ثمن الكتابة
جنات تأتي
الجلسة الأولى
امرأة أخرى
نرجس
معركة في الليل
نفيسة
جنات في لحظة إفاقة
الذنب
في البدء كانت السحلية
الحب الآثم
نفيسة تكف عن النداء
جنات تخرج
براءة إبليس
ثمن الكتابة
جنات تأتي
الجلسة الأولى
امرأة أخرى
نرجس
معركة في الليل
نفيسة
جنات في لحظة إفاقة
الذنب
في البدء كانت السحلية
الحب الآثم
نفيسة تكف عن النداء
جنات تخرج
براءة إبليس
جنات وإبليس
جنات وإبليس
تأليف
نوال السعداوي
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل، وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها، وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وأنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، امال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوة يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد؟
الأضحى الكبير، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة إنتي. - إنتي اللي مش معقولة. - ازاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف إنتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
نوال السعداوي
القاهرة
22 مارس 2017
جنات تأتي
ذلك الصباح شقت الشمس السحب المتراكمة في الليل، وانفتحت البوابة الضخمة. مفاصلها الحديدية طقطقت بصرير الساقية العتيقة، صوت لم يكن مألوفا في ذلك السكون المطبق، طارت بعض العصافير من الفزع أو الفرح، أصبح لها صوت يشبه الزقزقة.
دبت حركة في الأجساد الجالسة فوق الأرض. أجساد بشرية من بني آدم وبنات حواء، اتسعت عيونهم وعيونهن نصف المغلقة فيما يشبه النوم. كانوا جالسين، الرجال منهم، والنساء جالسات، فوق مساحة من الأرض الجرداء. رمل أصفر وعشب ذابل ونباتات لها أشواك. تنبت وحدها بلا ماء، ولا غذاء، يسمونها «شيطانية»، السماء قبل ظهور الشمس رمادية خاوية إلا من ذرات تراب، والسكون، الهواء معدوم، الجو ثقيل مشبع بالدخان والهزيمة.
الرجال منهم في مكانهم المعتاد، جلابيبهم واسعة بيضاء علامة المرض، حزام رفيع مربوط حول الوسط له دلالة معينة في السجلات الرسمية، ضمن الأمراض المعدية كالدرن والجذام، وما إن ينظر الواحد في عيني الآخر حتى تنتقل إليه العدوى، يحملقون في الفراغ بعيون نصف مفتوحة، يملؤها إدراك كامل بالموت، تطفو فوق دمعة حبيسة لا تجف ولا تسقط، رءوسهم حليقة «نمرة واحد» بأمر المدير. وجوههم يغطيها شعر ذابل يتدلى فوق صدورهم. لا أحد يعرف أعمارهم بالضبط. إلا رجل واحد يسمونه إبليس، يبدو في عمر الشباب ، حليق الوجه، بلا شارب ولا لحية، شعر رأسه متمرد على القانون، غير محلوق، خصلة قصيرة أمامية يطيرها الهواء، تسقط فوق جبهته السمراء، يرفعها بأصابع رفيعة، تظهر عيناه في الضوء سوداوين، يكسوهما بريق خاطف شبه مجنون، من تحته دمعة مليئة بالحزن.
السور من الحجر عال من فوقه أسلاك، رءوس الأشجار تهتز مع الهواء بحركة ثقيلة، عيناه تدوران مع السور حتى البوابة الحديدية.
النساء كان لهن مكان معين، يسمى ركن الحريم، يجلسن القرفصاء فوق الأرض، رءوسهن ملفوفة بالطرح البيضاء كالعائدات من الحجاز، أذرعهن حول صدورهن معقودة، أيديهن تحت خدودهن والشفاه مطبقة، مزق السكون صوت البوابة الضخمة، اهتزت أعمدتها الحديدية واهتزت معها جدران السراي.
السراي؟! كلمة ناقصة لا تدل على شيء، حتى يضاف إليها كلمة أخرى من خمسة حروف فترتعد الأجساد. سراي أو قصر قديم منذ الفراعنة. كان يسكنه ملك تصور أنه يملك الأرض والسماء، وبني آدم وبنات حواء، ثم مات كما تموت الخيول. دفنوه في حفرة بالأرض إلى جوار حصانه وسيفه. لم يبق من الثلاثة إلا قطعة صغيرة من الحديد على شكل نصف دائرة، كانت حدوة في حافر الحصان وأصبحت داخل غرفة زجاجية بمتحف المدينة يتفرج عليها السياح.
جدران السراي آيلة للسقوط منذ قرون، لكنها لا تسقط. قصور كثيرة سقطت وراحت في العدم، إلا هذه السراي، وقالوا لأن الشيطان يسكنها وهو مجنون لا يؤمن بالزمن أو الله أو المدير أو رئيسة الحكيمات.
مع انفتاح البوابة ارتفع غبار في الجو، وفرقة من رجال البوليس. كعوبهم حديدية تدق الأرض كحوافر الخيول. قبعاتهم النحاسية تلمع بلون أحمر. تبعتهم فرقة من التمورجية بالمرايل البيضاء. أحذيتهم من المطاط بلا صوت. أنفاسهم عالية مسموعة تتلاحق في لهاث سريع وأفواههم مفتوحة.
ثم توقف كل شيء فجأة لحظة دخولها من البوابة. حتى العصافير كفت عن الزقزقة. ثبتت في مكانها فوق الأسلاك ترمق القادمة الجديدة بعيون صغيرة تلمع كحبات الخرز.
من بين المصراعين المفتوحين اندفع جسمها الممشوق بحركة غير مألوفة لبنات حواء. حركة مقتحمة كمن تلقي نفسها في جوف البحر وقامتها مشدودة.
تحركت نحوها عيون الرجال والنساء وثبتت فوق عينيها المفتوحتين على العالم كالنافذتين لا يطرف لهما جفن؛ الرموش طويلة مرفوعة مستعدة للمقاومة حتى النهاية، و«النني» داكن السواد ثابت في مكانه. شعرها كثيف أسود يطيره الهواء فوق وجهها. تقذفه وراء ظهرها كالفرس الجامحة. حافية القدمين تمسك حذاءها في يدها. من الجلد الأسود بدون كعب كأحذية الراقصات أو لاعبات السيرك.
اندفعت من البوابة الحديدية السوداء كالسهم الأبيض يشق الكون نصفين. من خلفها عدد من التمورجية يحاولون اللحاق بها. يمد أحدهم يده ليمسك ذراعها فتفلت منه. يمسك أحدهم بذراعها فتضربه على يده بفردة الحذاء.
مشهد لم يحدث منذ بنيت هذه السراي. قالوا إنها بنيت في ثلاثين عاما. حمل العبيد الأحجار من جبل المقطم فوق ظهورهم. صعدوا السقالات بخطى ثقيلة والكرابيج تلسع أردافهم. قالوا إنهم هم العبيد الذين بنوا هرم خوفو أو منقرع. بعضهم قال خفرع، ولا أحد منهم يعرف التاريخ قبل نزول الكتاب.
كلمة «الكتاب» مكتملة لا تحتاج إلى كلمة أخرى. إذا رنت الكلمة في الجو أدرك الجميع أنه كتاب الله ولا كتاب غيره يدخل السراي بأمر المدير. تمر رئيسة الحكيمات في الليل تفتش العنابر. تدس يدها داخل الدواليب والأدراج. تقلب أصابعها بين الملابس. في السراويل الداخلية كان الرجال يخفون الكتب والروايات الغرامية، لكن النساء أكثر حذرا، ولا يمكن للرئيسة أن تعثر في ملابسهن الداخلية على شيء، اللهم إلا بقعة دم أو رائحة حلم قديم.
من وراء حاجز الحريم اتسعت عيون النساء. لأول مرة في حياتهن يشهدن امرأة تدخل من البوابة مرفوعة القامة. أعناقهن تشرئب بحركة أشبه بالكبرياء. كالعدوى. كبرياء واحدة من جنسهن تكفي لنشر المرض. تفك امرأة ذراعيها من حول صدرها وتنهض واقفة. تطل عليها من بعيد بفم مفتوح. تفلت منها ضحكة. تشاركها النساء الضحك المكتوم. تهتز أجسادهن المتربعة فوق الأرض بالهواء المخزون. تنتقل عدوى الضحك إلى الرجال، ينبعث الهواء الراكد في صدورهم بصوت أعلى من صوت النساء. كان الضحك مباحا للرجال دون قهقهة عالية. الوحيد الذي كان يقهقه دون عقاب هو المدير، ورئيسة الحكيمات حين يغيب المدير، وحين تكون وحدها في غرفتها.
لكن المشهد ذلك الصباح كان فريدا من نوعه، وإبليس كان يتمشى. عيناه تدوران فوق السور العالي. تتوقفان عند البوابة وتثبتان. رفع خصلة الشعر من فوق جبهته ورآها تدخل حافية القدمين وحذاؤها في يدها. عيناها واسعتان والرموش ثابتة، كأنما رآها من قبل. الوجه والملامح والحركة والكبرياء. كل شيء رآه في الحلم أو قبل أن يولد.
وانطلقت من صدره ضحكة عالية تحولت إلى قهقهة نشرت العدوى بين الرجال، والنساء أيضا. أصبح الضحك يخرج من صدورهن مع الهواء بصوت مرتفع.
انطلقت صفارات الإنذار في الجو. أطل المدير برأسه من مكتبه العلوي. ظهرت رئيسة الحكيمات برأسها الملفوف بالطرحة البيضاء من خلفها فرقة من التمورجية يمسك كل منهم عصا من الخيزران. يلسعون النساء على أردافهن. - كله يدخل العنابر! كله يدخل جوه!
تهرول النساء إلى الداخل، إلا تلك المرأة التي بدأت الضحك. تمشي بحركة بطيئة رافعة عينيها نحو القادمة الجديدة. ملامحها غريبة ومألوفة. هذه الحركة الجامحة رأتها من قبل، كالفرس الحرة غير مملوكة لأحد، يلسعها التمورجي فوق ردفيها. - بسرعة! ادخلي يا بت يا نفيسة!
تتلكأ في مشيتها. تهز ردفيها. تلسعها العصا مرة أخرى. تستدير نحوه بحركة غاضبة. - متشطر على النسوان! ما تروح تضرب الرجالة! - بسرعة ادخلي يا بت! المدير جاي!
لم يكن التمورجية يضربون الرجال فوق أردافهم. يكتفون بشخطة أو لكزة في الكتف ببوز العصا. ويدخل الجميع إلى العنابر إلا إبليس يختفي وراء جذع شجرة، ورجل آخر أكبر سنا. لحيته طويلة بيضاء، رأسه ملفوف بعمامة على شكل القمع، مدببة القمة تعلوها ريشة سوداء. تنتصب في الهواء كعرف الديك. يلكزه التمورجي في كتفه بالعصا الخيزران. - ياللا ادخل بسرعة مش شايف المدير؟ - مدير مين يا حمار؟ مش عارف أنا مين؟ - عارف يا مولانا بس ادخل بسرعة خلي اليوم يفوت على خير.
في مدخل السراي كان المدير واقفا داخل معطفه الأبيض. أمامه قائد الفرقة البوليسية، يناوله ورقة ملفوفة على شكل قرطاس. - اتفضل يا فندم، وقع لنا باستلام المريضة.
فتح المدير الورقة. تأمل الحروف طويلا. زحفت عيناه من الورقة إلى المرأة الواقفة كالنمرة وحذاؤها في يدها. عيناها تدوران حولها تتأمل المكان الجديد. فوق شفتيها ابتسامة. أخرج قلمه الحبر من جيبه العلوي ووقع باسمه فوق الورقة على شكل شخبطة. حملق فيها قائد البوليس بعينين متسعتين ثم رفع يده بالتحية العسكرية. ضرب كعبي حذائه أحدهما بالآخر. خبط بهما الأرض عدة خبطات، واستدار معطيا ظهره للمدير وخرج من البوابة مع فرقته يدبون بكعوبهم كحوافر الخيل.
الرئيسة كانت واقفة خلف المدير. حول عنقها خيط أو سلسلة تتدلى منها صفارة، راقدة فوق صدرها كالفأر الصغير داخل الخندق بين النهدين الكبيرين. رأسها الملفوف بالطرحة البيضاء مطرق إلى الأرض. عيناها تختلسان النظر إلى قدمي المرأة الحافيتين. تصعدان إلى ساقيها المشدودتي العضلات داخل سروال من الجلد. حول خصرها حزام عريض. قميصها أبيض فضفاض، له فتحة واسعة يطل منه عنقها الطويل، أسمر اللون كجذع شجرة يخرج من بطن الأرض. عيناها واسعتان تملؤهما نظرة ثابتة كالجنون. - اسمك إيه؟ - جنات!
قالتها بملء فمها، وابتسمت. امتلأ وجهها بالضوء. بينها وبين اسمها علاقة حب قديمة، «جنات». جمع جنة. هكذا كان يقول أبوها.
ودارت عيناها تتأملان المكان حتى التقتا بعيني الرئيسة. حملقت فيهما طويلا كأنما رأتهما من قبل. - نرجس؟!
هزت رأسها الملفوف بحركة عصبية: أنا الريسة!
وارتفعت ذراعها تمسك الصفارة الراقدة فوق صدرها. أخذت تلفها بين أصابعها كحبات السبحة. تدور بها حول نفسها. شفتاها تتمتمان بآية تطرد أرواح الجن.
ويرن صوت المدير في البهو الواسع ذي الأعمدة الحجرية: غرفة منفردة تحت الملاحظة وثلاث جلسات في الأسبوع. - حاضر يا فندم.
يخرج صوت الرئيسة من بين أسنانها دون أن تحرك شفتيها، ثم اختفى الجميع، إلا أربعة من التمورجية، وجنات واقفة كما كانت وحذاؤها في يدها. أرادت أن تصعد إلى غرفتها وحدها، لكن ثماني أذرع امتدت نحوها. أمسكوها. ساقوها عبر ممرات مظلمة طويلة. صعدوا بها دورا وراء دور. سلالم متآكلة تئن تحت أقدامهم بصوت مكتوم، كمواء القطط المريضة. داخل غرفتها بجوار عنبر الحريم تركوها فوق السرير. أغلقوا الباب عليها بالمفتاح. سمعت الصرير بأذنيها وهي مغمضة العينين.
كالحلم القديم يتحول فجأة إلى حقيقة. تفتح عينيها وتغمضهما. أين هي؟ وهذه النافذة ذات القضبان رأتها من قبل في النوم، أو في حياة أخرى قبل أن تولد.
عيناها تنفذان خلال الأعمدة الحديدية، نظرتها ممدودة بامتداد الصحراء. ترتد إليها وتدور بها على السور الحجري العالي. تهبط إلى المساحة الجرداء حول السراي. كانوا يسمونها الحديقة. عشب ذابل كالبقع الصفراء فوق الأرض. عمود حجري حفرت عليه نقوش فرعونية. هذا الرسم رأته من قبل. يشبه صورة العجل أبيس أو الإله رع في كتاب المدرسة. كانت في السنة الأولى الابتدائية وكان للآلهة رءوس لها قرون.
وراء جذع شجرة مقطوعة لمحته مختفيا. جلبابه واسع أبيض مربوط عند الوسط بحزام رفيع. شعر رأسه أسود كثيف يغطي عنقه من الخلف. أحد التمورجية يدور حول الشجرة ليمسكه. يفلت منه ويصفق بيديه كالطفل يلعب «الاستغماية». - أنا هوه أنا هوه ...
ثم رفع وجهه ورآها واقفة خلف النافذة. التقت عيونهما في نظرة طويلة كأنما التقيا من قبل. هتفت: أنا جنات.
دوى صوتها في الفضاء وذاب في الهواء، وهو واقف شاخص نحوها بعينين متسعتين. اسمها جنات، وهو يحلم بجنة واحدة.
انقض عليه التمورجي وأمسكه من ذراعه. - مسكتك يا إبليس.
دوت الكلمة في أذنيها. عيناها تحملقان في عينيه. أيكون هو؟
الجلسة الأولى
فتحت عينيها في الظلمة نصف فتحة بحركة سرية. تختلس من وراء عقلها نظرة إلى العالم. السقف أجرب مشقق نشت منه مياه قديمة. مطر ربما منذ نوح عليه السلام، وعروق خشبية متآكلة هبطت تحت ثقل الزمن. تطقطق في أذنيها كسرير جدتها.
عيناها تتسعان. يزداد سوادهما دهشة. أين السقف المدهون بالبلاستيك الأبيض والستارة الزرقاء الشفافة؟ تبرز المقلتان بلون داكن وسط البياض. تدور بهما على الجدران المشققة، رطوبة الشتاء ثم حرارة الصيف. يجف البلل. يتشقق الطلاء الجيري. تسقط منه أجزاء على نحو عشوائي أو غير عشوائي. نظام كوني دقيق لا يترك شيئا للصدفة. هكذا كانت تسمع من جدها، وإلا لماذا رسمت الأجزاء الساقطة من الطلاء صورة الإله رع أو العجل أبيس؟ قرناه يلتويان إلى الأمام بحركة مرثية وعيناه جاحظتان كعيني الشيخ بسيوني. - الشيخ بسيوني؟
فركت عينيها بإصبع رمادي كالجرانيت، غابت عنه الشمس منذ موت ابنها. أو ربما هو إصبع امرأة أخرى عاشت وماتت ثم انتبهت وفتحت عينيها نصف فتحة وفركت بطرف إصبعها جفونها.
مدت الإصبع الرمادي ومعه يدها الناحلة. ذراعها كالعصا الخيزران داخل كم جلباب أبيض ينتهي بكشكشة وإسورة واسعة. أين ساعة يدها؟
زحفت يدها بأصابعها الخمس فوق المنضدة المشققة. ظل الأصابع الخمس يتحرك فوق الجدار الداكن السمرة كأصابع جدتها. أمسكت الساعة الصغيرة ذات القرص الذهبي. أهدتها إليها أمها بعد نجاحها في الابتدائية. قربت من عينيها القرص الصغير بحجم القرش أو المليم القديم. كاد يلتصق بجفونها الباردة. لم تر العقرب الكبير ولا الصغير. الأرقام دوائر سوداء تنتهي بذيول مشرشرة كأرجل الذباب العائم في الماء.
جسدها ينتفض فوق السرير. تسمع اهتزازات الأسلاك تحت المرتبة المطاطية، كانت ترى العقرب الصغير في عز الليل دون أن تضيء النور، ثم أصبح العقرب الصغير يختفي. العقرب الكبير أيضا بدأ بالاختفاء. أتكون هذه العلامة هي اقتراب الموت، وأنها تشهد بنفسها انسحاب روحها من جسمها؟ اتسعت جفونها أكثر، تذكرت معها ما نسيته. لم تعد ترى العالم على حقيقته دون أن تضع فوق عينيها النظارة الزجاجية.
امتدت يدها وأمسكت النظارة. رفعتها فوق أنفها تثبت «الشنبر» الرفيع البلاستيك. قبل أن تنظر إلى الساعة أدركت فجأة أنها في غير حاجة إلى أن تعرف الوقت. بحركة بسيطة أزاحت «الشنبر» من فوق أنفها. حركة لم تستغرق من الوقت جزءا من الثانية، لكنها بدت في عيني المدير علامة على غياب العقل.
كان المدير جالسا إلى جوار السرير. يرمقها بمقلتين رماديتين من وراء زجاج نظارته. الرئيسة واقفة إلى جواره داخل ثوبها الأبيض في يدها الإبرة تلمع، ترسم لنفسها فوق الجدار نصلا طويلا مدببا كالسكين. غرزتها في ذراعها تحت الكم. دعكتها بقطعة من القطن المبلل بكحول أبيض.
رائحة الكحول تنفذ إلى أنفها، تذكرها بالمدرسة وغرفة الحكيمة. أصابع الرئيسة رفيعة شاحبة تعلوها رعشة. تنظر إلى السقف. تتفادى النظر إلى عينيها. تدعك ذراعها بقطعة القطن. مرة بعد مرة حتى توقف الدم. بقيت قطرة واحدة حمراء عالقة بكم الجلباب الأبيض.
منظر الدم منذ الطفولة يفزعها. لم يكن فزعا حقيقيا. ربما كان شيئا آخر. أقرب إلى الفرح؟ أو رغبة الاستطلاع؟ كالرغبة الآثمة كانت تريد أن تعرف. أن تقطف الثمرة المحرمة من فوق الشجرة! وحين تذبح جدتها الدجاجة تحملق في حمرة الدم القاني كأنما هو دمها.
تلفتت حولها تبحث عن عيني المدير وراء الزجاج. لم يكن هناك أحد. لا المدير ولا الرئيسة. في السقف الأجرب شق تطل منه عينان تلمعان، تحملقان فيها بنظرة فاحصة. رأسها صغير كرأس السحلية. الذيل طويل رفيع يلتوي إلى الأمام مثل قرن أبيس.
أدهشتها المفاجأة فسقطت الساعة من يدها فوق الأرض. أحدث سقوطها صوتا مسموعا فاختبأت السحلية داخل الشق وهي تضحك. رنت ضحكتها في الجو كشهقات طفلة تبكي.
هه هه هه هه.
يشبه صوت أمها حين كانت تنشج في الليل. يسري في أذنيها كحفيف الهواء. أمها واقفة وراء النافذة. جبهتها عريضة. أنفها مرتفع شديد الاستقامة. خداها عظامهما بارزة مدببة. العينان سوادهما قاتم. من زاوية فمها ينساب خيط رفيع من الدم.
أخفت رأسها تحت الوسادة، صورة أمها تغزوها من كل جانب. شلال من الصور والماء البارد يغرق رأسها. تلتقي البرودة بالسخونة فوق جبهتها العريضة. تبرز قطرات العرق، البخار يتصاعد من فتحتي أنفها يهز الملاءة والمرتبة وأرجل السرير الأربعة.
ترفع يديها الاثنتين. تمسك بهما الملاءة! تلفها حول نفسها. تتشبث بها كأنما هي روحها تمسكها بيديها قبل أن تفلت منها. - جنات؟
أذناها تنتصبان مرهفتين. أهو اسمها؟ كأنما تسمعه لأول مرة. ربما سمعته من جدها أو أبيها. كان يقول جنات جمع جنة، وتسأل: جنة يعني إيه؟ ويفتح الكتاب ويقرأ: جنة عدن تجري فيها أنهار من عسل ولبن. لم تكن تحب طعم العسل ولا اللبن. تفضل عليهما الجبنة الحادقة والخيار المخلل.
فتحت عينيها تختلس إلى ما حولها نظرة. السقف أجرب مشقق نقشت عليه صورة العجل أبيس. أين السقف الأبيض المدهون بالبلاستيك؟ والستارة الزرقاء الشفافة؟ والسرير العريض يطل منه وجه زكريا. - زكريا؟
أهو صوتها الذي يناديه؟ كأنما تسمع اسمه لأول مرة. زكريا؟ اسم غريب ومألوف، سمعته طول العمر، ولم تسمعه أبدا. فوق الجدار الأبيض المصقول صورتها معلقة داخل إطار ذهبي. إلى جوارها رجل يرتدي بدلة عرس سوداء. فوق شفته العليا شارب أسود، حول عنقه رباط معقود على شكل «فيونكة». جدتها كانت تسميه «بابيون» وهي واقفة إلى جواره داخل ثوب الزفاف. أبيض بلون الكفن. بين يديها باقة ورد تتدلى منها وردة شاحبة البياض خالية من الدم، والسرير من الخشب الزان عريض يتسع للموت.
وجهه يطل من فوق السرير بلون الملاءة. وجه غريب لم تره أبدا، ومألوف تماما. رأته كل يوم. ثلاثون عاما، أصبح أكثر طولا. شعر رأسه تساقط، ذؤابة واحدة نافرة فوق كل أذن. رمادية اللون. جسده داخل المنامة الحريرية مرتخي العضلات. «النني» الأسود غارق في بياض أزرق. والزرقة ذابت في لون أصفر. شفتاه تنفرجان عن صوت يتحشرج. - جنات!
كصوت جدها حين يناديها بهذا الاسم. يجلس في غرفة المكتب وراء مكتبه الأسود من خشب الورد. ينعكس وجهه فوق بلورة لامعة. أنفه مقوس كبير علامة الانحدار من سلالة أبيه الطاهرة وجده الشيخ ذي السيرة العطرة. لم يحدث أبدا أن ولد طفل من صلب أبيه دون هذه العلامة. الأنف المقوس الكبير كمنقار البطة، إلا طفلا واحدا ولدته خالة أمها بأنف صغير مقوس، ولم يعرف أحد أين راح هذا الطفل، وأمه ماتت منتحرة في مياه النيل.
في الليل تنكمش إلى جوار جدتها في السرير النحاسي ذي الأعمدة الأربعة، ومن غرفة المكتب تسمع صوت جدها يتنحنح بلا سبب، كان يصدر عنه ذلك الصوت في سكون الليل. نحنحة غليظة فيها خشونة، كأنما يؤكد لجدتها ذكورته، أو وجوده على قيد الحياة، أو على الأقل أنه يقظ لا ينام.
وفي هدوء الليل تتسلل وتمشي في الصالة الكبيرة. تطل من باب الغرفة الموارب. ترى جدها جالسا يقرأ أو ممسكا بالقلم يكتب. تهمس في أذن جدتها النائمة: جدي بيكتب إيه يا نينه؟
تفتح جدتها فمها الخالي من الأسنان وتتثاءب: جدك بيكتب كلام فارغ في كلام فارغ!
في الصباح تتسلل إلى غرفة المكتب. كان الرف في المكتبة عاليا. أعلى من رأسها. تقف فوق الكرسي وتشب فوق أطراف أصابعها. تشد كتابا غلافه ناعم مصقول. الحروف منقوشة بماء الذهب. تمر بيدها فوق الورق الشفاف. تشد ورقة وتصنع منها طائرة بجناحين.
رآها جدها وهو يدخل من الباب. خطف منها الكتاب وهو يصيح: ده كتاب ربنا يا حمارة!
وأخذت قبل أن تنام علقة ساخنة منه بالعصا الخيزران. رقدت إلى جوار جدتها تبكي بصوت مكتوم. أعمدة السرير النحاسي تهتز مع نشيجها. لم تكن تعرف أن الله يؤلف الكتب مثل جدها. - هو ربنا بيعرف يكتب زي جدي يا نينه؟ - طبعا ربنا فوق جدك وفوق الجميع!
