراما، فيعطل ملكة النقد، ويسهل تأثير الإلقاء في النفس.
الخطأ يمده النفوذ، أفعل من الحقيقة وحدها.
إذا فقدت الحكومات والأمم نفوذها، أوشكت أن تفقد كل شيء.
الفصل الثاني
الحياة الاجتماعية
(1) روح الشعوب
الشعب الصحيح لا وجود له إلا عند القوم الأولين، أما الأمم المتحضرة فإن كثرة اختلاط التناسل ووحدة البيئة، ولدت منها شعوبا تاريخية جديدة تشبه الشعوب الصحيحة.
صفات الشعب النفسية ثابتة ثبات صفاته الجسمانية، وتنتقل بالوراثة على قاعدة واحدة وبالاستمرار.
قد يخضع السيف أمما شتى لسلطان واحد، ولكنها تحتاج في تكوين روح ملي عام إلى التناسل ووحدة أحوال الحياة عدة قرون.
تاريخ الأمة عبارة عن حكاية مجهوداتها لإقرار روحها والخروج من همجيتها.
قوة الأمة بوحدة المشاعر المتولدة من تمكن روحها الملي، أكبر من قوتها بالجند. فلقد ساد الرومانيون على الدنيا بروحهم، فلما أضاعوها أضاعوا ملكهم.
التقهقر أسرع من التقدم، فالأمة تشيد بناء مزاجها العقلي في أحقاب، وتفقده في زمن يسير.
الأمة المتحضرة جماعة ثبت روحها، بتراكم آثار الآباء والأجداد.
روح الأمة الثابت في حرب دائم مع روح الجماعة المتقلب، فالثورات عن عمل الجماعات، وروح الجنس تؤثر في امتداد زمنها أو قصره.
لكل شعب تاريخ، ولكل دور من أدوار حياته نظامات خاصة، وآداب وفنون وفلسفة كذلك، ولا تحتمل غيرها، وما استعارت أمة مدنية أجنبية عنها، إلا حورتها تحويرا كليا.
محاولتنا إلزام أهل مستعمر عادتنا وشرائعنا، كمحاولة إبدال ماضي أمة أخرى.
لا دوام لروح الآباء والأجداد، إن لم تكن متصلبة وإذا لم يكن فيها بعض المرونة تعذر انطباعها على مقتضيات تغير البيئة الناشئ من تطور الحضارة، وكان نصيبها عدم الرقي.
لا يفل الوراثة إلا الوراثة. والتناسل بين أفراد غير متساوين يفكك أواصر الروح الوراثي، وكم هلكت أمم لجهلها هذا الناموس.
الوطنية خلاصة ما ترمي إليه روح الأمة.
المولد رجل تتجاذبه مؤثرات مختلفة: من الوراثة، والذكاء، والآداب، والأخلاق.
أمة أهلها كلهم مولدون لا تساس.
الماضي لا يموت أبدا، فهو حي فينا، وهو أقدم مرشد في حياة الأفراد والأمم، وما روح الأحياء إلا مؤلفه من أفكار الأموات.
ما أشد استبداد الأموات، في غالب الأوقات.
خلق أفكار تؤثر في الناس، معناه نقل المرء جزءا من نفسه إلى من يخلفه. (2) روح الجماعات
إذا اجتمع القوم، تولد فيهم روح كلي مغاير كل المغايرة لروح كل فرد منهم.
روح الجماعات خاضع لمعقول خاص غير تنبهي، هو معقول الجمع.
الرجل في الجماعة ليس هو الرجل الفرد، لاختفاء ذاتيته، واندماجها في ذاتية الكل، ولفقدان ملكة النقد، والقدرة على التعقل بالدليل، فيصير رجلا فطريا، له شجاعته ونزعاته وقسوته.
أخص مميزات الجماعة: سرعة الانفعال، والتعجل بالغضب، وعدم قابلية التعقل، والغفلة المتناهية، والتعصب الأعمى، والخنوع للقواد.
الجماعة دون الفرد معقول دائما، ولكنها قد تفضله في الشعور وقد تكون دونه، فمن السهل صيرورتها شجاعة أو آثمة.
الجماعة كائن ساذج، لا تريد إلا بقوادها، ولا تعمل إلا بهم، فكأنما روحها متعقلة في روحهم.
الجماعات مغالية في مشاعرها، وتطلب الغلو من قوادها.
التأثير في الجماعة، أسهل من التأثير في الفرد.
علة غلو الجماعة في تعصبها ونزقها، اعتقادها بقوتها، وعدم التبعة عليها.
الجماعة أكثر قابلية للشجاعة منها للفضائل.
لا بد للجماعة من معبود: شخصا كان، أو مذهبا، أو صيغة.
شدة قابلية الجماعات للتأثر، تجعل مشاعرها متقلبة جدا، فتراها تنتقل بالسهولة من الإعجاب إلى الجفاء.
روح الدين المنتشر في الجماعات، يجعلها تظن في الصيغ السياسية التي تشوقها، أو في الشخص التي يخلب لبها، قوة سحرية خفية.
الجماعة تعيش في جو قوامه التأثر والتدين، فلا قدرة لها على استكناه ما يراه الفرد واضحا جليا، لذلك يغلب عليها الخطأ فيما ترى.
قلما نحفظ الجماعة من الحوادث، غير جهتها التي أثارت الإعجاب، لذلك كانت الأقاصيص عندها أبقى من التاريخ.
أول ما تطلب الجماعات آمال، وهي بعيدة عن تصور الطوارئ كثيرة التصديق، فهي تقبل حتى الأماني التي لا يحتمل تحققها.
تتأثر الجماعات بالمشاعر، والهزات النفسية، والمعتقدات المطلقة تأثرا سريع الشيوع فيها، لا تنفع فيه حجة، ولا يوهنه دليل.
التأثير كل التأثير في الجماعات، للتوكيد، والتكرار، والعدوى، والنفوذ.
لا يروج في الجماعة فكر إلا إذا صيغ لها في قالب موجز قوي اللهجة.
محبة الغير فضيلة اجتماعية، والمنفعة الذاتية الشديدة التأثير في الفرد، لا تؤثر في الجماعة إلا قليلا.
تتأثر الجماعات دائما بالقوة، وقلما يستميلها المعروف.
لا تحترم الجماعات إلا الأقوياء، وقد كان احتقار الضعف على الدوام شعارها.
تفضل الجماعات غالبا، المساواة في الذل على الحرية.
متى تفللت القيود الاجتماعية التي ترد الجموع عن الاسترسال مع شهواتها، هوت على عجل إلى درك الهمجية الأولى.
قد يستفيد السياسي من نسبة الحكمة وسداد الرأي والاعتدال للجماعات. لكن اعتقاد هذه الصفات فيها، يجعله غير أهل لتولي زمامها.
الاستسلام مرة للجماعة، اعتراف بقوتها، وقضاء على النفس بالرضوخ لحكمها على الدوام.
تحل قوة العدد شيئا فشيئا محل العقل. غير أن العدد، وإن قهر العقل، فإنه لا يقوم مقامه.
قلما تدرك الجماعات حقيقة ما يأتي على يدها من الحوادث. (3) روح الجمعيات
للجمعيات الكبيرة، ما للجماعات من المميزات الأولية: كضعف المعقول، وسرعة التهيج، وفجائية الغضب، وعدم التسامح المطلق، والخنوع للقواد.
ليس للجماعة إلا روح عرضية، إن تألفت من عناصر مختلفة، اجتمعت على غير موعد. لكن إذا اتحدت العناصر، كما في الجمعيات السياسية أو الصناعية أو الطوائف، تولد لها روح عام يستقر بوحدة المنافع.
لا تسير الجمعية السياسية غالبا سير الجماعة، وإن كانت خاضعة مثلها لمقتضيات الاجتماع النفسية. وذلك لاختلاف منافع الأحزاب التي تتألف منها، ولأن لكل فريق قوادا.
الرجل العاطل يزداد قوة بانضمامه إلى فريق، والرجل الكبير يصغر بذلك.
قد يتمكن بعض القواد ذوي الحدة والنفوذ، من ضم جميع الفرق في الجمعية إلى جماعة خاضعة لإرادتهم. وفي الجمعيات الثورية الكبيرة أمثلة كثيرة لذلك.
كثيرا ما يقود الروح الكلي الجمعية إلى الإقرار على أمر لا يريده كل فرد من أفرادها بذاته. ولا يفهم تاريخ الثورة، إلا من تمكنت من نفسه هذه القاعدة.
لا يمكن التأثير في قوم، إلا إذا بدئ بالتأثير في دعاتهم.
الأقلية العنيفة الجريئة، تقود على الدوام الأغلبية الخائفة المترددة.
