لعل ذلك كذلك، أو لعل القاتل هو صاحب الحذاء الأبيض، أو لعل ابن المقاول هو صاحب الحذاء الأبيض، إن صح احتمال من تلك الاحتمالات فقد نجا هو من كل سوء كما ينبغي له، أما إذا أصر المحقق على تتبع أثر صاحب الخمر والشيكولاطة فلن يعجز عن الوصول إلى مصدريهما، وهو - عمرو - معروف بشخصه دون هويته لدى صاحب محل «الزهرة» كما هو معروف عند فتاة حلواني «ألف ليلة»، وغير بعيد أن أوصافه تتردد في هذه اللحظة على الشفاه بين جدران حجرة التحقيق. •••
ونشرت صور لطيفة، وحسنين زوجها، ومحمد ابنه لأول مرة في الجريدة، وتبين لعمرو أن ابن المقاول شخص آخر غير الشاب صاحب الحذاء الأبيض، وتابع تعليقات الموظفين بالإدارة باهتمام وتركيز: تقول الجريدة إن الشرطة عثرت على خيوط يمكن أن تؤدي إلى القاتل ... - لعلها تقصد الشاب ابن المقاول؟ - أو الزجاجة والعلبة؟ - سر الجريمة كامن في الزجاجة.
ورفع الرئيس رأسه عن رسالة كان يقرؤها بإمعان ثم قال: يا جماعة، نحن مطلوبون جميعا لسماع أقوالنا. •••
شهد كل موظف بما يعلمه ولم يكن ذا بال، مثل تاريخ التحاق لطيفة بالعمل منذ عشرة أعوام، وزواجها منذ عامين. وشهد لها الرئيس بحسن السير والسلوك والمعاملة، وبأنها كانت موظفة ممتازة، ولكن الفراش - عم سليمان - أدلى بواقعة مهمة فقال: إنه رآها مرة بصحبة شاب قبيل زواجها هو نفس الشاب الذي جاء الإدارة صباح الجريمة سائلا عنها. وأكد الجميع واقعة الزيارة الصباحية، وأعطوا أوصافا تقريبية للشخص، واهتم المحقق بالواقعة بطبيعة الحال. ولما دعي عمرو لأخذ أقواله عن الشخص المجهول، وصفه بدقة ملحوظة، طوله وحجمه ولونه وملابسه حتى الحذاء، فقال له المحقق: يبدو أنك تفحصته بعناية!
فتضايق عمرو من الملاحظة ولكنه قال بثبات: كان يقف أمامي مباشرة.
وكان يشعر طيلة الوقت بضيق وتوتر فزادته الملاحظة ضيقا وتوترا، وضاعف من همه ما ذاع في حجرة المحقق من أنه ثبت أن ابن المقاول كان في رحلة جماعية ليلة الجريمة، وأن الشبهات تبددت - بالتالي - من حوله. •••
تقمص دماغ المحقق فطارد نفسه بنفسه، من الشاب الذي رآه عم سليمان مع الفقيدة، ولم زار مكتبها صباح ارتكاب الجريمة؟ محتمل أن يكون صاحب الخمر والشيكولاطة، أو يكون شخصا آخر لا علاقة له بالجريمة. السر قابع وراء الزجاجة والعلبة، فلنتخيل القصة من بدايتها عندما بدأت بغرام، انتهز العاشقان فرصة سفر الزوج فتواعدا في بيت الزوجية، وفي الموعد المضروب تسلل الشاب إلى العمارة، يسير التسلل إلى عمارة ضخمة بها أكثر من عيادة طبية، وها هو يجالسها كما يفعل العشاق، كيف ومتى سيطرت فكرة القتل؟ إنها لا تخلق بغتة وبلا مقدمات، ربما جاء بها جاهزة معه، وغير بعيد أن تنشأ عقب خلاف طارئ أو إثر ميل من المرأة نحو إنهاء العلاقة. لعله شاب غر ومحب حتى الجنون، وقع في هوى امرأة طموح لا حد لطموحها، فتزوجت من المقاول، وأبقت على علاقة الشاب بها لتستحوذ على المال والجاه والحب فكرهها بقدر ما أحبها، ولما قالت له بدلال وهي تلاطفه «اخنقني» طوق عنقها بقبضتيه، وشد بكل عنف فلم يتركها إلا جثة هامدة. ارتكب جريمته ثم هرب ولكنه نسي وراءه الزجاجة والعلبة، سيظل مهددا بأن تراه فتاة حلواني دمشق أو صاحب محل «الزهرة» أو يساق إليهما في ظرف ما فيتعرفان عليه. ويتضح أنه زميل للفقيدة في إدارة واحدة؛ فتقوى الشبهة وتتوطد، وإذا اعترف بأنه صاحب الزجاجة والعلبة، وبأنه كان عشيق المرأة، فأي قوة يمكن أن تدفع عنه التهمة، أو تنقذه من حبل المشنقة مهما أنكر وأصر على الإنكار؟! •••
من الحكمة أن يكمل علاجه عند طبيب الأسنان، ها هو الطريق مرة أخرى وها هي العمارة، ترى أما زال حسنين جودة يشغل العمارة؟ وجد البواب فوق الأريكة وراء الباب مباشرة، إنه صعيدي فيما يبدو، ويلف سيجارة، ومضى إلى الداخل فقام الرجل وتبعه، دخل المصعد وراءه فقال باقتضاب: الدكتور نصر طبيب الأسنان.
وهو يغادر المصعد في الدور الثالث حانت منه نظرة إلى الأرض فرأى حذاء البواب فارتعدت مفاصله، حذاء أبيض ذو سطح بني! مضى إلى العيادة بذهن مشتت، أيكون البواب هو القاتل؟ ولكنه يذكر تماما أنه رأى الحذاء تحت طرفي بنطلون لا جلباب، أم يكون البصر قد خدعه؟! وغرق في ذهوله حتى دعي إلى حجرة الكشف، جلس وهو يتساءل: هل ينتهي التنظيف في هذه الجلسة؟
فقال الطبيب: أراك نافد الصبر.
صفحه نامشخص