لم تكن تتصور أن هناك أحدا فوق جدها إلا صاحب الجلالة الملك، ولم يكن الملك يؤلف الكتب. كانت تسمع من أبيها أنه ملك فاسد يقضي الليل في شرب الخمر مع الراقصات، لكن مكتبة جدها مليئة بالكتب، جدها كتب هذه الكتب؟ سؤال كان يراودها حتى كبرت قليلا، وعرفت من أمها أن جدها لم يكتب إلا كتابين اثنين وكف عن الكتابة، ثم مات جدها بعد أن كف عن الكتابة. جاءتهم برقية تعزية من الملك، علقتها جدتها داخل إطار مذهب. تشير إليها بإصبعها لكل من أتى يعزي، وفي عينيها بريق. أبوها وأمها أيضا امتلأت عيونهما بالبريق. يتأملان البرقية ذات الحواشي المزركشة.
في الليل وهي راقدة دار في رأسها السؤال: الفرح ببرقية الملك أكبر من الحزن على موت جدها؟
قلبها ثقيل بالإثم. هي أيضا لم تحزن على جدها. غمرها الفرح حين انتهى اليوم ولم يعد. أصبحت تقضي الساعات في غرفة المكتب لا تخشى شيئا، وتنام الليل بلا أرق، إلا سؤال واحد كان يدور في رأسها: كيف يكون لجدها كتابان وربنا ليس عنده إلا كتاب واحد؟
في غرفة المكتب تدور عيناها فوق الأغلفة. تبحثان عن كتاب الله. كان أبوها يسميه المصحف. تمشي بيدها فوق جلده الناعم. له رائحة خاصة تملأ بها أنفها، تصورت أنها رائحة الله.
ارتبطت في ذهنها رائحة الله برائحة جدها، والكتب القديمة، وحروف المطبعة والرفوف الخشبية والكراسي الجلدية، والسجادة العجمية، تفوح منها رائحة التراب، والهواء الراكد في غرف المكاتب المغلقة.
فتحت عينيها نصف فتحة تختلس من وراء عقلها نظرة إلى العالم. السقف أجرب مشقق. الرئيسة واقفة داخل ثوبها الأبيض. رأسها ملفوف بطرحة رمادية، في يدها الإبرة.
شدت منها ذراعها بقوة: مش عاوزة حقن! - لازم تاخدي الحقنة! - أنا مش عيانة! - أنت عيانة. - عيانة بإيه؟ - مش ضروري تعرفي. - لازم أعرف!
تخبط بيدها فوق المنضدة الخشبية: لازم أعرف.
ترفس الهواء بذراعيها وساقيها: لازم أعرف! - مش ضروري تعرفي!
صوت الرئيسة فيه خشونة كصوت جدها الميت. لم تعد جدتها تخاف منه بعد أن مات. من تحت الوسادة تخرج الإنجيل وتقول إنه كتاب الله. ترسم فوق صدرها الصليب وتتمتم: أبانا الذي في الملكوت اغفر لنا خطايانا. أبوها كان من أقباط الصعيد. يملك عزبة كبيرة وعبيدا سودا، أراد جدها أن يرث العزبة فتزوجها على سنة الله ورسوله. طلب منها أن تسلم فأسلمت لترثه بعد أن يموت. سمعت أن له عزبة وسط الدلتا ولم تعرف أن الخديوي أخذها من أبيه على شكل قرض. كان الحاكم محل ثقة، ولا يمكن لأحد أن يطالبه بإيصال. إذا تسرب الشك إلى قلب أحد أصابه غضب الله قبل الخديوي. هكذا كانت تكتب جريدة الأهرام ومجلة أبو الهول. جدتها كانت تصدق ما يكتب في الصحف، ثم ماتت دون أن ترث أحدا. غضب عليها أبوها وحرمها من الأرض، هجرها زوجها في الفراش حين بلغت سن اليأس، وتزوج في الخفاء فتاة في الرابعة عشرة. - أبانا الذي في الملكوت اغفر لنا خطايانا. - يعني إيه سن اليأس يا نينة؟ - مش ضروري تعرفي يا بنت. - لازم أعرف يا نينة. - مش ضروري تعرفي! - لازم أعرف!
تضرب بقبضة يدها في الهواء. وجه جدتها يشبه وجه الرئيسة مليئا بالتجاعيد. بين شفتيها الرماديتين صفارة تنفخ فيها. خداها يمتلئان بالهواء كالبلونة. تضحك بصوت عال كما كانت تضحك في فناء المدرسة. تشد من فمها الصفارة وتجري تصفق بيديها مهللة ومن حولها تلميذات الفصل: هه هه هه هه!
تظهر الناظرة بأنفها الكبير المقوس الذي يشبه أنف جدها. رأسها ملفوف بطرحة بيضاء. بين أصابعها قلم طويل مدبب كالإبرة. رئيسة الحكيمات ترتدي وجه ناظرة المدرسة. بين نهديها سلسلة تتدلى منها صفارة. تنفخ فيها فينبعث صوت حاد ممطوط كالمزمار. يظهر على الفور أربعة من التمورجية داخل المرايل البيضاء.
لم تكن تستسلم حتى يذهب عنها العقل في غيبوبة. ربما هو المخدر في الإبرة. أو أن أحدا يضربها فوق رأسها بقبضة حديدية وتغيب عن العالم بما يشبه النوم أو الموت. ينفصل عظمها عن جسمها، إلا خلية واحدة عاقلة تظل عالقة متشبثة بفروة الرأس. تدرك بها أنهم يحملونها فوق نقالة لها عجلات. قدماها ويداها مربوطة بالحبال. يسيرون بها في ممر طويل مظلم. صوت العجلات يجري فوق البلاط. من تحت جفونها المغلقة ترى السقف. أجرب مشقق سقطت منه أجزاء. أشكال غريبة مرسومة. جسد رجل له رأس عجل، وامرأة لها ذيل سمكة مثل جنية البحر. رأسها يهتز مع اهتزاز العجلات. ارتطم رأسها بالباب وهم يدخلونها إلى الغرفة. أرقدوها فوق منضدة باردة تغطيها طبقة من المشمع. ربطوها في أرجل المنضدة بحبل. وضعوا بين أسنانها قطعة مربعة من المطاط، لفوا حول رأسها حزاما من الجلد له سلك طويل، ينتهي بفيشة سوداء.
وفجأة بدأ جسمها يتقلص. ذراعاها وساقاها تنتفض تحت الحبال. كالفرخة المذبوحة المربوطة في الأرض. صوتها لا يخرج رغم أنها تصرخ. أسنانها تصطك بصوت عال. زبد أبيض كرغوة الصابون يخرج من فمها، ثم يكف جسمها عن الحركة. ترتخي ذراعاها بجوارها. ذراع منهما تنتفض فوق حافة المنضدة قبل أن تسقط. تتدلى في الهواء بجوار جسمها وتهتز مثل بندول الساعة.
امتدت يد الرئيسة وأمسكت ذراعها. أعادته فوق المنضدة إلى جوار جسمها. زحفت أصابعها إلى معصمها تجس النبض. « لب دب لب دب لب دب.»
الدقات تحت ضلوعها قوية. لها إيقاع منتظم. كاللحن القديم الراقص. أوراق الشجر تتراقص مع الهواء ، وسنابل القمح. يسري اللحن في أذنيها ناعما كصوت أمها. تهدهدها في السرير الهزاز. - هوه نامي نينة هوه ... هوه ...
تفتح عينيها وترى وجه أمها من حوله طرحة بيضاء. المقلتان سوداوان يطفو فوقهما الماء. تربت على كتفها وتهمس بصوت مألوف: جنات!
امرأة أخرى
يسري الصوت في أذنيها كحفيف الهواء. يمشي فوق جفونها المغلقة ناعما كصوت أمها. تهدهدها في السرير الهزاز، تغني لها قبل أن تنام: هووه ... نامي نينا هوووه ... وتسقط في النوم كأنما تغرق في بحر دافئ. تسبح كالسمكة ثم تفرد جناحيها وتطير فوق الماء. كالفراشة تصفق بجناحيها تحت أشعة الشمس، والسماء زرقاء صافية. تجري فوق العشب بغير حذاء. سنابل القمح تتراقص مع الهواء. رائحة زرع أخضر في أنفها، وهي تجري لا تتوقف. من خلفها صوته يطاردها ... كلمة واحدة تنطلق في ظهرها كالرصاصة: يا ساقطة!
تنكفئ وهي تجري فوق وجهها. تتحسس الأرض من تحتها.
أين السرير العريض؟ والستارة الشفافة؟ وزكريا؟
يدها ممدودة نحوه مبللة بالمطر. بشرتها ناعمة تشبه يدها وهي طفلة. يدها الأخرى جافة مشققة عروقها نافرة تشبه يد جدتها، والدقات تحت ضلوعها لها إيقاع المطر فوق أوراق الشجر. صفير الريح يدوي في أذنيها كالهتاف. أصوات كثيرة تهتف: يسقط النظام! يسقط! يسقط!
ترهف أذنيها. تتلهف على سماع الصوت. الناس يصيحون أم هي نائمة؟ يذوب الصوت في الصمت. يدوي الصمت في أذنيها كهدير الملايين. الكل يهتف والكل صامت. الليل يزحف بغير توقف، والهواء راكد مشبع بالهزيمة. وجهها ناحية النافذة وظهرها ناحيته: يا ساقطة!
ترن الكلمة في رأسها مألوفة، كأنما سمعتها طول العمر. في المدرسة كانت تسمع الشيخ بسيوني يقول سقط فعل ماض، والمؤنث سقطت. فهي ساقطة مثل أمها حواء. لها صورة بجوار أمها فوق ركبتيها أخوها الأصغر، وأبوها جالس وفوق ركبته أختها الصغرى، وأخوها الأكبر واقف إلى جوار أبيها، عيناه نصف مغلقتين، وهي واقفة في طرف الصورة عيناها مفتوحتان. تحملق في عين «الكاميرا» بنظرة متسعة شبه مجنونة.
ماذا كانت ترى هناك داخل بؤرة العدسة؟ ربما كانت ترى عين الله أو عين الشيطان. أو ربما هو الفراغ يتجمع في تلك البؤرة على شكل الثقب المفتوح، يتسرب منه العالم إلى الفراغ، أو ربما هي الشمس تتجمع في العين الزجاجية ثم تنعكس في عينيها فلا ترى شيئا.
منذ ولدت وعيناها مفتوحتان. كان الناس يولدون بعيون مغمضة. خرجت من بطن أمها تنظر لا يطرف لها جفن، وبصقت جدتها في فتحة ثوبها وهي تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إنس والا جن؟
كانت عيون الرجال تنجذب نحو وجهها. تتوقف عند العينين، وسمعت من يقول إن في عينيها جاذبية الذكاء وبريقه. سرعان ما ينقلب إلى اتهام بخفة العقل أو لوثة الجنون. لون «النني» في عينيها يتغير مع حركة الأرض حول الشمس، فيصبح في الليل أسود داكنا كعيون الشياطين، وفي النهار تنعكس عليه زرقة السماء فيصبح سماوي اللون كعيون الملائكة، وفي ضوء الغسق عند الغروب أو الشفق يكتسب «النني» وهجا أحمر كعيون الممسوسين بأرواح الجن.
منذ عرفت الحروف والكتابة وهي تدون ما يهمس به الرجال في أذنيها. قال لها الشيخ بسيوني في المدرسة: عيناك فيهما شبق حوائي. قالها بلغة عربية فصحى. كان يدرسها اللغة والدين، ولم تعرف ما معنى كلمة «شبق حوائي». سألت أباها فرمقها بنظرة جعلت جذور الشعر تنتصب في فروة رأسها. وهمس رجل في أذنها وهي تمشي في الطريق: أنت أنثى! خرج لسانه من فمه وهو ينطق كلمة «أنثى». وعيناه فوق نهديها كأنما هي كائن غير عاقل من فصيلة الثدييات.
كلما كانت تكبر يتغير وصف الرجال لعينيها. بعضهم رأى فيهما الحزن الدفين منذ حواء الآثمة، وبعضهم رأى فيهما براءة وفرحا لا تسعهما الدنيا، أو طهارة العذراء مريم، وبعضهم رأى فيهما قوة تجذب، وآخرون رأوا فيها قوة تطرد، وهناك من رآهما مفتوحتين بلا نهاية على الأفق، وغيرهم رأوهما مسدودتين غير قابلتين للاختراق.
كانت هي الوحيدة العاجزة عن رؤية عينيها إلا من خلال زجاج المرآة، تحملق فيهما وبينها وبينهما الحاجز المسدود اللامع. ترى النظرة الحجرية من نوع الرخام الأبيض. داخلها دائرة سوداء فارغة، كالثقب العميق في بئر بغير قاع. - يا ساقطة!
الصوت يدوي في أذنيها من خلفها وهي تقفز فوق السلم. جدتها القبطية (أم أمها) كانت تحذرها من القفز فوق السلالم، أو ركوب الدراجة، أو أن تدب بقدمها فوق الأرض، أو أن تفتح ساقيها عن آخرهما وهي تمشي. - شرف البنت رقيق مثل ورقة السيجارة.
كلما احترقت سيجارة بين شفتي جدها أو أبيها، وألقيت عقبها في المطفأة تصورت أنها تلك العقب المحترقة داخل الرماد. - جنات اصحي!
يد تلكزها في كتفها لتصحو، لكنها نائمة. لا تكفي يد واحدة لإيقاظها. نومها عميق كالموت. وهي تدرك الموت على نحو غريب. تراقب نفسها بنفسها حين تموت، وترى أباها جالسا وبين يديه المصحف. صوته يتحشرج كأنما يتجشأ. - لا يمسح العار إلا الموت.
الهواء ثقيل مملوء بالدخان والهزيمة. حول عنقها حزام مشدود يخنقها. أهي التي خنقت نفسها؟ مهما حدث لها لم تكن تموت، وكيف تموت وعقلها ما زال في رأسها؟ إنها يد أخرى تلك التي تقودها للموت. ربما هي يد الله، أو يد أبيها أو زوجها أو جدها الأكبر الذي مات قبل أن تولد، لكن روحه الطاهرة نهضت من القبر لتغسل العار.
فتحت جفونها نصف فتحة، تختلس نظرة من وراء الكون. رأت جدها الذي لم تره. يشبه الرب الذي لم تره أبدا. ترتدي روحه قفطان الشيخ بسيوني، عمامته ملفوفة حول رأسه سبع لفات. واقف وراء الشماعة في الظلمة، وصوته غريب مألوف، فيه بحة خشنة، يتكلم بلغة فصحى: قفي وجهك للجدار وارفعي ذراعيك إلى أعلى.
كانت هذه هي طريقة العقاب في المدرسة، وتقف ووجهها ملتصق بالجدار وذراعاها مرفوعتان. لا يمكن أن تهبط ذراع وإن أحست أن ثوبها يرتفع من الخلف، يزحف بين ردفيها شيء كالإصبع. ينتفض جسدها، وفي الانتفاضة تسقط ذراع من ذراعيها، فتهبط فوقها العصا الخيزران. ترفع ذراعها بسرعة إلى أعلى، ترفعها عاليا بيدها الأخرى حتى تلامس السقف.
ويدق الجرس ويخلو الفصل إلا هي. تظل واقفة منتصبة لا تسقط منها ذراع، وتنام وهي واقفة لا تسقط، وفي الحلم تظل واقفة لا تسقط، مهما انهالت فوقها العصا لا تسقط. تموت وهي واقفة لا تسقط، كجدتها الريفية أم أبيها. كانت تراها في الليل واقفة، وتسألها: واقفة ليه يا ستي الحاجة؟ - عشان لما عزرائيل يجي يلاقيني واقفة. - عزرائيل مين؟
لم تكن تعرف من هو عزرائيل. تقول جدتها إنه يأتي في الليل بعد أن ترقد ليخطف روحها من جسمها، فإذا لم ترقد وظلت واقفة ينصرف عنها، ويذهب إلى امرأة أخرى. «امرأة أخرى؟!»
دوت الكلمتان في رأسها كطلقتين من الرصاص. طلقة وراء طلقة، ثم دب الصمت. صمت مطبق لم تسمع فيه إلا نباح كلب من بعيد، وبوق سيارة ينطلق مرة واحدة ثم يكف، ولا يبقى فوق الجدار إلا دائرة من الضوء الأبيض تزحف فوقه. تمشي فوق الجدار حتى السقف، ثم تهبط إلى الأرض. تمشي فوق البلاط، وتصعد إلى السرير، تمشي كالشعاع فوق وجهها، ثم تثبت على جفونها المغلقة.
فتحت عينيها نصف فتحة ورأت المدير واقفا وبجواره الرئيسة. خلع القلم من جيبه العلوي وكتب شيئا فوق الورقة. نظرت الرئيسة في الورقة ثم هزت رأسها المطرق وهمست: حاضر يا فندم. استدار المدير وخرج من الغرفة. خرجت وراءه تمشي بظهر محني. قبل أن تغلق الباب خلفها استدارت. التقت عيونهما في نظرة طويلة صامتة. - نرجس؟
انفرجت شفتاها عن حروف متقطعة. صوت يشبه مواء القطط، أو نهنهة ذابت في الهواء.
ثم انغلق الباب وغرقت الغرفة في الظلام. سمعت المفتاح يدور حول نفسه ثلاث مرات، وأقدام تسرع فوق الممر البلاط. طرقعة حذاء وأنفاس تلهث.
نرجس
ظلت تلهث حتى دخلت غرفتها العلوية واغلقت الباب. أسندت رأسها إلى الجدار وأغمضت عينيها. طفلتان تلعبان الحجلة في فناء المدرسة. تجريان بين الزرع الأخضر وراء الفراشات، فتحت عينيها ورأت نفسها واقفة أمام المرآة. خلعت الطرحة من حول رأسها. انسدل شعرها الأسود حول كتفيها. ضفيرتان طويلتان كبنات المدارس. هزت رأسها فاهتزت الضفيرتان. - نرجس؟
رن صوتها في أذنها غريبا. كلمة نرجس أشد غرابة. اسم امرأة أخرى ربما. ظلها مرسوم فوق الجدار. منتصب إلى جوارها. - أهي نرجس؟ روح أخرى تتقمص جسدها؟
كانت تؤمن بوجود الأرواح. الجان ورد ذكره في القرآن. هكذا قال أبوها. جدتها حكت لها عن عفريت جدها يخرج في الليل من القبر. يمشي فوق الأرض بلا قدمين ولا ساقين، ولا أي شيء يمكن أن تراه العين. يتقمص جسد القطة أحيانا، ويرقد أمام باب المرحاض أو «بيت الأدب» كسا تسميه جدتها. يخلع جسد القطة ويرتدي جسد فأر صغير أو سحلية، أو يظل كما كان روحا بلا جسد، ويمكنه أن يدخل من تحت عقب الباب أو شق النافذة.
كانت تخاف من العفاريت وأرواح الجان. تنهض من السرير في الليل وتحكم إغلاق النافذة بالترباس. تسد الشق بين الجدار والنافذة بخرقة قديمة أو ورقة تقطعها من كراسة المدرسة. تلف نفسها باللحاف من الرأس إلى القدم، لا تترك ثغرة واحدة يمكن أن ينفذ منها العفريت، وتضم ركبتيها. تحكم إغلاق فخذيها فلا يمكن لأحد من الإنس أو الجن أن يفتحهما.
أمام المرآة تحملق في وجهها الداكن السمرة. جسمها النحيف داخل الثوب الأبيض، والمرأة الأخرى مرسومة فوق الجدار داخل ثوب أسود. ظهرها محني كظهر جدتها. تحرك رأسها بعيدا عن المرآة وتمشي إلى الوراء خطوة، فإذا بالظل المرسوم على الحائط يمشي خطوة إلى الوراء. أتكون هي وليست المرأة الأخرى؟ تمتمت بآية وعادت تنظر في المرآة. فوق صدرها وسام الشرف والوطنية من الدرجة الأولى، قرص ذهبي مشبوك بدبوس، خلعته من فوق الثوب وأرقدته في صندوقه المبطن بالجوخ الأخضر. ربتت عليه ووضعته داخل الدرج. بدأت تخلع ثوبها. سقط إلى الأرض وتكور عند قدميها. لمحت نهديها في المرآة فأخفتهما بيديها الاثنتين. حوطت كتفيها بشال كبير أبيض، وابتلعت رشفتين من كوب الماء. ريقها ناشف والدقات تحت ضلوعها تتصاعد. شيء مدفون في جسدها يفزعها. شيء محبوس لا تعرفه، وصوت لا يشبه أصوات البشر يهمس في أذنها: إبليس يوسوس؟
سارت إلى النافذة تطل على السماء. سوداء قاتمة بلا قمر ولا نجوم، إلا نجمة واحدة كانت جدتها تغني لها، يا زهرة يا أم الكون. رءوس الأشجار تتحرك في الظلمة كالأرواح الشريرة.
رأته خلف جذع الشجرة المقطوع، جالسا داخل جلبابه الأبيض، رأسه ملفوف بالعمامة على شكل القمع. أو طرطور أبيض تعلوه ريشة الديك أو الطاووس. رأسه مرفوع نحو السماء، عيناه تحملقان في الفراغ، شفتاه تنفتحان وتنغلقان، يتمتم بآية أو يكلم نفسه.
لمحها في النافذة فاختفى وراء الشجرة. تكور حول نفسه كالقنفذ. كان يخاف منها أكثر مما يخاف من المدير، فهي امرأة وفي أعماقه خوف دفين من النساء. انحشر رأسه بين عظمتي الحوض في جسد أمه، ضغطت عليه بعظمتي الفخذ، كاد يموت قبل أن يولد. أدرك أنها لم تكن تريده حيا، ولم تكن تطيق النظر إلى أرنبة أنفه، تذكرها بأبيه، وهي الرئيسة. في أعماقه خوف من الرؤساء، عاد أبوه يوما شاحب اللون. رقد في السرير يهذي بالحمى. سمعه في الليل يلهث بكلمة واحدة. الرئيس، وفي الصباح قبل الأذان مات.
عيناها تطلان من النافذة كعيني أمه، تفتشان عنه في مخبئه. تلسعه على ردفيه بالعصا الخيزران. اسمع الكلام يا ولد! لم يكن يسمع كلام أمه. كلام نسوان! هكذا يقول جده، ناقصات عقل ودين! هكذا يقول أبوه، ولا يفلح قوم ولوا أمورهم امرأة.
يتكور حول نفسه وراء جذع الشجرة. رأسه بين ركبتيه، وهي واقفة في النافذة، لا ترى منه إلا ظلا أسود فوق الأرض. انفرجت شفتاها عن ابتسامة، فاعوج فمها من ناحية اليمين. فم المدير حين يبتسم تصبح له هذه الاعوجاجة. رئيس المدير أيضا، وكل الرؤساء كانت تراهم في الصحف. إذا ابتسم الواحد منهم اعوج فمه ناحية اليمين. حركة أصبح لها جاذبية تنم عن سمو المكانة.
ملأت صدرها بهواء الليل - انتفخ كصدر أبيها حين يجلس إلى جوار العمدة، واضعا الساق فوق الساق. لم يكن أحد يجلس أمام العمدة واضعا ساقه فوق الساق الأخرى، إلا أبوها بعد أن أصبح حلاق الملك. تنحني رءوس الرجال أمامه كأنما يرون الملك. لا يصدقون أن رجلا من قريتهم يمكن أن يرى الملك وجها لوجه، فما بال أن يمسك ذقنه بيده ويحلقه بالموسى؟ بعد زوال الملكية لم يعد يجلس واضعا ساقه فوق الساق الأخرى، لكن عنقه كان يشرئب عاليا حين يحكي عن ابنته. كيف وقفت أمام الرئيس في عيد النصر. كيف انحنت بنصفها الأعلى. كيف امتدت يدها لتصافح يده. كيف قلدها وسام الوطنية والشرف. - الشرف!
ترن الكلمة في أذنيها بصوت أبيها. يفتح فكيه عن آخرهما ناطقا «الشرف» كأنما يتثاءب، يضغط على الحروف. يضاعف الضغط على الشدة فوق حرف الشين. تتطاير الحروف في الهواء مع الرذاذ المتناثر من فمه. تلتقطها آذان النسوة الجالسات في بطن الجسر. ينكمشن داخل جلاليبهن السوداء. تضم كل منهن ركبتيها وفخذيها. تمتم بآية تطرد العفاريت وأرواح الجان، فالشرف هو العرض، والعرض أغلى من الأرض. يتوارثه الرجال أبا عن جد. لا يمكن لأحد أن يمس شرف الآخر وإن كان من الإنس أو الجن. الدم وحده يغسل العار إذا ضاع الشرف، والدم وحده يثبت وجود الشرف في ليلة الزفاف. تأتي الداية بإصبع له ظفر طويل. تفض بكارة العروس. تتلقى الدم فوق بشكير أبيض. تطلق النسوة الزغاريد. تدق الطبول. تنتفخ صدور الرجال والأزواج. يرفعون أنوفهم حتى تلامس السقف، فالشرف شرف الذكور، والأنثى ليست إلا الدليل.
كانت ليلة حالكة السواد حين خرج البشكير نظيفا أبيض، لا تلوثه قطرة واحدة، وانكمش حلاق الملك في مقعده. تضاءل عنقه وأصبح كالسمسمة. في الليل نهض. فتح الصندوق الخشبي حيث ترقد العدة. أخرج الموسى. سنه فوق قطعة من البلاط. في الصباح وجدوه راقدا ومن حوله دم كثير يغرق البشكير الأبيض، وعاد إليه شرفه كاملا.
سارت الرئيسة من النافذة إلى المرآة. حملقت في وجهها طويلا، حول كل عين انتفاخة وتجاعيد. عضلات الخدين متهدلة. كانت ملساء وفي عينيها بريق. في ليلة واحدة انتقلت من الطفولة إلى الكهولة. كانوا يسمونها ليلة الفرح. قبل الكهولة عاشت مرحلة البلوغ بلا شباب، بلا أحلام يقظة. أما المراهقة فلم تعرفها، ولم تعرفها أخت من أخواتها أو زميلة في المدرسة. أو بنت من بنات القرية. سقط رأسها حين ولدت فوق قطعة من الأرض يسمونها الوطن.
