Jawami' Al-Sirah
جوامع السيرة ط المعارف
پژوهشگر
إحسان عباس
ناشر
دار المعارف
شماره نسخه
١
سال انتشار
١٩٠٠ م
محل انتشار
مصر
ژانرها
مقدمة
١ - ابن حزم المؤرخ والسيرة النبوية (١)
لسنا نبعد عن الحق حين نفترض أن ابن حزم، في كتابة سيرة الرسول ﷺ، كان يرمي إلى وضع مختصر قريب المأخذ، سهل المتناول، في أيدي طلابه، كما فعل في كثير من رسائله التاريخية، مثل رسالة " نقط العروس "، ورسائله في رجال القراءات، والحديث، والفتوح، وتواريخ الخلفاء؛ وأنه كان في هذا المختصر يضع الأصول التي لا يستغني عن تذكيرها أو استظهارها كل من اشتغل بالسيرة النبوية من طلاب العلم.
قد تكون هذه الغاية التعليمية باعثًا أكيدًا، يحدو وعالمًا مثل ابن حزم إلى كتابة السيرة النبوية، ولكنها ليست كل ما هنالك من بواعث. ومن يعرف قيمة النقل والاستكثار من السنن في مذهب أهل الظاهر عامةً، وعند ابن حزم خاصة والسيرة جزء هام من هذا النقل يجد أن تناول ابن حزم للسيرة بالنظر الجديد، والتحديد والتقييد، إنما هو جزء من مذهبه. فالنقل أساس من أسس المذهب الظاهري، بل ميزة يعدها ابن حزم للملة الإسلامية على سائر الملل؛ وعن طريق النقص في النقل، وضعف الثقة في الناقلين، هاجم
_________
(١) انظر ترجمة ابن حزم في: كتاب جذوة المقتبس للحميدي رقم: ٧٠٨، ومطمح الأنفس للفتح بن خاقان ص: ٥٥، والذخيرة ١: ١٤٠، والمغرب رقم: ٢٥٣، وتذكرة الحفاظ للذهبي ٣: ٣٤١، ولسان الميزان ٤: ١٩٨ - ٢٠٢، وانظر أيضًا ما كتبه الأستالذ سعيد الأفغاني في مقدمة كتابه " ابن حزم الأندلسي ورسالته في المفاضلة بين الصحابة " وكتاب Asin Palacios. عن ابن حزم.
1 / 1
ابن حزم الملل الأخرى، ورآها أضعف من أن تثبت للنقد الصحيح.
غير أن سيرة الرسول ليست جزءًا من النقل فحسب. بل هي صورة عليا من الكمال الإنساني، في نفس ابن حزم، ولذلك لا غرابة في أن يجعل منها موضوعه المحبب، وأن يحاول وضعها للناس وضعًا ميسرًا قريبًا واضحًا بين الحقائق. وإن الشخصًا يعتقد أن " من أراد خير الآخرة، وحكمة الدنيا، وعدل السيرة، والاحتواء على محاسن الأخلاق كلها، واستحقاق الفضائل بأسرها، فليقتد بمحمد رسول الله ﷺ، وليعتمد أخلاقه وسيره ما أمكنه " (١) ... لا يسأل كثيرًا عن البواعث التي تضاعف عنايته بالسيرة، وتحدوه إلى كتابتها من جديد.
بل الأمر يزيد على كل ما تقدم قوة ورسوخًا، حين نعلم أن سيرة الرسول عند ابتن حزم، دليل من الأدلة الساطعة على ثبوت نبوته. حقًا إن المعجزة من أدلة النبوة، ولكن سيرة الرسول ﷺ معجزة تزيد في قوتها ودلالتها على سائر المعجزات المادية.
يقول ابن حزم: " إن سيرة محمد ﷺ لمن تدبرها تقتضي تصديقه ضرورةً، وتشهد له بأنه رسول الله ﷺ حقًا، فلو لم تكن له معجزة غير سيرته ﷺ لكفى " (٢) .
ويوضح أبو محمد رأيه هذا بالأمثلة، فيقول: " وذلك: أنه ﵇ نشأ كما قلنا في بلاد الجهل، لا يقرأ ولا يكتب، ولا خرج عن تلك البلاد قط إلا خرجتين: إحداهما إلى الشام وهو صبي مع عمه إلى أول أرض الشام ورجع؛ والأخرى أيضًا إلى أول الشام، ولم يطل بها البقاء، ولا فارق قومه قط. ثم أوطأ الله تعالى رقاب العرب كلها، فلم تتغير نفسه، ولا حالت سيرته، إلى أن مات ودرعه مرهونة في شعيرٍ لقوت أهله أصواع ليست بالكثيرة ولم يبيت قط في ملكه دينار ولا درهم، وكان يأكل على الأرض
_________
(١) من رسالته " مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق " - كبعة محمد أدهم الكتبي بمصر ص ١٣.
(٢) الفصل في الملل ٢: ٩٠.
1 / 2
ما وجد، ويخصف نعله بيده، ويرقع ثوبه، ويؤثر على نفسه؛ وقتل رجل من أفاضل أصحابه، مثل فقده يهد عسكرًا قتل بين أظهر أعدائه من اليهود فلم يتسبب إلى أذى أعدائه بذلك، إذ لم يوجب الله تعالى ذلك، ولا توصل بذلك إلى دمائهم، ولا إلى دم واحد منهم، ولا إلى أموالهم، بلى فداه من عند نفسه بمائة ناقة، وهو في تلك الحال محتاج إلى بعير واحد يتقوى به.... " (١) .
وبهذا الروح، بل بهذا الأسلوب نفسه، كتب ابن حزم سيرة الرسول ﷺ، وميز بالعناية البالغة فصلين هامين منها، هما: أعلام الرسول، وخلقه وشمائله. وهذان هما الوضوعان اللذان سكررهما في كتاباته الأخرى (٢)، لأنهما شاهدا حق على نبوة الرسول، ولأن ثانيهما يمثل الجانب العملي في الكمال الخلقي.
وقد ذكر ابن حزم كتابين من المصادر التي نقل عنهما، وهما: تاريخ أبي حسان الزيادي، وتاريخ خليفة بن خياط (٣)، وهما من الكتب التي فقدت، وبقيت منهما نقول مبثوثة في بعض الكتب التاريخية؛ ولا ندري أطلع عليهما ابن حزم، أم نقل عنهما نقلًا غير مباشر. أما الذي لا شك فيه فهو أن تاريخ خليفة قد وصل الأندلس في عهد مبكر، برواية بقي بن خلد (٤)، وبقى عند ابن حزم شيخ المفسرين والمحدثين.
