[1 - سورة الفاتحة]
[1.1]
اختلف فى البسملة هل هى من خصوصيات هذه الأمة أو كانت للأمم قبلها! فنقل أبو بكر التونسي إجماع علماء كل ملة على أن الله افتتح كل كتاب بها، وهذه دعوى لم تعضدها حجة إذ صحة الإجماع متوقفة على ثبوت نقله، وذهب آخرون إلى أنها من خصوصيات هذه الأمة، واحتج له الألوسي بما لا طائل تحته والعجب من هؤلاء كيف يغفلون عن كتاب سليمان الذي صدر بها، وقد حكاه الله فى سورة النمل، أما كونها من القرآن الكريم فهو مما أجمع عليه لعدم الاختلاف فى كونها جزء آية من سورة النمل، وقد أخطأ من نسب إلى أبي حنيفة وغيره القول بأنها ليست من القرآن أصلا، وممن وقع فى هذه العثرة أبو السعود فى تفسيره ومنشأ الخطأ التباس نفى كونها آية من الفاتحة ومن كل سورة صدرت بها بنفى قرآنيتها مطلقا على أن كتابتها فى صدر السور إلا سورة براءة فى المصحف الإمام بإجماع الصحابة (رضى الله تعالى عنهم) وتناقل الأمة لذلك جيلا بعد جيل حجة قاطعة لا تدع مجالا للريب فى أنها آية من كل السور التي صدرت بها كيف والصحابة (رضى الله عنهم) كانوا أشد ما يكونون حرصا على تجريد القرآن الكريم فى كتابته فى المصاحف من كل ما ليس منه. ولذلك جردوا مصاحفهم من عناوين السور فليس من المعقول أن يزيدوا فى مائة وثلاث عشرة سورة ما ليس منها، وهذه المسألة قد كثر فيها الأخذ والرد حتى أن جماعة من العلماء أفردوا لها مؤلفات خاصة، وخلاصة ما فيها أنهم اختلفوا فيها مع إجماعهم أنها جزء آية من سورة النمل، فذهب إلى إنها آية من كل سورة صدرت بها من علماء السلف من أهل مكة، فقهائهم وقرائهم ومنهم ابن كثير وأهل الكوفة ومنهم القارئان المشهوران عاصم والكسائي، وعزى إلى على وابن عباس وابن عمر وأبى هريرة من الصحابة، وإلى سعيد بن جبير وعطاء الزهرى وابن مبارك من التابعين وهو مذهبنا ومذهب الشافعى فى الجديد وعليه أصحابه، ونسب إلى الثورى وأحمد فى أحد قوليه وعليه الإمامية، وذهب جماعة إلى أنها آية مفردة أنزلت للفصل بين السور وليست من الفاتحة ولا من غيرها ما عدا سورة النمل وهو الذى عليه مالك وغيره من علماء المدينة والأوزاعى وجماعة من علماء الشام ويعقوب من قراءة البصرة، وعليه الحنفية، وذهب فريق آخر إلى أنها ليست آية مطلقا من هذه السور ولم تنزل للفصل بينها وإنما هى جزء آية من سورة النمل ونسب هذا القول إلى ابن مسعود وهو رأى لبعض الحنفية، وقال حمزة من قراء الكوفة إنها آية من الفاتحة دون غيرها وهو رواية عن أحمد، وتوجد أقوال أخرى هى إلى الشذوذ أقرب منها أنها بعض آية من جميع السور، ومنها أنها آية من الفاتحة وجزء آية من السور ومنها عكس ذلك، وهذا الاختلاف استتبع الاختلاف فى قراءتها في الصلاة، وفى الجهر والإسرار بها كما سنوضحه إن شاء الله، وحجة القول الأول ما ذكرناه من إجماع الصحابة واستقراء العمل على كتابتها فى صدر كل سورة إلا سورة التوبة، والكتابة حجه معتبرة عند جميع شعوب العالم والمدينة فى العصر الحديث بل الكتابة الرسمية أقوى ما يعتمد عليه عندهم كما جاء ذلك في المنار وقد كانت كتابتها فى المصحف الإمام الذي وزعت نسخة فى الأمصار بأمر الخليفة الثالث وعلى مسمع ومرأى من سادات المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ولم ينكر ذلك أحد منهم وقد كانوا أحذر ما يكونون عن إضافة أى شىء إلى القرآن مما ليس منه، وتوالت من بعدهم أجيال هذه الأمة وكلها مطبقة على كتابتها فى صدر السور وعلى تلاوتها مع القرآن وإن كان منهم من يزعم أنها آية أنزلت بانفراد للفصل بين السور ولا يؤثر هذا الزعم فى الإجماع العملى، ولو أن الناس أنصفوا لكفتهم هذه الحجة عن غيرها ولما أخذوا بالروايات الآحادية الظنية فى مقابل هذه الحجة المتواترة القطعية ولكنهم عولوا على الروايات فسلكوا طرائق قددا