سرت فوق جسدها قشعريرة كالحمى. بينها وبين كلمة الوطن علاقة حب، خمسة حروف تعلمت أن تكتبها قبل أن تكتب اسمها. تسأل المدرس ما هو الوطن؟ يقول إنها الأرض تمشي فوقها - أصبح قلبها ينوء بحب قطعة أرض تشقى فوقها أمها ويملكها العمدة، وفي المظاهرات تخرج مع التلميذات تهتف: يحيا الوطن! يكتوي قلبها بحب الكلمة من الحروف الخمسة. ترددها عن ظهر قلب. ينفصل قلبها عن لسانها وهي ترددها، وينفصل عقلها عن قلبها وهي تهتف. ترى جسدها يمشي وحده في الشارع، وهي واقفة فوق الرصيف. تستدير وتعود من حيث أتت، تمشي بخطوة ثقيلة نحو أبيها الميت. تدرك بعقلها أنه ميت، لكنها تمشي إليه. تمسك يده تقبلها. تقسم بالله العظيم ثلاثا أنها بريئة. لم يمسسهما بشر، ولا عفريت من الجن، في الحلم أو في اليقظة، وأنها منذ الطفولة كانت تحكم إغلاق النافذة بالترباس، وتسد الشقوق في الجدار أو الباب، وتغلق أذنيها فلا تسمع همس إبليس ولا حفيف الهواء. ركبتاها أيضا كانت تغلقهما كأنما بالترباس. لا يمكن لإنس أو جن أن يفتحهما، ويأتيها صوت أبيها المشروخ: لكن يا بنتي فين الدم؟
تتطلع بعينيها نحو السماء، تسأل الله: فين الدم يا رب؟ صمت مطبق ولا أحد يرد. بوق سيارة ينبعث من بعيد كالزمارة، الهواء لا يتحرك ورءوس الأشجار ثابتة. ورقة واحدة تسقط بصوت مسموع. ويدب السكون. - فين الدم يا رب؟
تعاود السؤال بلا يأس. أملها في الله كبير. عادل ورحيم ولا يمكن أن يجدها. تشرئب بعنقها خارج النافذة. ترهف أذنيها لسماع الصوت، ويأتيها الهمس ناعما كحفيف الهواء: مؤامرة دبرها العمدة. - ليه بس يا رب؟ - كان يريد الانتقام من أبيك. - ليه؟ - كان يجلس أمامه واضعا الساق فوق الساق. - وإيه يعني يا رب؟ - الناس درجات والعين لا ترتفع عن الحاجب. - الناس سواسية كأسنان المشط يا رب. - بتردي علي يا قليلة الحياء؟ - أنا يا رب ... - اخرسي! - أنا ... - لا تقاطعيني! - ... - لا ترفعي عينك في عيني! - ... - ورثت غرور أبيك.
تمد يدها في الظلمة تمسك يد أبيها الميت. تدرك أنه ميت، لكن يده في يدها محسوسة. تلثمها. تنفذ إلى أنفها الرائحة. تسري في عروقها كالدم. كانت تظنها رائحة الله. تشمها حين تجلس إلى جوار أبيها. بين يديه المصحف. يهز رأسه ويقرأ الآيات. لم تكن تعرف القراءة بعد، تقلب بأصابعها الصفحات. تتشمم الأوراق الرقيقة. تكاد تتمزق بين أصابعها. يضربها أبوها على يدها. - كتاب ربنا يا حمارة!
لم يكن لأبيها في البيت إلا هذا الكتاب. يضعه فوق الرف الخشبي إلى جوار صندوق الحلاقة. قبل أن يلمسه يتوضأ ويغسل يديه خمس مرات. يحفظه عن ظهر قلب، يردده الليل والنهار. يجثو بين يدي الله وبين يديه الكتاب.
ترفع ذراعيها نحو السماء: يا رب أبويا عمره ما فاته فرض. - عارف يا نرجس. - ليه يا رب عملت فيه كده؟! - لأمتحن قوة إيمانه يا حمارة! - أبويا كان مؤمن مية في المية.
تطرق برأسها إلى الأرض. تتراءى لها صورة سيدنا إبراهيم وهو يذبح ابنه قبل أن يهبط كبش الفداء. ترفع عينيها إلى السماء مليئتين بالدموع. كان أبوها أفضل من سيدنا إبراهيم. ذبح نفسه ولم يذبح ابنته، وأمها كانت امرأة فاضلة. عاشت عذراء مثل ستنا مريم، أما جدتها فكانت أفضل الجميع، تشقى في الحقل طول النهار، وتقضي الليل راكعة تصلي.
في المرآة رأت دموعها تنهمر فوق وجهها. مسحتها بطرف الشال الأبيض فانزلق عن كتفها كاشفا عن نهدها. امتدت يدها بسرعة وأعادت الشال إلى مكانه. عينا المدير تطلان عليها من الجدار. اختفت وراء ضلفة الدولاب: عيناه مقتحمتان كعيون المديرين. تقذفه بوسادة السرير. ينزلق الشال إلى الأرض. تلمح نفسها في المرآة عارية. تجري إلى لمبة النور تطفئها وتدس نفسها في السرير. يشد عنها الغطاء. أصابعه كبيرة يغطيها شعر شاحب كأصابع جدها، وصوته كصوت المديرين فيه سخرية. - مكسوفة يا بت؟!
يصدر عنها صوت يشبه مواء القطط: مئ مئ مئ! - ده خجل العذراوات والا إيه يا بت؟
تنكمش تحت الملاءة لا تقوى على النظر إليه. منذ جاءت إلى السراي وهي لا ترفع عينيها في عينيه؛ فهو المدير الكبير. منذ دخلت لأول مرة اتجهت عيناه إلى صدرها، وحين استدارت لتخرج من الباب أحست نظرته فوق ردفيها. تطرد عينيه عنها كما كانت تطرد صوت إبليس، وفي ليلة شتوية رأته يدخل غرفتها. أجهشت بالبكاء فوق صدره. - أنا عذراء والله العظيم يا بيه. - إزاي يا بت؟ - ما كانش فيه دم يا بيه. - يمكن غشاؤك مطاط يا بت. - مطاط يعني إيه؟ - يعني الأستيك.
وضحك بصوت عال. أطلق قهقهة اهتزت لها أرجل السرير الأربع. صوته يدوي في أذنيها وساقاها تهتزان. الأستيك؟ الكلمة لها بوز مدبب. تخرق الأذن، لكن المدير أعطاها درسا في التشريح. أخرج القلم من جيبه العلوي ورسم فتحة المهبل والغشاء. الله هو الذي خلق الغشاء المطاط. حكمتك يا رب! الأستيك يعني مرن. المرونة مطلوبة، هكذا قال لها المدير.
في المرآة رأت فوق عينيهما دمعة جافة، شعاع خافت ينبعث من المصباح بجوار السرير. مدت يدها وأطفأته. ذاب جسدها في الظلمة ومعه جسد المدير، وكل شيء راح في العدم.
معركة في الليل
كان متكورا وراء جذع الشجرة كالقنفذ. يرقب خيالها يروح ويجيء وراء النافذة. نهداها يظهران ويختفيان تحت الشال. أنفاسها تلهث. ابتهال طويل أو تنهيدة. - يا رب!
كاد يخرج من مخبئه معلنا عن نفسه، لكنه يعرف أنها الرئيسة وليست نفيسة أو امرأة أخرى في عنبر الحريم. بينه وبين الرئيسات عداء قديم. منذ ولدته أمه وضغطت بعظمتي الحوض على رأسه. كان صغيرا وهي كبيرة. كفها ضخمة تسقط فوق صدغه كالبلطة. يختفي منها داخل الدولاب. يختنق برائحة ملابسها المتدلية فوق رأسه. عرق تحت الإبط ولبن جاف ... خلاخيل وأساور تشخشخ. لبان ذكر وحنة حمراء وفوط الحيض. يسمع صوتها تناديه من وراء الضلفة الخشبية: زكريا.
يرن الاسم في أذنيه غريبا، كأنما لم يسمعه أبدا، ومألوفا كأنما سمعه طول العمر، زكريا؟ ما معنى الكلمة؟ يطردها من أذنه ويطرد معها صورة أمه، وزوجته، وكل النساء. في أعماقه نفور من الجنس الآخر، وشيء آخر كالانجذاب. عيناه تنجذبان إلى كل امرأة لا تشبه أمه. يختارها صغيرة الحجم، ضعيفة العظام، يدها طرية غير قادرة على الصفع، لكن صورة أمه لا تفارقه. ورائحتها في أنفه، حنين جارف يشده إليها. يود الارتماء في حضنها، وحضن كل امرأة تشبهها. - يا رب!
أذناه تنتصبان من وراء الشجرة. يرهف السمع. صوت أنثوي خاشع يناديه. ليس صوت الرئيسة الآمر. عيناه تتعلقان بنافذتها. ينجذب إليها رغم النفور، وهي الوحيدة بين النسوة لا تؤمن به. ترمقه بنظرة أمه كأنما هي زوجته. تضربه على أطراف أصابعه. تعاقبه بالوقوف وجهه للحائط أو تنام في السرير وتعطيه ظهرها. - ... يا ... يا ... ر ... ب ...
انقطع الصوت وانطفأ النور في غرفتها. انتظر قليلا حتى استغرقت في النوم ثم خرج من مخبئه. انتصب واقفا راسما ظله فوق الأرض، طويلا شامخا. رأسه ملفوف بالعمامة الكبيرة تعلوها الريشة، منتصبة في الظلمة تلمع كالسونكي في رأس البندقية. يتقدم خطوة بطيئة. رءوس الأشجار تنحني أمامه مع الهواء، والأرض والسماء تمتدان تحت قدميه في خشوع.
هز رأسه راضيا عن الكون. خلقه في ستة أيام واستراح في اليوم السابع، هكذا قال له الرجال في العنبر، ثم حذفوا العبارة الأخيرة، قالوا له: أنت لا تتعب مثلنا. إذن أنت لا تستريح.
قدماه كبيرتان داخل شبشب من البلاستيك يسمونه زنوبة. يدوس على الأرض بكل قدميه. يطرد اسم زنوبة من رأسه. يحرك يده أمام وجهه كأنما يهش ذبابة. ينقل القدم وراء القدم. تمحت قدميه سجادة طويلة حمراء، تمتد حتى الأفق. قرص الشمس يتوهج فوق هرم خوفو. صورته تظهر داخل القرص. يتعرف على وجهه رغم المسافة البعيدة. مربع كبير يشبه وجه الضبع. حاجباه كثيفان يلتقيان عند أرنبة أنفه. غضروف كبير مقوس، كمنقار النسر، منذ رآه في المرآة، لأول مرة أراد الخلاص منه. ثابت له جذر عميق داخل رأسه. أذناه أيضا ليستا مثل آذان البشر، تلتويان إلى الأمام مثل قرني البقرة أو العجل.
يمط شفتيه بامتعاض، ثم يبتسم خلسة بزاوية فمه. كان العجل مقدسا. يرسمه في كراسة المدرسة. يحمل بين قرنيه قرص الشمس وله نهدان كأمه. ينادونه باسم امرأة، هاتور أو ساطور كما كانت جدته تقول. - ... يا ... يا ... يا ... يا ... يا ...
توقف لحظة يتسمع الصوت، كالريح تصفر من بعيد. يتحول الصفير في أذنيه إلى هدير كالشلال، كالهتاف، آلاف الأصوات تدوي: يا ... يا ... يا ... يا ... يا ... يعيش ...
الأصوات تذوب في صوت واحد. الكل يهتف والكل صامت ... وهو يمشي بين صفين طويلين من الجنود ممدودين حتى الأفق. يؤدون له التحية، يرد عليها رافعا ذراعه اليمنى. ساقه اليمنى ترتفع أيضا في الهواء. كالعصا الخشبية. لها بوز طويل من الجلد الأسود اللامع، وكعب سميك من الحديد على شكل حدوة حصان. يتركها مرفوعة نحو السماء، ثم يهبط بها إلى الأرض بجوار الساق الأخرى. طبول النصر تدق: مارش عسكري. آلاف الجنود يدقون الأرض. يرفعون أرجلهم في الهواء، متصلبة كالأرجل الخشبية. وجوههم رمادية بلون حجر المقطم. أنوفهم خط مستقيم. الأنف وراء الأنف في صف طويل لا نهائي. الرءوس متلاصقة محلوقة نمرة واحد، تعلوها طاسة نحاسية. تحت كل طاسة عينان غائمتان مقلوبتان إلى الداخل. أفواههم مفتوحة تلهث و«النني» يختفي تحت الجفن. - يا ... يا ... يا يعيش إلى الأبد!
يتلقى كلمة «الأبد» بكل الفتحات في رأسه. العينان والأنف والفم. الأذنان تنتصبان مفتوحتين. مسام جسده تتفتح. يستقبل الخلود والحروف قطرات ماء يلعقها بطرف لسانه ثم يمضغها. يهز رأسه علامة الرضا. ابتسامة خفيفة تحوم حول شفتيه. يميل فمه ناحية اليمين في اعوجاجة، ثم يعتدل.
ينقطع الهتاف ويرن صوت امرأة تغني بصوت ممطوط: وطني حبيبي! حبك أكبر! حبك نار!
تظهر فوق المنصة العالية. جسدها يترجرج داخل بدلة الرقص. تنتفض كالسمكة الفضية أو جنية البحر، تتلوى وتتأوه مغمضة عينيها! اسمها «زوزو»، وفي الأصل كانت «زنوبة».
يردد الكورس وراءها: نار يا حبيبي! نار!
يرمقها بطرف عينه دون أن يحرك رأسه. تغمز له بنصف عين. شيفرة لا يفك طلاسمها أحد، فهو حريص كل الحرص. له زوجة لا تغمض لها عين. يغسل جسده بالماء والصابون خمس مرات قبل أن يعود إليها. ترمقه في الظلمة حين يدخل على أطراف أصابعه. يعطيها ظهره ويرقد وجهه للحائط، لكن أنفها يمتد ليشم سرواله الداخلي قبل أن يخلعه. عيناها مقلتان سوداوان. نار سوداء تلسع قفاه وهو نائم. صوتها ريح ساخنة. - يا ساقط!
اخترقت الكلمة أذنيه كالقذيفة. ساقط؟ كلمة غريبة لا تخرج من فم امرأة للرجل إلا إذا كان طفلا وهي التي ولدته. صوتها يشبه صوت أمه. تخرج طرف لسانها وهي تنطق حرف السين. تفتح فكيها عن آخرهما مع الألف الممدودة بعد السين. تتثاءب ثم تضغط بأسنانها على الكسرة تحت القاف. - ساقط!
استقرت الكلمة كالرصاصة في مؤخرة رأسه. تنزلق كالبلية وتدور حول نفسها، ساقط؟ في كتاب النحو «في المدرسة» سقط فعل ماض، والمؤنث ساقطة، والجمع ساقطات. ليس في اللغة جمع مذكر، وليس في التاريخ أو الكتب السماوية. آدم لم يكن ساقطا. الرجل لا يسقط إلا في الانتخابات، أو معركة حربية، أو في امتحان المدرسة وهو تلميذ. - ساقط!
رفع يده عاليا في الهواء ليناولها الصفعة. كانت أسرع منه. يدها كانت مرفوعة قبله، وجسمها أكثر رشاقة. تحلق في الجو كالفراشة. هي شابة وهو كهل. يتحرك ببطء. شعر رأسه تساقط. الرموش تساقطت أيضا. «النني» باهت لا يرى الكون بوضوح. يحملق في الفراغ باحثا عنها، ذابت في الظلمة كما تذوب قطرة الماء في البحر. كانت هنا منذ لحظة، كانت هنا منذ ثلاثين عاما، وكانت تسير إلى جواره والجنود تصطف، والموسيقى تعزف أنشودة النصر. يتركها في المؤخرة مع الحريم، ويتقدم وحده نحو المنصة. ينحني قبل أن يتسلم وسام البطولة. يشبكه فوق صدره بدبوس. قرص ذهبي يلمع تحت الضوء. يمشي بخطوة بطيئة شامخا برأسه إلى فوق! فوق! صوت كالصدى يتردد في الكون: فوق! فوق! فوق! أنا فوق ... أنا فوق ...
يتلفت حوله وهو يمشي. الصوت يسري في أذنيه كصفير الريح. أنا فوق! فوق! عيناه شاخصتان إلى أعلى. عمامته ملفوفة فوق رأسه تعلوها الريشة. ظله أسود طويل فوق الأرض. عنقه مشرئبة وأنفه مدبب كالإبرة. يمشي بخطوة بطيئة نحو الباب الخلفي للسراي. يصعد السلم درجة درجة. يتوقف عند الدرجة الأخيرة. ضوء خافت يكشف عن عينيه.
عينان صغيرتان مستديرتان. داخل كل عين «النني»، بارز قليلا فوق البياض. متحجر كقطعة من الجرانيت. تعلوه نظرة ثابتة ثاقبة، من تحتها شيء يتحرك: قطرة ماء أو دمعة حبيسة تود الإفلات. تحت كل جفن انتفاخة داكنة اللون، الوجه مربع كوجه أبي الهول.
ضغط على أضراسه كأنما يمضغها. ابتلع لعابا جافا. تحركت في عنقه تفاحة آدم. صعدت ثم هبطت. لها بوز مدبب، كالغصة في حلقه يحاول ابتلاعها دون جدوى. تفاحة آثمة كان من المفروض أن تتوقف في حلق حواء لا آدم. هكذا قال له جده الميت.
عند باب عنبر الرجال توقف. عدل العمامة ومن فوقها الريشة. ملأ صدره بالهواء حتى انتفخ. «أنا فوق! فوق الجميع!» ثم فتح الباب ودخل. السكون كامل والعنبر غارق في الظلمة. صفوف منتظمة من الأسرة فوقها أجساد مصفوفة غائبة في النوم. أطل عليهم من فوق. مط أنفه إلى أعلى. مخلوقاته هكذا كمان يسميهم. كلهم ينامون إلا هو لا ينام الليل.
سار بين الصفوف يحرك رأسه يمينا ويسارا. فمه معوج في ابتسامة. النظام مستتب والطاعة كاملة. لا أحد يخرج عن قاموس الكون. الكل نائم والعيون مغلقة.
تجمد في مكانه فجأة. عينان مفتوحتان رآهما تبحلقان في عينيه. الرموش منتصبة و«النني» أسود لامع. شعر رأسه كثيف غير محلوق. خصلة نافرة فوق جبهته. يرفعها بأصابع مدببة - ينظر إليه دون أن يطرف له جفن. عرفه على الفور. إنه إبليس لا أحد غيره. اقترب منه بخطوات بطيئة. رمقه طويلا في صمت ثم لكزه في كتفه بإصبع مدبب. - صاحي يا ولد؟ - ...
لم يرد عليه. راقد كما هو محملق في السقف، كأنما لم يكلمه أحد. مستغرق في تفكير عميق. أمام عينيه صورة لا تغيب. البوابة تنفتح وهي تدخل باندفاعة قوية كالريح - تقذف بشعرها وراء ظهرها كالفرس الجامحة، عيناها واسعتان مرفوعتان. فيهما نظرة حادة كالسكين. من تحتها لمعة حانية كعين أمه. - رد علي يا ولد! - ...
شفتاه مطبقتان لا تنفرجان عن صوت. منذ رآها تدخل من البوابة وهو يتذكر أمه. طويلة ممشوقة الجسم كالسهم. تمشي أمام العمدة لا ينحني لها رأس. رءوس الرجال تنحني وعيونهم تنكسر، وهي تمشي مرفوعة الرموش لا يطرف لها جفن. قدمها كبيرة حافية مثل قدم النبي. تدوس عليها بكل ثقلها. عظامها قوية. تقبض على الفأس وتشق الأرض نصفين. صوتها في أذنيه كصفير الريح: أوع يا ابني رأسك تنحني قصاد العمدة زي أبوك! مات أبوه في الدار بالحمى. لطمت النسوة خدودهن وانطلق الصراخ، إلا أمه لم تصرخ. لم تلطم خديها. غسلت شعرها وربطت رأسها بمنديل أبيض. أمسكته من يده وسارت به إلى الكتاب. اشترت له كراسة وقلم رصاص. - انطق يا إبليس!
رآه واقفا أمامه في الظلمة. رأسه ضخم ملفوف بالعمامة. عيناه صغيرتان تلمعان كعيني الشيخ مسعود. يضربه على أطراف أصابعه بالمسطرة. سمع يا ولد سورة الملايكة. لم يكن قد تعلم الكتابة بعد. يحفظ الآيات عن ظهر قلب. يرددها بصوت خافت وعيناه مغمضتان:
وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك . - الخليفة اسمه إيه يا ولد؟
يحملق في السقف لا يعرف الإجابة. صوت أمه يهمس في أذنه: اسمه العمدة يا ابني. يغمض عينيه ويرى الملائكة واقفين صفوفا. الصف وراء الصف. داخل الجلاليب البيضاء. يهتفون بصوت واحد: أتجعل فيها من يفسد فيها؟
يدوي الهتاف في أذنيه كهدير الشلالات. - يسقط الخليفة الفاسد!
يفتح عينيه ويهمس في أذن زميله: اسمه العمدة مش الخليفة. - عمدة إيه؟ ده كان أيام زمان. - أيام الملك؟ - ملك إيه؟ - أنت مش عايش في الدنيا؟ - واسمه إيه دلوقت؟ - اسمه الجنرال.
أطبق شفتيه وأغمض عينيه. أخفى رأسه تحت الغطاء، أحس بإصبعه يلكزه في كتفه: إبليس! رد علي يا ولد! صوت يشبه صوت العمدة. - مش عارف أنا مين يا ولد؟
فتح عينيه وحملق في وجهه بعينين متسعتين. ملامحه مألوفة. له أنف الشيخ مسعود، وجهه مربع أبيض تشوبه حمرة كوجه الجنرال، لكنه يتكلم بلغة عربية. - مش عارف أنا مين يا إبليس؟
تنفرج شفتاه عن صوت خافت: عارف يا مولانا.
لكزه مرة أخرى في كتفيه: مولانا دي تقولها للمدير أو العمدة لكن أنا فوق الكل! فوق الجميع! مفهوم؟ - مفهوم يا فندم. - أفندم إيه يا حمار؟ قول أيوه يا رب! - أيوه يا رب! سيبني أنام أرجوك. - تنام يعني إيه يا إبليس؟ ومين يوسوس للناس؟
يغمض عينيه وينقلب على جنبه الآخر معطيا له ظهره يلكزه مرة أخرى بإصبع مدبب: فز يا ولد شوف شغلك! - سيبني أنام أنا تعبان. - قوم وسوس للناس يا ولد! - وإذا ما وسوستش يجرى إيه؟ خلي الناس كلها تروح الجنة! - والنار أنا عاملها لمين يا حمار؟ - اشوي عليها الخرفان يا أخي. - وبتقول يا أخي؟ نسيت أنا مين يا ولد! - متأسف يا رب! حقك علي! إنت مش أخويا ولا حاجة. أنت سيدي وتاج رأسي. هات رأسك أبوسها!
يقفز من سريره. يهجم عليه محاولا أن يقبل رأسه. تسقط العمامة إلى الأرض ومعها الريشة. تظهر الصلعة المحلوقة نمرة واحد. يلثمها إبليس بشفتيه ويضحك مقهقها بصوت عال.
يفتح رجال العنبر جفونهم. يصحون من النوم بعيون متسعة. ينظرون حولهم كأنما أفاقوا من الموت، وأصبحوا في العالم الآخر. إبليس والرب يتعاركان بالأيدي. كل منهما يصب اللعنات على رأس الآخر. بعد اللعنات تدوي الصفعات واللكمات. الرجال جالسون داخل جلاليبهم البيضاء متربعون فوق الأسرة. يتابعون المشهد بعيون شاحبة. تطل من تحتها نظرات تلمع. كالأطفال أو التلاميذ يشهدون مباراة. يصفقون بأيديهم ويهللون. - هيه! هيه! هيه! هيه!
إلا رجل واحد. مكرمش الوجه. ضئيل الجسم، بلا أسنان. عيناه واسعتان جاحظتان من وراء نظارة بيضاء، أصلع الرأس. له لحية طويلة بيضاء تتهدل فوق صدره. تحت إبطه كتاب. قدماه حافيتان، يتقدم بخطوات بطيئة نحو الرجلين المتعاركين. رفع ذراعا نحيلة كالعصا الخيزران وصاح بصوت حاد: محكمة!
دب الصمت في العنبر. تجمد إبليس في مكانه، والرب أيضا كف عن الحركة. العيون شاخصة نحوه في اتساع. صوته يهز جدران العنبر. - محكمة!
نظر الرجال بعضهم إلى بعض. هزوا رءوسهم في صمت. نهض بعضهم يزيحون الأسرة في الأركان. أقاموا منصة في الوسط. فرشوا فوقها ملاءة بيضاء، وكوب ماء، ومطرقة يدق بها الرجل المكرمش الوجه. حوطوا كتفيه بعباءة سوداء. أصبح هو القاضي.
وصدى الصوت يتردد: محكمة!
انطلقت صفارة طويلة في الممر. من وراء الزجاج لمحو خيال الرئيسة ومن خلفها التمورجية. اختفت المنصة ومعها القاضي. عادت الأجسام كلها تحت الأغطية تغط في النوم. غرق العنبر في الظلمة، والسكون مطبق، لا صوت ولا حركة، إلا ريشة سوداء فوق بلاط العنبر يحركها الهواء ببطء.
نفيسة
سمعت الصفارة وهي راقدة في عنبر الحريم - دوت في أذنيها كصفير الهواء، فتحت عينيها وتلفتت حولها. صفوف من الرءوس الملفوفة بالطرح. غارقات في النوم. أنفاسهن مشروخة تئن. كصوت أمها حين كانت تنشج بالليل. نداء خافت ممدود كصوت الريح من بعيد. - يا هوووووه ...
فوق الجدار سحلية طويلة تزحف. جسمها أصفر ورأسها أسود. عيناها صغيرتان وفمها مدبب. تنفخ الهواء وتنادي عليها بصوت كالصفارة: نفيسا ...
اتسعت عيناها في ذهول. أتنطق السحلية بصوت بني آدم؟ وتناديها باسمها؟ كيف عرفت أنها نفيسة من دون النسوة؟
حملقت في عينيها طويلا ثم أخفت وجهها بيديها، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. تمتمت بآية الكرسي تطرد أرواح الجان. فكت الحزام المشدود حول صدرها وانتصبت واقفة، نوافذ العنبر مغلقة والهواء راكد، روحها مختنقة داخل جسدها تبغي الخلاص. فتحت النافذة. الأرض والسماء كتلة سوداء، بلا قمر ولا نجوم. نجمة واحدة تشق الكون بضوء ثابت لا يرتعش وصوت أمها يأتي من بعيد. - فين ولدي يا زهرة؟ يا أم العدل والرحمة!
واقفة في الظلمة. ظهرها ناحيتها ووجهها ناحية النافذة، أنفاسها تعلو وتهبط. فين ولدي يا زهرة! يسري صوتها في سكون الليل، ينفذ إلى أذني الشيخ مسعود وهو يمشي في الزقاق. يتوقف فجأة كأنما مسته روح من الجن. يدق بعصاه الأرض ويبصق. لعنة الله عليك يا عاهرة! كانت تظن أنه يلعن أمها، لكنه قال إنها امرأة أخرى هبطت من السماء، اسمها زهرة أوقعت في حبائلها هاروت وماروت، وتسأل أمها، تقول إنهما من عفاريت الجن، حين ولدت الماعزة توءما سمتهما أمها هاروت وماروت. مات هاروت وبقي ماروت ينظر إليها بعينين حمراوين، كأنما هي السبب في موت أخيه. تتعلق بذيل أمها حين تخرج من الدار. تقبض على ذيل جلبابها بأصابعها الخمس. خطوة أمها واسعة وقدماها كبيرتان، وهي تنكفئ فوق وجهها. يدخل التراب أنفها وفمها. تكاد تفقد أمها في الطريق لولا أن أصابعها تشبثت بجلبابها. في الليل تنام في حضنها تلف ذراعيها حولها. تغمض عينيها تخشى أن تفتحهما فلا تجدها. - فين ولدي يا زهرة؟ يا أم العدل والرحمة!