ويدلنا البناء العام لكتاب السيرة، على أن ابن حزم يتكئ كثيرًا على سيرة ابن إسحق، وخاصةٍ حين أخذ في الحديث عن غزوات الرسول واحدة واحدة، وعد في كل غزوة أسماء من شهدها من المسلمين والمشركين، وأسماء من استشهد
_________
(١) المصدر نفسه، وانظر جوامع السيرة: ٤١.
(٢) انظر مثلًا الفصل ٢: ٨٦.
(٣) راجع جوامع السيرة ص: ٣٣، ٣٥، ٣٦، ٣٩.
(٤) فهرست ابن خير ص: ٢٣٠.
1 / 3
من المسلمين، حتى إن شدة اتباعه لرواية ابن إسحق في هذه المواطن لتطلعنا على ظاهرة عجيبة، فقد حافظ ابن حزم على النسب الكامل لأكثر من ذكرهم من الأشخاص، وليس هذا مما يستغرب منه وهو صاحب الجمهرة في الأنساب إنما الغريب حقًا أنه في السيرة اختار رواية ابن إسحق نفسه في النسب، بينا لم يأخذ بها في الجمهرة. فلعله ألف الكتابين في فترتين متباعدتين، أو لعل مصادره في الجمهرة كانت كتبًا أخرى، ليست تحتوي على رواية ابن إسحق.
ونحن على ما يشبه اليقين من أن ابن حزم، الواسع الاطلاع، المعنى بالسيرة النبوية أشد عناية وأبلغها، قد أطلع على كثير من الكتب المؤلفة في سيرة الرسول، ونخص بالذكر منها مغازي موسى بن عقبة، وكتاب السير لسعيد بن يحيى الأموي، وأعلام النبوة لأبي داود السجستاني، وأعلام النبوة لأبي جعفر أحمد بن قتيبة، فكل هذه الكتب، وغيرها، هاجر إلى بلاد الأندلس، وتداوله الأندلسيون روايةً ودراسةً (١) .
وقد أفاد ابن حزم في كتابه السيرة، ما صنعه من قبله شيخه ومعاصره أبو عمر بن عبد البر، مؤلف كتاب " الدرر في اختصار المغازي والسير "، ونحن لا نملك من هذا الكتاب صورةً كاملة أو وافية، تدلنا إلى أي مدى اعتمد عليه ابن حزم، ولكن النقول القليلة التي احتفظ بها ابن سيد الناس من كتاب أبي عمر المذكور (٢)، تؤكد أن ابن حزم قد نقل عن شيخه نقولا متفرقة في شيء قليل من التصرف، إلا أن نفترض أن المؤلفين نعنى ابن عبد البر وابن حزم ينقلان عن مصدر ثالث لم يقع إلينا.
على أن من الطريف أن لا تحيا سيرة ابن عبد البر عند من جاء بعده من المؤلفين باستثناء ابن سيد الناس وأن تصبح سيرة ابن حزم مرجعًا معتمدًا
_________
(١) فهرست ابن خير: ٢٣٠ - ٢٣٧.
(٢) انظر عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير ١: ١١٠، والإشارة في جوامع السيرة تعليق رقم ١ ص: ٥٢.
1 / 4
ينقل منه بعض من كتبوا في السيرة، بعد القرن السادس، نقلًا مباشرًا أو غير مباشر فقد أفاد منها ابن كثير مرتين: مرةً في البداية والنهاية، ومرةً أخرى في كتابه " الفصول "، وهو مختصر لطيف في السيرة أيضًا. وأكثر المقريزي الاقتباس منها إكثارًا أربى على غيره، حتى لقد ورد في الجزء المطبوع من إمتاع الأسماع خمسة عشر نقلًا عن سيرة ابن حزم. ونقل صاحب المواهب اللدنية نصًا قصيرًا مأخوذًا من السيرة، وردد الديار بكرى هذا النص نفسه في تاريخ الخميس.
وتمتاظ هذه النقول بأنها تحمل الرأي الخاص بابن حزم في مسائل كثر حولها الاختلاف، وخاصةً تأريخ الأحداث وزمان وقوعها، وإن إيراد بعض الأمثلة المنقولة ليوضح جانبًا من قيمة هذه السيرة، فمن ذلك:
(أ) وفرضت الزكاة أيضًا رفقًا بالهاجرين في هذا التاريخ، كما ذكره أبو محمد بن حزم؛ وقال بعضهم إنه فرض الزكاة متى كان (١) .
(ب) قال الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم: وفي مرجع الناس من غزوة بني المصطلق، قال أهل الإفك ما قالوا، وأنزل الله تعالى في ذلك من براءة عائشة، ﵂، ما أنزل، وقد روينا من طرق صحاح أن سعد بن معاذ كانت له في شيء من ذلك مراجعة مع سعد بن عبادة، وهذا عندنا وهم، لأن سعد بن معاذ مات إثر بني قريظة بلا شك وفتح بني قريظة في آخر ذي القعدة من السنة الرابعة من الهجرة، وغزوة بني المصطلق في شعبان من السنة السادسة، بعد سنة وثمانية أشهر من موته، وكانت المقاولة بين الرجلين المذكورين بعد الرجوع من غزوة بني المصطلق بأزيد من خمسين ليلة (٢) .
(ح) وقال بعضهم: كانوا [أي المسلمين في عمرة الحديبية] سبعمائة، قال ابن حزم: وهذا وهم شديد ألبتة، والصحيح بلا شك ما بين ألف وثلاثمائة، إلى ألف وخمسمائة (٣) .
_________
(١) إمتاع الأسماع: ٥٠، وجوامع السيرة: ٩٧.
(٢) الإمتاع: ٢١٥، وجوامع السيرة: ٢٠٦.
(٣) الإمتاع: ٢٧٦، وجوامع السيرة: ٢٠٧.
1 / 5
وبهذه الأمثلة، ومثلها كثير، تظهر لنا ميزة " جوامع السيرة "، وبم تنفرد عن غيرها من السير، وبم يتميز ابن حزم المؤرخ في طريقته التاريخية.
فهذه الدقة البالغة في تحليل النص المنقول، واختيار الرواية الصائبة بعد الفحص والنظر والمقارنة، وتصحيح الأوهام التي تنجم عن سرعة أو قلة تدقيق ... هذه هي المميزات التي لا يستطيع أحد أن ينكرها على ابن حزم المؤرخ.
