ثانيهما: في الآخرة، وهو العقاب، وإلى الأول الاشارة بقوله سبحانه: { الله يستهزىء بهم }؛ أي يجعلهم موضع الهزء، وإلى الثاني الاشارة بقوله: { ولهم عذاب أليم }.
ثالثها: الخوف؛ لأن الكذب والخداع إنما يصدران ممن يتوقى إظهار حقيقة أمره، وذلك لا يكون إلا لخوف ضر أو لخوف إخفاق سعي، وكلاهما مؤذن بقلة الشجاعة والثبات، والثقة بالنفس وبحسن السلوك، ويشير إلى هذه الخصلة قوله سبحانه فيهم:
لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله
[الحشر: 13].
وتتفرع عن الخوف أخلاق متنوعة منها اللؤم، ويشير إليه قوله تعالى: { ويقبضون أيديهم } ، والعزلة عن الناس، وإليها الاشارة بخطابه تعالى لهم: { آمنوا كمآ آمن الناس } ، والجبن؛ ويدل عليه قوله سبحانه فيهم: { يحسبون كل صيحة عليهم } ، وقوله: { ليولن الأدبار ثم لا ينصرون } ، والتستر، وإليه الاشارة بقوله عز وجل: { وإذا خلوا إلى شياطينهم.. } (الآية).
ويتفرع عن اللؤم خون الأمانة والشاهد عليه قوله تعالى فيهم: { إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما } ، ويتفرع عن العزلة جفاء الطبع، ويدل عليه قوله: { أنؤمن كمآ آمن السفهآء }.
وتتفرع عن الجبن المذلة، وإلى ذلك الاشارة بقوله تعالى: { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين }.
وينشأ عن التستر دوام الضلال وازدياد النقائص، ويشير الى الأول قوله تعالى: { وما هم بمؤمنين } ، وإلى الثاني قوله: { فزادهم الله مرضا }.
هذه أمراض النفاق التي استظهرها ابن عاشور ممن نزل في المنافقين من الآيات، وما اعتيد تلبسهم به من الصفات، وقد رتبها في جدول حسب ترتب نشوئها في رأيه - تقريبا لفهم المطالع وتيسيرا لاحاطة القارئ - مع ما قرنه بها من الآيات المومئة إليها، ولست أرتاب - كما لا يرتاب أحد - أن النفاق منطو على هذه الأمراض كلها، بل وعلى أكثر منها، فهو مجمع كل رذيلة، ومنشأ كل فساد، وإنما أرى أن ابن عاشور تكلف في ترتيب نشوئها، فلو سردها سردا لكان أبعد عن التكلف.
كما أنني أرى أنه تجوز في حمل بعض الآيات على الاشارة إلى ما ذكره من هذه الأمراض، بل بعضها أقرب دلالة إلى ما لم يذكره من الصفات، فقوله تعالى - مثلا -: { ويقبضون أيديهم } أدل على البخل منه على اللؤم، وإنما دلالته على اللؤم من حيث أنه الأصل للبخل، إذ البخل لا ينشأ إلا عن لؤم الطبع وفساد الفطرة.
صفحه نامشخص