الليل كالعباءة السوداء يلف الكون، لا قمر، ولا نجوم، إلا نجمة واحدة كالعين الساهرة، تطل عليها من بعيد وهي فوق الفراش في حضن أمها - راقدة فوق جنبها الأيمن وذراعها تحت رأسها. الهواء له رائحة الأرض المرشوشة بالماء. الحمارة راقدة في مدخل الدار. تمدد سيقانها الأربع. والماعزة نائمة مغمضة العينين، والقطة منتصبة الرأس عيناها مفتوحتان تلمعان في الظلمة بلون الزرع. - ولدي راح فين يا زهرة؟
لا تكف أمها عن الترديد طوال الليل. أنفاسها حين تغيب في النوم تردد وحدها اللحن، خطوتها وهي تمشي فوق الأرض تدب بالإيقاع ذاته. شفتاها مطبقتان وعيناها شاخصتان إلى السماء. رأسها مرفوع من فوقه الزكيبة المملوءة بالقطن، وهي تمشي خلفها ممسكة طرف جلبابها. الشمس حارقة والأرض تلسع قدميها. غبار كثيف يتصاعد تحت أرجل البقر والجاموس. من تحت ذيولها تتساقط قطرات العرق والبول، ودوائر سوداء تجف تحت الشمس على طول الطريق. تغمض عينيها ويتراءى لها البرش فوق الأرض المرشوشة كالحلم البعيد، أو جنة عدن. منذ ولدت وهي تسمع أمها تحكي عن جنة عدن، تنفرج شفتاها المطبقتان وتخرج الكلمة مع أنفاسها. راقدة في مدخل الدار تلهث. - جنة عدن!
كلمتان اثنتان ترددهما وهي غارقة في النوم، ولم تسأل أمها أين تكون جنة عدن. لم تكن تسأل أي شيء، وعليها أن تصدق كل شيء دون سؤال. كل شيء! هكذا يقول الشيخ مسعود. تطرقع العصا الخيزران في الجو. كل شيء يا بت يا نفيسة وإلا كان مصيرك نار جهنم مع إبليس! ولم تعرف من هو إبليس. كانت تظن أنه أخوها الصغير. ولدته أمها بعدها بعامين. اشترت له كراسة وقلم رصاص. منذ دخل الكتاب والشيخ مسعود يناديه باسم إبليس. يلسعه على بطن قدميه بالعصا الخيزران. يختفي منه داخل الفرن.
في الليل يرقد إلى جوارها فوق البرش. تسمعه ينشج بصوت خافت. تلف ذراعيها حوله حتى الصباح. وفي الشتاء تتغطى معه بالبرش. تتسرب الريح الباردة من شقوق النافذة. تغمض عينيها وتحلم بلحاف سميك من القطن. لم تكن أحلام أي بنت في القرية تزيد عن لحاف من القطن. كلمة «القطن» عرفتها منذ ولدت. أمها تزرع القطن. تحمل الزكيبة فوق رأسها. تتجمع الزكائب في بيت العمدة، وفي اليوم التالي تختفي. لا أحد يعرف أين تذهب، ويأتي الخفير يدق الباب بكعب البندقية. يختفي أخوها في صدر أمها. يشده من بين ذراعيها. يلكزه في كتفه بالسونكي. ياللا يا إبليس على الجهادية! - الجهادية!
كان الخفير واقفا في صحن الدار. داخل بدلة رسمية بلون الأرض. تتدلى منها أزرار بلون الصدأ. بشرته رمادية تنتشر فوقها بقع وبثور كذرات التراب، يغمض عينيه ويفتح فمه قائلا: الجهادية. فكاه كبيران ينتفخان كفكي المقص أو الكماشة. يمط الألف الممدودة بعد حرف الهاء. يترك فمه مفتوحا للهواء وجفونه مغلقة، ثم يغلق فمه ويفتح عينيه. يشد على أضراسه وهو يضغط على الكسرة تحت حرف الدال. الجهادية! تخفي النسوة أولادهن في صدورهن. يتكور الولد في حضن أمه يود العودة إلى الرحم.
منذ فرعون الأول لم تكن الجهادية إلا الموت، تلد المرأة ابنها وتقدمه قربانا للإله. يجلس فوق عرشه المذهب ومن حوله الجنود. يرونه مرسوما فوق ورق الصحف. يتغير اسمه من زمن إلى زمن. تتغير الحروف والأسماء لكن العرش يبقى، وصفوف الجنود. تتغير أشكال البدل ونوع القماش. والأزرار فوق الصدر، والشارة فوق الكتف، ويأتي الأمر فوق ورقة مختومة بصورة النسر - تفوح منها رائحة الرصاص، والجلد القديم المدبوغ في المطبعة، وتراب السجاجيد في المكاتب المغلقة. والصورة داخل الإطار المذهب. رأس ثابت في الهواء كرأس أبي الهول. الوجه مربع كالضبع. العينان شاخصتان في الفراغ، والشفتان منفرجتان في ابتسامة على شكل اعوجاجة في الفم. - الجهادية يا ولد!
خلعت أمها المنديل الأبيض من حول رأسها. أمسكت شعرها الأسود الطويل بيديها الاثنتين. شقت جلبابها من فتحة العنق شقين. تقدمت طوابير النسوة يلطمن الخدود. صراخهن يتصاعد إلى السماء. - يا هوووووووه ...
كأنما ينادين على إله اسمه يا هوه. يتقدم نحوهن الشيخ مسعود. يمشي بخطوته البطيئة داخل جلباب من السكروتة، وعمامة بيضاء من الحرير، لها شراشيب حمراء يطيرها الهواء. يقترب من أمها ويقول لها بصوت وقور: ابنك عند ربه في السماء.
ضربت أمها بيدها المشققة فوق ثديها العاري. بإصبعين اثنتين أمسكت الحلمة السوداء. ضغطت عليها فاندفع خرطوم من اللبن. يا ولداه! يا ولداه! النسوة من حولها يندبن في صوت واحد: يا ولداه! يا ولداه! - ابنك في جنة عدن مع الأنبياء والشهداء.
كان الشيخ مسعود واقفا ومن خلفه الخفراء. نطق كلمة الشهداء مشرئبا بعنقه نحو السماء. فتح فمه عن آخره وهو يمط الألف الممدودة بعد حرف الدال. أغمض عينه وترك فمه مفتوحا كأنما تثاءب ونام واقفا والألف في فمه ممدودة.
كفت أمها عن الصراخ. سارت نحوه بقدميها الكبيرتين الحافيتين. صدرها عار وعيناها مكشوفتان. ركبت فوقه كما تركب فوق البقرة. أهالت فوق رأسه التراب واللعنات، لعنت أمه وأباه وجده حتى سابع جد. لعنت جنة عدن والأنبياء والشهداء، لعنت الملوك والفراعنة حتى الإله رع.
كانت الشمس تنحدر في الأفق قبل الغروب، تجمع الأطفال فوق الجسر يتابعون المشهد، والخفراء أيضا كانوا واقفين. كل منهم يتأبط بندقية لها سونكي طويل. عيونهم نصف مغلقة كأنما هم نائمون؛ فالمشهد قديم منذ سيدنا نوح، يبعث على الملل.
ثم رنت كلمة «العمدة» في الجو كطلقة الرصاص. فتحوا عيونهم فجأة، سمعوا صوت أمها تلعن العمدة، لأول مرة يسمعون امرأة تلعن العمدة. كان يمكن أن تلعن الملك أو فرعون أو الأنبياء. وكلهم أسماء يقرءون عنها في الكتب، أو يرون وجوهها على ورق الصحف. مجرد صور، لكن العمدة شخص حقيقي يرونه يمشي فوق الجسر. يطل من بيته عليهم. يسمعون صوته حين يخطب، وله سجن بجوار القبور، وسلاسل، وجنود.
تجمع الخفراء حول أمها. عشرون خفيرا أو أكثر. ثلاثون أو أربعون، هكذا قال أهل الكفر. لم يتغلبوا عليها. كانت تضرب الواحد منهم بقبضة يدهما فيسقط في بطن الجسر. قالوا إن عفريتا ركبها اسمه إبليس، وكان إبليس معروفا في الكفر منذ فرعون الأول. يرونه يمشي في الليل بالقرب من الجبانة. يركب النساء أكثر مما يركب الرجال، وإذا ركب إبليس امرأة تصبح في قوة أربعين رجلا. تركب أي رجل وإن كان هو العمدة.
لم يعد أحد يقترب من أمها. يرمقونها من بعيد بعيون وجلة. يتمتمون بآية الكرسي. يطردون الشيطان وأرواح الجان، وتمشي أمها فوق الجسر رافعة رأسها نحو السماء. ولدي فين يا زهرة؟ الأطفال من حولها يرددون ويغنون: ولدي فين يا زهرة؟ تدور حول نفسها تضحك حتى تدمع عيناها من الضحك. تتجمد الضحكة في حلقها. تجف عيناها من البكاء. تحملق في الفراغ. - يا أم العدل والرحمة، فين ولدي؟
وتمشي بقدميها الكبيرتين في الأزقة. تبحث بين أكوام السبانخ. فين ولدي يا ناس؟ تدق الأبواب في الليل وتسأل: فين ولدي يا هو! تصعد إلى الجسر وتمشي على حافة النيل. يسقط ضوء القمر على شعرها الأسود الطويل. بشرتها شاحبة بيضاء خالية من الدم. - جنية البحر!
يختفي الأطفال في بطن الجسر، يقذفها الرجال بالطوب، كأنما يرجمون إبليس، وهي تمشي برأسها المرفوع نحو السماء. من خلفها شريط من الدم ينزف. تمشي لا تتوقف. ينهال الطوب عليها من كل جانب، وهي تمشي. تدوس بكل قدميها فوق الأرض. رأسها مرفوع لا يسقط. تنساب خيوط الدم من أنفها وفمها وعينيها وهي تتقدم خطوة بعد خطوة. تغيب الشمس وراء الأفق وهي لا تسقط. يختفي جسمها عند الخط الفاصل بين الأرض والسماء ورأسها مرفوع لا يسقط. صوتها يسري في أذنيها، وهي راقدة فوق البرش، هامسا كحفيف الهواء. - فين أخوك يا نفيسة؟
مسحت دموعها بكف يدها، واقفة خلف النافذة داخل جلبابها الأبيض. عنبر الحريم غارق في الظلمة. مدت عنقها بين القضبان وجذبت نفسا طويلا بلا هواء. صهد ساخن وذرات رمل. الصحراء ممدودة كبحر أسود من القطران. رائحة جاز محروق أو نفط.
انفرجت شفتاها عن نداء هامس: يا رب!
كان واقفا وراء جذع الشجرة حين سمعها تناديه. لم يتعرف على صوتها أول الأمر، ظن أنها الرئيسة فاختفى وراء الجذاع، لكن الصوت يأتي من عنبر الحريم. خيال امرأة يتحرك وراء النافذة. انتصبت أذناه مرهفتين. - يا رب!
صوتها ضعيف ممطوط يشبه صوت نفيسة. خرج من وراء الشجرة وظهر تحت الضوء. تراجعت إلى الوراء خطوة. طويل عريض ورأسه ملفوف بالعمامة يشبه العمدة، له هيبة الملك أو الرئيس، لكن قدميه حافيتان. أيكون هو الرب؟ كانت ترى الرب في أحلامها يمشي بلا حذاء كأمها. قدماه كبيرتان يدوس عليها بكل ثقله. من خلفه ترى ظله فوق الأرض طويلا. قدماه مرسومتان على الطريق كقدمي أمها. عيناها تتبعان الأثر. ينتهي الطريق الزراعي ويبدأ الشارع الأسفلت. تختفي قدماه وتضيع العلامة. تتلفت حولها وتسأل أين هي. تسمعهم يقولون القاهرة، وسألت رجلا يمشي على عكاز: يعني إيه القاهرة يا عم؟ - يعني اللي تقهر الناس. - يا مصيبتي!
بصقت في فتحة جلبابها عند العنق. سارت في طريقها مفتوحة العينين. الأسفلت يلسع بطن قدمها. أحذية جلدية تدب فوق الأرض. وجوه النساء مصبوغة وسيقانهن عارية. أبواق تزعق وأجراس تصلصل وآلاف الأصوات تدوي من فوق المآذن، وطبول تدق، وصفوف من الجنود تدق الأسفلت بكعوب حديدية، دبابات، وسيارات تطلق صفارات.
تطلعت إلى الوجوه تفتش عن وجه أخيها، كل الوجوه غريبة. لا تتعرف على أحد، ولا أحد يتعرف عليها. جلست بجوار سور حجري وأسندت رأسها. ربما نامت أو غفلت لحظة - فتحت عينها ورأت أمامها رجلا يرتدي جلبابا أبيض، حول وسطه حزام رفيع مربوط من الأمام على شكل فيونكة. عيناه فيها نظرة مألوفة كأمها حين كانت تحملق في الفراغ. جذبتها إليه الألفة - ربما هو واحد من الكفر جاء مثلها إلى البندر. اقتربت منه وسألت: شفتش أخويا يا عم؟ - أخوكي؟ - أخويا راح الجيش وما رجعش! - دوري عليه تلاقيه. - أدور فين يا عم؟ - في السجن أو سراية المجانين!
ثم أطلق ضحكة عالية دوت في الجو كالسعال الحاد المتقطع. أخفت وجهها بيديها ونشجت. - لأ يا عم السجن أرحم! - سجن إيه؟ ما يدخل السجن إلا الأغبياء، لكن العقلاء يدخلون معنا السراية. - ارحمنا يا رب!
كانت واقفة في النافذة. تطل من عنبر الحريم. رأسها مربوط بمنديل أبيض. عيناها محملقتان في الفراغ. شفتاها تتحركان. - يا رب.
صوتها يسري في الليل كحفيف الهواء. تهتز رءوس الأشجار . تلقي ظلاها السوداء فوق الأرض. يتردد الصدى. - يا رب ...
تقدم في الظلمة بخطوات بطيئة. رفع عينيه ناحية النافذة. - أيوه يا نفيسة!
صوته كصوت أمها يناديها. رأسه كبير تحوطه هالة من الضوء الأبيض. له هيبة الملك أو العمدة. قدمه كبيرة حافية مثل قدم النبي. - نفيسة انزلي. - أمرك يا رب!
لفت الطرحة البيضاء حول رأسها. تسللت على أطراف أصابعها وخرجت من العنبر. سارت في الممر المظلم. ذراعاها ممدودتان أمامها كمن تمشي في النوم. هبطت السلالم واجتازت الممرات دون أن تصطدم بشيء. كان ينتظرها عند الباب الخلفي. أمسك يدها وقادها إلى مكان خفي في ركن الحديقة. كانت مغمضة العينين لا تقوى على أن تفتح جفونها. سمعت من الشيخ مسعود أن من يفتح عينيه يفقد البصر من شدة الضوء. - أنت امرأة صالحة يا نفيسة؟ - أيوه يا رب. - ألم يوسوس لك إبليس بشيء؟ - أبدا يا رب. - ألم يأت لك في عنبر الحريم؟ - أبدا يا رب. - ألم تنزلي إليه هنا؟ - أبدا يا رب. - اركعي وقولي أنا عبدتك.
جثت على ركبتها ولثمت يده. يد كبيرة بيضاء كالشهد. ناعمة كالحرير. أكثر نعومة من يد العمدة. أظافر نظيفة مقصوصة، لكن في جلبابه رائحة عرق. تشككت لحظة. أيعرق الرب مثل بني آدم؟ ثم عاد إليها اليقين. - أنا عبدتك.
نطقت كلمة «عبدتك» بصوت مشروخ. انشرخ أكثر وهي تضغط على الكسرة تحت الدال. مدت الفتحة فوق حرف التاء وهي تلثم بشفتيها يده. كان واقفا في الظلمة محملقا في الفراغ. صوتها المكسور يدغدغ أذنيه، تسري الدغدغة في جسده ساخنة كالدم. هذه هي الأنثى الصحيحة، لا زوجته التي تصورت أن رأسها برأسه. أغمض عينيه مستسلما للذة. - ستكونين زوجتي المطيعة يا نفيسة؟ - أمرك يا رب. - أنا أول رجل في حياتك؟ - أيوه يا رب. - أنا الوحيد بلا شريك؟ - الوحيد يا رب بلا شريك. - لا إنس ولا جن يا نفيسة؟ - لا إنس ولا جن يا رب. - لازم أشوف الدليل يا نفيسة! - أمرك يا رب.
لم تفتح عينيها لترى ما يحدث. أحست جلبابها يرتفع. أصابعه تزحف فوق جسدها . توقفت الدقات تحت ضلوعها. تمتمت بآية:
قل هو الله أحد * الله الصمد . وفجأة أحست شيئا يلسع كالنار. يده الضخمة أصبحت فوق فمها تكتم أنفاسها، وصرختها أفلتت في سكون الليل تدوي. - يا هوووووه ...
انطلقت الصفارات وأضيئت الأنوار. ظهرت الرئيسة تجري والصفارة في فمها. من خلفها التمورجية يمسكون الحبال.
ربطوه وحملوه إلى غرفة الكهرباء، ونفيسة لا تكف عن الصراخ. عيناها مغلقتان لا تقوى على فتحها. فمها مفتوح وصرختها ممدودة بغير انقطاع.
جنات في لحظة إفاقة
في غرفتها كانت راقدة فوق ظهرها. من فوق جفونها المغلقة سمعت الصرخة. دوت في رأسها طويلة ممدودة بامتداد الظلمة. صرخة واحدة ذائبة في ملايين الأصوات كالهتاف، والهتاف كالصرخة الواحدة تذوب في صمت الليل.
انتصبت أذناها وعيناها مغلقتان. صفير طويل كالريح تعوي من بعيد، أو طنين الصمت في الأذن. الكل صامت والكل يهتف. أصوات تدوي كهدير الشلالات. يسقط النظام! يسقط! تفتح فمها عن آخره وتهتف: يسقط! يسقط! الطريق ممدود أمامها بامتداد الأفق، وهي تجري مع التلاميذ والتلميذات. أصوات من خلفها تطاردها كطلقات الرصاص، قدماها تبطئان السير، جسمها ثقيل. صدرها يلهث. الهواء ثقيل مشبع بالدخان والهزيمة. بقايا حريق ينطفئ ورائحة نفط. أشلاء أطفال مثل ذرات الرماد تنتشر في الجو، كالهيولي الأولى قبل انفصال السماء عن الأرض. رياح الخماسين تهب. رمال تملأ الكون بلون أصفر، ورذاذ كالمطر الأسود يهبط. - عاصفة الصحراء!
ترتطم الكلمة بأذنيها كالصفعة. يأتي الصوت من خلفها. تتوقف لحظة. وجهها ناحية السماء وظهرها ناحيته. تمد ذراعها أمامها تتلقى قطرات المطر - رءوس الأشجار ترتعد تحت ضربات الريح. أوراقها تتساقط فوق الأرض. ذراعها طويلة نحيلة كالعصا الخشبية. فوق أصابعها رعشة مرئية للعين. شيء في الجو مجهول ومخيف. عنقها يشرئب وأذناها مرهفتان. - جنات!
اسمها يرن في أذنيها غريبا، كأنما تسمعه لأول مرة. من عساه يناديها؟ من عساه يعرف اسمها من ملايين الأسماء في الكون؟ تشد جفونها لتفتح عينيها. حزام من الجلد كأنه مشدود حول رأسها. تحاول أن تنهض بجسمها متكلة على كوعها، تدور بها الأرض والصوت لا يزال يناديها، غريبا ومألوفا فيه بحة خشنة. كصوت جدها الذي مات، لكن روحه كانت تصحو في الليل. تزور جدتها. تسمع وقع قدميه وهو يمشي في الصالة. يدق الأرض بعصاه الخشبية. دقة بعد دقة. مع دقات الساعة المعلقة على الحائط. تخفي رأسها تحت الغطاء وهي راقدة إلى جوار جدتها. تتوقف الدقات أمام غرفة النوم. يدب الصمت في الكون. لا تسمع إلا الدقات تحت ضلوعها، وأنفاس جدتها تعلو وتهبط. عيناها مفتوحتان تلمعان في الظلمة. رموشها تهتز. - صاحية ليه يا جنات؟ - وأنت صاحية ليه يا نينة؟
ترمقها جدتها بنظرة طويلة. هذه البنت غريبة. لا تسألها سؤالا إلا وترد عليها بسؤال. - نامي يا جنات. - مش جاي لي نوم يا نينة.
تربت عليها بيدها المعروقة، وصوتها يسري في أذنيها ناعما كصوت أمها. - نامي نينا هوووووه ... هوووووو ...
تغمض عينيها وتنام، ثم تسمع طقطقة السرير. من بين جفونها المغلقة ترى جدتها تتسلل من تحت اللحاف. ينفتح الباب بلا صوت ثم ينغلق.
تكتم أنفاسها وأذناها مرهفتان، من وراء الباب تسمع صوت جدتها، تشهق بصوت متقطع كالضحك المكتوم أو النشيج الطويل، وفي الصباح تراها واقفة خلف النافذة. داخل ثوبها الأسود. له كولة من الخرز اللامع. ساقاها بيضاوان سمينتان داخل جورب أسود شفاف. قدماها صغيرتان داخل حذاء أسود من الجلد اللامع له كعب عال رفيع. بين يديها كتاب الإنجيل تتمتم بصوت هامس. - أبانا الذي في الملكوت اغفر لنا خطايانا.
قبل أن يموت جدها كانت تخلع الحذاء قبل أن تصلي. تمسك بين يديها المصحف لا الإنجيل. منذ تزوجها وهو يعلمها الوضوء وقراءة القرآن، لكنها تسمعها في الليل تردد اسم المسيح. تخفي الإنجيل تحت الوسادة. - هو الإنجيل كتاب ربنا يا نينة؟ - طبعا يا بنت! - يعني ربنا عنده كتابين زي جدي؟ - جدك إيه يا بنت! ربنا فوق الجميع! - فوق الجميع فين يا نينة؟ - في السماوات العليا. - والشيطان يا نينة؟ - نامي يا بنت وكفاية أسئلة!
ترمقها جدتها بعينين حمراوين. هذه البنت شيطانة. منذ ولدت وعيناها مفتوحتان. انزلقت من بطن أمها مفتوحة العينين. كانت الناس تولد بعيون مغلقة وأفواه مفتوحة تصرخ، لكنها ولدت صامتة مطبقة الشفتين. شهقت جدتها وبصقت في فتحة ثوبها عند العنق: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم!
ثم جعلت أمها تغتسل من الدم والإثم. كانت الولادة في إنجيل جدتها ذنبا لا يغفره الله، إلا بالأسى والألم، وفي الليل ترى أمها واقفة خلف النافذة. عيناها مليئتان بالأسى والألم. ترفع يدها نحو نجمة الصباح. - يا زهرة يا أم العدل والرحمة.
تغني مع أمها بصوت خافت. تضع رأسها فوق صدرها. تهدهدها قبل أن تنام: هووه ... نامي نينا هووووه ... صوت السرير الهزاز كاللحن القديم. يسري في عروقها كالدم. الدقات تحت ضلوعها تتصاعد. تشد جفونها لتنظر في عيني أمها. صافيتان بلون السماء. فوق كل عين دمعة كاللمعة. أمامها ورقة بيضاء تكتب. أصابعها بيضاء ناعمة حول القلم. الحروف سوداء تتحرك فوق السطر. كلمة وراء كلمة. تمتلئ الورقة بالكلمات المكتوبة. الصفحة وراء الصفحة. تشبه الصفحات في الإنجيل أو المصحف، والحروف شكلها واحد.
تتسع عيناها في الظلمة، أيمكن لأمها أن تكتب؟ كانت تظن أن النساء لا يعرفن الكتابة. والرجال لا يكتب منهم أحد إلا جدها وربنا. - نامي يا جنات.
صوت جدتها يقطع عليها أحلامها. كانت تحلم أن تكون مثل أمها تكتب، لكن جدتها قالت إن الله لم يخلق المرأة لتكتب. قرأت عليها من الإنجيل قصة السحلية وحواء. تزحفين على بطنك إلى الأبد ويكون اشتياقك لرجلك وهو يسود عليك.
تخرج جدتها لسانها وهي تنطق بالكلمات. تلهث وهي راقدة فوق السرير النحاسي. الأعمدة الأربعة تهتز بصوت مسموع. قبل أن يموت جدها كانت تخفي الإنجيل في صندوق تحت السرير. الصليب وضعته في كيس من القطيفة الحمراء. تردد وراء جدها وهي جاثية فوق سجادة الصلاة:
قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد ... .
تتوقف الكلمات في حلقها. تبتلعها مع لعابها الجاف، إلا كلمة واحدة، تظل متوقفة، في عنقها. بارزة مدببة مثل تفاحة آدم. تصعد وتهبط مع أنفاسها. ترسم الصليب على صدرها: الأب والابن والروح القدس. - هي مين الروح القدس يا نينة؟ - نامي يا جنات.
لكنها لم تكن تنام. تتسلل من السرير وجدتها نائمة. تمشي على أطراف أصابعها إلى غرفة أمها. السرير خال. الأوراق مبعثرة فوق الأرض. ضوء القمر يدخل من النافذة أبيض بلون الموت. يلمع الورق كالفضة والحروف سوداء. خط أمها دقيق. تضع نقطة تحت الباء ونقطتين فوق التاء، ثلاث نقط فوق الثاء ونقطة واحدة فوق النون. الكلمة بجوار الكلمة تتشابك فوق السطر. سطور منتظمة مكتوبة تحت الضوء، وهي تعلمت القراءة ويمكن أن تفك الخط. صوتها كحفيف الهواء تقرأ في الليل. - أنا لا أخاف منك. - يا من تحرم المعرفة وتطفئ الضوء. - يا من تتخفى وراء قناع الرب. - وتزرع الخوف والطاعة بدل الحب. - وتقتل الآلاف بلا ذنب. - وتلعنني كالسحلية إلى الأبد.