الخوف من أكبر بواعث العمل في الجمعيات السياسية وشدة الخوف هي التي تحملها أحيانا على كل شيء من الإقدام. (4) حياة الأمم
ليست الكثرة شرطا في صلاح المبادئ الكلية لسير الأمة. وإنما اللازم هو استقرارها في الأذهان واحترامها من الكافة.
يتوقف مصير الأمة على خلقها، أكثر مما يتوقف على ذكائها.
تطور الأمة محكوم بروح آبائها الأولين، ولا تؤثر الانقلابات السياسية إلا في مظاهر ذلك الروح.
من عوامل القوة في الأمة: الاحتفاظ بنظاماتها الأصلية، وتقاليدها الأولية، والتأني في تعديلها شيئا فشيئا. وقلما وجد بين الأمم من حقق هذا المقصد إلا الرومان قديما، والإنكليز في هذا الزمان.
ما حاولت أمة أن تنخلع عن ماضيها، إلا قلبت حالها رأسا على عقب.
نير العادة يبهظ الفرد ويعطل حركته، ولكنه يقوي الأمة ويزيد في مكنتها.
خلو الأمة من ماض كالولايات المتحدة: قوة لها، وضعف فيها معا.
لا تستطيع أمة أن تنقل إلى أمة نظاماتها، كما أنها لا تستطيع أن تنفخ فيها روحها.
ليس الفتح الدائم الأثر، فتح البنادق والمدافع. وإنما يدوم الفتح، متى تولد بين الغالب والمغلوب، اشتراك في المشاعر، والمنافع، والأفكار.
لا تكون الأمة قوية في الواقع، إلا إذا كثرت المنافع المشتركة بين طبقاتها؛ لأن الفرد يعمل إذ ذاك لمصلحة الكل، مدفوعا بحب الذات.
إذا كانت الروح الملية متمكنة من أمة، انمحت الخلافات السياسية عندها على عجل، أمام كل حادث له أثر في مصالحها الكلية.
الأمم اللاتينية أسرع إلى التعب من الحرية، منها إلى الضجر من العبودية.
إن لم يكن للأمة ضابط من نفسها، فعليها احتمال ضابط من دونها.
رقي الأمة بنخبتها، وقوتها بأواسطها.
لا يفيد في حياة الأمة إلا مجهود دائم. أما المجهود المتقطع فقد يحدث انقلابا، لكنه لا يوجد رقيا دائما.
إذا كثر النسل في أمة، تعسر عليها البقاء هادئة، واندفعت إلى شن الغارة على جاراتها، ممن وقفت حركة النسل فيهن.
لا تنمحي الأوهام أبدا من نفوس الأمم، فلا تزال تعتقد بقوة تأثير القوانين والنظامات والحكومات، وإن في قدرتها تغيير مجرى الحوادث كما تشتهي.
روح الرجل في بداوته متأثرة بروح جماعته. لذلك ضعف الفرق بين الروحين.
تشتمل الحضارة الراقية على رواسب من جميع المراحل التي قطعتها، فلا تزال فيها بقية من تقاليد سكان الكهوف، وشيء من روح البرابرة أصحاب (آتيلا).
لن يأتي برابرة الغد من الخارج، بل يخرجون من تلك الجموع التي تخلفت عن اللحاق بالحضارة وهي سائرة في طريق رقيها.
مهما انحطت كفاءة رجل ممن يقال لهم رجال الدولة، فإن قوة حكمه في الأمور، وبصره بها، أكبر من قوة جمع من السياسيين وبصرهم؛ لأن هؤلاء يكتسبون من اجتماعهم معقول الجماعة، وهو من درجة منحطة. لذلك ساء حال أمة جرت على رأي المؤتمرات.
حضارة أمة رداء روحها، وشامة ظاهرة تدل على القوى الخفية التي تسيرها.
الحضارة تستخدم العلم، ولكنها لا تقوم عليه.
اليقين المتين يمنع أهله، إلا إذا لقوا من هو أشد يقينا.
تخرج الأمم من الهمجية، بما تضع لشهواتها من القيود. فإذا كسرتها، عادت إلى همجيتها.
لا ترقى الأمة بحكومتها أو ثورتها، بل باجتماع مجهودات أفرادها.
الأمم كالعناصر الحية: تزال إذا طال الأمد عليها وهي واقفة مكانها، متعلقة بماضيها. فتفقد بذلك ملكة الانطباع على مقتضيات فائدة غير حياتها. (5) النظامات والقوانين
لا حياة لقوم مجتمعين إلا قهرا. وأيسر القهر قبولا قهر القوانين.
حاكم الأمم معقولها، لا ما تلتزمه من النظامات. فوجب أن تكون هذه صادرة عن ذلك المعقول. ورب قانون نافع في أمة ضار في أمة أخرى.
ليس من وظيفة القوانين الاشتغال بالقواعد المنطقية؛ لأنها بنات حاجات مستقلة عن هذه القواعد.
يجب أن تكون القوانين مقررة لحاجات الأمة لا لشهواتها، فإن بنيت على الشهوات لا تدوم.
القوانين تقرر العادات، وقلما تحدثها.
القانون الذي لا يقتصر فيه على تقرير مألوف، أي تجربة سابقة، إنما يسجل جهل واضعه بالمستقبل.
تطور مقتضيات الحياة أسرع من تطور القوانين، فعلى القضاء أن يكمل النقص، ويجمع بين النص والمصلحة.
لا تحدث مشاعر الأمة من نظاماتها؛ لأن الثانية ثمرة الأولى.
النظامات التي تلتزمها الأمة بقاهر الأوامر، تحدث دائما اضطرابا في العوامل السياسية. غير أن المقتضيات الطبيعية لا تلبث أن تعيدها إلى نظامها.
القول بقدرة النظامات على حمل الأمة على التطور، كما يذهب إليه المتسيسون، جهل بأن وراء الحوادث الظاهرة، قوة خفية هي العلة فيها.
إنما زادت القوانين في الأدواء التي وضعت لعلاجها؛ لأن الذين وضعوها لم يفقهوا آثارها.
قد يكون القانون ظالما، فإذا لم يقصد به فريق دون فريق فلا تحكم فيه.
إذا انسل القوم من سلطان القانون، عاجلهم الاستبداد.
توشك المخالفة يعم ارتكابها، أن تصبح حقا سائغا.
لا مقوم للقوانين إلا القوة، لذلك هي لا تدوم كثيرا.
من السهل تغيير القانون على القرطاس، إلا أن ذلك لا يغير من روح الأمة شيئا. (6) الحق
الطبيعة تجهل الإنصاف، والعدل من صنع الإنسان.
الحق يكون حيث القوة تؤيده.
لا يستنجد بالعدل قوي.
لا قيمة للحق ولا للعدل بين أمم اختلفت قواها.
الحق لا يعترض القوة، فكأنهما شيء واحد، إنما الحق قوة مستمرة. (7) الأخلاق
ليست نواميس الأخلاق أمورا فرضية، ولكنها ضرورات لازمة.
أخلاق كل زمن خلاصة حاجاته، وكل مجتمع لا بد له بمقتضى وجوده من ميزان يتميز به الخير من الشر.
لا بقاء لحضارة من دون أخلاق، فمهما اشتدت صرامة القانون لتأييد مبادئ الأخلاق، لا تعد شدتها غلوا.
لما كانت الأخلاق نتيجة ضرورات الأمة، في كل دور من أدوار حياتها، لزم أنها تتطور بتغير تلك الضرورات.
ما كل ضرورة حقيقة، يستوي في ذلك الأخلاق والقانون. لكن من العبث الجدل في الضرورات.
لا ثقة بالأخلاق إلا إذا صارت غير تنبهية، بفعل الوراثة والتربية والقوانين.
لا تكتسب الأخلاق قوة صحيحة، إلا إذا صار الناس لا يعدون مراعاتها من الفضائل الممتازة.
إذا جرت الفضيلة بغير جهد فهي ملكة لا فضيلة.
من الخطأ الضار، محاولة بناء الأخلاق على المعقول وحده، كما ذهب إليه كثير من الفلاسفة؛ لأنه إذا لم يكن للأخلاق سند من المشاعر والروح الديني، فلا بقاء لها ولا قوة.
إنما تكتسب الأخلاق بمزاولتها، فهي كالفنون من المعلومات التي لا تكتسب من الكتب.
البيئة والقدوة مؤثران كبيران في الأخلاق.
قد تقطع الأمة قرونا حتى تكتسب أخلاقا، وقد تضيع ما كسبته في بضع سنين.
أخلاق كل أمة مقياس كفاءتها.