وهي مميزات لا يستكثر معها تلك اللهجة التقريرية القاطعة التي تغلب على كتابته، ولا يستنكر إزاءها قوله دائمًا، " لا شك " و" لا بد ". فإن الثقة القائمة على التحري المخلص، والنقل الثابت قطعًا، هي وحدها التي تملى على ابن حزم هذه الألفاظ القوية الحاسمة.
ولقد عرف أبو محمد بين معاصريه بالضبط الدقيق في تقييد التواريخ، حتى إن تلميذه الحميدي لا يفتأ يقول كلما وجد رواية أستاذه تخالف رواية غيره: " وأبو محمد أعلم بالتواريخ "، أو كلاما ً بهذا المعنى (١) .
ولذلك جاءت هذه السيرة تحمل رأيًا قاطعًا لا تردد فيه، في تأريخ الأحداث لا لأن ابن حزم مؤرخ شديد الدقة والضبط فحسب، (بل لأنه ذو رأي مستقل في طريقه التأريخ الهجري. فهو يعتبر شهر ربيع الأول وهو الشهر الذي هاجر فيه الرسول إلى المدينة أول السنة الهجرية، محرراَ بذلك تأريخ وقائع السيرة، ينسبها إلى الوقت الذي وقعت فيه الهجرة فعلًا. لا يقصد بذلك مخالفة التاريخ الهجري الذي استقر عليه المسلمون جميعًا، منذ عهد عمر إلى الآن، وإلى ما شاء الله، وهو اعتبار شهر المحرم بدء السنة الهجرية.) فصنيعه هذا من الناحية التأريخية الصرفة أدق في التوقيت وأقرب إلى الواقع التاريخي. وخاصةً حين أصبح المؤرخون يقولون: إن هذه الحادثة أو تلك حدثت في السنة الثانية أو الثالثة، وانصرفوا عن مثل قول الواقدي إنها حدثت مثلًا - على رأس خمسة عشر أو ستة عشر شهرًا من مقدم الرسول إلى المدينة، وواضح أن بين التعبيرين
_________
(١) انظر مثلًا ص: ٢٧٥ من جذوة المقتبس.
1 / 6
فرقًا يذهب بعدد من الأشهر، بعد إذ اعتبر المحرم رأس السنة الهجرية.
نعم إن الخلافات في الناحية الزمنية كثيرة متشعبة، ورأى ابن حزم يزيدها رأيًا جديدًا، ولكن الاطمئنان الذي يضيفه ابن حزم على آرائه يجعلنا نركن إليها وتفضلها، فهو وحده الذي يلقانا مطمئنًا إلى التأريخ الذي حدثت فيه الموقعة، أو فرضت فيه الزكاة.
وليس هذا الاطمئنان مؤسسًا على الغلو في الثقة بالنفس، والاعتداد بالرأي محض اعتداد، ولكنه قائم على الدقة والتمحيص.
وقد رأينا كيف استطاع ابن حزم، من هذا كله، أن يصحح كثيرًا من السهو في التاريخ، كنسبة المقاولة في حديث الإفك إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة؛ وهو بتفضيله الحديث الصحيح على كل رواية أخرى من روايات أصحاب المغازي قد اتخذ لنفسه منهجًا واضحًا في معالجة المسائل التاريخية حيث موضوعها وزمنها.
وتمشت مع هذه الدقة الجازمة، والضبط الواثق، صفة أخرى استملاها أبو محمد من قوله بالظاهر. ولا شك أن طبيعة السيرة من حيث هي، ومن حيث بناؤها على الإيجاز لم تتح لأبي محمد أن ينطلق في انتزاع الأحكام من النصوص تأييدًا لمذهبه، ولذلك لم تستعلن الظاهرية في تفسيره للأحداث، ولكنها حين تنفست في هذا المجال الضيق، جاءت طريفة تحمل الطابع الحازم الذي اشتهر ابن حزم، حين يطمئن إلى النص في مواجهة خصومه.
ومن ابرز الأمثلة على ذلك ما ذكره في غزوة بني قريظة، حين أمر الرسول أن لا يصلى أحد العصر إلا في بني قريظة، ونهض المسلمون، فوافاهم وقت العصر في الطريق، فقال بعض المسلمين: نصلي ولم نؤمر بتأخيرها عن وقتها؛ وقال آخرون منهم: لا نصليها إلا حيث أمرنا رسول الله ﷺ أن نصليها، فذكر أن بعضهم لم يصلوا العصر إلا ليلًا، فبلغ ذلك رسول الله
1 / 7
ﷺ، فلم يعنف من الطائفتين أحدًاُ، قال ابن حزم بعد ذلك: " أما التعنيف فإنما يقع على العاصي المعتمد المعصية وهو يعلم أنها معصية، وأما من تأول قصدًا للخير، فهو وإن لم يصادف الحق غير معتنف. وعلم الله تعالى أننا لو كنا هناك ما صلينا العصر في ذلك اليوم إلا في بني قريظة ولو بعد أيام، ولا فرق بين نقله ﷺ صلاةً في ذلك اليوم إلى موضع بني قريظة، وبين نقله صلاة المغرب ليلة مزدلفة، وصلاة العصر من يوم عرفة إلى وقت الظهر. والطاعة في ذلك واجبة. " (١)
وليس ابن حزم صاحب مذهب في التاريخ بهذا وحده، ولكنه يتمتع بصفات المؤرخ النزيه المنصف على ما فيه من حدة وعنف. والنزاهة ميزة عامة عنده، لا تخص الكتابة في السيرة، لأن كتابة السيرة نوع من النقل، ولكنها تظهر في سائر ما كتبه من مادة تاريخية.
ومن المجانبة للإنصاف أن يتهم ابن حزم بأنه " كان متشيعًا في بني أمية منحرفًا عمن سواهم من قريش " كما يقول ابن حيان (٢) - فإن مثل هذا الاتهام إساءة كبيرة إلى رجل عاش من طلاب الحق وعشاقه في القول والعمل.