ترفع عينيها من فوق الورق. تراه واقفا بجوار بيت الأدب. ظله طويل أسود مرسوم فوق الأرض. بقعة دم حمراء تلمع على البلاط. صوته كصوت جدها الميت. فوق صدره قرص ذهبي يلمع. - زكريا؟
يرن الاسم في أذنيها مألوفا سمعته اليوم وراء اليوم، والسنة وراء السنة، ثلاثين عاما. صورتها فوق الجدار داخل ثوب الزفاف. أبيض بلون الكفن. وجهه يطل من الصورة ثابت العضلات. مربع الرأس كأبي الهول. عنقه مشنوق برباط أسود على شكل فيونكة. كانوا يسمونها «بابيونة» وهي تجري وتجري لا تتوقف. الطريق ممدود أمامها بلا نهاية. الليل بلا قمر ولا نجوم. رذاذ أسود يدق فوق أوراق الشجر. النبض تحت ضلوعها يدق مع المطر. الهواء ثقيل مشبع بالدخان والهزيمة. شبورة سوداء تملأ الكون لها رائحة النفط. رياح الخماسين تدوي من بعيد. كأصوات الملايين تهتف: يسقط! يسقط!
تسمع صوتها بأذنها. جسدها يهتز مع اهتزازات السيارة. سوداء طويلة من نوع «الليموزين». أصابعها ترتعد فوق حافة النافذة. شيء في الجو مجهول ومخيف. عنقها تشرئب خارج السيارة. قدماها تسبقان العجلات. تلهث وهي جالسة. يدها تمتد إلى جوارها تتحسس الهدية. ربطة عنق جديدة من الساتان. بيضاء فيها دوائر خضراء، والصندوق مربوط بشريط أخضر، تفتح زجاج النافذة. في أنفها رائحة الوطن بعد غيبة أسبوعين. بدت لها عامين أو قرنين من الزمان. استبد بها الشوق فاختصرت الرحلة. جاءت قبل موعدها بثلاثة ايام. أنفاسها تتلاحق بصوت مسموع، والدقات تحت ضلوعها أسرع من العجلات، عيناها تطلان على الوطن. رائحة أمها وأبيها. سنابل القمح ونوارات القطن. شارع الجامعة والكلية، وصوته من فوق المنصة يخطب. آلاف الأصوات تهتف. يعيش! يعيش! تلتقي عيناها بعينيه في نظرة طويلة. في حديقة الأندلس يجلسان. يمسك يدها بيديه الاثنتين. - جنات؟ - نعم. - بتحلمي؟ - أيوه.
انفرجت شفتاه عن ابتسامة عريضة. لا بد أنها تحلم به. - بتحلمي بإيه يا حبيبتي؟ - عاوزة أكتب.
تجمدت الابتسامة. اعوج فمه ناحية اليمين. - تكتبي إيه يا جنات؟ - حاجات كثيرة. - اكتبيلي رسالة حب.
في الليل جلست في ضوء القمر، كتبت له أول رسالة. - كالثمرة المحرمة أحبك. - فوق شجرة المعرفة. - أمد يدي وأقطفها. - لا أخاف. - فالله هو الحب.
تفتح جفونها نصف فتحة. رأسها يهتز مع اهتزازات السيارة. قرص الشمس ينزلق وراء الأهرامات الثلاثة. سائق الليموزين يرتدي قبعة عسكرية. رائحة الوطن في أنفها. ذرات تراب، ومعجون الحلاقة. كولونيا ما بعد الحلاقة من نوع اللافندر. أنفاسه فوق وجهها لها رائحة خاصة. تحملق حول رأسها تحت سقف السيارة. تسبقه قبل أن يظهر، وتبقى معها بعد أن يذهب. تدفن وجهها في صدره وتهتف باسمه: زكريا!
توقفت السيارة أمام البيت. قدماها تسبقانها فوق السلم. تقف عند الباب تلهث. مترددة كأنما تتهيب الدخول. تضع حقيبة السفر فوق الأرض وتخرج مفتاحها من جيبها. أتفتح الباب أم تدق الجرس؟
فتحت الباب بلا صوت. دخلت على أطراف أصابعها تكتم أنفاسها. أرادت أن تفاجئه بوجودها. أرادت أن يرفع عينيه فجأة فيراها وتمتلئ عيناه بالضوء، ويمتد العناق طوال الليل، وفي الصباح تفتح الصندوق الكرتوني وتخرج الهدية.
دخل المفتاح في شق الباب بلا صوت. كانت الصالة غارقة في الظلمة. ضوء خافت ينبعث من غرفة النوم. موسيقى خافتة والباب مغلق إلا من شق رفيع.
توقفت وراء الباب تلهث. لماذا كانت تلهث؟ كأنما كانت تعرف بعقل آخر. كانت جدتها تسميه العقل الباطن، ودوت صرختها في الليل طويلة ممدودة تشبه صرخة جدتها، وأمها حين كانت تصرخ. صرخة واحدة تمتد في أذنيها كهدير الشلالات. كملايين الأصوات تصنع صمت الليل. الكل مات. والكل يهتف: يسقط! ساقط! ساقط!
تقلبت في السرير وفتحت عينيها. رأت جدتها واقفة داخل فستان من الموسلين الأسود. شعرها معقود تحت شريط أسود من الساتان، كانت تسميه «التربون». عروق زرقاء نافرة في ساقيها السمينتين، وحذاؤها في يدها. أسود من الجلد اللميع. له كعب مدبب رفيع، تهزه في الهواء. - ساقط! - الرجل لا يسقط إلا في الانتخابات يا سيدتي!
ويهز جدها رأسه علامة الإيجاب. جالس داخل بدلة عسكرية. فوق صدره نيشان. وجهه مربع يشبه وجه زكريا. أبيض بلون الملاءة. شعر رأسه تساقط، إلا ذؤابة رمادية تتطاير فوق أذنه كالريشة. يمد عنقه إلى الأمام بزاوية حادة، كعنق الديك الرومي. - المرأة هي التي تسقط يا سيدتي.
ويهز جدها رأسه مرة أخرى. تتطاير الريشة فوق أذنه. يمسكها بيديه الاثنتين يخفي بها الصلعة الأمامية. رجال كثيرون جالسون حول منضدة رخامية. وجوه مألوفة رأتها منذ ولدت، وفي الحياة الأخرى قبل الولادة. جدها الأكبر بأنفه الضخم المقوس يشبه الحدأة أو النسر. علامة الانحدار من صلب أبيه. لم يكن من دليل على هذا الانحدار من الصلب إلا غضروف الأنف، وحدث أن ولد طفل بأنف صغير بلا غضاريف. - يا هووووووه ...
صوت يشبه صوت أمها يصرخ في السكون. ممدود كصوت جدتها بامتداد الليل، كأنما تنادي على إله اسمه يا هوه. إله الزلازل والبراكين. تناديه ليأتي وينقذها لكنه لا يأتي، ويرسل إليها روح جدها الميت، يقف بجوار بيت الأدب. بين شفتيه غليون أسود، تسميه جدتها «البايب». له زلومة طويلة تلتوي إلى الأمام مثل قرن الغزال، ومن فتحتي أنفه يخرج عمودان من الدخان. يتصاعدان إلى السقف، يملآن الجو بالشبورة السوداء، والهواء يثقل مشبعا بالدخان والهزيمة، ورياح الخماسين تصفر، وهي تجري بلا توقف. صوته من خلفها يطاردها: ساقطة! يشبه صوت زكريا. البحة الخشنة كالشرخ. يخرج طرف لسانه وهو ينطق حرف السين. يفتح فكيه عن آخرهما مع الألف الممدودة. كأنما يتثاءب. يضغط على الكسرة تحت القاف ويشد على أضراسه.
كانت تجري ظهرها ناحيته ووجهها ناحية الأفق. قدماها تدبان فوق الأرض. قلبها تحت ضلوعها يدب بالإيقاع ذاته. اندفعت إلى الأمام خارج غرفة النوم. عبرت الممر في قفزة واحدة. هبطت السلم جريا لا تخشى السقوط. بدفعة واحدة من يدها فتحت باب «الجاراج». لم يكن ينفتح أبدا بدفعة واحدة. أيقظت «الموتور» بخبطة واحدة من قدمها، لم يكن يستيقظ إلا بعد ثلاث أو أربع خبطات. أخرجت السيارة «الفيات» بظهرها دون أن تحتك بالجدار. لم تكن تخرجها دون أن تصطدم بالجدار أو الباب.
انطلقت «الفيات» البيضاء تشق الكون كالسمكة الفضية، يداها فوق عجلة القيادة تدوران. النبض تحت ضلوعها يتصاعد كالهتاف. يسقط! يسقط! أبواق السيارات تدوي مع صلصلة الترام. عويل المآتم وزغاريد الأفراح، وأجراس الكنائس وآلاف المآذن، وابتهالات الشحاتين ونداءات باعة الصحف. والمارشات العسكرية والدعايات الانتخابية، وصفارات البوليس، وزئير الدبابات، وهدير «الموتور» يرتفع فوق كل الأصوات. ملايين الأصوات تذوب في صوت واحد: يسقط! يسقط!
العجلات الأربع تطير في الهواء. شعرها الأسود يتطاير حول رأسها. في مرآة السيارة رأت عينيها. ثلاثون عاما من الحزن، ومن تحت السطح ترى البريق. كعيني امرأة أخرى تفرح بالخلاص. ترفع يديها. تصفق كالطفلة. الدقات تحت ضلوعها تتراقص. السيارة ترقص بالإيقاع ذاته. عجلة القيادة بين ذراعيها تضمها كأنما هي أمها. - جنات!
أفاقت على الارتجاجة. فتحت عينيها ورأت السقف الأجرب المشقق. أمامها امرأة واقفة داخل ثوب أبيض. رأسها ملفوف بطرحة رمادية. فوق صدرها قرص ذهبي يلمع. مرسوم عليه الوجه المربع ومنقار النسر. - زكريا؟ - أنا الرئيسة!
هزت رأسها بحركة إلى الأمام والخلف. علامة النفي، وتقدمت نحوها في يدها الإبرة. مسحت ذراعها بقطعة قطن. رائحة كحول تملأ أنفها. عيناها ثابتتان في عينيها. نظرة مألوفة. طبقة طافية من الحزن، من تحتها نظرة طفلة. - نرجس؟ - أنا الرئيسة!
وهزت رأسها علامة النفي. أمسكت ذراعها لتغرز الإبرة. ضربتها على يدها فطارت الحقنة في الهواء، ثم سقطت فوق البلاط وانكسرت. - مش واخدة الحقنة! - لازم تاخديها! - مش حاخدها!
وضربت بقبضة يدها المنضدة الخشبية فانشقت نصفين، انطلقت الصفارة في فم الرئيسة. طويلة ممدودة كصفير الريح. متقطعة كالنشيج، وظهر التمورجية بمرايلهم البيضاء. ثلاثة أو أربعة. لم يستطيعوا التغلب عليها، حاولوا نقلها إلى غرفة الكهرباء. لم ينتقل جسدها من السرير إلى النقالة ذات العجلات حاولوا أن يرفعوه. أصبح كالأرض لا ينتقل. لا يمكن أن ينفصل عنها أو عن السرير.
وظهر عدد آخر من التمورجية. عشرة أو عشرون أو ثلاثون، لكنها أصبحت هي والسرير والأرض كتلة واحدة، كأنما عادت روحها إلى جسمها، ولا يمكن لأحد أن يفصل روحها عن جسمها.
اتسعت عيون التمورجية وملأها الذعر. صاحوا في نفس واحد: ركبها إبليس!
وانطلقت الصفارة كالصرخة الطويلة الممدودة في الليل.
الذنب
كانت تجري فوق الممر والصفارة بين شفتيها. قدماها داخل الحذاء المطاط، ورأسها ملفوف بالطرحة. القرص الذهبي يهتز فوق نهديها. جسدها يرتج مع الجري.
دخلت غرفتها وأغلقت الباب. أسندت رأسها إلى الباب ووقفت تلهث. سقطت الصفارة من فمها. قبضت عليها بأصابعها وراحت تضغط. يدها الأخرى فوق صدرها، تلامس القرص الذهبي، تزحف تحت الثوب الأبيض، تحت النهد الأيسر، وتحت الضلوع تزحف. هناك تحسه تحت يدها متكورا كالورم، مختفيا وراء جدار القلب، متراكما السنة وراء السنة. ثلاثون سنة.
أصابعها رمادية تعلوها رعشة منذ انفتحت البوابة ورأتها تدخل وهي تحس الضربات تحت ضلوعها. كانت جالسة في غرفة المدير حين لمحتها تدخل من البوابة، وغامت عيناها تحت سحابة. امتلأت السماء بشبورة رمادية. بدا وجه المدير من وراء الزجاج أبيض بلون الطباشير، وشعر رأسه يتساقط، والجير فوق الجدران يتساقط، وأوراق الشجر تسقط والريح تصفر من بعيد. - يا هووووه ...
يسري الصفير في أذنيها كملايين الأصوات تهتف. يذوب الصوت في لحن خافت يشبه حفيف الهواء. يحرك رءوس الأشجار. يهز الأسلاك فوق السور العالي. يتردد الصدى في أنحاء السراي الضخمة. بين الجدران المشققة، يجتاز الممرات والسراديب البعيدة. تلتقطه الآذان المرهفة خلف الأبواب المغلقة، والعيون المفتوحة طوال الليل وراء النوافذ. لها قضبان على شكل مربعات من الحديد. من وراء كل مربع تطل عين كالنجم. مملوءة بالوهج. كالضوء يملأ العين لحظة اكتشاف الموت. كالعقل يتوهج بالإدراك قبل الانطفاء. - يا هوووووه ...
يتردد الصوت كآلاف الأنفاس الغائبة في النوم. يجتاز السور العالي ويسري إلى المدينة. كانوا يسمونها القاهرة، من الفعل الماضي قهر، والمضارع يقهر. يقهر قهرا فهي مقهورة وليست قاهرة. يسير أهلها فوق الأرصفة بوجوه طويلة شاحبة. عيونهم نصف مغمضة وأفواههم نصف مفتوحة. يتطلعون إلى السراي من بعيد، يرسمون فوق صدورهم علامة الصليب، أو علامة الهلال. يستعيذون بالله من الشيطان، فالسراي لها هيبة الشياطين، ورهبة الآلهة في الزمن القديم منذ سيدنا نوح. في النهار صفراء بلون الرمال ورياح الخماسين، وفي الليل تصبح كتلة من السواد تتحرك داخلها أشباح بيضاء، يطلون من وراء مربعات سوداء، أو يسيرون كالأرواح الهائمة في أرض جرداء حول السراي يسمونها الحديقة. تنبت فيها بعض الأشواك حشائش شيطانية، وأعمدة حجرية تعلوها نقوش فرعونية. الإله رع وعجل أبيس، وأشجار عتيقة عمرها ألف عام أو أكثر. لا أحد يمكن أن يحدد عمر أية شجرة. الجذع يمتد عاليا في السماء، أو قصيرا مقطوعا بلا رأس، القشرة سوداء تعلوها تجاعيد غائرة في الساق حتى النخاع.
الزمن من شدة القدم، يبدو ساكنا بلا حركة، بلا وجود، والصمت مكتمل إلا همس خافت. حفيف هواء. صفير طويل ممدود بامتداد الأفق. ملايين الأصوات التي تصنع صمت الليل. - يا هووووووو ...
أذناها مرهفتان وهي واقفة في نافذتها العلوية، بغير قضبان، فهي الرئيسة. يأتيها الهواء من الشرفة البحرية. ستارة شفافة تهتز، مشغولة بالإبرة الكروشيه. سرير له أعمدة نحاسية من فوقه لحاف من القطن له غطاء من الساتان الأحمر. فوق الجدار صورتها داخل إطار مذهب وهي تتسلم الوسام، واقفة فوق درجة السلم، منحنية بنصفها الأعلى للأمام. ذراعها اليمنى ممدودة وأصابعها مفرودة. تمدها عن آخرها وتنحني بجذعها. رأسها يكاد يصطدم بالمنصة العالية. ذراعها الطويلة مهما امتدت لا تجتاز المسافة. مسافة عريضة من الخشب مرصوص فوقها الأوسمة. بحركة أخيرة تشرئب بعنقها مائلة بجسمها إلى الأمام. يصطدم رأسها بحافة المنصة. تقبض بيدها اليمنى على الوسام. تمد يدها اليسرى للمصافحة. تتذكر فجأة أن المصافحة لا يجوز أن تكون باليد اليسرى. في يوم القيامة يصافح الناس ربهم باليد اليمنى . هكذا قال لها جدها، والجنة تكون عن يمين السراط المستقيم، ونار جهنم على اليسار، وإبليس يقف دائما على اليسار.
أصابت يدها رعدة. تصورت أنهم سيسحبون منها الوسام لأنها مدت يدها اليسرى للمصافحة. قبل أن تلحظها العيون نقلت الوسام من يد إلى يد، ومدت ذراعها اليمنى طويلة نحو المنصة.
في الحلم كانت تعود إليها المصافحة، وهي ليست مصافحة بالكامل. لأن «اليد» فوق المنصة لم يكن لها خمس أصابع. أو لأن الأصابع الخمس كانت ملتصقة بعضها ببعض. متقلصة داخل قفاز مشدود كالجلد. منكمشة داخل الذراع الملاصقة للصدر، والصدر عريض صلب داخل درع من الحديد. تعلوه أوسمة ونياشين تلمع، وعنق يلتوي إلى أعلى كعنق الديك الرومي ومن فوقه الوجه المربع. رمادي بلون حجر المقطم. ثابت في الهواء كرأس أبي الهول.
لم تكن ذراعه تمتد لتجتاز المنصة. لا يجوز أبدا أن تمتد لأكثر من مسافة صغيرة محسوبة بالمليمتر، ولا بد لليد الأخرى أن تمتد المسافة كلها، ومعها الذراع أيضا، ومع الذراع العنق، ومع العنق ينحني الجسم كله إلى الأمام بزاوية حادة. حينئذ فقط يحدث التلامس. أطراف أصابعها تلامس طرف يده أو إصبعه، في حركة خاطفة كالبرق، صاعقة كالكهرباء. ففي هذه اللحظة تسقط عليها كشافات الضوء، وتظهر الصورة في الصحف. يبدو وجهها أبيض بلون الماغنسيوم المحروق في الفلاش. أسنانها بيضاء عارية في ابتسامة أو انفراجة واسعة في الفم، على شكل اعوجاجة.
منذ الإله رع يقف الوالي فوق هذه المنصة، وينظر بطرف عين إلى شيء ما، فتحل به الروح، وقد تصبح العصا الخشبية مثلا ثعبانا يسعى أو سحلية، وفي عهود الملك أو الرئيس كان يكفي لطرف الإصبع أن يلامس اليد من عامة الناس فتصبح المرأة رئيسة، ويصبح الرجل مديرا أو وزيرا، ويسجل اسمه في اللوح المحفوظ. يحفرون الاسم الثلاثي بإزميل فوق قرص من المعدن. ذهب أو فضة أو برونز أو نحاس، حسب الدرجة واللقب واسم الجد، ويشبك فوق الصدر بدبوس.
هيبة عريقة ممتدة في التاريخ. منذ العجل أبيس، والمنصة هي المنصة من خشب الشجر المقطوع الرأس ، والرءوس هي الرءوس. لها شكل بني آدم وبنات حواء، والانحناءة هي الانحناءة بزاوية حادة، ولا بد للركبة اليمنى أن تنثني مع العنق، وهو واقف داخل بدلة صاحب الجلالة. أو صاحب المعالي. أو صاحب السيادة، والرأس هو الرأس مربع بلون الجرانيت. له قمة مدببة كالهرم، تعلوها ريشة، أو ذؤابة شعر يطيرها الهواء، والهواء يصفر بصوت كالريح من بعيد. - يا هوووووو ...
كانت لا تزال واقفة تحملق في الصورة. الصفارة سقطت من فمها ورقدت فوق صدرها الذي يعلو ويهبط. أصابعها تتحسس النقوش فوق القرص الذهبي. سطحه ناعم كالحرير. حروف اسمها الثلاثي محفورة، وتعرجات بارزة خشنة الملمس، وصوت المدير في أذنيها يدوي: «وسام الشرف لأدائها الواجب وقدرتها على إسعاد الآخرين».
بطن يدها مبلل بالعرق. عيناهما تدوران فوق الجدران سوداء مشققة. السقف أجرب سقط منه طلاء في بعض الأجزاء. رسمت الأجزاء الساقطة صورة رأس له قرنان ملتويان إلى الأمام. لمبة كهربية صفراء تتدلي من سلك طويل أصفر. ماتت فوقه ذبابة سوداء. تتشبث بالسلك الكهربي لا تريد السقوط.
مدت يدها المبللة بالعرق خارج النافذة. عروق بارزة زرقاء تحت الجلد المكرمش. تشبه يد جدتها. صوتها يهمس كالفحيح: قادرة على إسعاد الآخرين وعاجزة عن إسعاد نفسها؟ صدرها يعلو ويهبط في أنفاس متلاحقة تلهث وهي واقفة كأنما تجري، من وراء الباب المغلق تسمع الصوت. شهقة منقطعة، أو نهنهة. تنهيدة طويلة ممدودة بامتداد الليل. - يا يا يا يا يا نر نر نرجس!
يسري الصوت في أذنيها كصوت أمها يناديها، أو جدتها الميتة، أو امرأة أخرى من القريبات أو الجارات أو زميلات المدرسة. يصمت الليل وينقل الهواء النداء عبر المساحات السوداء الممدودة. كالناي المنفرد الحزين، وهي راقدة في سريرها متكورة كالجنين. تغطي نفسها باللحاف القطني، من الرأس إلى القدم. تخشى أن تطل برأسها من تحت الغطاء. فهو واقف وراء الشماعة. طويل عريض يمسك ضلفة الباب. يرتدي جلباب جدها الميت، وطربوش أبيها الأحمر. رأسه كبير مربع كرأس المدير. عنقه طويلة تلتوي إلى أعلى كالديك الرومي. في يده عصا الشيخ بسيوني. تتلوى في الهواء كالثعبان. يتنكر في ثياب العرس. بدلة سوداء «سموكنج»، وربطة عنق معقودة تحت ذقنه على شكل فيونكة، «بابيون»، بين شفتيه «البايب» أو غليون أسود، يلتوي إلى الأمام كقرن أبيس أو زلومة الفيل.
كانت تعرف أنه ليس إلا روحا من الجن، وهي تؤمن بوجود الجان، ورد ذكره في الكتاب، وهو يختفي إذا أضاءت اللمبة الكهرباء. تخشى أن تخرج يدها من تحت اللحاف لتضغط على الزر، ولا يمكن أن تنهض إلى المرحاض أو بيت الأدب. فهو لا يستقر إلا في ذلك المكان. تحبس البول في جسدها طوال الليل. عقلها الباطن يقظ ولا يمكن أن تبلل الفراش وإن غابت في النوم.
في الصباح ترتدي مريلة المدرسة. ينام عقلها الباطن وهي تمشي، وعقلها الظاهر ينفصل عن جسمها. حقيبة الكراريس تحت إبطها. قدماها داخل حذاء من الجلد الأسود، تربطه بحزام وزرار أبيض، ينزلق من الفتحة وهي تمشي. بطن يدها مبلل بالعرق. تخشى أن تفتح أصابعها، وتخشى أن تفتح ساقيها أكثر مما يجب. بينها وبين جسمها حاجز كاللوح الزجاجي، والناس حين يرونها سائرة في الطريق يتوقفون. ينظرون إليها كأنما من خلال الزجاج. تراهم يبحلقون نحوها بعيون ضيقة نصف مغمضة. تغطيها طبقة من الماء، والعالم كله يموج من وراء الماء كأنما هو غير حقيقي، وهي تحمل جسما غير حقيقي تحاول أن تخفيه عن الأعين.
لكن الأعين قادرة على اختراق الزجاج. ترقب كل حركة يقوم بها أي عضو، محبوس داخل اللحم، نحيف وشفاف كالزجاج. يسمح بمرور الضوء دون الهواء. تمد عنقها إلى أعلى بحركة يظنها الناس كبرياء، وهي حالة من الاختناق. تحاول أن تختلس نسمة هواء.
كان الطريق إلى المدرسة طويلا، وهي تمشي بجسمها النحيف الطويل. تخشى أن تفرد قامتها فتصبح أطول من الرجال. تطأ أرض الوطن بقدمين خفيفتين، تخشى أن تدوس فوق الوطن بأكثر مما يفرضه حب الوطن. حول عنقها سلسلة تتدلى منها صورة الملك أو الرئيس أو ناظر المدرسة. أو مجرد حروف منقوشة بالخط الكوفي باسم «الله». تهتز الصورة فوق نهديها وهي تمشي. تنحني بجسمها إلى الأمام كأنما تبغي الفرار. ذراعاها تتحركان بجوار جسمها إلى الأمام والخلف. طرف إصبعها يلامس ردفها من الجانب. تريد أن تختفي قبل أن يراها أحد، وإذا ما رآها أحد هزت رأسها بحركات متتالية، كأنما تعتذر عن وجودها في الكون. تبتسم خجلا من هذا الوجود المفروض عليها، وهذا الجسم الذي لا بد أن يكون غير مرئي. أو مجرد روح بلا لحم. يتحرك في الطريق غير قابل للمس.
كانت تريد أن تمشي. ترى الآخرين ولا أحد يراها. تحلق في السماء وترى الله دون أن يراها. لم يكن لأحد من البشر أن يرى الله وجها لوجه، هكذا قال أبوها. تجرأ واحد من الرسل لعله سيدنا موسى أو سيدنا إبراهيم، ونظر إلى الله. صعقه الضوء كالكهرباء، وخر إلى الأرض صريعا. أسنانه تصطك بالحمى.
أرادت أن ترى الله دون أن تصعق، ودون أن تصطك أسنانها، وأن تسمع صوته بدلا من صوت إبليس. وكان إبليس يوسوس لها بالليل، تخفي رأسها تحت اللحاف، تضغط الوسادة فوق رأسها. تقرأ آية الكرسي. تستنجد بالله أن ينقذها، لكن الله كان يتركها وحدها لإبليس. يسري صوته في أذنيها طوال الليل. ممدودا بامتداد الظلمة. يهمس بصوت ناعم كصوت أمها. يمشي في عروقها دافئا كالدم، ولا شيء ينقذها من إبليس إلا النوم.
وفي الصباح تمشي وهي تخفي صدرها بحقيبة الكتب، والعيون تتسع حين تراها في الطريق، كأنما يسمعون معها إبليس في الليل. أو كأنما لا يحق لها المشي، أو أنهم يملكون الطريق، وهي لا تملك منه شيئا. الرصيف أيضا يملكونه، وهي لا تملك شبرا واحدا من أرض الوطن، ولا عقارا، ولا بيتا، ولا شيئا يملكه أبوها، إلا هي وأمها ومعاش من الحكومة، لا يكفي الغموس مع الخبز، وتبتسم في خزي وتعتذر عن فقرها، وفقر أبيها وجدها، ثم ترفع عنقها في كبرياء، تتذكر فجأة أنها تملك الجنة في السماء، وتحتقر الأملاك فوق الأرض.
