215

لا يسأل عما يفعل وهم يسألون

[الأنبياء: 23].

الافراط والتفريط في نسبة الأفعال:

وبهذا تعلم أن معصية العبد لربه لها صلة بقدرة الله وإرادته، فهو سبحانه الخالق لها عندما تتجه إرادة العبد إلى اكتسابها، ومثل ذلك يقال في طاعته، وهذه مسألة اضطربت فيها الأفهام، وكثر فيها الجدل منذ القرن الأول الهجري، وقد ضلت فيها طائفتان؛ طائفة تطاولت على الله عز وجل، فادعت اشتراكها معه في الايجاد، ويمثل هذه الطائفة المعتزلة، أصحاب واصل بن عطاء، الذين نفوا تعلق قدرة الله وإرادته بأفعال العبد، وزعموا أن العبد يستقل استقلالا تاما بخلق أفعاله. وطائفة ما قدرت الله حق قدره، إذ نسبت إليه معاصي العباد، وزعمت أن العبد ليست له إرادة فيما يفعل، وإنما هو مصرف في ذلك تصريفا إجباريا كالخيط في الهواء الذي تحركه الرياح، ويمثل هذه الطائفة الجبرية، أصحاب جهم ابن صفوان، وإذا كانت الطائفة الأولى فرطت في نسبة القدر والمقدور إلى الله حتى سلبته تعالى الارادة والقدرة في أفعال العباد، فإن هذه الطائفة أفرطت في نسبة ما يصدر من العبد إليه عز وجل، حتى زعمت أنه يجبر العباد على المعاصي التي يرتكبونها ثم يعاقبهم عليها، وليس قولهم هذا إلا صريحا في نسبة الظلم إليه تعالى، والقضية مزلة للأقدام، ومزلقة للأفهام، فيجب على من رام الهدى والسلامة أن يتبصر فيها، ولا ينسب إلى الله ما هو برريء منه، ولا يسلبه ما هو حقيق به، والقول الفصل الذي هدى الله إليه أهل البصائر فاعتقدوه دينا، هو أن الفعل تتعلق به قدرتان وإرادتان؛ قدرة العبد وإرادته، وهما متعلقتان بكسبه ولا تستقلان بإيجاده، وقدرة الله وإرادته وهما اللتان تهيئان أسباب الكسب للعبد، وتخلقان له الفعل عندما يريد اكتسابه، سواء كان حقا أو باطلا، من غير إكراه للعبد عليه، وبهذا ندرك أن الله لا يعصى مكرها، ولا يؤاخذ العباد بما لم يجعل لهم محيصا عنه، ولا مخلصا منه، وبهذا يجمع بين الآيات التي قد يحسبها الغبي متناقضة بسبب قلة تدبره وسوء فهمه، فكل ما دل على نسبة أفعال العباد إلى الله، فهو يعني به خلق هذه الأفعال، وكل ما دل على إسناده إلى العباد فيقصد به الكسب دون الخلق، وثواب الله وعقابه متعلقهما كسب العباد، كما قال عز من قائل:

لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت

[البقرة: 286]، وقد علم الله تعالى في الأزل ما سيختاره كل أحد من أعمال الخير والشر، فكان قدره تعالى في ذلك بحسب ما سبق من علمه، وقد أمر سبحانه بالخير، ونهى عن الشر، وأثنى على من عمل خيرا، وذم من عمل سوءا، وذلك لأنه سبحانه وهب الجميع القدرة على الأمرين، فكان الثناء والذم على اختيار الناس بأنفسهم، ولا شك أنها مسألة دقيقة، ولذلك كان جل الذين بحثوها لم يرووا ببحثهم غليلا، ولم يشفوا علة، بل كثيرا ما أدت بحوثهم إلى التعقيد، وقد تردد بعض العلماء بين المذهبين، مذهب الجبر ومذهب القدر، ولم يستقر رأيه على أحدهما، ومن هؤلاء الفخر الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب، فبعد أن أتى بأدلة الطائفتين صرح أن كلا الفريقين ما طلب إلا إثبات جلال الله، وعلو كبريائه، وإنما وقع نظر فريق منهم على العظمة، ونظر فريق آخر إلى الحكمة، وروي مثل هذا القول عن أبي القاسم الأنصاري، ولم ير الفخر القطع بما تفيده الأدلة السمعية في المسألة بناء على أصله أن الدلالة السمعية لا تتجاوز الظن إلى القطع، ولم ير كذلك القطع بمفاد الأدلة العقلية، نظرا إلى ما توهمه من التعارض بينها، والأدلة إذا تعارضت تساقطت.