فإن كان ابن حيان يعني بني أمية بالأندلس، فابن حزم كان يعرف لهم قيامهم بأمر الإسلام وجهادهم في سبيله، ويثني عليهم من هذه الناحية، أما إذا كان يعني بني أمية بالمشرق، فليس فيما كتبه ابن حزم ما يشير إلى شيء من التعصب لهم. وإن رسالته في تواريخ الخلفاء لتدلنا على أنه كان يرى إمامة ابن الزبير، ويعد مروان بن الحكم خارجًا عليه، ولا يثبت له حقًا في الخلافة (٣)، حتى إنه لقيول فيه، في موطن آخر: " مروان ما نعلم له جرحةً
_________
(١) انظر جوامع السيرة: ١٩٢، وتعليق ابن كثير على ذلك ٤: ١١٨.
(٢) المغرب لابن سعيد ١: ٣٥٥ تحقيق الدكتور شوقي ضيف، وطبع دار المعارف.
(٣) رسالة ابن حزم في الخلفاء المهديين - ملحقات جوامع السيرة ص: ٣٥٩ - ٣٦٠.
1 / 8
قبل خروجه على أمير المؤمنين عبد الله ابن الزبير ﵄ " (١) . وإذا ذكر الحرة قال: " وهي أيضًا أكبر مصائب الإسلام وخرومه، لأن أفاضل المسلمين وبقية الصحابة وخيار المسلمين من جلة التابعين قتلوا جهرًا ظلمًا في الحرب وصبرًا " (٢) . ويقول أيضًا في مقتل عبد الله بن الزبير: " وقتله أحد مصائب الإسلام وخرومه، لأن المسلمين استضيموا بقتله ظلمًا وعلانية وصلبه واستحلال الحرم " (٣) .
ومثل هذه الأقوال لا يرددها من يتعصب للأمويين، أو من يحاول أن يعتذر عن كل ما حدث في أيامهم.
وقد غلبت على ابن حزم في التاريخ طريقة التلخيص، كما فعل في السيرة، فإنه جردها من الأشعار والقصص. وكان تناوله للفتوحات، وتواريخ الخلفاء في نقط العروس، وغير هذين، على هذا المنهج أيضًا.
ويمتاز عمله في هذه الناحية بجمعه أشياء متفرقة متباعدة تحت موضوع واحد، كأن يعقد فصلًا يعدد فيه أمراء الرسول، وآخر يعدد فيه سراياه، وثالثًا يذكر أبناءه وأزواجه.
وربما جمع المادة الواحدة تحت عنوان واحد، متوخيًا في ذلك الاستطراف والجدة، مقل: تسمية من ولي الخلافة في حياة أبيه، من ولي وأخوه أسن منه حي، من كان له اسمان من الخلفاء، أقصر الخلفاء عمرًا، من تسمى بالخلافة من غير قريش ... الخ (٤) . ولاشك أن هذه الرسائل تعين طلاب العلم لما فيها من تركيز على تناول المادة المتفرقة دون عناء كبير.
ويظهر من هذه الطريقة أن ابن حزم كان دائم التقييد أثناء مطالعته، وأن مثل هذه الرسائل مجموعات من تلك المقيدات. ولم يكن ابن حزم مبتكرًا
_________
(١) المحل لابن حزم ١: ٢٣٦.
(٢) رسالته في الخلفاء - ملحقات جوامع السيرة: ٣٦٠.
(٣) رسالة ابن حزم في الخلفاء - ملحقات جوامع السيرة: ٣٦٠.
(٤) انظر صفحات متفرقة في نقط العروس لابن حزم.
1 / 9
لهذه الطريقة، فقد مهدها له من قبل أمثال ابن قتيبة في كتاب المعارف، وابن حبيب في كتاب المحبر.
وأدل من هذه الطريقة التعليمية على ابن حزم المؤرخ، تلك النظرات الصائبة التي يرسلها بين الحين والحين، في عبارات قصيرة مركزة مكتنزة، فتجمع في نفسها صورةً لتاريخ طويل. كقوله في وصف الدولتين الأموية والعباسية: " وانقطعت دولة بني أمية، وكانت دولة عربية، لم يتخذوا قاعدة، إنما كان سكنى كل امرئ منهم في داره وضيعته التي كانت له قبل الخلافة، ولا أكثروا احتجان الأموال، ولا بناء القصور، ولا استعملوا مع المسلمين أن يخاطبوهم بالتمويل ولا التسويد، ويكاتبوهم بالعبودية والملك، ولا تقبيل الأرض، ولا رجل ولا يد، وإنما كان غرضهم الطاعة الصحيحة من التولية والعزل في أقاصي البلاد " ... إلى أن يقول في الدولة العباسية: " وكانت دولتهم أعجمية، سقطت فيها دواوين العرب، وغلب عجم خراسان على الأمر، وعاد الأمر ملكًا عضوضًا محققًا كسرويًا، إلا أنهم لم يعلنوا بسب أحد من الصحابة، رضوان الله عليهم، بخلاف ما كان بنو أمية يستعملون من لعن عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه، ولعن بنيه الطاهرين بني الزهراء، وكلهم كان على هذا حاشا عمر بن عبد العزيز، ويزيد بن الوليد، رحمهما الله تعالى، فإنهما لم يستجيزا ذلك. وافترقت في ولاية أبي العباس كلمة المسلمين، فخرج عنهم من منقطع الزابين دون إفريقية إلى البحر وبلاد السودان، فتغلب في هذه البلاد طوائف من الخوارج وجماعية وشيعة ومعتزلة ... " (١)
ففي هذه الكلمات القليلة الدالة استطاع المؤرخ أن يصور الروح العام في حياة دولتين كبيرتين. ومهما حاولنا التحليل والبسط للحقائق التاريخية، فإن كل ما نذكره لن يتجاوز هذه الحقائق الكبرى التي أجملها ابن حزم في عبارات قصيرة.
_________
(١) رسالة الخلفاء - ملحقات جوامع السيرة: ٣٦٥ - ٣٦٦.
1 / 10
٢ - هذه السيرة وعملنا في تحقيقها
ذكر الذهبي أن لا بن حزم كتابًا اسمه " السيرة النبوية " (١)، وقال السخاوي في معرض الحديث عن كتب المغازي والسير: " وأفردها (أي السيرة) أبو محمد ابن حزم " (٢)، ولم يذكر اسم كتابه تصريحًا؛ وجاء مكتوبًا على الورقة الأولى من نسختنا " كتاب السيرة النبوية لابن حزم "؛ ثم وجدنا في كتاب " التراتيب الإدارية " (٣) أن من بين الكتب التي نقل عنها الخزاعي مؤلف كتاب التخريج: " كتاب جوامع السيرة لابن حزم " (٤) . والخزاعي من رجال القرن الثامن (٧١٠ ٧٨١)، ولا شك أن وضعه للاسم على هذا الوجه لا يرمز إلى أنه تصرف فيه، فليس هناك من شيء يدعوه إلى اختراع اسم للكتاب إذا أمكنه أن يسميه " السيرة النبوية ".