أقل حظ للأمة من الأخلاق، ما أمرت به القوانين، وقامت الشرطة بحراسته، فإذا لم يراع هذا النذر فتلك فوضى الأخلاق.
هناك مرتبة أخلاقية أرقى من مرتبة الأخلاق المأمور بها في القانون، وهي التي تفضل فيها منافع الكل على المنافع الخاصة، وقد تعيش الأمة بالمرتبة الأولى، أما رقيها فمتوقف على الثانية.
مما يصح اتخاذه شارة قوية على سقوط الأمة، انحطاط أخلاق الطبقات المحكومة.
لما لم يكن بين الأمم قانون عام معترف به من الكل، فشلت مساعي الذين يقولون بعلم أخلاق عام، والمعروف منه هو ما تعرفه جمعية من الذئاب: افتراس الضعيف وخوف القوي.
الشعور الواحد يكون فضيلة أو رذيلة، نظرا لفائدته الاجتماعية. فالأثرة تعد فضيلة، إذا اتصفت بها العائلة أو القبيلة أو الوطن بأكمله، كذلك الخيلاء في الفرد عيب، وفي الجماعة فضيلة.
لا يندر أن يكون الخلق الواحد فضيلة في الفرد، وعيبا في المجموع، فلو لانت طباع أمة إلى حد أنها لا تثأر لنفسها من إهانة لحقتها، أصبحت هزءا بين الأمم.
التسامح ممكن بين الأفراد، ومتعذر بين الأمم.
ربما كان عدم التسامح فضيلة في الأمة، تدفعها إلى عمل وجب.
إذا أخذنا بآثار مذهب حب الإنسانية، صعب علينا التسليم بأنه من الفضائل، بل رأيناه أشد أعداء علم الأخلاق؛ لأنه إذا عظم ذلك ضعفت هذه.
تزداد الجرائم في الأمة، بتقدم مذهب حب الإنسانية فيها لأنه يقلل من دواعي الزجر، فيضعف بذلك ما في العقوبات من الردع.
إذا أغضيت عن الضرر، فقد ساعدت على انتشاره.
سرعة أهل هذا العصر في هدم الأخلاق، أكبر من سرعتهم في تحصيلها.
لا تدفع الفضيلة صاحبها دائما إلى العمل، وقد كانت الرذائل أهم بواعثه: كالكراهية وحب الانتقام والغيرة والميل إلى السلب، وهذه النزعات هي التي تجعل أوروبا على أهبة من الحرب دائمة.
الرجل الفاضل يتسلى عما يلتزمه من الحرمان ، بما يحدثه في نفس الغير من الضجر.
العمل المجرد عن المنفعة الذاتية، يعظم فاعله أمام نفسه، وكثيرا ما يجب عليه السرور، أكثر من الأعمال ذات الفائدة الشخصية.
الشجاعة الصغيرة الدائمة، أصعب مزاولة من الإقدام الكبير عرضا.
من أقوى دعائم الأخلاق، الخوف من نقد الناس.
تعلو حضارة الأمة بقدر تمكنها من ضبط نفسها، أعني بقدر ثبات أخلاقها وتمكنها.
إذا تداعت أخلاق الأمة، عاجلها الفناء. (8) الغاية
مبنى الرجاء في الحياة شعور فطري وتدين، وقد قالوا إنه يرجع أيضا إلى نظريات عقلية، غير أنا لا نعلم غاية تولدت من تلك النظريات.
الثورة والفوضى دليل على حدوث أمر خطير في حياة الأمة وهو تغير غايتها.
من كانت غايته فداء معتقده بحياته كالثوريين الروسيين، تعذرت استمالته.
لا قوة لأمة ليس لها غاية مجمع على احترامها، وتلك الغاية هي التي تهديها في حياتها كما تهتدي الباخرة بالبوصلة.
إذا عظمت غاية أمة وقلت حاجاتها، تغلبت دائما على الأمة التي ضعفت غايتها وكثرت حاجاتها.
هدم غاية فرد، أو طائفة، أو أمة، تجريد لها مما به رابطتها ومجدها وحركتها.
الوطن مشخص حياة الآباء والأجداد، فهو غاية طلبها من أمتن الأسس الاجتماعية.
تفنى حياة الأمة في تكوين غايتها وفي هدمها. (9) الأرباب
لا تؤمن بكثرة الأرباب، فما عبد الناس في جميع العصور إلا ربا واحدا، وإن اختلفت الأسماء، وذلك المعبود هو الأمل.
ما الروح الديني الذي ساد في جميع الأزمان إلا اعتقاد بسلطان خفي لمؤثرات علوية مثلت في النصب والأزلام والصيغ الكلامية.
كثيرا ما غير الإنسان اسم ما عبد من الأرباب، لكنه ما استغنى عنها في زمن من الأزمان، كأن التدين حاجة من حاجات العقل لا يؤثر فيه مؤثر أبدا.
قد يستعلي الروح الديني على المشاعر إلى حد أنه يعطل في المرء غريزة المحافظة على الذات.
الشجعان والأرباب صورة شفافة لما للأمم من النزعات الخفية.
الدين عنوان عاقلة الأمة.
تتطور الأرباب وتبقى الأصول التي جاءت بها الكتب على حالها، وإنما الذي يتغير منها هو معناها، فإنه يختلف باختلاف الأمم والأزمان.
مظهر الدين مستقل عن الأصول التي يستقي منها، فلقد كانت العاقلة واحدة عند يعاقبة (الهول) وقسوس (محكمة التفتيش).
ضعف الإنسان عن الحياة بلا يقين، ففضل المعتقدات وإن وهن أساسها على الزندقة وإن وضح برهانها.
لو انتشرت الزندقة لصارت دينا لا قبل لأحد بمتارضته كما هو شأن الديانات القديمة.
عدم احتمال المناظرة من بعض ذوي العقول المطلقة، آت في الغالب من تشبعهم بالروح بالوراثة وهم لا يشعرون.
الخلو من الاعتقاد هو في الغالب يقين يعفي صاحبه من تعب التأمل والنظر.
ميل المرء إلى تعقل دينه خطر دائم.
لقد أفادت الديانات الأمم بإحداثها الأمل في الحياة الباقية أكثر من جميع من خلق الله من الفلاسفة والحكماء.
إنما الديانات قوة ينبغي الانتفاع بها لا معارضتها.
إذا صح أن الدين كان سببا في تأجيل اكتشاف بعض الحقائق العلمية، فمن المشكوك فيه أن الإنسان كان يستفيد كثيرا من هذه الحقائق في الأدوار الأولى من تطوره.
إنما تظهر منفعة الأرباب بعد هدم معابدها.
العقل خالق الرقي غير أن مشيدي الديانات هم قواد الأمم، ولا يزال عظماء الخياليين مثل (بوذا) و(محمد) يخضعون الملايين من الخلائق بجلال أحلامهم.
قلما تعيش الأمم بعد موت معتقداتها. (10) الفن
ظهرت الفنون دائما قبل الفلسفة والعلم؛ لأنها بنت مشاعر الأمم وروحها الديني، وسيادة هذين الأصلين سابقة على سيادة العقل، لذلك صح ازدهار الفنون في أعصر الهمجية.
الفنون ولا سيما الموسيقى لغة المشاعر والروح الديني، والكلام لغة العقل.
يصغر الفني إذا استعمل عقله بدل شعوره.
لما كان الفن ابن المشاعر، تعذر التعبير عنه إلا من جهة أجزائه الإصلاحية.
الفن كالسياسة، زمامه بيد بعض القواد، والجموع من خلفهم.
الجميل ما أعجبنا، والإعجاب لا يصدر عن ذوقنا الخاص بمقدار ما يصدر عن مشاعر بعض ذوي النفوذ الذين تؤثر فينا عدواهم العقلية، فتحملنا على أن نحكم حكمهم.
ليس للتنسيق قواعد ثابتة، لهذا احتقر السلف المباني (الغوطية) ورسوم بعض المصورين قبل أن يعجب بها أهل هذا الزمان.
يحدث في بعض الأحايين جو خاص يسود فيه على الناس ذوق واحد وشعور واحد وإن بلغ استقلال فكر بعضهم ما بلغ.
عدوى الفنون شديدة التأثير إلى حد أنها تلبس صنع بعض الأزمان ثوبا عائليا يستدل منه على زمن ظهورها.
يتأثر الفن تأثرا شديدا بالمكان والأمة إلى حد أنا لا نجد أمة استعارت فن أمة أخرى إلا حورته وبدلته، ولا عبرة ببعض الظواهر الدالة على خلاف ذلك.
الطرف الفنية الفائقة الصنع تصدر عن شعور لاتنبهي، فإن كانت تنبهية فهي شخصية ولا تدل على روح العصر الذي صنعت فيه.