وبما أن المعتزلة ومن حذا حذوهم يفرون من نسبة إيجاد أفعال العباد إلى الله، هاموا في مثل هذه الآية وسلكوا طرائق قددا في تأويلها، كما ترى ذلك في الكشاف وغيره مما دبجته أقلامهم، فقالوا تارة إن القوم لما أعرضوا وتركوا الاهتداء بدلائل الله حتى صارت المعصية مألوفة لهم، كانوا كأنما طبعوا عليها، فأشبهت حالهم حال من منع عن الشيء وصد عنه، فلذلك أضيف إلى الله تعالى ما حل بهم، لأن هذه الصفة في تمكنها وقوة ثباتها كالشيء الخلقي، وتارة قالوا إن الشيطان هو الخاتم في الحقيقة، أو الكافر نفسه، وإنما إسناد ذلك إلى الله لأن إقدار الشيطان والكافر منه عز وجل، وقالوا تارة أخرى إنه لما اتفق أن يكون كفرهم عند ورود دلائل الله عليهم، كان ورود هذه الدلائل كالسبب لما حصل منهم من الكفر، فلذلك أسند إليه تعالى الختم المذكور، وذلك على غرار قوله سبحانه:

وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم

[التوبة: 125]، ومرة قالوا إن القوم لما بلغوا من الكفر مبلغا لا يمكن معه إيمانهم إلا بالقسر والالجاء من الله، ولما لم يفعل ذلك بهم ناسب ذلك إسناد الختم إليه عز وجل، إلى غير ذلك من التأويلات المتشابهة في التكلف والهروب من الحقيقة، ولعمري لو أنصفوا لرأوا الحق جليا، ولما أدى بهم اللجاج إلى الهروب من الواضح إلى المشكل، ومن الحقيقة إلى الوهم، ومن الصواب إلى الخطأ، ولسنا نشك في كونهم أرادوا تنزيه الله تعالى من نسبة المعاصي إليه، ولكنهم وقعوا فيما هو أعظم منها، وهو نسبة العجز إليه سبحانه، إذ لو كانت المعصية الصادرة من العبد وقعت على كره منه تعالى، لما كان لذلك تفسير، إلا أنه تعالى يحدث في ملكه ما ليس من مقدوره ضده، وبالجملة فإن علينا أن نتقيد في ذلك بدلائل النص، وأن لا نطلق لأنفسنا عنان الفكر الشارد الذي كثيرا ما يهوي بصاحبه في مهاوي الأوهام، وللعقل البشري حدود مرسومة، لو حاول تجاوزها تردى في المخاطر والعياذ بالله، وهذه المسألة ترتبط بقاعدتين اعتزاليتين؛ أولاهما: تحكيم العقل، فإن المعتزلة يبنون معتقداتهم وسائر آرائهم على العقل، ويرون الشرع لا يكون إلا مؤكدا للعقل أو مبينا له، وإذا تصادما وجب الاستمساك بالعقل لأنه الأصل.

ثانيتهما: وجوب مراعاة الأصلحية والصلاحية على الله، ومن تأمل هذه الأصول الثلاثة التي هي أمهات الاعتزال، رآها لا ينفك بعضها عن بعض، فالقول بنفي خلق الأفعال عن الله فيه التفات إلى كل واحد من الأصلين الآخرين، فهو من ناحية ناشئ عن كون العقل يستقبح أن يخلق الله للعبد ما يعذبه به، وبما أن ذلك مستقبح عقلا فهو غير سائغ فعلا.

صفحه نامشخص