فهذا الاسم " جوامع السيرة " هو الأشبه بكتاب السيرة الذي بين أيدينا، وهو الأولى بمثله، لأن خير لفظة تعبر عن طريقة ابن حزم التي وصفناها آنفًا هي لفظة " جوامع "، أما تسميته بكتاب السيرة النبوية، فهو نوع من التساهل في إيراد الاسم، والتساهل قد يفعل مثل هذا في كثير من الأحيان، فنحن كثيرًا ما نطلق على كتاب " الكامل في التاريخ "، اسم " تاريخ ابن الأثير "، ونقول " سيرة ابن سيد الناس " فيما يسمى أصلا " عيونه الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير ".
_________
(١) تذكرة الحفاظ، ترجمة ابن حزم.
(٢) الإعلان بالتواريخ: ٨٩.
(٣) مؤلف في جزئين للشيخ عبد الحي الكتاني طبع المطبعة الأهلية بالرباط ١٣٤٦.
(٤) كتاب التراتيب الإدارية، المقدمة ص: ٤٢.
1 / 11
ولما كان اسم " جوامع السيرة " هو المفضل من حيث الدلالة والأصالة، فقد اخترناه اسمًا لهذا الكتاب، ورفضنا ما جاء على الورقة الأولى منت النسخة المصورة، وما ذكره الذهبي، لأن الذهبي قد يكون أطلع على هذه النسخة نفسها. فالأصل في هذه التسمية إذن واحد لا تعدد، واسم " جوامع السيرة "، في نظرنا، أرجح وأقرب إلى الصواب.
أما هذه النسخة التي اتخذناها أصلًا ننشر عنه هذا النص، فقد جاء بها " معهد المخطوطات بالجامعة العربية " من المكتبة الحبيبية بالهند (١)، وقد أثبت كاتب النسخة في آخرها أنه انتهى من نسخها سنة ١٣٥٤هـ. فهي حديثة النسخ، والأصل الذي أخذت عنه موجود بمكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت بالمدينة المنورة، وهو مكتوب في القرن الثامن من (سنة ٧٧٦)، أي بعد وفاة أبي حيان النحوي (٧٤٥)، بنحو ثلاثين سنة. وإذن فالنسخة الأصلية قام بكتابتها الرجل المجهول الذي انتهت إليه رواية السيرة عن أبي حيان أثير الدين.
فإذا استثنينا هذا الراوي الذي لا نعرف شيئًا عن صلته بأبي حيان، تبقى لنا في سلسة الرواة الذين ذكرت أسماؤهم على الصفحة الثانية سن نسختنا عدد من الأعلام البارزين، وأكثرهم ورث السيرة، كما ورث معها مذهب أهل الظاهر.
١ - فأما أثير الدين محمد بن يوسف أبو حيان الجياني الغرناطي (٢)
_________
(١) ومن هذه السيرة نسخة خطية أخرى في المكتبة العمومية ببرلين رقم ٩٥١٠ ب م ٥٩٤، وانظر بروكلمن - الملحق الأول ص: ٦٩٥.
(٢) ترجم له البلوى في رحلته تاج المفرق ورقة ٥٢ من النسخة (رقم ١٠٥٣ جغرافيًا) بدار الكتب المصرية؛ والصفدي في أعيان العصر ح: ٧ القسم الأول الورقة ٦٧ من نسخة دار الكتب ورقمها ١٠٩١ تاريخ، وأعاد ترجمته في نكت الهميان: ٢٨٠؛ ونقل صاحب النفح ما جاء في أعيان العصر ١: ٨٢٥؛ وكذلك أورد له ابن حجر مسهبة في الدرر الكامنة رقم: ٨٣٢. وانظر أيضًا بغية الوعاة: ١٢١، ودرة الحجال رقم: ٥٦٠، وشذوات الذهب ٦: ١٤٥.
1 / 12
(٦٥٤ ٧٤٥) صاحب البحر المحيط في التفسير، وذو المكانة المشهورة في النحو، فقد روى هذه السيرة أيام تنقله في البلاد الأندلسية طلبًا للعلم. وأثناء تجواله لقي شيخين كبيرين من شيوخ الظاهرية، وهما: أبو العباس أحمد بن عليّ أبن خالص الإشبيلي الزاهد، وأبو الفضل محمد بن محمد بن سعدون الفهري الشنتمري. ولعله لقي أستاذه عبد الله بن محمد بن هارون في قرطبة، فأخذ عنه فما أخذ سيرة ابن حزم، ولما ارتحل أثير الدين إلى مصر (٦٧٩) كان قد روى جميع كتب ابن حزم، فرواها بمصر لبعض تلامذته. وظل الشيخ محافظًا على صلته بمذهب أستاذه القديم، فاختصر كتاب " المحلى " في كتاب سماه " النور الأجلى في اختصار المحلى ". ويذهب الصفدي إلى أن أثير الدين تخلى عن الظاهرية، لما رأى الناس بمصر لا يميلون إليها، وتمذهب للشافعي. ولكن يبدو من تعلقه بالمحلى أنه بقي محافظًا على ظاهريته بمصر مدة غير قصيرة من الزمن، ويقول غير الصفدي: " بل لم يزل ظاهريًا ". وربما أيد هذا قول ابن حجر فيه: " كان أبو حيان يقول: محال أن يرجع عن مذهب الظاهر من علق بذهنه " (١) . على أن فضل أبي حيان في البيئة المشرقية لم يقتصر على تعريف المشارقة بكتب ابن حزم، بل " هو الذي جسر الناس على مصنفات ابن مالك في النحو، ورغبهم في قراءتها، وشرح لهم غوامضها، وخاض بهم لججهان وفتح مقفلها ". وكان رسولا أمينًا في التعريف بالثقافة المغربية ورجالها، وتقييد أسمائهم على ما يتلفظون به من إمالة وترقيق وتفخيم، لأنهم يجاورون بلاد الأفرنج، وأسماؤهم قريبة من لغاتهم، وألفاظهم كذلك (٢) .