الموسيقى تثير في النفس خواطر مبهمة تصحبها انفعالات شديدة، لذلك يسهل تأثيرها في غير ذوي العقول الكبيرة متى رق شعورهم، ولقد أصاب من قال: إنها فن النساء والجماعات.
رجل الفن يبتدع وإن احتذى. (11) الطقوس والرموز
الطقوس والرموز، أعني الاحتفالات والأعلام والأعياد العامة والعرف المألوف في علاقات الناس بعضهم مع بعض، كلها فوق إرادة الإنسان. وهي أقوى سند تقوم عليه الحياة الدينية والاجتماعية.
من ظن أنه أكبر من أن يتقيد بطقوس أمة واحتقر تقاليدها فهو أجنبي عنها.
إنما تصير المعتقدات الفردية عامة بعامل الطقوس والسنن.
إذا تجرد القضاء من الطقوس والرموز فليس قضاء.
يقوم المعتقد الديني أو السياسي على اليقين به، لكنه لا يدوم إلا بالطقوس والتقاليد.
بلغ من أخذ الطقوس والرموز بالنفوس أنها تبقى بعد زوال المعتقد الذي حدثت لأجله.
أكبر الناس استقلالا وأشدهم إطلاقا في الفكر، يخضعون حياتهم طوعا لطقوس سياسية وعرف جار في روابطهم الاجتماعية أو الشخصية تنزع منهم الحرية الصحيحة.
الطقوس تخلص الإنسان من شر التردد: فيها يعرف بلا تأمل ما يجب قوله وفعله في جميع الأحوال.
أهم طقوس الأمم تقاليدها من عمل أسلافها.
الفصل الثالث
الحياة القومية
(1) الدين والعلم
الدين والعلم طريقان تجري فيهما حركة الإنسان، وليسا من أصل واحد.
لا يكون العلم أبدا إلا تنبهيا وعقليا، أما الدين فغير تنبهي ولا دخل للعقل فيه.
أخف مميزات الدين أنه لا يتغير بالنظر ولا بالتعقل ولا بالتجربة.
تحصيل أحقر المعلومات العلمية يقتضي جهدا كبيرا، وتحصيل الاعتقاد الديني لا يقتضي من الجهد شيئا.
ينتشر العلم بالكتب، والدين بالرسل.
العلم أكبر العوامل في تقدم الحضارة المادي، والمعتقدات تقود الأفكار والمشاعر، فهي هادية المرء في حركته.
العلم يقرر الحقائق، والمعتقدات تمثل الرغبات، لهذا فضل الناس المعتقد على العلم.
الدين يكسو الخيال المتولد عن الرغبة صورة الشيء الواقع، وإنما العلم هو الذي يوجد الحقائق مجردة عن الرغبات.
المعتقد السياسي أو الديني أو الاجتماعي أمر وجداني لاتنبهي ولا يدركه النظر إلا وقد رسخ في النفوس.
قوة المعتقد راجعة إلى ما يولده في النفوس من الآمال، وما يحدثه من الصور الذهنية التي تقتضي السعادة.
لن تجد في التاريخ معتقدا سياسيا أو دينيا رده النظر والاستدلال، فالعقل يتحطم دائما على أسوار الدين.
الدين التزام لا استدلال: فإذا ما بحث الناس فيه فذلك لكونه ضعف ومال إلى الزوال.
قلما تجد من يخاطر بحياته في نصرة حقيقة عقلية، ولكنك تجد عشرات المئات يضحون حياتهم لما يعتقدون.
يعيش أهل كل زمان بقليل من المعتقدات السياسية والدينية والاجتماعية ولا يتحولون عنها إلا بكر الدهور أو بحلول معتقد جديد.
إيجاد معتقد، إيجاد وجدان جديد، تصدر عنه حركة جديدة في سير الناس.
أقل تغيير في معتقد أمة، يغير من مصيرها.
إذا احتدم الخلاف في بحث، صح القول بأنه من طائفة المعتقدات لا من مباحث العلم.
ليس العقل هو الذي يقوم في وجه المعتقد حين يضطهد الدين من السياسة، بل هذان معتقدان اعترض كل منهما صاحبه.
الخلف على المسائل العلمية سهل الاحتمال، ولا احتمال في خلف ديني، لذلك كان التنازع الديني أو السياسي دائما شديدا.
التشدد مصاحب للمعتقدات القوية، وهو بين أهل المذاهب في المعتقد الواحد، أشد منه بين أهل مذهبين مختلفين.
إنما يبحث العقل عن اليقين في المعتقدات غالبا.
الفرضيات معتقدات يظنونها في الغالب معلومات.
لما كانت أحوال المعتقد غير خاضعة لمقياس العلم، فتصديق العالم والجاهل بها سواء.
إذا استولى المعتقد على المرء سهل عنده جمع النقيضين عقلا.
لا يعيق انتشار المعتقد ما فيه من الخطأ والهذيان؛ لأنه ليس مبنيا على النظر والاختيار.
عدم تصديق الشيء الممكن يجعله مستحيلا، ومن قوى اليقين جعله بالمستحيل.
المعتقد القوي يحدث الإرادة القوية، فلا تقوى عليه إرادة ضعيفة.
خلق الإنسان في حاجة إلى معتقد يهدي فكره وأعماله، ولما تقم مقامه الفلسفة ولا العلم.
أوجدت المعتقدات مصنوعات فنية من العدم، ما كان لمجرد العقل إيجادها.
المعتقدات تقوم الأمم، وإن ضعفت في نظر العقل، وهي التي تمنعها من الوقوع في همجية لا رابطة بين أفرادها ولا قوة فيها. (2) التعليم والتربية
التربية فن تنتقل به المعقولات إلى مشاعر.
إذا حسنت تربية الشعور اللاتنبهي ملكناه وأفادنا، وإذا ساءت ملكنا وأضر بنا.
قيمة المرء خلقه لا علمه كما يذهب إليه أساتذة التعليم عندنا.
عدة المرء الداخلية المتينة في خلقه لا في علمه، فإن لم تكن له هذه الأداة، أصبح ألعوبة في يد الأحوال والظروف.
من أكبر خطأ اللاتينين اعتقادهم بتلازم التعليم والأخلاق والذكاء.
ليس التعليم تربية، فالأول يعني الحافظة، وأما التربية فإنها تولد في الإنسان ميولا نافعة، وتمكنه من قمع الميول الفاسدة.
يكفيك لتعليم رجل من الهمج بضع سنين، وقد تحتاج إلى قرون في تربيته.
إنماء الفكرة وملكة الحكم والهمة والثبات، أشد لزوما من تكليف المرء رص الجمل الباردة كما تفعل المدارس الآن.
حصر العقل في دائرة صناعية، وإفقاده قوة النظر والتأمل، نتيجة محققة من طريقة تعليم أحوال الدنيا بين سطور الكتب.
تعلو الرجولة بالعلم أو تنحط، بحسب طبيعة عقل من يتلقاه، ولا يستفيد من المعارف العالية إلا أهل العقول السامية.
إذا أردت منحط الفكر على علم راق، فقد أفسدت عاقلته، وضعفها يفقده ملكاته الفطرية فيصبح في عالم المعقول كالمولدين.
دلت التجارب المتكررة في الألوف من أهل المستعمرات على أن التعليم الذي لا يناسب حالة المتعلم يضعف الذكاء ويحط الخلق والآداب.
ما أشد خطر القضايا الكلية مجردة عن مناشئها، فإنها تؤدي إلى الاستهتار وسوء الفهم.
لا بد من جهد كبير قبل أن تصير العادات الطبيعية غير تنبهية في الإنسان، فإذا تمكنت منه مكنته من العمل بلا عناء.
إذا ضبطت حركات العقل وسيرت في سبيل قويم ترقى، وإن كان في الأصل ضعيفا.
كسب ملكة ضبط العمل يكسب فن توفير الوقت، وذلك يؤدي إلى إطالته.
محاولة تعليم الأحداث أشياء كثيرة تجعلهم لا يحرزون شيئا، وقد غفلت مدارسنا عن هذا المبدإ الأولي.
ينبغي أن يكون المربي قادرا على أن يميز ما في كل تلميذ من الملكات الطيبة القابلة للرقي، أما إذا ترك اختيار الدرس والحرفة إلى الاتفاق انحط عمل المتعلمين.
من أكبر أوهام الديمقراطية، تخيلها أن التعليم يسوي بين الناس، وهو لا يصلح في الغالب إلا في تجسيم الفروق.
الامتحان الذي يدور على قوة الحافظة يزيد الفروق الاجتماعية أكثر من طريقة الخلف، والغالب أن هذه الفروق تكون غير عادلة.