تدوس بنفسها فوق الأرض، فإذا العيون تتسع مبحلقة، كأنما هي تدوس بحذائها على الوطن. تطرق برأسها خزيا وتهزه عدة مرات، تنفي عن نفسها الخيانة، ثم ترفع رأسها فتراهم محملقين، عيونهم تبحلق في جسمها، كأنما هي جسم يختلف عن سائر الأجسام. تنتمي إلى فصيلة الثدييات.
تهمس لنفسها بلا صوت: أنا إنسانة مثلكم، وتمشي في الطريق تبتلع الدموع. تتوقف لحظة حين ترى طفلة تبكي. او قطة تموء. أو شحاذا يعرج على عكاز. تشارك الآخرين الألم، وفي لحظة المشاركة ينفصل جسمها عنهم. تبتعد هاربة داخل وحدتها الكاملة، ويأسها المطلق من الحياة. ينقلب اليأس فجأة إلى أمل، بلا سبب أو بسبب بسيط، كأن تلمح في الطريق ابتسامة في عين طفل. أو جروا صغيرا يهز ذيله، كأنما هو فرح بوجودها. يلمع في عينيها شيء كالبريق. تراه في المرآة حقيقيا مثل ضوء الشمس. شعاع يزحف من وراء السحابة. تمد يدها لتلمسه. تدرك من خلال المرآة أنه غير حقيقي، ويصبح قلبها ثقيلا. تحسه تحت نهدها الأيسر كالورم. متراكما كالإثم منذ حواء والسحلية. تلقى الرب من آدم كلمات فتاب عليه وحده. هكذا قال أبوها لأمها، نزلت الآية بالمفرد لا المثنى، وفي آية العصيان استخدم الله المثني لا المفرد، والله عليم باللغة وقواعد النحو. لا يمكن أن يستخدم المفرد أو المثني في غير محله، ويردد أبوها كلام الله: قلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ... ولا تقربا هذه الشجرة ... فأزلهما الشيطان وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ...
يضغط أبوها على كلمة «عدو» ويرمق أمها بنظرة حمراء. يكرر كلمة «أزلهما» ثلاث مرات مكورا شفتيه مع الضمة فوق الهاء، فاتحا فكيه عن آخرهما مع الألف الممدودة بعد الميم «هما» مؤكدا على المثنى، ثم يردد بصوت حاد: «فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه». يخرج طرف لسانه وهو يضغط على الكسرة تحت الهاء، مؤكدا على المفرد. آدم وحده هو الذي حصل على التوبة.
وترى أمها واقفة وراء النافذة، عيناها شاخصتان نحو السماء. فوق عينيها دمعة لا تجف ولا تسقط. الظلمة ممدودة والسماء سوداء. لا قمر ولا نجوم، إلا نجمة واحدة معلقة بين السماء والأرض. ترتعش كالإثم المعلق لا يمسحه شيء. اسمها الزهرة. تحترق في نار لا تنطفئ. يشير إليها أبوها بإصبع مدبب: امرأة عاهرة! أغوت هاروت وماروت
أدركت اللعنة ولسانها يردد الاسمين، هاروت وماروت. تفتح فمها فيخرج من صدرها هواء ساخن. كأنما تلعن الاثنين، وتغلق فمها. تحبس الهواء في صدرها. يتراكم الذنب تحت الضلوع كاللحم. وعليها أن تعيش الإثم. لا توبة ولا كلمات من الرب. تحمل جسمها فوق روحها كالعبء، يتأرجح بين الحقيقة والوهم، ولا يمكن أن ترى نفسها إلا من خلال المرآة أو الزجاج في نافذة أو باب، أو صفحة الماء في الترعة أو النيل. تعيش في عالم لا تعرفه. داخل جسد لا تملكه، يملكه أبوها أو الحكومة أو جدها الميت، أو رجل آخر غريب الملامح نسيت اسمه، يمسك يدها في الصورة، واليد الأخرى تمسك وردة ميتة.
في المرآة ترى جسمها نحيفا، تحمله فوق قدميها كأنما هو منحة من الرب، سلبها منه لحظة الولادة. تأكل قليلا ليظل جسمها كالروح بلا لحم، أو صغير الحجم لا يكبر، فلا تصل أبدا إلى سن المراهقة أو الطيش. أو مرحلة البلوغ وانتفاخ الرحم بالحيض.
كلمة «الحيض» ترن في أذنيها لأول مرة وهي جالسة وراء التخت في المدرسة. يمط الشيخ بسيوني فمه إلى الأمام في اشمئناط. يضاعف الشدة فوق الحاء والضاد. «الحيض»، رجس من «الشيطان». يفتح فكيه مع الألف الممدودة بعد الطاء. الميتة والدم ولحم الخنزير. يشرئب بعنقه وفتحتا أنفه تتسعان. يدس رأسه بين صفوف البنات في الفصل. يتشمم الرائحة، وفجأة يتوقف عندها، يشد من يدها المصحف، يمسح غلافه بقطعة من القطن المبللة بمحلول مطهر.
كانت جدتها تسميه النجاسة. تدخل معها الحمام، تغسل جسدها بالليفة والصابونة وهي تقرأ الفاتحة. تتلو الشهادة ثلاث مرات. تطرد إبليس بكوز من الماء المغلي تصبه فوق رأسها كوزا بعد كوز. تصرخ من وراء الباب المغلق، تستنجد بأمها، لكن أمها لا تجيء، وتقول عنه الدم الفاسد، أو المرض الشهري. ناولتها نصف دستة من الفوط. قطع مستطيلة من قماش خشن اسمه «الدمور» ولكل فوطة حمالة رفيعة تلتف حول الوسط.
وهي تمشي في الطريق إلى المدرسة تحس الفوطة بين فخذيها. تتكور كالورم. كالإثم تظل معلقة أسفل البطن، وفي حركة المشي تنزلق إلى الوراء فوق الردفين، وفي الجلوس تحسها محشورة بين ظهرها والتخت، وإذا تحركت لتعدلها انزلق الدم كالهواء الساخن.
يدق الجرس وتنتهي الحصة. تظل في مكانها جالسة تخشى أن تنهض، فإذا نهضت واقفة أحست الخيط الدافئ يمشي فوق ساقها ناعما كذيل السحلية، يختفي داخل الحذاء، يبلل جوربها بلون كالحبر الأحمر. تتلفت حولها حتى يخلو الجو ثم تمشي بحذر جنب الجدار. تخفي المريلة من الخلف بحقيبة الكتب، وفي البيت تنكفئ فوق الحوض في دورة المياه. تغسل المريلة والسروال، تغسلهما المرة تلو المرة، ثلاثين مرة، ولا يمكن أبدا أن يختفي الأثر، أو يزول الإثم، وإن التهبت يداها من الدعك. تكور السروال في يدها. تخفيه وراء ظهرها كأنما هو الدليل. تخشى أن تعلقه فوق حبل الغسيل فتراه عين. تحفر له في الأرض حفرة كالقبر، تدفنه وتهيل عليه التراب، ثم تختبئ في غرفتها تحت الغطاء، كمن اقترفت جريمة. تحتضن الوسادة، وتغني لها بصوت هامس كالهواء: «هوه، نامي نينا هووه ...»
صوت جدتها يسري في أذنيها، تغني وحفيدتها في حجرها. لم تكن حفيدتها ماتت بعد، لكنها كانت تعرف أنها حتما ميتة، وأنها هي هذه الحفيدة. تسمع صوتها يدندن كحفيف الهواء. يداعب زعانف النخلة. تغمض عينيها في لذة الموتى. يتركهم الآخرون لحالهم. لا يطلبون منهم الرد أو الكلام.
كانت تكره الكلام. تختفي في غرفتها ليتركها الآخرون لحالها. لا يطلب منها أحد شيئا. أو يوجه لها سؤالا. يرتعد جسدها حين تدخل أمها معها الحمام. تفتش بين ثنايا جسمها عن أعز ما تملكه البنات. شيء غير مرئي أسفل البطن. كالورقة الشفافة تمزقه نفخة هواء. ينكسر الزجاج لأقل خبطة، أو دبة قدمها فوق السلم. يحترق كرأس عود الكبريت، وينتهي «إلى الأبد».
تمط جدتها شفتيها وتقول «إلى الأبد» ثم تغمض عينيها وتغيب في النوم، وهي واقفة وراء النافذة في الظلمة. يتسرب من عقب الباب ضوء أصفر من المطبخ. تسمع صوت الماء يتساقط من الصنبور، وقعقعة الصحون في الحوض . شبشب أمها فوق البلاط يزحف. صوت الشارع يتسرب من بعيد. أضواء صفراء شاحبة تمشي فوق الجدار. تمر سيارة فيطمس كشافها كل شيء. لا تبقى إلا دائرة صغيرة كالعين الصفراء تجري فوق السقف ثم تهبط إلى الأرض وتختفي.
لم تكن تعرف أن الليل تأخر إلا حين تصمت الصحون، ومياه الصنبور، وينطفئ نور المطبخ، وأنوار البيوت في الشارع. لا تبقى إلا ذؤابة صفراء ترتعش في المساحة السوداء. حينئذ تتيه عيناها في الخضم الأسود. تتعلقان بنقطة ضوء. نجمة وحيدة في السماء، أو مصباح في زورق في بحر لا تراه، ويهبط عليها الحزن فجأة كالبرد. تسري القشعريرة في جسمها، وتفقد الرغبة في الحياة. تحملق في وجه الليل، أو الوجوه العابرة في الظلمة، أو أوراق شجرة يحركها الهواء. تمد ذراعها أمامها خارج النافذة، كأنما تستعيد الصلة بينها وبين الكون. أو كأنما ستعثر في ذلك الكون على شيء. على وجه. عينان أو ذراعان تمتدان نحوها، وفي هذه اللحظة، في هذه الحركة الصامتة الممدودة في الظلام خارج النافذة، كأنما تجد الخلاص من الإثم، ويتسرب الحزن من مسام الجسد. يعود الانسجام إلى جسمها وترتد إليه الروح.
في هذه اللحظة يمتلئ قلبها بحنين غامض. كالحب الجارف. تتراءى لها صديقتها الوحيدة قادمة، ترتدي مريلة المدرسة بلون مريلتها. بيضاء من القطن فيها مربعات زرقاء. كولة بيضاء حول العنق. في يدها حقيبة الكتب، تقذفها عاليا في الهواء، وتتلقفها بيديها الاثنتين كالكرة. طويلة ممشوقة غير محنية الظهر. تتوهج عيناها بالضوء. تكاد تقفز من النافذة لتعانقها، تنطلق من صدرها الصرخة. في غرفتها تجلسها وتغلق الباب. تنفرج شفتاها المطبقتان عن سيل لا ينقطع من الكلام. تلصق أمها أذنها بالباب تتسمع. لا تسمع إلا كلمات متقطعة كالشهقات. أو ضحكات مكتومة منفجرة بالفرح إلى حد النشيج. - ج ج ج ج ج جنات! - نر نر نر نر نر نرجس!
يرن اسمها «نرجس» بصوت صديقتها كأنما ليس اسمها. رنين، يبقى في الأذن، غير كل الأصوات يحلق في الجو دوائر من الضوء بلون الفضة. يسري في الكون كالمياه الذائبة تنحدر بين الصخور إلى الوادي، وبشرتها سمراء بلون الطمي، تلمع تحت الشمس بلون النحاس الأحمر.
في المرآة ترى نفسها سمراء منطفئة اللون. تبدو صديقتها كأنما هي الأصل. ليست هي إلا ظلها الداكن في الكون. أو نسخة باهتة من الكربون. يداها كبيرتان تخفيهما في جيوب المريلة، وقدماها أكبر من قدمي النبي، هكذا قالت جدتها، تخبئهما حين تجلس تحت التخت، ملامح وجهها تطمسها نحت مسحوق كالدقيق الأبيض، تشتريه أمها من الصيدلية في علبة اسمها البودرة، وتقول إن البشرة السمراء علامة القبح، أو الفقر، أو الانحدار من سلالة العبيد، والبشرة البيضاء علامة النبل والأصل العريق، الأشراف والأسياد، أو سلالة الملك الممدودة حتى النبي محمد
صلى الله عليه وسلم .
في النوم تتكور تحت اللحاف تخفي وجهها عن الأعين، وفي الحلم يتراءى لها النبي أبيض البشرة يشبه الملك. لم تر في أحلامها نبيا أسود اللون، والله أيضا كانت تراه في النوم بوجه أبيض كاللبن، وإبليس كان يظهر بوجه أسمر داكن اللون كوجهها.
ولم تكن صديقتها بيضاء. كانت سمراء شديدة السمرة بلون إبليس، لكنها كانت تمشي مرفوعة الرأس، كأنما هي بنت الملك. شعرها غزير أسود يتطاير حولها كشعر الأسد تقذفه خلف ظهرها بيدها كالفرس الحرة لا يملكها أحد، وفي العيد ترتدي ثوبا برتقاليا يمتلئ بالهواء، والكرانيش تتطاير من حولها كأجنحة الفراشة.
تحت ضلوعها تحس الخفقات. في أعماقها لحن يدب بإيقاع راقص. سنابل القمح تتراقص تحت الشمس بالإيقاع ذاته. أوراق الشجر مع الهواء تصنع اللحن ذاته، وهي واقفة خلف النافذة، تكاد تقفز نحوها وتعانقها. تضمها إليها بقوة، ليذوب جسمها في جسمها، وتصبح هي وصديقتها شيئا واحدا، ويختفي من الوجود اسم نرجس.
حين ترى أمها الدموع في عينيها تقول: «نرجس اسم زهرة جميلة»، وتقول لكن اسم جنات يا أمي أجمل، فهي جمع جنة، لا جنة واحدة فما بال زهرة واحدة يتيمة مثل نرجس؟!
إحساس باليتم كان يملؤها وهي واقفة في النافذة، تنتظر قدومها كأنما ولدت من أب مجهول وأم مجهولة، وأهلها ليسوا أهلها، والوطن ليس وطنها. تعيش من أجل لحظة واحدة، أن تصبح هي وصديقتها شخصا واحدا. يملؤها الأمل من شدة الحب، ويملؤها الخوف من أن يأتي يوم فلا تراها. أو تمد يدها لتمسكها فيبددها الهواء، أو تدوسها عجلات ترام أو سيارة.
حين ترى وجهها من بعيد يقترب تخشى أن يتحول فجأة إلى وجه آخر غير جنات، تتراجع إلى الوراء مبتعدة عنها، ذراعاها مرفوعتان لا تعانقها، ويجف حلقها لا تنطق يستمر الصمت لحظة أو لحظتين، ثم يطغى وجودها الحقيقي على الخيال، تنفك العقدة وينهمر الكلام. تسألها أمها عما تقوله لصديقتها هي الصامتة المقطوعة اللسان. لا تعرف ماذا تقول لأمها، فهي لا تقول شيئا. ليست هي كلمات. مجرد همهمات كأصوات الحمام. تقرب الحمامة منقارها من الحمامة الأخرى، ولا ينتهي الهمس.
كانت تفهم لغة الحمام دون أن تفك الخطوط، ترسمها بأرجلها كالشخبطة فوق التراب، وصديقتها كانت تقرأ حروفها. تعرف أسرار الحمام واليمام، وعصافير الجنة والفراشات. تجري وراء الفراشة بين الزرع، تمسكها بين أصابعها. تقرب أذنها من فمها وتهمس لها بشيء، ثم تطلقها في الهواء، تصفق بأجنحتها عاليا محلقة في السماء.
لم تكن أمها تصدق ما تقوله صديقتها عن لغة الطيور، وتمنعها من زيارتها، وحين تأتي صديقتها تبقى أمها معهما في الغرفة. أو تلصق أذنها بالباب تتسمع، وتنام تحلم بالمدرسة لتلتقي بها في الفناء. تتقافزان كالفراشتين تلعبان «الحجلة» وتتسابقان الجري. تنطان الحبل. تشهقان. تضحكان، تصرخان، تدبان فوق السلم، وتنسيان في غمرة الفرح أعز ما تملكه البنات.
وفي حصة القراءة الرشيدة حين يلتها المدرسة عن أحب الناس لها لم تقل أحب أمي أو أبي، وقالت أحب جنات، أعطتها المدرسة صفرا في الأخلاق وجنات أخذت صفرا لأنها كانت تحب الطيور أكثر من أمها وأبيها، وسارت إشاعة في المدرسة عن حب آثم يزينه إبليس في عيون البنات. تصورت أن معركة كانت تدور بين الله وإبليس حول قلوب البنات، وكان إبليس يأتي إليها في الليل يهمس بصوت ناعم: الحب جميل، وفي حصة الدين جعلها الشيخ بسيوني تمد يديها أمامها. لسعها بالعصا الخيزران فوق كل إصبع ثلاث مرات، وجعلها تردد وراءه تسع مرات، أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم.
منذ تعلمت النطق وهي تستغفر الله على الذنب العظيم، تدركه بجسمها وعقلها عاجز عن الإدراك. كالورم تحس الإثم بإصبعها، ينمو تحت الضلوع كالدم الساخن يتدفق في العروق. أو عود كبريت مدفون في ثنايا اللحم، يقطعه حلاق الصحة بالموسى، وتغرق الملاءة بالدم. تدرك أنه الذنب المعلق في السماء إلى الأبد. أو العار لا يمسحه إلا الدم.
وتسأل أمها عن السبب وهي واقفة خلف النافذة. تمد أمها عنقها إلى أعلى. تتعلق عيناها بضوء صغير يرتعش في الظلمة. نجمة وحيدة تشق الخضم. قطرة واحدة من النور في المساحات السوداء. معلقة في الأفق بين السماء والأرض. ثابتة في مكانها لا تنطفئ ولا تسقط. ترفع ذراعيها وتنشج بصوت كالغناء، أو النداء الطويل الممدود بامتداد الليل: «يا رب!»
في البدء كانت السحلية
في المساحات السوداء حول السراي كان النداء يسري كحفيف الهواء. رءوس الأشجار تلقي بظلالها كالأشباح فوق الأرض. تتمايل بحركة كسولة مليئة بالملل، وهو يختفي وراء الجذع المقطوع، جالسا القرفصاء داخل جلبابه الأبيض. رأسه ملفوف بالعمامة الضخمة من فوقها الريشة ممدودة كالإبرة. أصابعه الكبيرة تبحث في التراب عن شيء. ضوء القمر يسقط فوق وجهه. لحيته بيضاء طويلة تتدلى فوق صدره. حاجباه كثيفان يلتقيان فوق أرنبة أنفه. عيناه صغيرتان مستديرتان، تتابعان حركة يده فوق الأرض في استغراق كامل. - يا رب!
أذناه تنتصبان. يتسمع الصوت. أصابعه تكف عن الحركة. تنفرج شفتاه عن صوت هامس: من يناديني!
يدب السكون في الكون، لا يسمع إلا حفيف الهواء يلامس أوراق الشجر. يطل برأسه من وراء الجذع. يلمح الضوء الخافت في النافذة. شبح أبيض يروح ويجيء وراء الزجاج. النهدان بارزان أبيضان تحت ضوء القمر. شعرها طويل أسود ينسدل فوق ظهرها. عيناها مغلقتان وذراعاها ممدودتان أمامها، كمن تمشي في النوم. - يا رب!
خرج من وراء الشجرة واقفا. ارتسم ظله فوق الأرض طويلا أسود اللون. - أنا هنا! أنا ...
صوته يسري في أذنيه غريبا كصوت رجل آخر. يتردد الصدى في سكون الليل. - أنا هنا! أنا ... أنا ...
يرتد الصوت مع الصدى إليه وهو واقف. يرى ظله فوق الأرض طويل القامة كأبيه. يهتز مع رءوس الأشجار والصوت يتردد بين جدران السراي. يحرك الشيش في النوافذ. تنفتح بعض العيون الغارقة في النوم. تتسع بلون شاحب ثم تنغلق مرة أخرى. - أنا هنا! أنا ... أنا ... أنا ...
كالصفارة الخافتة يعود الصدى إليه. أذنان تنتصبان مرهفتين. الصوت مألوف كصوت أبيه. مبحوح قليلا تنتابه شرخة خفيفة مع الألف الممدودة. يضغط على أضراسه وهو يضاعف الشدة على الهمزة فوق الألف: أأأ نا نا نا نا.
كان جالسا فوق الكرسي ذي المسند العالي، داخل بدلة عسكرية. فوق صدره أقراص تلمع بضوء أحمر. كتفاه عريضتان محشوتان. أنفه غضروف كبير منتصب على شكل القوس. عنقه تلتوي إلى أعلى كعنق الديك الرومي. صوته يدوي في أنحاء البيت. - أأأأأ نا نا نا نا.
ينفذ صوته من نافذة الصالة إلى الجيران. تغلق أمه الزجاج والشيش. تقف ظهرها إلى الجدار وجهها ناحيته، بشرتها شاحبة هرب منها الدم. تزداد شحوبا داخل ثوبها الأسود من الموسلين. ساقاها ملتصقتان بيضاوان تبرز من تحتهما عروق زرقاء. شفتاها تتحركان بلا صوت، كأنما تكلم نفسها أو تخاطب شبحا لا يراه أبوه.
يحرك أبوه رأسه من فوق الكرسي ذي المسند العالي. عيناه الصغيرتان من وراء الزجاج تبحثان عن الشبح. تدور عيناه في أنحاء الغرفة. تبحثان وراء الشماعة، داخل الدولاب، تحت السرير.
لم يكن يعرف كيف ينحني جسد أبيه الضخم لينظر تحت السرير. يراه جاثيا على ركبتيه كأنما يصلي، ثم يمد عنقه تحت السرير. كان طفلا مولودا لم يتعلم الكلام بعد، لكنه كان يسمع الأصوات.
في الليل وهو نائم يسمع صوت أبيه يأتي من تحت السرير يقول: إنت فين يا إبليس؟
ترن كلمة إبليس في أذنيه وهو متكور كالجنين فوق السرير. يخفي رأسه تحت اللحاف ويغمض عينيه. في الحلم يرى إبليس واقفا في الظلمة، مرتديا ثوب أمه الأسود، وجهه أسود أيضا، وأسنانه تلمع في الليل كأنما يبتسم في سخرية أو يكشر عن أنيابه، في الصباح يفتح عينيه على خطوط الضوء تنفذ من الشيش، تناوله أمه كوب اللبن. يلقيه في الحوض. - اشرب اللبن! - مش شارب! - اسمع الكلام يا ولد! - مش سامع!
لم يكن يسمع كلام أمه. سمع أباه يقول: النساء ناقصات عقل ودين، وفي المدرسة سمع المدرس يقول الرجال قوامون. فتح الكتاب وجعله يقرأ: الرجال قوامون على النساء. في كل يوم يقرؤها ويرددها وراء المدرس ثلاث مرات.
يمط المدرس عنقه ويضم شفتيه طويلا مع واو الجماعة: قوامووووون ... يرددها وراءه التلاميذ في نفس واحد كالنشيد: قوامووووون ...
رفع إصبعه وسأل: يعني إيه قوامون يا افندي؟
كان المدرس يرتدي طربوشا أحمر يتدلى فوق أذنيه. في يده منشة سوداء كذيل الحصان يهش بها الذباب. - القوامة يعني السيادة يا ولد! - والسيادة يعني إيه يا افندي؟ - يعني الرجل يسود والأنثى تخضع للذكر.
رنت كلمة «الذكر» في أذنيه بصوت الأفندي. كان له صوت يشبه صوت أبيه، والكرسي أيضا له مسند عال، وعنقه تلتوي إلى أعلى ضاغطا بفكيه على الشدة فوق حرف الذال: الذ ذ ذ كر كر كر، يصبح صوته كالديك يكركر، يكرر الحرفين الأخيرين: الذ ذ ذ ذ كر كر كر كر ...
ولم يكن يعرف ما معنى كلمة الذكر. سأل أمه فضربته على يده. يدها كانت كبيرة ويده صغيرة. يخفيها في جيب المريلة، تشبه مريلة أخته، بيضاء فيها مربعات حمراء، وكولة مستديرة حول العنق. تمشي أخته معه إلى المدرسة. تدب على الأرض بقدمها كما يدب، وفي قدميها حذاء أسود من الجلد يشبه حذاءه، إلا أنه بغير رباط.
يشد الرباط في حذائه ويعقده بحركة تشبه حركة أبيه، والرباط حول عنقه أيضا يشده كما يرى أباه يفعل، مشرئبا بعنقه إلى أعلى.
كان يظن أن ميزة الذكر على الأنثى هي هذا الرباط في الحذاء وحول العنق، لكن التلاميذ في المدرسة ضحكوا عليه، وأخذوه إلى دورة المياه، ومن وراء الباب المغلق أدرك الحقيقة.
لأول مرة رآه شيئا بلا معنى، قطعة صغيرة من اللحم تتدلى أسفل بطنه ينفذ منها خرطوم البول، لكن عيون التلاميذ يملؤها الزهو، يقيسونها بالمسطرة، وكل منهم يصيح بصوت عال كالهتاف: أنا الأكبر! أنا! أنا!
صوت ابن العمدة يعلو على الجمع. يفتح فمه عن آخره ويهتف. صدره يعلو ويهبط، الدقات تحت ضلوعه تتصاعد، طبول تدق بالإيقاع ذاته. التلاميذ يهتفون في نفس واحد. يحملونه فوق الأعناق. الهتاف يدوي في أذنيه كهدير الشلالات، والهدير يذوب في صوت واحد كالصفارة: أنا الأكبر! أنا أنا أنا ...
توقف لحظة رافعا عينيه نحو النافذة. ضوء خافت كالذؤابة يهتز خلف الستارة الشفافة. خيالها يروح ويجيء من وراء الزجاج. نهداها كبيران كنهدي أمه تتدلى بينهما السلسلة، في نهايتها قرص يلمع.
يدفن رأسه في صدرها كأنما هو صدر أمه. يبتلع الدموع في جوفه. لم يعد يبكي منذ صفعه أبوه على وجهه. أتبكي كالنسوان يا ولد؟ يشد على أسنانه ويبتلع الألم. تراكمت الدموع تحت ضلوعه كالورم، وفي الليل تصحو أمه على أطراف أصابعها تغطيه، وفي الصباح يمط في وجهها شفتيه كما يفعل أبوه. يجلس في كرسيه ذي المسند العالي ويصيح: أأنا نا الأ الأكبر كبر كبر ...