٢ - وكان شيخه عبد الله بن محمد بن هارون بن عبد العزيز بن إسماعيل الطائي (٦٠٣ ٧٠٢) (٣) من مهاجرة الأندلسيين، غير أنه أختار تونس
_________
(١) الدرر الكامنة ٤: ٣٠٤.
(٢) أعيان العصر.
(٣) انظر ترجمة ابن هارون الطائي في: أعيان العصر للصفدي ج ٣ قسم ٢ الورقة: ٢٣٦، والدرر الكامنة رقم ٢٢٣٤، وردة الحجال رقم: ٩٢٩، وشذرات الذهب ٦: ٧.
1 / 13
لتكون موطن إقامته. وهو ممن جمع نواحي كثيرة من ثقافات عصره في القراءات واللغة والحديث والنحو. ويتجلى في وسط هذه العلوم اهتمامه بالسيرة النبوية، فقد سمع " الروض الأنف " من قريب له اسمه الحافظ أبو زكريا الحميري، وسمع السيرة من أحمد بن علي الفحام النحوي، وسمع الشمائل من شيخ ثالث، وروى " سيرة ابن حزم " عن شيخه أبي القاسم بن بقي، كما أخذ عنه أيضًا " الموطأ " وقرأ عليه " الكامل " للمبرد، وكان الطائي هذا آخر من روى عن ابن بقي. وليس في المصادر ما يدل على أنه كان ظاهري المذهب، ولكن ليس هناك ما يمنع ذلك، وقد عرف عنه شيء من التشيع، وانحراف عن معاوية وابنه يزيد، وفي هذه الناحية يشبهه تلميذه أبو حيان الذي كان يميل إلى محبة علي والتجافي عن من قاتله (١) .
٣ - وكان حسن (أو حسين) بن عبد العزيز بن محمد بن أبي الأحوص المعروف بابن الناظر (٦٠٣ ٦٧٩) (٢)، ممن تلمذ أيضًا لابن بقي حين لقيه بإشبيلية. وابن الناظر هذا بلنسي الأصل غرناطي النشأة، رحل إلى كثير من بلاد الأندلس، وقرأ على الشيوخ، حتى أصبح " متفننًا في جملة معارف.. حافظًا للحديث والتفسير، ذاكرًا للأدب واللغة والتاريخ "، كما كان أيضًا من المعروفين بضبط الأسانيد والروايات. وقد تنقل بين التدريس والقضاء، حتى وافته منيته بغرناطة. وذكره أبو حيان في شيوخه إذ لقيه بمالقة، وقال فيه: " كان فيه بعض ترفع وتعتب على الدنيا، حيث قدمت من هو دونه ".
٤ - أما أحمد بن يزيد بن بقي أبو القاسم الأموي القرطبي، قاضي القضاة
_________
(١) الدرر الكامنة ٤: ٣٠٦.
(٢) انظر ترجمة حسن (أو حسين) بن عبد العزيز بن أبي الأحوص في: بغية الوعاة: ٢٣٤، وتاريخ قضاة الأندلس للنباهي: ١٢٧، والإحاطة للسان الدين ١: ٢٩٢. وانظر مسالك الأبصار ج ١١ ص ٤٧١ (في من نقلهم العمري عن أبي حيان من كتاب النضار)، وكذلك ترجم له ابن الزبير في صلة الصلة.
1 / 14
بالمغرب (٥٣٧ ٦٢٥) (١)، فقد كان من رجالات الأندلس جلالًا وكمالًا، ولا يعلم في الأندلس أعرق من بيته في العلم والنباهة، إلا بيت بني مغيث بقرطبة، وبيت بني الباجي بإشبيلية. وقد عرف عنه أخذه بمذهب الظاهر في أحكامه أيام توليه القضاء بمراكش، وببلده من بعد. ولما اعتزل القضاء تسابق الناس إلى الأخذ عنه. وقد سمع " الروض الأنف " من السهيلي، وأجاز له شريح بن محمد وهو ابن عام، فكانت سيرة ابن حزم داخلة ضمن هذه الإجازة، وكان ابن بقي لذلك آخر من روى بالإجازة عن شريح.
٥ - فشريح إذن (وهو شريح بن محمد بن شريح الرعيني الأشبيلي ٤٥١ ٥٣٩) (٢) وهو تلميذ ابن حزم مباشرة. غير أنه فيما يظهر أخذ عنه أيضًا بالإجازة في سن صغيرة، فقد كانت سنه يوم توفي ابن حزم لا تتجاوز خمسًا. وعلى هذا فإنه من آخر من أجاز لهم ابن حزم. وكان شريح مقرئًا محدثًا حافظًا خطيبًا بليغًا، لقيه ابن بشكوال صاحب " الصلة " فأجاز له، وتتصل روايته عن طريق ابن بقي بابن الأبار، ويعتمدها في كتاب " التكملة " إذا روى عن أبي محمد بن حزم (٣) .
٦ - أما عبد الباقي بن بربال الحجاري (٤١٦ ٥٠٢) (٤) فهو أبو بكر عبد الباقي بن محمد بن سعيد بن بريال الحجاري، منسوب إلى بلد بالأندلس يسمى " وادي الحجارة ". وروى عن المنذر بن المنذر، وأبي الوليد هشام بن أحمد الكناني، وأبي القاسم بن الفتح، وأبي عمر الطلمنكي، وغيرهم، سكن
_________
(١) انظر ترجمته في: التكملة لابن الأبار برقم: ٢٩٢، وتاريخ قضاة الأندلس: ١١٧، وشذرات الذهب ٦: ١١٦. وكذلك ترجم له ابن الزبير في صلة الصلة.
(٢) انظر الصلة لابن بشكوال رقم ٥٣١ في ترجمة الرعيني.
(٣) انظر مقدمة التكملة لابن الأبار.
(٤) راجع ترجمة عبد الباقي بن بريال في صلة ابن بشكوال رقم: ٨٢٥، وفي بغية الملتمس للضبي رقم: ١١٢٥، ومعجم السلفي الورقة: ١٣٨، ومعجم البلدان لياقوت " وادي الحجارة "، والتاج (برل)؛ وقد ذكر صاحب القاموس في جده أنه " برآل " بالضم، وعقب عليه صاحب التاج أن الصواب في جده " بريال " بالياء، كما ضبطه الحافظ وغيره.
1 / 15
في آخر عمره المرية، وتوفي بمدينة بلنسية بعد أن عمر عمرًا طويلًا.
