[البلد: 10].
الرابع: هداية الدين، فإن العقل وحده لا يستطيع أن يقوم سلوك الإنسان المعوج، ويهدي فكره المنحرف فإن الخطأ يتسلط عليه كما يتسلط على الحس، وقد يتأثر عقل الإنسان بالجو الذي يعيش فيه، والمحيط الذي يتربى وسطه، فيستحسن ما يستقبحه غيره، ويستقبح ما يستحسنه سواه، وقد تستعلى عواطفه أو رغباته على العقل فتطمس نوره وتوهن قواه، ولذلك ينساق كثير من الناس - مع ما أتوه من قوة التفكير - وراء شهواتهم وعواطفهم، غير مبالين بالمصير الذي تؤديهم إليه، بل يسخرون أحيانا طاقاتهم العقلية والحسية للوصول إل ما يهدفون إليه من مقاصد دنيئة، بدلا من استخدام العقل فيما يؤول إلى سعادة الإنسان الشخصية والنوعية، ولا تقف رغبات الإنسان عند حد معين، ولذلك كثيرا ما تفضي به إلى التطاول إلى ما فيه يد غيره، وعدم المبالاة بإمتهان كرامة بني جنسه، فيؤدي الأمر إلى التنازع والتدافع والتقاتل والتفاني، ولا تغني تلك الهدايات شيئا، وهذا أمر مشاهد حتى في الشعوب والأمم التي تعد نفسها أرقى من غيرها حضارة، ولا أدل على ذلك مما يحصل أحيانا في سلسلة الحروب الدولية، من إبادة شعوب أو استرقاقها، واهلاك الحرث والنسل بالوسائل العلمية، التي تستخدمها عقول ضلت سبيل الرشد وأخفقت في بناء مجتمع بشري ينعم بالسعادة والهناء والإستقرار، ومن ثم كان الإنسان بحاجة إلى هداية أسمى من الهدايات السابقة الذكر تملأ القلب خشية من سلطة غيبية أعلى وأجل من تصورات البشر ومدارك العقول والأفكار، وتضع حدودا للأعمال ورسوما لكل ما تتطلبه حياة الإنسان فلا يعدو أحد على غيره، كما تصل الإنسان بالغيب الذي يتطلع إليه وما هو ببالغه إلا من طريق هذه الهداية.
هذا وقد أودع في غريزة كل إنسان الشعور بهذه القوة الغيبية التي لا يحاط بها علما، والتي تهيمن على الوجود كله وإليها يرد الإنسان بفطرته كل ما لا يعرف له سببا لأنها هي التي تهب كل موجود ما يكون به قوام وجوده، كما أودع في غريزة كل أحد بأن هذه الحياة الدنيا ليست هي الحياة النهائية التي يحياها الإنسان ولذلك يتطلع كل أحد إلى حياة أوسع منها.
والهدايات الثلاث السابقة لا تصل إلى تحديد ما يجب على الإنسان لذي القوة الغيبية الذي خلقه في أحسن تقويم وسخر له ما يحتاج إليه كما لا تصل إلى تحديد ما تكون به السعادة في الحياة الأخرى، ومن هنا كانت ضرورته إلى الدين وإفتقاره إلى توجيهه، والهدايات الثلاث السابقة مشتركة بين البر والفاجر، ويرى بعض المفسرين أنها يشار إليها جميعا بقوله تعالى:
وهديناه النجدين
[البلد: 10] وبعضهم يرى دخول الهداية الرابعة ضمن الإشارة وهذه الهداية الرابعة - أعني هداية الدين - قد يشارك فيها الفاجر إذا فسرت بالبيان دونما إذا فسرت بالتوفيق كما أسلفنا من قبل، وهداية التوفيق تنقسم إلى ثلاث مراتب:-
المرتبة الأولى: التوفيق لقبول الحق والعمل به وإليها الإشارة بنحو قوله عز وجل:
ولكن الله يهدي من يشآء
[البقرة: 272].
المرتبة الثانية: التوفيق للإستمرار على الحق والإستزادة منه، وإليها الإشارة بنحو قوله تعالى:
صفحه نامشخص