يقف فوق الكرسي ويصبح أكبر من أمه. تضع بين أصابعه الريشة وتقول له ارسم الشجرة والعصافير. لم يكن يحب الرسم. يدوس بحذائه فوق أوراق الشجر. يضرب العصافير بالنبلة. يرشق الريشة في رأسه. يرتدي البدلة العسكرية ويلوح في وجه أمه بالسيف: فين إبليس؟
رنت كلمة «إبليس» في الجو كطلقة الرصاص. تردد صداها في المساحة السوداء حول السراي. هزت الأشجار رءوسها مع حركة الهواء. سرى الصوت بين الجدران المتآكلة، وعبر الممرات، تسلل إلى عنبر الرجال في الظلمة.
فتح إبليس عينيه وهو راقد فوق ظهره. رآه واقفا في فتحة الباب يرتدي جلباب أبيه الأبيض، وعمامة الشيخ مسعود ملفوفة حول رأسه، من فوقها الريشة كأنما هو العمدة. - قوم فز يا إبليس!
ينطق كلمة «فز» كما كان ينطقها أبوه. يشد على أسنانه وهو يدوس على الكسرة تحت الفاء.
يغمض عينيه ويخفي رأسه تحت اللحاف، لكن يده تزحف. عظامها بارزة. يشد اللحاف من فوقه ويصيح: فز يا ولد شوف شغلك. - أرجوك سيبني أنام. - تنام إزاي يا إبليس؟ - زي خلق الله. - ومين يوسوس للناس يا ولد؟
صوته يدوي في أذنيه كصوت الرب، لكن أصابعه صفراء وأنفاسه لها رائحة التبغ، وعرق تحت الإبط كالشيخ مسعود. - معاك سيجارة يا إبليس.
دس ذراعه تحت وسادته. قبضت أصابعه على نصف سيجارة. أخفاها بسرعة تحت اللحاف. - هات السيجارة يا ولد! - لأ. - لأ يعني إيه يا ولد؟ - يعني لأ! - مش عارف أنا مين يا ولد؟ - عارف يا سيادة الرئيس. - رئيس مين يا حمار! أنا فوق الكل! فوق! - حاضر يا سيادة الجنرال. - جنرال مين يا حمار! أنا فوق! فوق!
لم يكن هناك من هو فوق الجنرال. هكذا سمع من زملائه الجنود. يمشي في المقدمة ومن خلفه الحرس. جسده ممتلئ باللحم الأبيض. يرتدي سترة من الجلد كالدب في بلاد الإسكيمو، يظهر على شاشة سي. إن. إن. في مشيته عرج خفيف. خطوته بطيئة. يمد ساقه اليمنى إلى الأمام كالساق الخشبية دون أن تنثني الركبة. يصعد الدم إلى وجهه مع حركة الساق. شدقاه يمتلئان بالهواء. شفتاه حمراوان، والشفة السفلى ممتلئة متهدلة قليلا فوق ذقنه. تهتز حين يدوي صوت المدافع. يرفع عينيه نحو السماء. يرقب الأشباح السوداء المحلقة في السحاب، طيور جارحة من نوع النسور، لها أجنحة من الفولاذ من بطنها تتساقط القنابل كرذاذ المطر الأسود. يتصاعد الغبار وذرات الرمل. يمتلئ الكون بشبورة صفراء، يصبح الهواء ثقيلا مشبعا بالدخان ورائحة نفط يحترق.
يصفق الجنرال بيديه كالطفل يلعب. يضحك بصوت عال ملقيا رأسه إلى الوراء. يرفع إبهامه إلى أعلى، هاتفا: فيكتوري! تدق طبول النصر. يصطف الجنود على جانبي الطريق، وجوههم ناحية الحائط ظهورهم الناحية الأخرى. من خلف الجنرال يسير الشيخ الأكبر مرتديا ثياب الملك، فوق كتفيه عباءة مطرزة بالقصب. رأسه ملفوف بطرحة بيضاء، والمدير يظهر إلى جوار الشيخ، والرئيسة داخل ثوبها الأبيض. تهتز الصفارة فوق نهديها، ومن خلفها تظهر الفرقة الموسيقية، وزنوبة تطرقع بالصاجات تغني وترقص: حبك نار يا حبيبي يا وطني! نار يا حبيبي نار!
يتوقف الجنرال متسع العينين. يهتف بكلمات متقطعة: أوه! نو! نو! أنبليفابل !
كلمة أنبليفابل تخرق أذنيه. يهرش رأسه ويلتفت حوله. لا أحد يفهم لغة الجنرال، إلا المدير ورئيس الجيش، والرئيسة تعرف بعض كلمات قليلة، منها «سانك يو»، يخرج الجنرال طرف لسانه، ويقلب حرف السين إلى ثاء، منحنيا أمامها وقبعته في يده: ثانك يو مسز بريزيدانت.
لم يكن يفهم من الكلمات الأجنبية إلا كلمة واحدة هي: نو. مألوفة لأذنه منذ ولدته أمه ترقد القطة إلى جواره وتقول: نو! نو! وأخته أيضا تموء بالكلمة نفسها: نو! نو! تقفز فوق قدم واحدة، تلعب معه الحجلة، وتضحك: نو! نو! تمسك القلم وتكتب في الكراسة حرف النون ثم حرف الواو، لكن الشيخ مسعود يخطف منها القلم. يلسعها على ردفيها بالعصا الخيزران. - امش يا بت يا نفيسة روحي لأمك! - والنبي يا سيدنا الشيخ عاوزة أكتب! - تكتبي إيه يا بت يا مقصوفة الرقبة!
في الليل ينام إلى جوارها فوق البرش. يسمعها تنشج بلا صوت. يدس الكراسة والقلم تحت وسادتها، وحين يلسعها الشيخ مسعود بالعصا يصوب النبلة نحو عمامته. يمسكها بيديه الاثنتين قبل أن تسقط. - تعال هنا يا ولد يا إبليس!
يجري خلفه بالعصا. لا ينقذه منه إلا أمه. تخطف منه العصا. تشوح بيدها المشققة في وجهه. - تضربه ليه يا شيخ مسعود؟ - ولد قليل الأدب ما حدش رباه. - متربي أحسن تربية! - تربية نسوان!
مط شفتيه وهو ينطق كلمة «نسوان» كأنما هو يبصق، ثم استدار وأعطاهما ظهره. عنقه من الخلف غليظة ملتوية إلى الأمام كعنق الديك الرومي. يمشي بخطوة بطيئة والعصا الخيزران تهتز في يده. العمامة ثابتة فوق رأسه، ويظهر العمدة فوق الجسر من حوله الخفر. يلمحه الشيخ مسعود فينكمش عنق الديك ويصبح كالسمسمة. يتقدم نحوه محني الرأس. ينثني فوق يده يقبلها.
أمه واقفة مرفوعة الرأس، وهو واقف إلى جوارها يمسك يدها. يلكزه الشيخ مسعود في كتفه بالعصا: سلم يا ولد على العمدة وبوس إيده.
تشد ابنها من يده وتمشي، وجهها ناحية الشمس وظهرها ناحية العمدة. رأسها مرفوع لا ينحني وعيناها مفتوحتان. شفتاها تتحركان بصوت كحفيف الهواء: إوع تبوس إيد حد ! - بناكل بعرق جبينا! - ما حدش له عندنا حاجة! - إوع تبوس إيد حد!
من فوق جفونه المغلقة يمشي صوتها كالغناء الممدود بامتداد الليل، وهو راقد فوق البرش، وأخته تمد يدها تحت الوسادة. تفتح الكراسة وتكتب اسمها من خمسة حروف: نفيسا، تضحك بصوت عال وتردد: نفيسا يا نفيسا! يا خارجة من التقفيصة! تقفز على قدم واحدة وتلعب الحجلة. عصفورة فوق الشجرة تتطلع إليها ثم تردد: صو! صو! صو! تهز القطة ذيلها وتموء: نو! نو! نو! يغني الأطفال يا وابور يا مسافر على بلدي. يمسك كل منهم بذيل الآخر ويصفر: توت! توت! تقفز الماعزة في الهواء وتمأمئ: ماء! ماء! تتوقف البقرة عن الدوران في الساقية وتقهقه: قه! قه! قه! ترفع الحمارة رأسها نحو السماء. تفتح فكيها وتصدر نهيقا طويلا كالضحك هاء! هاء! هاء! تخرج السحلية رأسها من الشق. تهز ذيلها وعيناها تضحكان.
يتوقف الضحك فجأة. تتلاشى كل الأصوات ويغرق الكون في الظلمة. يغمض عينيه ويخفي رأسه تحت اللحاف. يسمع الصوت ينادي: فين إنت يا إبليس؟
تلكزه العصا الخيزران في كتفه: فز يا ولد اضرب تعظيم سلام.
صوت الجنرال، لكنه يتحدث العربية. يفتح نصف عين ويراه واقفا أمامه. كما كان يراه وهو طفل، مستندا على ضلفة الباب، يرتدي جلباب أبيه الميت، وعمامة الشيخ مسعود. - انطق يا إبليس! - أقول إيه يا رب! - اعترف! - أعترف بإيه؟ - إنت وسوست للجنرال بحاجة؟ - أنا؟ - أيوه أنت أمال مين؟ - أوسوس للجنرال إزاي؟ - زي ما بتوسوس لكل الناس. - الجنرال ما يعرفش عربي! أوسوس له إزاي؟
يخفي رأسه تحت اللحاف. يرن في أذنه صوت طفل يشهق. الشهقة متقطعة كالبكاء. العصا الخيزران تلسع الهواء. صوت متحشرج كصوت رئيس الخفر. يدق الأرض بكعب البندقية: الجهادية يا ولد!
يختبئ منه في الجرن، يتكور حول نفسه كالجنين بين أعواد الحطب. يكتم أنفاسه والدقات تحت ضلوعه تتوقف. لا يسمع إلا صوت عواء ذئب وكلب ينبح، ثم يدب السكون والقمر يخرج من وراء السحابة. يتسلل الضوء الأبيض بين أعواد الذرة الجافة. ذراع طويلة تمتد. لها أصابع خمس. تقبض عليه كأنما هو دجاجة. يرفع عنه جلبابه من الخلف. يشد السروال الأسمر من الدمور، يسقط ضوء القمر فوق ردفيه المرتعشين. ظهره للضوء ووجهه الناحية الأخرى. يخاف أن يستدير. يخاف أن يحرك رأسه ناحيته أو يرفع عينيه إليه. كان كبيرا. أكبر منه، يرتسم ظله فوق الأرض طويلا، وهو طفل يتعلم القراءة. يجلس فوق الحصيرة إلى جوار التلاميذ. يضم ركبتيه تحت الجلباب الدمور، وذراعاه حول صدره.
تلكزه العصا الخيزران: سمع يا ولد الآية!
يغمض عينيه ويلهث. -
ولوطا إذ قال لقومه ... يبتلع ريقه بصوت مسموع ...
إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون .
تلكزه العصا في كتفه. - مش الآية دي يا حمار! سمع آية إبليس!
يغمض عينيه ويفتح فمه. -
وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ... (وابتلع ريقه) وسجدوا جميعا للخليفة الفاسد إلا إبليس. حملق فيه الشيخ مسعود بعينين حمراوين. - الخليفة ما كانش فاسد يا حمار! - أمال مين اللي كان يفسد فيها ويسفك الدماء؟ - إنت بترد علي يا ولد؟ - أنا ...؟ - إخرس!
وانقطع صوته: نظر حوله إلى التلاميذ. التقت عيونهم من تحت سحابة. فوق كل عين نقطة بيضاء وذباب أسود. تلسعهم العصا فوق ظهورهم. عصا الشيخ في الكتاب ثم عصا رئيس الخفر. تجري الموسى فوق رءوسهم. تجتث الشعر. يتكدسون داخل العربة المصفحة. يطلون من وراء القضبان برءوسهم الصلعاء، وجوه طويلة كوجوه العجائز وعيون أطفال متسعة. من خلفهم عربة أخرى مصفحة تطل منها رءوس الخراف المحلوقة في طريقها إلى الذبح، ومن المذياع ينبعث صوت زنوبة يغني: الليلة عيد ع الدنيا سعيد!
تحت الضوء الشاحب يرى وجه زنوبة. ملامحها مألوفة رآها من قبل. بشرتها سمراء شاحبة. تفتح فمها عن آخره وتغمض عينيها. تضرب بقدميها الأرض. ترفس الهواء بذراعيها. صدرها يعلو ويهبط. تلهث. - الليلة عيد! الليلة عيد!
يدق الجنود بكعوبهم الأرض. يرفعون البنادق وعيونهم مغلقة. ينامون وهم واقفون. يصحون من النوم ويهتفون: الليلة عيد! عيد! يا يا يعيش! يا يا يعيش!
يتسلل من تحت اللحاف ويجري فوق قدميه الحافيتين. يجري في المساحات السوداء بلا توقف. من خلفه وقع الأقدام والأصوات تطارده تسقط القبعة النحاسية عن رأسه، والبدلة العسكرية تسقط ومعها السروال. يصبح ظهره عاريا في مهب الريح. رياح الخماسين تلسعه. يبتلع التراب وذرات الرمل، ويرتفع الكرباج إلى أعلى ثم يسقط. لا يسمع إلا صوت الهواء. لا يشعر بالألم، وحين يدخل دورة المياه يرى العلامات فوق ظهره. طويلة ملتوية كذيول السحالي. حمراء بلون الدم. - قول أنا مرة!
يفتح فمه عن آخره ويبصق على وجهه. - يا ابن المرة! - أمي كانت بعشرين راجل!
ورفع رأسه كما كانت أمه ترفعه وشد عضلات ظهره. حملق المدير في وجهه بعينين متسعتين، ثم قرب فمه من أذن الجنرال وهمس: جنون بالوراثة يا فندم!
هز الجنرال رأسه من تحت القبعة. صعد الدم إلى وجهه وامتلأ شدقاه بالهواء: يس! يس! يس (
Yes - Yes - Yes ).
كان يمضغ شيئا بين أسنانه، والقطة إلى جواره تموء وتتعلق بساقيه. تشد سرواله إلى تحت، والمدير يضربها بالعصا الخيزران: بس! بس! إمشي! بس!
يضحك الجنود بصوت مكتوم، كالتلاميذ يخفون أفواههم بأيديهم. يغلقون عيونهم ويفتحون أفواههم يتثاءبون. يمشي الشيخ بين الصفوف. يلسعهم على أردافهم بالعصا الخيزران. ما عدا ابن العمدة، يضحك بصوت عال ملقيا برأسه إلى الوراء كرأس أبيه. - أنا فوق الكل!
يدوي صوته في الجو. يتردد الصدى. - أنا فوق الكل!
تقفز القطة كاشفة عن أظافرها. تموء بصوت حاد، وذيلها طويل يلتوي كذيل السحلية. - نو! نو! نو!
ويهتف الجنود في نفس واحد رافعين البنادق. جلاليبهم بيضاء: نو! نو! نو!
تنطلق صفارات البوليس. تدوي طلقات الرصاص في الجو. يخفي رأسه تحت اللحاف. يسمع الصوت: اطلع يا إبليس! - بريء والله يا فندم! - طول عمرك توسوس يا شيطان. - مش أنا والله يا فندم! - أمال مين يا ولد؟ - دي السحلية يا فندم. - أوه! نو! أمبوسيبل! أنبليفابل! - أيوه يا فندم. - والسحلية تعرف تقول لأ يا ولد؟ - أيوه يا فندم! دي هي أسس المصايب. - إزاي يا ولد؟ - لولا السحلية يا فندم كان زمانا كلنا في الجنة. - أوه! نو! امسكوه ! - بريء والله يا فندم!
وظهرت رئيسة الحكيمات ومن خلفها التمورجية بالحبال. أخفى رأسه تحت اللحاف وغاب في النوم. في أذنيه صفير طويل كالطنين، كالنشيج الممدود بامتداد الليل. - نو نو نو نو نو!
الحب الآثم
من فوق جفونها المغلقة سمعت الصوت. يشبه صوت ابنها الميت واقفا بجوار السرير في الظلمة. شعر رأسه أسود غزير. عيناه سوداوان تطفو فوقهما دمعة لا تجف ولا تسقط، أنفه مستقيم، لا يشبه أنف أبيه.
تمد يدها وتمسك يده. أصابعه طويلة تشبه أصابعها، أنامله دقيقة، يعزف بها، ويغني مع شقشقة الفجر والعصافير تزقزق. تفتح فمها لتغني معه، لكن صوتها لا يطلع. حزام من الجلد مشدود حول صدرها، وجفونها مغلقة. - جنات!
انتصبت أذناها مرهفتين. أهو اسمها؟ كأنما لم تسمعه أبدا. فتحت عينيها ورأت السقف الأجرب المشقق، سقط عنه الطلاء في أجزاء، وظهرت صورة الإله رع له رأس أبيس. عيناه جاحظتان، كأنما لم ترهما أبدا، أو رأتهما كل يوم، اليوم وراء اليوم، السنة وراء السنة، ثلاثين سنة، وهو ينظر إليها بهاتين العينين، وهي داخل جدران من الطوب والإسمنت، وسور عال يحجب الأفق، واقفة في النافذة تنتظر. السماء في الليل خندق أسود، في النهار خندق رمادي، يحوطها ويفصلها عن الناس، وخندق آخر داخل جسمها يفصلها عن نفسها، وحديقة كبيرة تحوط القصر. زهور شاحبة كالباقات في الأضرحة، وممرات طويلة مظلمة بالليل صامتة بالنهار، إلا صوت عجلات تجري فوق الأسفلت وبوق من بعيد، وهي واقفة في النافذة تترقب الغد.
أبوها كان يسميه «الغيب» وأمها تسميه «المستقبل». تراه مفتوحا كالأفق، ومع إشراقة الشمس تجري بين المساحات الخضر، ثوبها برتقالي مليء بالكرانيش، يطيرها الهواء من حولها كالأجنحة، كولة بيضاء مستديرة حول عنقها، في يدها الحقيبة فيها الكراريس والأقلام.
عند ثنية الشارع تتوقف وتستدير. ترى وجه أمها في النافذة يلمع من بعيد كالنجم. ترفع يدها وتلوح لها، على باب المدرسة تلتقي بصديقتها. تلعبان في الفناء الحجلة، وفي حصة القراءة الرشيدة تنشد القصيدة. تسري أبيات الشعر في أذنيها كالموسيقى، وفي الليل تمسك القلم وتكتب الحروف. رسالة حب إلى الرب. - أنت الحب. - أنت نجمة الصباح. - نور القلب.
تمشي بسن القلم فوق الورق. تلمحها جدتها وهي راقدة إلى جوارها. - بتكتبي إيه يا جنات؟ - جواب لربنا.
ترسم الصليب فوق صدرها. أبانا الذي في السماوات اغفر خطايانا! تبلل شفتيها الرماديتين بالماء ثم تضع الكوب فوق الدولاب الصغير. تسميه «الكوميدينو». تقرأ بصوت خافت آية من الإنجيل. تغلق الكتاب وتدسه تحت الوسادة. تغمض عينيها وهي تتمتم.
ثم تفتح عينيها وترمقها بنظرة طويلة. - صاحية ليه يا جنات؟ - مش جاي لي نوم. - نامي يا جنات. - أسمعك قصيدة شعر؟ - شعر؟
تنهدت جدتها تنهيدة طويلة. مدت عنقها المعروق وجذبت نفسا من الهواء، شهيق عميق، طردته بصوت كالصفارة أو الزفير الطويل. مصمصت شفتيها وانقلبت الشفة السفلى فوق ذقنها المتهدل فوق عنقها. - قصيدة شعر؟!
أغمضت عينيها وهمست: أبانا الذي في السماوات. فتحت عينيها، والتقت عيونهما. - نامي يا جنات، إخزي عين الشيطان. - الشيطان؟ - كان جدك يقول عليه شيطان الشعر.
وانفرجت شفتاها عن ابتسامة. تقلص فمها واعوج، ثم اتكأت بكوعها ونهضت. دست قدميها داخل الشبشب. كانت تسميه «البانتوفلي». سارت بخطواتها البطيئة الزاحفة، وضعت شلتة مربعة فوق الأرض وجلست تلهث. مدت ذراعها تحت السرير وأخرجت صندوقا خشبيا طويلا، يشبه تابوت الموتى.
كانت تطل عليها من فوق السرير. تراها ترسم الصليب فوق صدرها. تفتح الصندوق بيد مجعدة ترتعش. تفوح رائحة النفتالين أو الفورمالين كما تسميه جدتها، تخفي رأسها تحت اللحاف. تظن أن جسد جدها ممدد داخل الصندوق، لكنها ترى الفستان الأبيض ذا الكرانيش. الدانتيلا الرقيقة كأجنحة الفراشات. طرحة الزفاف من الشيفون الشفاف. ذيل الفستان طويل يجرجر على الأرض، تطويه جدتها طبقة فوق طبقة. فوق عينها طبقة من الماء كالدموع. لا تجف ولا تسقط. في قاع الصندوق كراسة غلافها أصفر باهت. أطرافها متآكلة. تفتحها وترفعها تحت عينيها حتى تلامس أنفها. تغمض جفونها. تنام وهي جالسة، ثم تفتح عينيها. ترص حبات النفتالين في قاع الصندوق ومعه الإنجيل.
وفي الليل تسمعها تضحك بصوت كالبكاء المتقطع، تردد كأنما تغني لنفسها: النفتالين يأكل العتة، والعتة تأكل الإنجيل ، والنار تأكل العتة، ومين يدخل الجنة؟ أنا! أنا داخلة الجنة! أنا! أنا!
يتحشرج صوتها وهي تعد على أصابعها أنا! أنا! يصبح صوتها مشروخا كصوت جدها تسمعه في الصباح، أنا داخل الجنة وإنتي داخلة النار! أنا داخل الجنة! أنا ... أنا ... أنا ... الجنة ... الجنة ... وإنتي النار! النار! ... فين الشاي؟ الشاي ده بارد! عاوز الشاي سخن! سخن قوي زي النار، زي النار.
ثم يسعل ويبصق في الحوض، يدق الأرض بعصاه. يشفط الشاي من الكوب بصوت عال. يتمخط في منديل أبيض. يلقيه في سبت الغسيل ثم يخرج.
في قاع سبت الغسيل يرقد سرواله الأبيض من البوبلين الخفيف، يشبه سراويل النساء، بلا رجلين، تسميه جدتها «كات». تقبض عليه بأصابعها. تقربه من أنفها تتشمم. تمط شفتيها إلى الأمام. - راح لها إمبارح. - مين يا نينة؟ - واحدة واكلة عقله. - زي العتة؟ - أيوه تمام! - جدي حيروح الجنة والا النار؟ - جدك رايح النار حدف!
تغمض عينيها وتنام. في الحلم ترى جدها يشوى في النار. يدور حول سيخ من الحديد. له رأس يشبه رأس خروف العيد. قبل الفجر يهتز جسدها فوق السرير. تصطك الأعمدة النحاسية. ترى جدتها تنهض. تخرج سروال جدها من سبت الغسيل، تمسكه بإصبعين اثنتين. الإبهام والسبابة، كأنما تمسك صرصارا ميتا. تلقيه في الطشت. تصب عليه الجاز. ترتفع ألسنة اللهيب في الحمام، حمراء طويلة تتلوى كذيول السحالي، وتسمع صرختها من وراء الباب. طويلة كالصفارة، ممدودة بامتداد الليل. - يا هووووووه ...
كأنما كانت تنادي على الإله يهوه. قرأت عنه في الكتاب المقدس. إله البراكين والزلازل. تنادي عليه ليغرق الأرض ويزلزلها. لتقوم القيامة ويأتي يوم الحساب.
من تحتها تحس السرير يهتز. تصطك أعمدته النحاسية. تقول أمها إنها روح جدتها عادت لتنتقم من جدها. تخفي رأسها تحت اللحاف. تمد ذراعها عن آخره فوق السرير. ترتطم يدها بالجدار. لا أحد إلى جوارها. تفتح عينيها. ضوء خافت يدخل من شقوق الشيش. الستارة الزرقاء الشفافة تهتز مع الهواء. السقف مدهون بالبلاستيك والسرير بغير أعمدة نحاسية. سرير عريض دخل البيت مع جهاز العروس.
فوق الجدار صورة تشبه صورة أمها ليلة الزفاف، لكن الفتاة في الصورة لا تبتسم. من حولها ثوب أبيض بلون الكفن. بين يديها باقة ورد شاحبة. كالباقات فوق الأضرحة. إلى جوارها رجل طويل عريض، كتفاه محشوتان. يرتدي بدلة عسكرية. فوق صدره نيشان. أنفه غضروف كبير. - زكريا؟
رن الاسم في أذنيها غريبا كأنما لم تسمعه أبدا، وكأنما كانت تسمعه كل يوم، يوم وراء يوم، سنة وراء سنة، ثلاثين سنة، واقفة في الليل تنتظره. ينكفئ رأسها فوق صدرها وهي واقفة. تعد له العشاء وهي واقفة، تنتظره الساعة وراء الساعة وهو لا يأتي، وإذا أتى تعجل الأكل. بعد الأكل يتعجل النوم، بلا عناق أو مع العناق السريع. كمن يبلع الطعام دون مضغ. يخلع البدلة العسكرية والوسام. يتحسس اسمه الثلاثي المحفور فوق القرص الذهبي. يربت عليه كالطفل، ثم يضعه في الصندوق المبطن بالقطيفة الخضراء. يخلع البنطلون والفانلة. يخبئ السروال الداخلي في سبت الغسيل. يرمقها بطرف عينه. تغمض عينيها وتغيب في النوم. قبل الفجر تنهض. في القاع ترى السروال مكورا حول الإثم.
في الصباح تراه في الصورة واقفا في الصف الأول. عيناه جاحظتان، ويداه معقودتان فوق بطنه. ساقاه مضمومتان كالفتاة العذراء. يتقدم لمصافحة الجنرال. ينحني ثم يتراجع إلى الوراء بظهره، يصطدم ببطن الواقف خلفه. يدوس بكعب حذائه فوق قدمه.
يناديه الجنرال فجأة فيندفع إلى الأمام. ينسى في غمرة الاندفاع أن بينه وبين الجنرال بابا من الزجاج. يصطدم أنفه بالزجاج وينكسر الغضروف ومعه النظارة. يتراجع إلى الوراء بظهره دون أن يستدير. ترتطم إليتاه بباب آخر من الزجاج. يدور داخل علبة زجاجية تسمح بمرور الضوء دون الهواء. عيناه تبرزان في جحوظ أشد. صدره العريض من تحته الدرع الحديدية يعلو ويهبط كالمختنق.
في الصورة ترى وجهه شاحبا من وراء الزجاج. يدور حول نفسه دورة كاملة داخل الباب الدائري. ثم يجد نفسه وجها لوجه أمام الجنرال. - جود مورنينج معالي الجنرال. كله تمام يا فندم! كله أوكي!