هؤلاء هم الذين اتصلت روايتهم لكتب أبي محمد عامة، ولكتاب السيرة خاصة. وعن طريق آخرهم في السند، وصلت هذه الكتب إلى المشرق. وكلهم من ذوي العلم والفضل، ومن هنا كانت لروايتهم قيمة كبيرة، وكان السند عنهم عاليًا في صحته. ولابد من أن نلحظ أن كاتب النسخة المروية عن أبي حيان كان يملك نسخة أخرى لعلها نسخة أستاذه وقد كتب على ظهرها " كتب إلى القاضي أبو الحسن شريح بن محمد بن شريح الرعيني من حمص الأندلس، قال: أنبأنا أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري الحافظ، قال: وقرأت علي أبي محمد بن عبد الله بن محمد بن مرزوق اليحصبي الأندلسي بمصر عن أبي بكر عبد الباقي بن محمد بن بريال الحجاري.. "
وليس لهذه النسخة أو للأخرى المنقولة عنها وجود، وكلتا النسختين: هذه التي بين أيدينا، أو المحفوظة في مكتبة المدينة المنورة، متأخرتان من حيث الزمن، وقد قضت علينا ظروف غالبة، أن نكتفي بالنسخة المجلوبة من الهند، وأعجزتنا عن الحصول عل نسخة المدينة. وكان مما يطمئننا إلى النسخة التي نملكها أن ناسخها، وهو الشيخ أبو عبد الله السورتي، رجل مدقق محقق، وأنه بذلك جهدًا كبيرًا في ضبط ما نقله، مقابلًا نسخته على " سيرة ابن هشام " المطبوعة على هامش " الروض الأنف " للسهيلي، ومطلعًا بين حين وآخر على كتاب جمهرة انساب العرب لمؤلف السيرة نفسه. وقد كتب أبو عبد الله الأصل المغير على هامش النسخة، وأدخل تصحيحاته في السياق، وفي بعض الأحيان احتفظ بالنص الأصلي ووضع الصواب مقابلًا له على الهامش وميزه بعلامة (صح)، وبذلك مضى محافظًا على أمانة النقل إلى أبعد الحدود. نعم إن شدة اتباعه لسيرة ابن إسحاق المطبوعة قد أوقعته في بعض الخطأ، ولكن رد ما غيره إلى أصله، أو العثور على الوجه الصحيح فيه، كان أمرًا يسيرًا، لأنه كان أمينًا في ما يحدثه من تغيير. وقد أضاف الشيخ أبو عبد الله أيضًا بعض التعليقات على الهوامش
1 / 16
فما وجدناه منها صالحًا للإثبات أثبتناه، وأشرنا إلى أنه منقول من هامش النسخة. ويظهر أن نسخة المدينة، التي نقل عنها أبو عبد الله، كانت مضطربة في مواطن كثيرة، ناقصة في بعض المواطن، فأصلح منها ما استطاع، وزاد حيث تجب الزيادة، وصحح جوانب من السهو لا يمكن أن يقع فيها عالم مدقق مثل ابن حزم. ومع ذلك بقيت هناك مواطن أخرى في حاجة إلى إصلاح، فأصلحناها وميزنا ما زدناه على النص الأصلي بوضعه بين معكفين. وأثبتنا في فهرس الأعلام، في آخر الكتاب، تعليقات يسيرة، استدركنا فيها بعض ما فاتنا إثباته في صلب الكتاب.
وقد كان لنا في تحقيق السيرة منهج محدد، وغاية مرسومة. ومن ثم أخذنا أنفسنا بمراجعة السيرة على ما كتب قبلها وما كتب بعدها من أمهات كتب السير، وبينا عند كب موضوع أين موقعه في هذه الكتب، لتكون هذه السيرة فهرستًا لأكثر كتب السيرة المشهورة، كسيرة ابن هشام، وابن سعد، والطبري، والبلاذري، وابن سيد الناس، وابن كثير، والمقريزي، وغيرهم. فذلك قد يعين الباحثين في السيرة على سرعة الوصول إلى الحقائق، ويساعد من يحب دراسة التأليف في السيرة على نحو زمني أو موضوعي.
وقد صرفنا عناية كبيرة إلى ضبط الأنساب والأعلام، وكثيرًا ما آثرنا كتابة الضبط بالحروف، لأننا نحس أن الفوضى في نطق الأعلام القديمة قد أصبحت شيئًا عامًا، وأن الشكل وحده لا يؤدي الغرض من الضبط والدقة. وكان كتاب " الجمهرة " نسخة ثانية نراجع عليها الأنساب، فإذا وجدنا ما في " الجمهرة " يخالف ما في نسختنا سارعنا إلى إثباته قبل أي خلاف آخر في أي كتاب آخر، لأن " الجمهرة " و" جوامع السيرة " من عمل مؤلف واحد.
وقد أطلعتنا العناية بضبط الأنساب خاصة على أننا إزاء أربع روايات، تمثل أربعة تيارات في تاريخ النسب، وهي: رواية الواقدي، ورواية ابن عمارة الأنصاري (وخاصة في أنساب الأنصار)، ورواية ابن إسحق، ورواية
1 / 17
ابن الكلبي. وقد احتفظ ابن سعد بكثير من صور الخلاف بين هذه الروايات، فكان خير معين لنا في تبينها واستقرائها وهذه حقيقة لابد أن يذكرها من يتصدون لتحقيق الأنساب وضبط الأسماء فيها ضبطًا دقيقًا.
على أن هناك إلى جانب هذه الروايات الأربع وجهتين من وجهات النظر في قراءة بعض الأسماء: إحداهما تستطيع أن تسميها طريقة الأدباء في ضبط الاسم، والثانية يمكن أن نطلق عليها مذهب المحدثين؛ وإن كانت صورة الخلاف بين الفريقين لا تمتد إلى كثير من الأسماء.
وألحقنا بالسيرة رسائل خمسًا، كانت ملحقة بها في الأصل الذي صورنا عنه نسختنا، وهذه الرسائل هي:
١ - رسالة في القراءات المشهورة في الأمصار، الآتية مجيء التواتر. وقد اعتمدنا في ضبطها وتحقيقها على كتب القراءات؛ ولم نجد منها نقولًا في كتاب.
