ثالثها: حمل هذا التعبير على الاستعارة التمثيلية، تشبيها لما يحصل - من إملاء الله لهم والابقاء عليهم ومعاملة المؤمنين إياهم معاملة أنفسهم في إجراء أحكام الاسلام عليهم - بفعل من يخدع غيره بمختلف الأساليب في المعاملة، كما تشبه بذلك أيضا حالتهم في معاملتهم للمؤمنين ولدين الله، ثم بين سبحانه ما يؤول إليه خداعهم بقوله: { وما يخدعون إلا أنفسهم } ، حيث نفى سبحانه أن تكون مغبة هذا الخداع واقعة إلا عليهم، لأنهم الذين يجنون ثمرتها المرة، ويكابدون غصصها المؤلمة، وقد يتبادر للسامع أو القارئ وجود تناقض بين ما في صدر الكلام وعجزه، حيث أثبت تعالى أولا أنهم يخادعون الله والذين آمنوا، ثم نفى ما أثبته ضمن قوله: { وما يخدعون إلا أنفسهم }.
والجواب أن المنفي غير المثبت، فما عبر عنه بالخداع أولا هو تلك الأقوال والأعمال التي كانوا يبدونها مع انطوائهم على نقائضها، ثم أطلق اسم الخداع على لازم معاملتهم، وهو الضر الماحق والعاقبة الوخيمة، وذلك واقع بهم دون غيرهم كما علمت، وهذا من باب المجاز على المجاز، لأن المخادعة استعيرت أولا لما استعيرت له من معاملتهم للمؤمنين ودين الله، ثم نزلت منزلة الحقيقة فاستعملت مجازا في لازم ذلك المعنى الذي استعيرت له.
وهذه الجملة حال من فاعل { يخادعون } في الجملة التي قبلها، وفيها قراءتان مشهورتان:
الأولى: { وما يخدعون } وبها قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي، من السبعة، كما قرأ بها أبو جعفر ويعقوب، من سائر العشرة.
والثانية: { وما يخادعون } بزيادة ألف المفاعلة، وبها قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو، من السبعة، وخلف من بقية العشرة. وثم قراءات أخرى من الشواذ غير المعول عليها، ولا إشكال في القراءة الأولى، وإنما الاشكال في الثانية لاقتضائها في المشاركة التي لا تصدر إلا عن جهتين فصاعدا، مع أن الجهة هنا متحدة ويندرئ الاشكال باعتبار أن من يقدم على جريرة من الجرائر لا بد له أن تتفاعل في نفسه خواطر متضادة منها ما ينشأ عن بصيرة العقل ووحي الضمير، ومنها ما ينشأ عن رعونة العواطف واضطراب الهواجس، فيتولد ما يشبه العداوة بين الجانبين، ويظل المرء في تردد بين إقدام وإحجام، حسب إصغائه تارة إلى صوت العقل، وأخرى إلى داعي الهوى.
ومن ثم جاءت هذه القراءة هنا مصورة لعداوة تنجم بين هؤلاء المنافقين ونفوسهم الداعية إلى الخير بطبيعة الفطرة، وصورت ما يصدر منهم من شغلها بالأماني واقتيادها إلى الشر بالمخادعة، وفي كلام العرب ما ينحو هذا المنحى في التعبير، كقول عمرو بن معد يكرب:
فجاشت علي النفس أول مرة
فردت على مكروهها فاستقرت
وقول عروة بن أذينة:
وإذا وجدت لها وساوس سلوة
صفحه نامشخص