آل الأمر بطريقة التربية عندنا إلى إيجاد نخبة من أهل الحافظة، لا علاقة بينها وبين نخبة أهل العظمة وقوة الحكم.
التعليم إما أن يربي الحافظة، أو ملكة النظر. ويتخرج عن الأول أهل اللسن وعن الثاني أهل الجد والعمل.
استقر التعليم بالاستظهار في الأمم اللاتينية وحدها فصار علة كبيرة في ضعفها؛ لأن نتيجته تفويض الوظائف الاجتماعية الكبرى إلى أناس هم غالبا من ذوي الكفاءة المنحطة.
اختيار طريقة التعليم أهم في مصلحة الأمة من اختيار حكومة مناسبة لها. (3) الطبقات الممتازة فيها
لا تقاس قوة الأمة بعدد أهلها بل بقيمة الطبقة الممتازة فيها.
نخبة الأمة صناع حضارتها، فلا ترقى إلا بهم، وإذا فقدتهم حاق بها الفقر وتولتها الفوضى.
العامة خزانة قوة الأمة، لكن لا تنفع هذه القوة إلا إذا وجهتها الخاصة في الأغراض العامة.
الاختراعات الراقية أفرادية دائما، ويعم نفعها متى صارت في ملك المجموع.
إذا اجتمع أفراد ممتازون بطلت ميزتهم؛ لأن العقل الممتاز لا يبقى كذلك إلا إذا دام منفردا.
تنوعت أسباب الامتياز إلى حسب ونبوغ ومال، وما استغنى العالم قط عنها.
لما كانت الملكات العقلية وراثية كما كان الشرف كذلك قديما، لزم أن الجماعات، وهي من طلاب المساواة المطلقة، تعد التمايز العقلي إجحافا كالتمايز بالشرف.
تنازع الجموع الجاهلة والطبقات الممتازة التي هي روحها، دليل على بقاء الحياة القومية . والتاريخ يدلنا على أن غلبة العدد كانت دائما نذيرا بزوال الحضارة.
ما سادت الحضارات العظمى إلا بتمكنها من ضبط عناصرها الدنيا.
الخاصة تبني والغوغاء يهدمون. (4) النظريات الفلسفية
العقل أقرب للإنشاء منه للتفسير، فقد غير وجه المسكونة، ولكنه لما يبين لنا الناموس الخفي الذي تتطور بمقتضاه الحشائش.
البون شاسع بين عاقلتنا ونظام الكون، فلا أمل لنا باكتناه سره.
إذا قيل إن كل ما لا يدركه العقل معجزة، فحياة كل كائن معجزة دائمة.
بعدت الشقة بين القوى الخفية التي تبدئ الكائنات وتنميها وتعدمها وبين إدراكنا، حتى انثنى العلم في هذه الأيام عن محاولة تفسيرها.
أصغر الخليات الحية يحمل ماضيا عتيقا ومستقبلا غامضا.
رأينا الفلسفة تجيب في غابر الزمن على: هل العلم قديم أم حادث؟ حقيقي أم خيالي؟ وهل جنس الإنسان أبدي أو قابل للعدم؟ ونجدها الآن قد تراجعت عن الجواب.
من المسائل الخطيرة ما ينبغي عدم التعمق فيه: كمن أين أتينا؟ وإلى أين نسير؟ حتى يكون لها لباس من الشك لا يزول معه كل أمل للإنسان.
ربما كان أفضل نظريات الحياة الثلاثة وهي الرجاء واليأس والاستسلام هذا الأخير، لكنه أقلها حملا للإنسان على العمل.
المرء في الحياة بين حرب معها، أو انطباع عليها.
أبان العلم أن المادة غير خالدة، فهدم أحد مقاصد الفلسفة التي بقيت لها.
الفلسفة الحقيقية للوجود في جانب، والفلاسفة في جانب، فلا يد لهم في تكوينها.
قد تبطل النظريات الفلسفية، لكن لا بد للإنسان من فلسفة يرى الحوادث من خلالها.
آخر ما وصلت إليه الفلسفة، أنه لا قدرة للعقل حتى الآن على فهم أسرار العالم.
لكل حادث سر، والسر هو الروح المجهول في الأشياء. (5) المبادئ العلمية
إنما العلم في الحقيقة خروج من الإنسان على الطبيعة وجهد يحاول به التملص من القوى العمياء التي يئن تحتها.
كان الإنسان في أول أمره يرى تسخير الطبيعة إياه قدرا مقدورا. فلما تمكن بالعلم من تحليل الأقدار، جعل يجردها شيئا فشيئا من صبغتها القدرية.
اللزوم شيء والقدر شيء آخر، فقد يتبين من تعرف لزوم الأمر أنه غير مبرم.
قالوا إن علة نظام الكون سابقة في الأزل، والواقع أنه ثمرة التوازن اللازم بين القوى التي يتكون منها.
حياة الحقائق العلمية مهما كانت دقيقة فهي قصيرة.
مبنى كل علم مبادئ معدودة: فعلم الكيمياء قائم على مبدأ عدم تغير المجموع، كما أن الطبيعة والميكانيكا قائمتان على مبدأ حفظ القوة.
المبدآن الثابتان للكون هما المقاومة والحركة، ومصدر الأولى السكون، ومنشأ الثانية القوة.
تتولد صور القوة وحوادث الحياة من اختلال التوازن الكوني الناشئ غالبا من اختلاف السموت.
1
تقدم العلم سريع في استقراء الحوادث، وهو مستقر مكانه منذ زمن في بيان عللها.
قدم العلم ثابتة، لكنها على جزيرة صغيرة في بحر من المجهولات لا يدرك غوره.
تقدم العلم إنما ينقل حدود المستحيل من مكان إلى مكان عالم اللانهائي.
حسب الماديون أن مذهبهم يحل محل الدين، غير أن المادة أصبحت سرا من الأسرار كالأرباب الذين جاءت هي لنحل محلهم.
ربما كان تقرير القضايا العلمية ستارا يختفي من ورائه التردد في تقرير حقيقة المبادئ.
من مميزات العالم على الجاهل معرفة الأول أين يبدأ الغموض.
إذا وصلت نظرية علمية إلى حد الجمود وقف الرقي في جانبها.
يتولد عن العلم من الأسرار الغامضة، أكثر مما يكشف لنا منها. (6) المادة
2
ظنوا قديما أن المادة لا تفنى، وهي تزول على مهل بتفكك ذراتها المستمر.
من متحصل تحول المادة عن ماديتها ما له خواص تجعله وسطا بين الأجسام القابلة للوزن وبين الأثير الذي لا يقبله، وهما أمران كان العلم يفرق بينهما تفريقا كليا إلى هذا العصر.
ظنوا قديما أن المادة جامدة لا تصدر منها إلا قوة تكون قد اكتسبتها من قبل، والواقع أنها مصدر هائل للقوة المسماة القوة الكامنة في الذرات، وتلك القوة قابلة للانتشار بذاتها.
أغلب قوات الكون وعلى الأخص الكهربائية وحرارة الشمس آتية من القوة الكامنة في الذرات والتي تنتشر من تحلل المادة.
القوة والمادة صورتان لشيء واحد، فالمادة صورة من صور القوة الكامنة في الذرات وهي أكثر استقرارا، والحرارة والضوء والكهربائية وما هو من نوع ذلك صورة ثانية لتلك القوة ولكنها أقل استقرارا.
فصل الذرات بعضها عن بعض، أو بعبارة أخرى إفقاد المادة ماديتها، عبارة عن تحويل صورتها المستقرة إلى صورها غير المستقرة المسماة: كهرابائية أو ضوءا أو حرارة أو غير ذلك.
توازن القوى الهائلة المتجمعة في الذرات علة استقرارها ذلك الكبير، غير أنه يكفي الإخلال بهذا التوازن بواسطة جوهر كشاف مؤثر لتأخذ تلك الذرات في التفرق والانفكاك، ومن هنا نرى الأجزاء السطحية من جسم ما تتفكك بتأثير بعض الأشعة الضوئية.
لما كان الضوء والكهربائية وأكثر القوى المعروفة متولدة من تحول المادة، صح أن الجسم متى تشعع فقد جزءا من جرمه بمجرد هذا التشعع، فإذا استطاع أن يشعع قوته كلها تفانى بتمامه في الأثير.
تتحول المادة إلى قوة على صور شتى، ومن المؤكد أن القوة تكاثفت في مبدأ التكوين فقط فصارت مادة.
إن قانون التطور الخاضعة لحكمة الكائنات الحية، سار أيضا على الأجسام الجامدة البسيطة، فلا الأنواع الكيماوية ولا الأنواع الحية ثابتة أبدا. (7) الحقيقة والخطأ
كانت حاجة المرء إلى التحقق، أشد دائما من حاجته إلى الحقيقة.
