يستعاذ بها من أحد الوجهين باعتبار ذلك الوجه منها باعتبار الوجه الآخر، بل الإرادة لها عنده مجرد تعلق بالمخلوق، والتعلق أمر عدمي، وهذا بخلاف الاستعاذة به منه؛ لأن له صفات متنوعة، فيستعاذ به باعتبار ومنه باعتبار.
ومن قال: إنه ذات لا صفة لها، أو وجود مطلق لا يتصف بصفة ثبوتية. فهذا يمتنع وجوده في الخارج، وإنما يمكن تقدير هذا في الذهن كما تُقَدَّر الممتنعات، فضلا عن كونه يكون ربا خالقا للمخلوقات.
وهؤلاء إنما ألجأهم إلى هذا مضايقات الجَهْمِيَّة والمُعْتَزَلَة لهم في مسائل الصفات، فإنهم صاروا يقولون: كلام الله هو الله أو غير الله؟ فإن قلتم: هو غيره. فما كان غير الله فهو مخلوق، وإن قلتم: هو هو، فهو مكابرة، وهذا أول ما احتجوا به على الإمام أحمد –﵀ في المحنة، فإن المعتصم لمّا قال لهم: ناظروه. قال له عبد الرحمن ابن إسحاق: ما تقول في القرآن، أو قال: في كلام الله، أهو الله أو غيره؟ فقال له أحمد: ما تقول في علم الله، أهو الله أو غيره؟
فعارض أحمد بالعلم فسكت، وهذا من حسن معرفة أبي عبد الله ﵀ بالمناظرة، فإن المبتدع بنَى مذهبه على أصل فاسد، متى ذكرتَ له الحق الذي عندك ابتداء أخذ يعارضك فيه لما قام بنفسه من الشبهة.
فينبغي -إذا كان المناظر مدَّعيا أن الحق معه- أن يبدأ بهدم ما عنده، فإذا انكسر وطلب الحق أُعطيه، وإلا فما دام معتقدا نقيض الحق لم يدخل الحق أذن قلبه، كاللوح الذي كُتب فيه كلام باطل، فامْحُه أولا ثم اكتب فيه الحق، فهؤلاء كان قصدهم الاحتجاج لبدعتهم، فذكر لهم أحمد من المعارضة والنقض ما يبطلها.
وقد تكلم أحمد -في ردِّه على الجَهْمِيَّة- في جواب هذا، وبين أن لفظ "الغير" مجمل، يراد بالغير ما هو منفصل عن الشيء، ويراد بالغير ما ليس هو الشيء، فلهذا لا يطلق القول بأن كلام الله وعلمه ونحو ذلك هو هو؛ لأن هذا باطل، ولا يطلق أنه غيره؛ لئلا يُفهم أنه بائن عنه، منفصل عنه كما رواه الخَلَّال –﵀ قال: أخبرني الخضر ابن المثنى الكندي، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل –﵀ قال: هذا ما أخرجه أبي –﵀ في الرد على الزَّنَادِقَة والجَهْمِيَّة فيما شكت فيه من متشابه القرآن، وتأولته غير تأويله. فقال أحمد بن حنبل –﵁:
1 / 137