كل حزب بما لديهم فرحون
[المؤمنون: 53] وأصرح ما اعتمدوا عليه من الروايات حديث أبى هريرة رضى الله عنه عند الربيع وأحمد ومسلم وأبى داود والترمذى والنسائى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" قال الله عز وجل قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين ولعبدى ما سأل، فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله حمدنى عبدى، فإذا قال الرحمن الرحيم قال الله أثنى على عبدى، فإذا قال مالك يوم الدين قال مجدنى عبدى، وقال مرة فوض إلى عبدى، وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال هذا بينى وبين عبدى ولعبدى ما سأل، فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال هذا لعبدى ولعبدى ما سأل "
ووجه استدلالهم بالحديث لعدم ذكر البسملة، قالوا لو كانت من الفاتحة لذكرت فى الحديث، وهو كما ترى استدلال سلبي فى مقابلة الإيجابي القطعي المتواتر وهو إجماع الجميع على كتابتها وتلاوتها فى الفاتحة وغيرها من سور القرآن وأين هذه الحجة السلبية الخفية التي تحمل ضروبا من التأويل من تلك الحجة القطعية الظاهرة التى لا يمكن تأويلها بحال؟ ويكفيك دلالة على ضعف هذه الحجة أن الحديث لم يذكر قسمة الفاتحة بل ذكر قسمة الصلاة والصلاة تشتمل على أذكار وأفعال متعددة وعلى قراءة من غير الفاتحة، وكل هذه الأشياء لم تذكر فى القسمة الواردة فى الحديث، وإنما ذكرت الفاتحة وحدها، بل ذكر منها ما لا يشاركها فيه غيرها من السور، والبسملة قد اشتركت فيها السور كلها ما عدا براءة، وثم جواب آخر هو أن ما فى البسملة من الثناء على الله بوصفه بالرحمة مكرر فى الفاتحة ومذكور فى القسمة فلا يقوى الاستدلال السلبى الذى اعتمدوا عليه على معارضة القطعى، هذا لو سلمت المعارضة بين الحديث وما تدل عليه كتابة الفاتحة فى البسملة وغيرها، وقد علمت أن ليست ثم معارضة، وفى هذا يقول السيد محمد رشيد رضا: " إذا كان من علل الحديث المانعة من وصفه بالصحة مخالفة راويه لغيره من الثقات، فمخالفة القطعى من القرآن للتواتر أولى بسلب وصف الصحة عنه، على أن هذا الحديث هو المعارض بالأحاديث المثبتة لكون البسملة من الفاتحة " ، وللإمام الفخر فى تفسيره الكبير " مفاتيح الغيب " اعترض على استدلالهم بهذا الحديث بما جاء من ذكر البسملة فى بعض طرقه، فقد أخرج الثعلبى بإسناده عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدى نصفين، فإذا قال العبد. بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله سبحانه مجدنى عبدى، وإذا قال الحمد لله رب العالمين، قال الله تبارك وتعالى حمدنى عبدى، وإذا قال الرحمن الرحيم، قال الله عز وجل: أثنى علي عبدى، وإذا قال مالك يوم الدين، قال الله: فوض إلي عبدى،...إلخ "
وتابعه الإمام العلامة أبو مسلم فى نثاره غير أنا لعدم اطلاعنا على إسناد هذا الحديث عند الثعلبى، وعدم معرفتنا بصحته لا نستطيع الاعتماد عليه، ونكتفى بما أسلفنا ذكره فى الإجابة على استدلالهم.
ومما اعتمدوا عليه حديث أبى هريرة عند أحمد وأصحاب السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
صفحه نامشخص