قيمة الحقيقة عملا، على قدر درجة الاعتقاد بها.
لا فرق بين أثر الاعتقاد السطحي، في أفعال المرء، وبين أثر الاعتقاد الصحيح.
قد لا يتحرى المرء اختيار معتقده، ولكنه يصعب عليه دائما احتمال معارضته فيه.
لا يصلح المعقول الإلهامي ولا المعقول الديني لكشف حقائق غامضة بل لإخفاء ما خيف منه من الحقائق.
يكفي غالبا إلباس الخطأ ثوبا جذابا ليقبله الناس حقيقة ثابتة.
قد تحتاج الحقائق بعد تقرير صورها إلى زمن طويل في قبولها مما يضر باكتشاف الحقيقة النظر إليها من جهة تقدير فائدتها كما يفعل البراغماتيست.
3
ليست الحقيقة وحدة ولا راحة ولا منفعة ولكنها ضرورة.
ما كان الإنسان يعرف قبل العلم من الحقائق إلا ما كان نسبيا أي له متعلق معلوم، فكان من وظيفة العلماء أن أظهروا أن هناك حقائق لذاتها.
تتسلل الكائنات في هذا العالم ولا تتأيد.
ما من حقيقة أبدية عند الإنسان، كما أنه لا يوجد كائن أبدي أمام الطبيعة.
الحقيقة كالجسم الحي لا تعرف ماهيتها إلا بمعرفة حالاتها السابقة.
تتبدل الذوات والأشياء بلا انقطاع. ولكل أمر وقع، حقيقة واقعة تلحق به.
الحقيقة مرحلة عرضية من طريق لا نهاية له.
من الحقائق ما هو حقيقة مطلقة من حيث حياتها، وليس منها ما هو كذلك أبد الآبدين.
كثير من الحقائق ينقلب خطأ بمرور الأيام.
تختلف صور الحقائق باختلاف الأمزجة التي تتلقاها.
إذا صيغ الخطأ في صورة حسابية صحيحة، كان كبير التأثير، وأشد الناس جحودا يعتقد أن للمعادلات الجبرية سرا عجيبا.
كثير من الناس يستغني عن الحقائق، وما من أحد يستغني عن الخيال.
خيال يعتبر صحيحا، مؤثر كالواقع.
فقدان الخيال ليس دليلا على معرفة الحقيقة.
أغلب الرقي جاء من تشبث المرء بتحقيق خياله، لا من جده في طلب الرقي نفسه.
إذا سرى الخيال من الفرد إلى الجماعة، اكتسب قوة الحقيقة.
ربما كانت فائدة الناس من الخطإ أكبر من فائدتهم من الحقيقة. (8) القصص والتاريخ
يسير التاريخ بعيدا عن المعقول، وقد يجري على نقيضه.
كثير من الحوادث يبقى غامضا، ما دام الاعتقاد سائدا بأن لها عللا معقولة.
لا هم للتاريخ بتحقيق مقدار انطباق المعتقد على المعقول. وإنما همه معرفة مقدار أثر ذلك الاعتقاد في نفوس أهله.
كل جيل يتناول حياته العقلية من الأجيال التي سبقته، فمعظم نسيج المستقبل من سدى الحاضر.
الأقاصيص أصح غالبا من التاريخ، فهي تترجم مشاعر الأمة الحقيقية، وهو يسرد حوادث متأثرة بعاقلة من يحكيها.
لا سبيل إلى كتابة التاريخ على وجهه إلا إذا كان الكاتب بعيدا من جميع الأحزاب، حتى لا تكون له الأغراس التي هي قوام الحزبية.
تنازع الحوادث النفسية قائد التاريخ. فإن أكبرها راجع على الأكثر إلى تنازع المعتقدات منه إلى تضارب المنافع.
الأثر الغالب في التاريخ آت من المشاعر والدين، وقلما جاء المعقول، فمحرك الكون الحقيقي هو غير الواقع.
هوامش
الفصل الرابع
الفكر والعمل
(1) العمل
العقل مفكر، والاعتقاد فعال.
لو أن الإنسان بدأ بالتفكير قبل العمل، لانتهت دائرة التاريخ من زمن بعيد.
الاعتقاد يبعث على العمل، سواء بني على الخيال أو على الواقع، والرجل لا عقيدة له، كالسفينة لا دفة لها، أو هو آلة بلا محرك.
إذا تمكن الاعتقاد بعث إلى العمل، وإن كان باطلا أو مستحيلا.
إنما يستدل على عقل المرء وخلقه بعمله.
التفكر نافع، وقد يجب العمل دون إطالة النظر، فأعظم نزعات الشجاعة، كانت لقوم ما فكروا إلا قصيرا.
الأفكار مثل جميع مظاهر الحياة: علتها توازن غير ثابت متحول على الدوام.
قلما تتحول الأفكار الكلية من المطالعة، وإنما الكتب تسجل في الغالب تغير الأفكار.
كل عمل متبوع بآثاره والمرء يدعو تسلسل هذه الآثار مقدورا.
علمك ما يجب عمله غير علمك بما أنت فاعل. (2) أوهام الديمقراطية
يظن دعاة الديمقراطية أنها نظرية عقلية، والحقيقة أن مبناها المشاعر والدين مما لا دخل للعقل فيه.
الديمقراطية عند العامة شيء، وعند المتعلمين شيء آخر.
أول ما يفهمه العامة من الديمقراطية المساواة، فلا يقولون بالإخاء بين الطبقات وليس لهم أقل عناية بالحرية، أما المستنيرون فظمؤهم إلى الحرية شديد، وميلهم للمساواة قليل.
ذاتية الديمقراطي الحقيقية فانية في فريقه، فليس له شخصية إلا بها.
يمتاز علم النفس عن الديمقراطية بكونه يرى أن ذاتية المجموع المسمى أمة أحط بكثير من ذاتية الفرد.
لا فرق بين تعدي فريق العمال في هذا الزمان، وتعدي الشرفاء ورجال الدين في الزمن السابق، مما تعبت الملوكية زمنا طويلا في محاربته.
كم من أمم تحتمل الاستبداد بلا عناء، ولا تطيق الحرية إلا بالجهد، وهي على الدوام تبدي كراهيتها للأول وحبها للثانية.
مبادئ الديمقراطية من فريق الأفكار التي برح الإنسان لا إلزام الغير بها، ولا يرضاها لنفسه إلا قليلا.
كلما سطرت المساواة في القوانين، اشتد ميل الناس إلى الفروق الظاهرة المميزات بينهم.
حاجة الديمقراطية إلى الزهو والظهور، من أغلى الحاجات ثمنا وأقلها نفعا.
السر في شدة الميل إلى المساواة، هو في الغالب رغبة المرء في أن يتقدم على غيره، ولا يتقدم أحد عليه.
المساواة نظرية صناعية ولدت كراهية كل تفوق يبنى عليه مجد الأمة.
عاقبة الديمقراطية إقامة حرب الطبقات المستمر، مقام حرب الأمم المتقطع.
الطبيعة لا تعرف المساواة، وما كان من رقي فسببه التفاوت المتزايد كل يوم.
لا تميل الحضارة إلى التسوية بين الناس، بل هي تزيد في فرجة الفروق دائما.
ادعت الديمقراطية للعلم قوة لا وجود لها إلا في الخيال، وآل أمرها إلى أن عبدته وهو رب كاذب. (3) الأوهام الاشتراكية
الاشتراكية غاية مبدأ المساواة القصوى، وما هي إلا حالة ذهنية أكثر من كونها مذهبا.
الديمقراطية والاشتراكية بعيدان بعدا سحيقا عن بعضهما، وإن كان الظاهر غير ذلك.
الاشتراكية تدعو إلى تسوية المقامات، فهي نقيض الديمقراطية في رأي المستنيرين الذين يقولون بإعلاء كلمة الكفاءة والنبوغ.
إبهام المبادئ الاشتراكية إحدى علل انتشارها، فمن حاجة المذهب أيا كان أن لا يتحدد ويستبين إلا بعد انتصاره.
انتشار الاشتراكية راجع في الأكثر إلى كونها صورة من صور مذهب (الحكومية)، وهي غاية الغايات لجميع الأحزاب السياسية في البلاد الفرنساوية.
مما يكثر أنصار الاشتراكية، قساوة بعض أصحاب المال وضعف أخلاقهم.
إذا مالت الحكومة إلى المغالاة في حماية الأفراد، قعدوا عن حماية أنفسهم، وفقدوا فضيلة الهمة الذاتية.