٢ - رسالة في أسماء الصحابة رواة الحديث، وما لكل واحد من العدد: وقد قمنا بتحقيق هذه الرسالة على نسختين أخريين منها، وجدناهما في فن مصطلح الحديث بدار الكتب المصرية، إحداهما رقم ٢٥٤، رمزنا لها بالحرف (ح)، وهي رسالة ناقصة ورقة أو اثنتين، وخطها رديء، والأعلام فيها غير مضبوطة، ولذلك كان اعتمادنا عليها في عدد الأسماء أكثر منه في معرفة الوجه الصحيح للاسم المكتوب. أما الرسالة الثانية فهي من وضع أبي البقاء محمد بن علي بن خلف الأحمدي، مستخرجة من كتابه " البارع الفصيح في شرح الجامع الصحيح "، ومضمومة إلى مجموعة مقيدة برقم (٥٢١ مجاميع)، وقد رمزنا لها بالحرف (د)، وكتب في آخرها " انتهى ما خرجه الإمام الحافظ أبو عبد الرحمن بقي بن مخلد ﵀ في مسنده عن أصحاب رسول الله ﷺ ". فهي إذن أخت النسخة السابقة، وإنما اقتبسها أبو البقاء الأحمدي فيما يظهر عن ابن حزم وضمنها كتابه السابق الذكر.
والفروق بين النسختين قائمة على الخطأ في النسخ، وفي عدد الأحاديث
1 / 18
أحيانا، وعلى إدراج الأعلام وتداخلها ومزجها، ووضع كلمة (ابن) بين علمين لا صلة بينهما، بحيث يصبحان علمًا واحدًا.
وهذا هو أيضًا الغالب على نسختنا، فهي من هذه الناحية شديدة الاضطراب، بينة النقص. ولذلك فإننا، حين أصلحنا هذه الناحية فيها، أغفلنا الإشارة إليها كل حين في التعليقات، اكتفاء بهذه الإشارة العامة في المقدمة، وخاصة أننا، بعد مقابلة نسختنا بالنسختين المذكورتين، عرضنا الشكل النهائي على كتاب " تلقيح الفهوم " وهو الكتاب الذي رمزنا له بالحرف (ت) في التعليقات وفيه تخريج أسماء الصحابة الرواة، ثم لم نكتف بذلك بل عارضنا الأسماء بما يقابلها في الإصابة لابن حجر، لأن ابن حجر يشير كثيرًا إلى ابن حزم وينقل عنه. حتى إذا تم تمييز الأعلام واحدًا بعد واحد، أخذنا نعرضها على كتب الرجال، طلبًا لضبطها نهائيًا.
وفي مسند بقي أسماء كثيرة مفردة لم تميز بنسبة، فلم يكن من السهل معرفتها على وجهها أو التعريف بها، وفيه نقص آخر لم يشر إليه ابن حزم، وإنما تنبه له ابن حجر، وهو: ابن بقي بن مخلد عد في الصحابة الرواة كثيرًا من التابعين ومن غيرهم. قال ابن حجر (رقم ٨٥٢٦) " وقد وقع لبقي في مسنده أنظار ذلك يخرج الحديث من رواية التابعي، كبيرًا كان أو صغيرًا، وكذلك من رواية من لم يعد في التابعين ". ويظهر أن ابن حجر اطلع على نسخة من رجال الحديث بترتيب ابن حزم، غير النسخ من التي عثرنا عليها، إذ يقول في ترجمة محمد بن عمرو علقمة (وهو مكتوب كذلك في نسختنا ونسختي دار الكتب): " ثم وجدت في بعض النسخ من جزء الصحابة الذين أخرج لهم بقي بن مخلد ترتيب ابن حزم: " محمد بن عمرو بن علبة " بعد اللام باء غير مضبوطة بدل القاف والميم، فالله أعلم ". وهذا يزيدنا يقينا بشدة الاضطراب والتفاوت بين النسخ، ويؤكد لنا أن عملنا في رجال الحديث على شدة المشقة فيه لن يكون نهائيًا قاطعًا بحال.
وقد وجدنا بالمقابلة بين النسخ أن النسخة التي نملكها ناقصة، فأكملنا
1 / 19
ما فيها من نقص؛ وحتى لا نكثر على القارئ بذكر هذه الأسماء المجردة، لم نضف إلى هذا العمل تلك الزيادات الكثيرة، التي أضافها البرقي وغيره، واحتواها كتاب " تلقيح الفهوم "، مع أن ابن حزم قد أذن بذلك في آخر نسخته، ولكن عدم الترتيب الهجائي في نسختنا أوقفنا عند حد الاكتفاء بضبط ما لدينا، دون إضافات مستفيضة.
٣ - رسالة في تسمية من روى عنهم الفتيا من الصحابة ومن بعدهم، على مراتبهم في كثرة الفتيا: وهذه الرسالة تنمية لتلك الأصول الأولى التي وضعها ابن سعد في كتاب " الطبقات " عن الصحابة الذين كانوا يفتون في حياة الرسول. وقد أطلع على رسالة ابن حزم هذه، ونقل جزءًا منها في كتابه " إعلام الموقعين ". ولكن يبدو أن النسخة التي اطلع عليها تختلف عن نسختنا في ترتيبها، كما أن بعض الأسماء التي ذكرها ابن القيم غير موجودة في نسختنا، وبعض ما لدينا لم يذكره ابن القيم.
٤ - جمل فتوح الإسلام: وهي رسالة طريفة موجزة، وتكاد تكون تلخيصًا لكتاب " فتوح البلدان " للبلاذري، ولا نعرف أحدًا نقل عنها، ولذلك اكتفينا بضبطها على المراجع التاريخية.
٥ - أسماء الخلفاء المهديين والأئمة أمراء المؤمنين: وحكم هذه الرسالة كالتي قبلها، وهي صورة أخرى لما جاء في " المحبر " لابن حبيب، و" المعارف " لابن قتيبة، ومثلها رسالة أخرى في كتاب " تلقيح الفهوم ". وبين هذه الكتب جميعًا اختلافات في التواريخ الزمنية، ولكن لم نثبت من هذه الخلافات إلا ما كان ضروريًا لازمًا. ونعتقد أن هناك رسالة في ذكر تواريخ خلفاء الأندلس ذكرها الحميدي فلعلها تتمة لهذه الرسالة، أو لعلهما رسالتان منفصلتان. ومن المؤكد أن الرسالة الثانية التي نشير إليها ليست هي " نقط العروس "، لأن هذه ليست مقصورة على تواريخ الخلفاء بالأندلس.
وبعد أن تم لهذا العمل كله ما تم، من الأسباب التي تقدم وصفها، تقدمنا
1 / 20