لما كانت المعتقدات لا تحتمل التكذيب، وضعت جناتها حيث لا وصول إليها، وإنما ضعفت الاشتراكية في كونها جعلت دار نعيمها في هذه الدنيا.
السعادة المنكمشة، وبعبارة أخرى المساواة في التسخير، مما تبشر به الاشتراكية، ليس خيالا قويا يأخذ بلب الأمم طويلا.
من لوازم تقدم الحضارة في هذا الزمان، إيجاد منبوذين يكثرون يوما عن يوم، لا ينطبعون على عصرهم، ولا ينفكون عن محاربته، أولئك هم السواد الأعظم بين الاشتراكيين.
كانت الثروة قديما، قائمة على جمود رأس المال في مكانه، فأصبحت لا حياة لها إلا في تداوله، أعني في الفطانة التي يقتضيها استخدامه.
ستفضي الاشتراكية إلى استعباد عام، وكذلك شأن مذهب النقابات، غير أن هذا محدود في دائرة منافع كل فريق بحسب مهنته، فهو يمكن الفرد من مغالبة استبداد الهيئة الحاكمة.
السبب في معظم ما وصلت إليه الحضارة من الرقي، أمور معدودة: هي الهمة الذاتية، والمخاطرة، والمسابقة، وما كان من قبيل ما ذكر، مما ترمي الاشتراكية إلى إعدامه.
إقامة همة الجماعة وتبعتها، مقام همة الفرد وتبعته، إنزال الإنسان إلى أحط دركات الكفاءات البشرية.
من المجاميع الإنسانية ما تفنى فيه روح الفرد، وذلك تقهقر تتطور به الأمة إلى الوراء.
ما خرج الإنسان من الهمجية إلى الحضارة، إلا بهروبه من مساواة العصور الأولى، مما ترمي الاشتراكية إلى إرجاعنا إليه. (4) السلم والحرب
الحياة جهاد، والجهاد ناموس عام، ولو أن الناس كانوا سلميين لما ارتقوا.
لولا أنه لا رحمة في الطبيعة بالضعفاء، لسادت الوحشية، ولما انبثق شعاع واحد من نور الحضارة.
الأمم التي يحق لها أن تجنح إلى السلم وتطيقه، هي التي كثرت مدافعها.
أحكام الأهبة، وقوة الاعتقاد، وشدة كراهية العدو، هي شروط الظفر في الحروب دائما.
الإحجام لتصور نافلة الإقدام، رغبة من أول الأمر عن النجاح.
إذا تألف الجيش من جنود يجادل بعضهم بعضا، ظفر به الجيش من الهمج الذين لا قدرة لهم على النظر ولكنهم سباقون إلى الطاعة من غير جدال.
الخوف من الهزيمة يزيد التعرض لها، وحمل الجيش على الاعتقاد بأرجحيته يضاعف شجاعته وحظه في النصر.
شجاعة الفرد أندر من شجاعة الجماعة.
قد تكون عاطفة الميل وحدها، سبب المحبة بين الأفراد، وأساس المصافاة بين الجماعات، المنافع المادية، تدوم بدوامها، وتنعدم بانعدامها.
منافع الأمم الاقتصادية تحملها على حب السلام. ولكن اختلاف المشاعر والمعتقدات، يدفعها دائما إلى الخصام.
لو أن هناك أمة سلمية بطبيعتها لمحيت من التاريخ على عجل. (5) الثورات
أبقى الانقلابات ما كان في المعقولات.
أساس الانقلابات العلمية، تصورات عقلية، أما الثورات السياسية والدينية فمنشؤها مشاعر ومعتقدات وأفكار عامة.
تتأثر حياة الأمم من الانقلابات العلمية، أكثر كثيرا من الثورات السياسية.
قد تبنى الثورة السياسية في أول أمرها على اعتبارات معقولة لكنها لا تنتشر إلا بضغط المشاعر والمعتقدات والجماعة، مما لا دخل لشيء من العقل فيه.
الثورات والحروب دليل على انتقال تنازع القوى النفسية من عالم الكون إلى عالم الظهور.
ليست الثورة على الدوام حادثا ينقضي متبوعا بحادث يبتدى، بل قد تكون حادثة واحدة مستمرة سريعة الخطى.
تشدد الأمة في الاحتفاظ بالتقاليد، يسلمها إلى الثورة العنيفة؛ لأنها لا تقدر على التطور فتضطر إلى التحول فجأة.
الشقي من ألقي في قلبه أنه شقي، وكذلك يفعل القواد ليضرموا نار الثورة في النفوس.
يظن قواد الثورة أن العقل رائدهم، وما هم إلا مسيرون بمشاعر ومعتقدات، وروح جماعات لا يتنبهون لها.
العدوى الفكرية أعظم البواعث على انتشار روح الثورة.
الجماعات محط الثورة لا مصدرها.
أساطين الثورة: أفكار، وقواد، وجند وجماعة.
كل ثورة ناجحة تقوم بها العامة، رجوع وقتي إلى الهمجية، لما فيها من انتصار الشهوة على العقل، وتخطي القيود الاجتماعية التي هي الفارق بين المدني والهمجي.
لا تذهب الثورة ببناء شاده العقل جيلا بعد جيل، وإنما تنال من صورته فقط.
أثر الثورة القريب، الخروج من رق إلى رق.
ليست الاصطلاحات الاجتماعية الكبرى من عمل الثورات، بل لها، كالتغيرات الچيولوچية، أسباب صغيرة تتوفر على مهل.
يطلب السواد الأعظم من الناس أن يساسوا لا أن يثوروا.
قلما تعقل الأمة شيئا من الثورة التي تقوم بها.
لا تدرك الأمة سبب ثورتها إلا بعد أن تكون هذه انطفأت منذ زمن طويل.
من السهل نزول الملك عن عرشه، لكن المبادئ التي يمثلها تدوم من بعده، فأغلب الثورات إنما تأتي بملوكية بدل أخرى.
إذا تفككت روابط الجيش فأنذر الأمة بالثورة، وقد ماتت الملوكية في فرنسا يوم تمرد الجند فقعد عن حماية الملك.
الثورة عند بعض الناس حالة عقلية بقطع النظر عن محلها، وإذا كان هذا مصدرها فلا شيء يطفئ نارها.
الغالب أن سبب الثورة المقبلة نهاية معتقد مدبر. (6) حكومة الأمة
ما حكومة الأمة إلا حكومة طائفة من الزعماء.
أبعد ما يرمي إليه خيال المتسوسين، اعتبار الأمة إلها معصوما لا يسأل عما يفعل.
شرط بقاء الحكومة الديمقراطية، عملها بالأفكار الباطلة السائدة في الجموع.
الحكومات الديمقراطية مسيرة على الدوام بالمغالاة والتظاهر بمحبة الإنسانية والخوف.
لا إنصاف ولا تسامح في حكومة الأمة؛ لأنها خاضعة لشهوات كثيرة، وهي لا تدوم إلا بالإيغال في الاستبداد.
استبداد الفرد أقل عسفا ، حذر التبعة، من استبداد الجماعة إذ لا تبعة عليها.
من السهل قلب الاستبداد الفردي، ولا حيلة للمظلوم من استبداد الجماعة.
ليس الظلم هو المكروه غالبا، بل المكروه دائما هم الظالمون.
أقسى المظالم محتمل، إذا جهل مصدره.
لا يستقيم أمر حكومة الأمة إلا إذا ساد فيها روح اليعاقبة.
1
تتولد روح اليعاقبة من ضيق الفكر، وتطرف الشهوة وثورة المعتقد وعدم قابلية التعقل الصحيح.
ليس اليعقوبي من أهل النظر العقلي، بل هو من أهل الاعتقاد، فهو لا يحاول مطابقة معتقده للعقل، بل يعمل على إدماج العقل في معتقده.
تنقسم بعض الأمم من حيث السياسة إلى يعاقبة لا يفقهون للماضي سرا، وإلى محافظين لا يدركون ضرورات الحاضر.
سياسة الجمع منحطة دائما، وليس لحكومة الأمة إلا هذه السياسة.
لولا أن الضرورات الاقتصادية تصد من شهوات حكومة الأمة، لكانت يدها معول خرابها.
تبدأ الديمقراطية إذا انتصرت بهدم الطبقات الممتازة قديما ثم توجد طبقات ممتازة مرة أخرى.
جرائم الملوك لا تعد بجانب آثام الأمم.
ورثت حكومة هذا العصر في نظر الجموع سلطان الملوك أيام كانوا ظل الله في الأرض.
لطيف الخوف شأن كبير في حكومة الأمة، فالخوف من الجيش ومن الكنيسة ومن العمال ومن الموظفين، هو الذي يملي أكثر قوانيننا منذ عشرين عاما.
سلطة الحكومة الديمقراطية التي تنتقل وزاراتها مسرعة من وزير إلى وزير، بيد المصالح التابعة إليهم. فالوزراء يحسبون أنهم يحكمونها، وهم بها محكومون.
كلما ضعفت الحكومة عظم سلطان فريق الموظفين.
ما أسرع الفوضى إلى أمة، إذا حلت فيها كلمة الجماعة محل كلمة القانون.
يخف عسف حكومة الأمة بقلة ثباتها؛ لأن سرعة تعاقب الأحزاب في دست الحكم، يجعل ظل كل منها سريع الزوال.
إما تصير الحكومة الديمقراطية هيمنة عسكرية، وإما تؤول إلى حكومة ذوي الأموال، وتلك صورة من أشد صور الاستبداد ظلما.
لا يستدل على حقيقة حال الأمة السياسي بدستورها، ولا بقوانينها، وإنما مقياس ذلك في المقابلة بين شأن الحكومة وشأن الأفراد في الأعمال العامة وفي الأعمال الخاصة.
ترى حكومة الأمة أن إقفال المعابد أقل ضررا من إقفال حانات الخمور، وسترى أن الأول أعظم خطرا.
أمة تنشد المساواة على الدوام، هي قاب قوسين من الاسترقاق. (7) روح السياسة
المسائل السياسية في هذا الزمان، شبيهة بأسئلة أبي الهول المذكور في القصص القديمة: إما أن يحلها من يزاولها، وإما أن يغتال.
لا يدرك السياسة من جهل روح الشعوب والأمم والأفراد والجماعات.
الأمة وحدة ذات قوى متنافرة تحتاج إلى التوازن، فإذا اختل توازنهم بدت الفوضى.
تنحصر السياسة في أمرين: علم وبصر.
الحكومة بنت عصرها، لا أمه.
إذا لم يكن من القوى ما يمهد للذرات الطبيعية والخلايا الحية والأفراد البشرية طريق فعلها، فهي عثير لا فائدة منه.
سلطان الحكومة بخضوع المحكومين طوعا أكبر من سلطانها بقوتها.
ما عرفت الأمم حتى الآن من أشكال الحكومات إلا أثرة الفرد أو أثرة الجماعة، والثانية كانت على الدوام أقسى من الأولى.
العلم بالنتائج البعيدة للأعمال السياسية متعذر، ولهذا كان الشغف بالإصلاحات الكلية خطرا كبيرا.
لا تنبت الحوادث السياسية فجأة، ولكنها نتيجة سلسلة أسباب سابقة.
عدك الحادث لا مفر منه، يجعله قضاء محتوما.
الفوز في السياسة كما في الحياة لأهل اليقين، وقلما فاز المترددون.
ضعف ثقة طائفة بحقوقها يضيعها كما وقع للشرفاء قديما، وما هو واقع لأهل الطبقة الوسطى حالا.
الأمور المعروفة الواضحة أقل أهمية من التي يغشاها الإبهام سيان في ذلك السياسة والحياة الفردية.
لا تتولد الحرية بنقل الأثرة من يد إلى أخرى.
ليس ضرر الحكومة المطلقة من المستبد بالأمر فيها، بل من ألوف صغار المستبدين الذين يتقاسمون سلطانه.
اختلاط السلطات نتيجة اختلاط الأفكار.
النظريات السياسية كالمعتقدات الدينية، لا ينبغي الحكم عليها من جهة انطباقها على العقل، بل من حيث أثرها في الناس.
كثير من الخطأ السياسي صادر عن نظريات صحيحة عقلا.
عدم الأفكار الرئيسية في السياسة، أقل ضررا من الأفكار الباطلة.
زوال الحكومات بخطئها، أكثر من زوالها بفعل أعدائها.
لولا أن استبداد الأحياء محدود باستبداد أسلافهم فيهم، لتجاوزوا فيه كل حد. (8) فن الحكم
الاجتماع بلا وازع متعذر، كما أنه لا نهر إلا بضفاف تحصر تيار مياهه.
أنجع الوسائل في هدم مبدإ السلطة، إلفات الناس إلى ما لهم من الحقوق، وإغفال تذكيرهم بما عليهم من الواجبات، فكل على استعداد للأخذ بالأولى، وقليل يأبه للثانية.
لا يكفي أن تهتم الحكومة بمنافع الأمة المادية، بل لا بد من العناية أيضا بآمالها.
السلطان الأدبي لا يقاوم بالقوانين ولا بالجند.
لا يسوس الناس إلا من عرف أنه لا تلازم بين تطور النفس الشاعرة وتطور النفس العاقلة، وأن الواحدة منهما لا تتأثر بالأخرى إلا قليلا.
من أسرار فن سياسة الأمم استخدام نزعات النفس الشاعرة والنزعات الدينية وتوجيهها في طريق معقول.
يحتاج الفكر الجديد إلى سند يتكئ عليه حتى ينتشر، فإذا ما ثبت صار متكأ.
ينبغي للوازع أن لا يشارك قومه في شهواتهم، لكن يجب عليه أن يكون على علم بها.
سياسة الأمة متعذرة على من جهل أن من المفتقدات الباطلة عقلا، ما هو أفعل في الناس من الحقائق الناصعة.
من الخطر معاداة الدين، وكل حكومة تضطهد الأمة في معتقدها هالكة من يد هذا المعتقد.
ينبغي للحكومة أن تبتعد عن الاضطهاد، ولو لم تقصد من عملها إلا المنفعة الحقة؛ لأن العنف يفيد المذاهب المضطهدة أكثر مما ينفع مضطهديها.
وظيفة العالم قتل الأوهام، ووظيفة السياسي استخدامها.
إذا عمدت الحكومة إلى متابعة الرأي العام ولم توجهه، بطلت سيادتها.
سلطان غير موثوق به، يوشك أن تزول حرمته.
إذا تفرقت التبعة فهي الإباحة.
استخدام السلطان لفائدة طائفة يزيد في جشعها، ولا تلبث أن تنقلب عدوة لصاحبه.
من وسائل فن الحكم، اجتذاب قواد الأغلبيات أو معارضتهم بأمثالهم.
لا يفل الزعماء إلا الزعماء.
من السهل تمزيق روح الجماعة لأنها عرضية، لكن من المتعذر إماتة روح الأمة لأنها روح دائمة.
الإرجاء للاستعداد حكمة كما قال «ميكاڨيل»، لكن من الخطر أن يكون الغرض منه ترك تمهيد السبيل للزمن.
عدم الرضا علة المجهود، فما طمحت إلى الرقي نفس راضية برزقها.
ينبغي للحكومة أن تجعل من الأخلاق سدودا، قبل أن تصير هذه ضرورة حالة، ولات حين بنائها.
إذا لاح وجوب التسليم ، وجب أن لا ينتظر به حتى لا يكون مهرب منه.
من عوامل التفريق بين الأمم، مذهب حب الإنسانية والخوف ولا عذر لمن تصدى للحكم في الأخذ بهما.
التساهل دائما أمام التهديد، والطرق القهرية، يولد في النفوس اعتقادا بأن المطالب تنال من طريق الوعيد أو التخريب.
التساهل لا يمنع حربا لزمت، ولكنه يزيد في نفقتها ويكثر من ضررها.
عقوبة صارمة مؤقتة، أفضل من عقوبة هينة مستمرة.
إنما يفيد الإرهاب في زجر النفوس إذا لم يطل أمده.
حكومة تعودت التحالف مع الاضطراب، مقتولة به.
إذا تعذر حكم الأمة طبقا لمبادئ صحيحة، وجب التعويل على حكمها طبقا لما اتفق على أنه صحيح.
من الخرق معارضة اندفاع الأمة، بل الحكمة تقضي بتحويله شيئا فشيئا.
الرجل الممتاز يعرف كيف يستخدم القدر، كما يستخدم الربان الرياح من أي ناحية هبت.
لكل حادث ظهر أسباب خفية اقتضته، من لم يستطع استكناهها جاهل بفن سياسة الأمة.
السياسة التي لا تعنى إلا بالحاضر، سياسة منحطة.
سلامة الذوق والخلق، أنفع غالبا للسياسي من حدة الذكاء.
لا دوام لمجتمع إن لم يكن له أفكار ثابتة، ولا يترقى الفرد إلا بتطور أفكاره.
الحاضر مثقل بالماضي، فمن أراد النظر إلى ما هو آت، وجب عليه أن يذكر ما فات.
التبصر مفيد، والتقية أفيد: ذاك يعصم من المفاجأة وهذه تعصم من آثارها.
سياسي لا بصر فيه، محدث أقدار كبير ضررها.
هوامش
صفحه نامشخص