لكن الجنرال صامت كالدب الأبيض. شدقاه منتفخان بالهواء. تنفرج شفتاه الحمراوان عن صوت كالفحيح. - أوه! نو! ذا ديفيل !
إبليس في لغة الجنرال كان اسمه «ذا ديفيل» يخرج طرف لسانه وهو ينطق حرف الذال: أيوه «زا ديفيل» يا فندم؟
يقلب حرف الذال إلى حرف الزاء، لكن مترجم الجنرال يطلب منه أن يخرج طرف لسانه من فمه، ويعلن أن الشيطان هو أصل الشر في العالم، وهو الوحيد الذي ركب رأسه وقال «لا» والجميع يسجدون، لا ترتفع لأحدهم عين. - ذا ديفيل!
ويفتح الجنرال كتاب الإنجيل بأصابع بيضاء مملوءة باللحم. يغطيها شعر أحمر اللون. يرسم الصليب فوق صدره العريض من تحت الدرع الحديدية، ثم يفتح فمه عن آخره معطيا الأمر. - كيل ذا ديفيل!
هتف الجنود من ورائه في نفس واحد وهم يطلقون النار: كيل زا ديفيل!
لم يخرجوا ألسنتهم بحرف الذال. التصقت الألسنة بسقف الفم وجفت الحلوق. من فوق العيون طبقة من الماء كالدموع. الوجوه سمراء شاحبة، والجفون أكلها الذباب فوق الجسر. عظام الظهر بارزة عند لوحتي الكتف. تحت البدلة العسكرية علامات حمراء تتلوى فوق اللحم كذيول السحالي. صوت الكرابيج تلسع الهواء. الأنفاس تتلاحق في لهاث سريع. آلاف الأنفاس تلهث بصوت كالهتاف: يسقط! يسقط!
الهتاف يدوي في أذنيها كهدير الشلالات، وهي تجري في الظلمة فوق أربع عجلات. فمها مفتوح وأنفاسها تلهث: يسقط! يسقط!
الصوت يهز السرير من تحتها، والأعمدة النحاسية تصطك. الهتاف يذوب في صوت واحد كالصفارة الطويلة. تشد جفونها لتفتح عينيها لكنها نائمة نوما عميقا. تمد ذراعها عن آخرها حتى الجدار، كان مكانه فوق السرير خاليا، كان هنا منذ لحظة. كان هنا منذ ثلاثين عاما وكان يمكن أن يبقى لحظة أخرى، لكنها لم تستبقه. تركته يمضي خارج حياتها. لم تفتح عينيها لتستبقيه. لم تفتح فمها وتناديه. ثلاثون عاما وهي تقول زكريا. كان يمكن أن ينتظرها لتفتح فمها وتقول: يسقط النظام!
سمعت صوتها بأذنها ففتحت عينيها عن شق صغير، تخشى أن تفتحهما أكثر فينقلب الحلم حقيقة. فوق رأسها السقف الأجرب، سقط الطلاء عن أجزاء منه. صورة الإله «رع» له جسد إنسان ورأس عجل. لمبة كهربية تتدلى من سلك يلتصق به ذباب ميت . باب الغرفة مفتوح. ضوء خافت يتسرب من الممر. تراه يدخل بقامته الطويلة ورأسه المرفوع. شعر رأسه غزير أسود. خصلة واحدة تسقط فوق جبهته. يرفعها بأصابع نحيلة. تلتقي عيناه بعينيها. - جنات؟
يحوطها بذراعيه كأنما هي أمه الميتة. بشرتها سمراء بغير تجاعيد. تلمع تحت الشمس كالنحاس الأحمر، شعرها طويل أسود. يتطاير حولها مع الهواء. تقذفه وراء ظهرها بحركة واحدة. كالفرس الحرة لا يملكها أحد.
نهضت من السرير بحركة خفيفة. جرت فوق قدميها الحافيتين إلى المطبخ. عادت بزجاجة من البيرة المثلجة، وخيار أخضر قطعته على شكل أصابع رفيعة وضعته في كوب طويل به ماء، وصحن من الجبنة البيضاء، قطعتهما بالسكين على شكل مكعبات مستطيلة، وضعت السكين فوق المنضدة إلى جوار الزهرية. زهرة واحدة تتدلى من فوق الحافة. أوراقها منكمشة شاحبة البياض خالية من الدم.
عادت إلى المطبخ على أطراف أصابعها. جاءت بوعاء من الماء. روت الزهرة قطرة قطرة. فوق النافذة تهتز الستارة الشفافة. نسمة هواء طرية قبل الفجر. نجمة الصباح تتألق في الأفق، كعين الأم تلمع من بعيد. تطل من النافذة عليها وهي تمشي إلى المدرسة. تستدير وتلوح لها بيدها. بريق يطفو فوق العين كالدموع. معلقة في السماء لا تجف ولا تسقط، وتمتلئ الزهرية بالماء. الأوراق الميتة تتحرك مع لمسات الهواء. تتفتح الزهرة مع ضوء الفجر. يسري الشفق الأحمر في البياض الشاحب. - جنات؟
وسمعها تضحك، ضحكتها ترن في سكون الليل برنين الفضة. تلقي بشعرها إلى الوراء وتضحك. تحلق الضحكة فوق رأسها كدوائر من الضوء، ثم تصمت فجأة. تطفو فوق عينيها سحابة، في قمة الفرح يتسلل الحزن الراسب في القاع.
تشد عينيها من الأفق وتنظر إليه. عيناه مملوءتان بالضوء. تحوطه بذراعيها كابنها الميت، يرتدي قميصا أبيض من القطن مفتوحا حتى الصدر. تحت إبطه شعر أسود له رائحة الأطفال، وجرح قديم في الظهر، تحت لوحة الكتف. - أحبك.
تسري كلمة «أحبك» في أذنيها غريبة، كأنما تسمعها لأول مرة، وهو جالس أمامها في الشرفة البحرية. يرشف من الكوب بلا صوت. يمضغ الطعام بلا صوت. ملامحه مألوفة كأنما رأتها منذ ولدت. عيناه حين يراها تمتلئ بالبريق كعيني أمها، وصوته يمشي فوق جفونها كالشعاع الدافئ. - أحبك.
تتسع عيناها وتملؤها الدهشة. تسمع الدقات تحت ضلوعها تتراقص. سنابل القمح تهتز بالإيقاع ذاته، وأجنحة الفراشات تصفق باللحن القديم. أذناها مرهفتان تتسمعان الصوت. آلاف الأجنحة تصفق. آلاف الأيدي مرفوعة في الهواء، والهتاف يسري في الكون كهدير الشلالات. - أحبك! أحبك!
الأرض من تحتها تهتز، والسرير من فوق الأرض يهتز. تصطك الأعمدة النحاسية. الجدران الأربعة تتمايل بحركة مرئية، الصورة فوق الجدار تهتز وتسقط. ينكسر الزجاج ويتناثر في الجو كرذاذ المطر. طرحة الزفاف تتطاير ومعها الكرانيش، والدانتلا تحلق في الجو مثل نتف من القطن. زبد أبيض يتراكم فوق السحب.
من وسط المطر والزجاج المكسور تراه يخرج من الصورة - داخل بدلته العسكرية والوسام فوق صدره. يرتدي وجه جدها الميت. له رأس مربع كالدب الأبيض. ثابت في الهواء كأبي الهول. له قمة مدببة كهرم خوفو، وأنفه غضروف مقوس كمنقار النسر.
رأته يمشي نحوها في الظلمة. كان الليل أسود بلا قمر ولا نجوم، إلا نجمة واحدة تغطيها السحب، والهواء ثقيل مشبع بالدخان وذرات الرمل. رءوس الأشجار تلقي ظلالا سوداء فوق الأرض، كالأشباح. عيناه تفتشان عنه بين الأشباح. نظر وراء الشماعة، داخل الدولاب، فوق السندرة. انحنى بجسده كما كان جدها ينحني، وأطل برأسه تحت السرير، وجهه إلى أسفل وإليتاه إلى أعلى كأنما يصلي. - فين إبليس؟
كانت واقفة وراء النافذة كما كانت أمها تقف. عيناها شاخصتان نحو السماء، تتعلقان بالنجمة الوحيدة في الأفق. تغني لها بصوت خافت كالنشيج: يا زهرة يا أم الكون. - يا عالمة بأسرار الكل.
من خلفها ترى صورته منعكسة في زجاج النافذة. بشرته رمادية بلون جبل المقطم. شعر رأسه تساقط. لم يبق إلا ذؤابة طويلة كالريشة يحركها الهواء. عيناه ثابتتان فوق السكين إلى جوار الزهرية. كوبان من الزجاج ينتصبان فوق المنضدة الرخامية. الأرض تهتز ومن فوقها المنضدة، والكوبان يتلامسان بصوت مسموع، له رنين البلور.
أذناها تنتصبان وهي واقفة. ظهرها ناحيته ووجهها ناحية النافذة. الدقات تحت ضلوعها تتصاعد، الكوب يلامس الكوب الآخر بالإيقاع ذاته، كاللحن القديم، وهي تجري بين الزرع الأخضر تسابق الفراشات.
من خلال الزجاج رأت يده تمتد نحو المنضدة. لمع النصل الحاد كالبرق تحت ضوء القمر، سقط الضوء على وجهها مثل الفلاش في الصورة. شاحب بلون الموت داخل فستانها الأبيض.
واستدارت قبل أن تتحرك يده. لم تصبها الحركة إلا بجرح تحت عظمة الكتف. كادت تنفذ إلى القلب، لولا أنها استدارت، وأصبحت أمامه وجها لوجه.
كانت الأضواء مسلطة على وجهه ومن حوله الجنود والأتباع والخدم، والعبيد، ولم يكن لأحد أن يرفع إليه عينيه دون أن تصطك أسنانه، ويسقط صريعا من وهج الضوء.
رفعت عينيها إليه دون أن تصطك أسنانها، دون أن تغمض عينيها. نظرتها ثابتة فوق يده. وجهها في الزجاج كوجه جدتها الميتة، والدم شريط طويل كدم أمها، وهو واقف أمامها طويل عريض. داخل جسد أبيها الميت. - العار لا يغسله إلا الدم.
تقدم نحوها رافعا يده قابضة على السكين. لم تتراجع إلى الوراء. ظلت في مكانها تحملق في وجهه بعينين مفتوحتين، عيناها واسعتان تلمعان. صورته منعكسة في عينيها. لم يكن يرى إلا صورته حين ينظر في عينيها. توقف لحظة يتأمل وجهه، كأنما يراه لأول مرة. الأنف مكسور أفطس، كأنف أبي الهول، والعينان صغيرتان مستديرتان، لونهما أصفر، كعيني السحلية، وبشرته سوداء كوجه إبليس.
تجمد في مكانه لحظة ثم أفاق. أدرك أنه يرى وجه الرجل الآخر في عينيها لا وجهه هو.
ساقطة كأمها وجدتها. كل النساء ساقطات. ناقصات عقل ودين. هكذا قال أبوه. حليفات الشيطان والباب الذي يفتح على الجحيم. هكذا قال جده. أصل البلاء وسبب الخطيئة كما جاء في الإنجيل. كيدهن عظيم كما قال الله في كتابه الكريم.
كان واقفا أمامها كالتمثال. أصابعه حول السكين متقلصة، عيناه مفتوحتان تحملقان في الفراغ. البياض جاحظ كبير، تشوبه صفرة، وشعيرات حمراء متعرجة. «النني» أسود صغير يدور حول نفسه كالبلية.
في دورته حول نفسه لم يرها. كانت واقفة عينها على السكين في يده. مدت يدها في لحظة خاطفة. لمع النصل بوميض البرق، وأصبح السكين في يدها.
تراجع إلى الوراء خطوة. يدها أصغر من يده. عظامها أقل وزنا من عظامه، لكن السلاح في يدها، والأقوى من يمتلك السلاح. - يا ساقط!
انفرجت شفتاه ليرد عليها لكن صوته لم يخرج. أراد أن يقول كأبيه وجده إن الرجل لا يسقط وإن ذهب لامرأة أخرى، لكن المرأة ساقطة بالطبيعة، وإن ارتدت الحجاب وتلفعت بالفضيلة. كان يظن أنها غير كل النساء، وأنه الرجل الوحيد في حياتها، الوحيد بلا شريك، وأنه يفقدها إلى الأبد. لكنه يفقدها الآن. حبه لها يتضاعف لحظة الفقدان. يكاد يلثم يديها يطلب الغفران. أنفاسه تلهث وهو واقف. صدره يعلو ويهبط. فوق صدره يهتز القرص الذهبي ويلمع تحت الضوء. اسمه الثلاثي محفور كالنقش. حروف متعرجة مشرشرة وسوداء، أ. ل. س. ي. د. ز. ك. ر. ي. ا. ا. ل. ع. ب. د. - السيد زكريا العبد؟
اسمه الثلاثي يتمدد أمام عينيها غريبا، كأرجل الخنافس الميتة، كأنما تراه لأول مرة. السيد؟ والعبد؟ في آن واحد؟ يرن في أذنيها صوت جدها الميت. - أنا سيدك وعبد المأمور.
تخفي رأسها تحت الغطاء. جدتها إلى جوارها تلهث. أعمدة السرير النحاسي تهتز. تلف حول رأسها منديلا أسود. تضع الإنجيل تحت الوسادة. تغلق عينيها وشفتاها تتحركان. تتمتم بلا صوت: تزحفين على بطنك إلى الأبد وهو يسود عليك.
تطل بنصف عين من تحت اللحاف. تلتقي عيناها بعيني جدتها المفتوحتين: المأمور مين يا نينة؟ - رئيس جدك في الشغل. - ليه اسمه المأمور؟ - له رئيس فوقه يأمره. - ومين الرئيس فوقه يا نينة؟ - المحافظ. - ومين فوق المحافظ يا نينة؟ - الوزير. - ومين فوق الوزير يا نينة؟ - الملك. - ومين فوق الملك يا نينة؟ - الخواجة الجنرال. - ومين فوق الجنرال يا نينة؟ - ربنا.
ترسم جدتها الصليب فوق صدرها. أبانا الذي في السماوات اغفر خطايانا.
ومن وراء الباب الزجاجي ترى ألسنة النار تتصاعد حتى السقف. جدتها راقدة فوق بلاط الحمام. عيناها مفتوحتان وشفتاها مطبقتان في صمت. الصمت يدوي في أذنيها كهدير الشلالات. آلاف الأصوات تهتف: يسقط! يسقط!
مع حركة شفتيها وهي تهتف ارتفعت يدها في الهواء، ثم سقطت السكين فوق القرص الذهبي. انشق القرص نصفين، وتناثرت حروف الاسم الثلاثي كذرات الرمل. انشقت الدرع الحديدية من تحت القرص. ودخل النصل في قطعة كالحجر لها شكل القلب. خرج منها يلمع تحت ضوء القمر. نظيفا أبيض، بلا قطرة واحدة من الدم.
أخفت رأسها تحت اللحاف. كانت تظنه من بني آدم، له جسد من لحم ودم، لكنه كان تمثال الإله رع أو الملك رمسيس، اشتراه أبوها بجهاز العروس، وقبض منه المهر. - جنات.
سمعت صوت الرئيسة يناديها. أخرجت رأسهما من تحت الغطاء. رأتها واقفة داخل ثوبها الأبيض. رأسها ملفوف بالطرحة البيضاء. فوق صدرها قرص ذهبي يلمع، وحروف محفورة، مشرشرة سوداء كأرجل الخنافس الميتة. ر. ئ. ي. س. ة. ا. ل. ح. ك. ي. م. ا. ت.
أخفت رأسها تحت اللحاف. - عارفة أنا مين يا جنات؟ - إنت الرئيسة. - لا أنا نرجس. - نرجس مين؟ - مش فاكراني! - لأ. - بأمارة ما كنا بنلعب الحجلة. - الحجلة مين؟ - مش فاكرة المدرسة؟ - مدرسة مين؟
والشيخ بسيوني؟ - شيخ مين؟ - مش فاكرة حاجة خالص؟ - لأ.
كان المدير جالسا إلى مكتبه من وراء الزجاج. داخل معطفه الأبيض، شعر رأسه تساقط إلا ذؤابة بيضاء. انفرجت شفتاه عن ابتسامة. كشفت عن أسنان مشرشرة صفراء. أخرج قلمه من جيبه العلوي. كتب فوق ورقة طويلة متآكلة الأطراف. - فقدت الذاكرة واكتمل الشفاء. تخرج غدا قبل صلاة الفجر.
طوى الورقة بين أصابعه أربع طيات، ثم تذكر الختم. لا يمكن لأي ورقة أن تصبح أمرا واجب الطاعة إلا بالختم. قطعة مستديرة من الحديد أو الزنك لها يد كالمطرقة. يخرطها الحداد، يرسم عليها صورة الإله «رع»، له كالنسر منقار مقوس.
أمسك المطرقة بإصبعين اثنتين، الإبهام والسبابة. مط شفتيه مغمضا عينيه. تمتم بصوت هامس في نفس واحد: الله الملك الوطن، ثم دق بالمطرقة فوق الورقة. ناولها للرئيسة داخل مظروف مغلق بالشمع الأحمر.
لكن الرئيسة لم تمد يدها لتأخذ الأمر. ثلاثون عاما وهي تمد يدها وتأخذ الأمر. ثلاثون عاما وهي تقف أمامه محنية الرأس، لا تقوى على أن ترفع عينيها إليه.
رفعت رأسها وحملقت في عينيه. كانتا جاحظتين كعيني جدها الميت. - مالك يا بت واقفة زي الصنم؟ - اسمي نرجس مش بت؟ - من إمته؟
رفع يده ولسعها بالعصا فوق نهدها. - من إمته يا بت؟ - من النهاردة! - جهزي البيرة والمزة. جايلك الليلة! - أنا ماشية وسيبالك الدنيا. - حتروحي فين؟ عندك راجل تاني؟ - كرهتك وكرهت كل الرجالة. - بقيت تحبي الستات؟ - أيوه. - حتروحي النار مع قوم لوط. - لأ يا سعادة البيه. - السحاق حرام يا ست الريسة! - لأ يا بيه! لم يرد ذكره في كتاب الله. - يا ساقطة!
ارتفعت يده عاليا حتى لامست السقف ثم هبطت فوق وجهها. دارت بها الأرض دورة كاملة. الجدران الأربعة دارت. جسد المدير دار مع الأرض. رأته واقفا على رأسه، قدماه ناحية السقف. انقلب مكتبه وارتفعت أرجله الأربع في الهواء. الأشجار من خلال النافذة أصبحت رءوسها إلى أسفل، والسماء سقطت فوق الأرض. سيارات البوليس تجري فوق الأسفلت وعجلاتها إلى الأعلى. والترام، والقطارات خرجت عن القضبان وانقلبت، وهرم خوفو أصبح رأسه إلى أسفل وقاعدته إلى أعلى. الصفارات تدوي، والأجراس تدق. أجراس كنائس ومدارس، وأصوات كالأجراس من فوق المآذن. ومارشات عسكرية. صراخ النساء وزغاريد كالصراخ. ابتهالات الشحاتين ونداءات باعة الصحف. الأبواق والميكروفونات فوق الجدران والأعمدة. مارشات عسكرية وانفجارات الصواريخ. رذاذ أحمر كالمطر يملأ الجو. رائحة بارود ونفط يحترق. الهواء ثقيل مشبع بالدخان، شبورة كالضباب الأسود تغلف الكون. - يا ساقطة!
الصوت من خلفها يدوي وهي تجري. قدماها تتأرجحان فوق الكعب العالي. رفيع مدبب يطرقع فوق البلاط. جسدها يهتز. تكاد تسقط. تخلع الحذاء وتلقي به خلف ظهرها. تجري حافية فوق الممر. من خلفها الصوت يطاردها كالصفارة الطويلة الممدودة آلاف الصفافير، وهي تجري بلا توقف. الطرحة حول رأسها تتطاير في الهواء. أطرافها تلتف حول عنقها تكاد تخنقها. أنفاسها تلهث، تفك الطرحة عن عنقها، تخلعها عن رأسها، تقذف بها في الهواء. تخلع المشد المطاط من حول ردفيها. تتركه يسقط عن ساقيها ثم تقذفه بقدمها. - يا ساقطة!
الصفارات من خلفها تدوي وهي تجري. فوق صدرها قرص ذهبي ثقيل . يعلو ويهبط مع أنفاسها. يحتك بنهدها. تشده بأصابعها. تخلعه من الدبوس، وتطرحه بعيدا. تقذف بكل ما في جيوبها في الهواء. الإبرة، الصفارة، القروش، التقارير، قصاصات من الورق تتطاير حولها وهي تجري. جسمها يخف ويخف. فوق عينيها طبقة من الدموع الجافة. ثلاثون عاما من الحزن. من تحت السطح ترى البريق. كعيني امرأة أخرى تفرح بالخلاص. تفتح ذراعيها وتعانق الهواء. قدماهما لا تلمسان الأرض. الطريق مفتوح أمامها حتى الأفق. مساحات من الزرع الأخضر ممدودة بلا نهاية وهي تجري كالفراشة البيضاء. تصفق بجناحيها وتطير. إلى جوارها فراشة أخرى بيضاء. تحلقان معا في الجو. تضحكان بصوت الأطفال وتتعانقان.
وفجأة يدوي الصوت كطلقة الرصاصة. تتهاوى الفراشتان إلى الأرض. يدب الصمت في الكون. يتوقف الهواء عن الحركة. رءوس الأشجار ثابتة. شعاع الشمس مائل عند الغروب. يهبط من وراء السحب بحركة كسولة. ورقة شجرة خضراء تلمع تحت الضوء وتنتفض. من فوقها تتساقط قطرات بطيئة. قطرة وراء قطرة. حمراء بلون الدم. مسموعة بالأذن. دقة وراء دقة. في إيقاع منتظم كنبض القلب.
نفيسة تكف عن النداء
في عنبر الحريم كانت راقدة، ومن فوق جفونها المغلقة مشى الصوت ناعما كاللحن، والسرير يهتز من تحتها بالرقص. الدقات تحت ضلوعها لها الإيقاع ذاته، وهي ترقص في المساحات الخضراء الممدودة حتى الأفق. سنابل القمح تهتز مع النغم. العصافير ترفرف فوق الشجرة وتغرد. الفرس تدق الأرض بإيقاع المارش العسكري. الماعزة تمأمئ بصوت كالضحك، والبقرة توقفت عن الدوران في الساقية، وقهقهت. رفعت الحمارة رأسها بنهيق كالشهيق العميق. أخرجت السحلية رأسها من الشق ولمعت عيناها بالضحك. شعاعات الشمس تتراقص مع موجات النيل. زعانف النخل وأوراق الشجر تنتفض مع حركة الهواء. نوارات القطن تتفتح كالزبد الأبيض يغرق الأرض. صوتها وهي تغني يحلق حول رأسها كدوائر من الفضة. قدماها الحافيتان تدبان فوق الأرض. ساقاها طويلتان مسحوبتان إلى أعلى تحت بدلة الرقص. نهداها وكتفاها يتحركان مع ذراعيها وساقيها، والصاجات تطرقع بين أصابعها. - حبك نار يا حبيبي نار! نار يا حبيبي! نار!
صوتها يرن في أذنيها يشبه صوت خالتها زنوبة . كانوا يسمونها في الكفر الغازية أو العالمة. كلمة «العالمة» من الفعل الماضي «علم» والمضارع يعلم، فهو عالم أو عليم، وفي الليل تسمع جدها يهمس لنفسه: يا عليم، وفي النهار ترى خالتها زنوبة جالسة وسط الرجال، تدخن الشيشة وتنفث الدخان في وجه العمدة. يضحك العمدة ملقيا رأسه إلى الوراء والرجال ينادونها: يا عالمة. بيتها من الطوب الأحمر يرتفع عن بيت العمدة بمترين، ويعلو فوق بيت الله بثلاثة أمتار. تحرك ذراعيها وساقيها أمام العمدة وتضرب الهواء. لا تخاف أحدا. لا الملك ولا الرئيس ولا الجنرال. تدق الأرض وترفع صوتها بالغناء، والكل يهتف باسمها، زنوبة العالمة. تلمع عيونهم «والنني» يتذبذب وسط البياض. قلوبهم تدق تحت الضلوع. رهبة تمتزج بالشبق، فهي العالمة بإسرارهم، وعالمة بالغيب أيضا. كشف الله عنها الحجاب. تقرأ الفنجان والطالع. تفك خطوط الكف. تعرف لغة القواقع والودع. تعاشر أرواح الجان وجنيات البحر، وفي ليلة الزفاف تجعل البشكير يغرق في الدم، وإن كانت العروس أرملة منذ قرن أو قرنين.
نار يا حبيبي! نار!
في الليل وهي نائمة تحلم أنها أصبحت مثل خالتها زنوبة. تمشي في الطريق ممشوقة الجسم مرفوعة الرأس، تنظر إلى الناس بكل عينيها. لا يطرف لها جفن. لا ينحني لها ظهر. صوتها كالزغرودة يجعل النسوة يزغردن، والرجال يضحكون والشمس تطل من وراء السحب، والكون يمتلئ بالضوء، وصوتها ناعم كصوت أمها حين تناديها. - نفيسا.
رن الاسم في أذنيها غريبا. كاسم امرأة أخرى وهي راقدة في بطن الجسر. تخفي رأسها بيدها والصوت يخترق أذنيها. ليس صوت أمها ولا خالتها زنوبة. فيه حشرجة كصوت شيخ الحفر. - نفيسا.
فتحت نصف عين وأطلت برأسها، رأت العمدة يتمشى فوق الجسر. داخل قفطان من القطيفة. فوق رأسه طرحة بيضاء. مربوطة بحزام أسود. من حوله الخفر والجنود يحملون البنادق. ينادونه صاحب الجلالة. يمشي على مهل برأس مرفوع والطبول تدق. تحت إبطه كتاب الله. يتقدم بخطوات بطيئة نحو المنصة. ينثني بجذعه ويصافح الجنرال. كانوا يسمونه في الكفر الخواجة. يرتدي بذلة عسكرية وحزاما من الجلد حول وسطه. وجهه أبيض مربع كوجه الدب. شدقاه منتفخان بالهواء. تحت إبطه الإنجيل.
تعزف الموسيقى السلام الوطني. تسلط كشافات الضوء على الوجهين فوق المنصة. يحترق الماغنسيوم بضوء الفلاش الأبيض. ترتعش عضلة تحت عين صاحب الجلالة اليمنى. وجه الجنرال ثابت في الهواء كرأس أبي الهول. ينظر بطرف عين إلى جلالته. يخرج كتاب الله من تحت إبطه. يفتحه بإصبعي الإبهام والسبابة. يقرأ آية إبليس ثم يغلقه. يقبله ظهرا لبطن ثم يضعه تحت إبطه. ينظر بطرف عينه إلى الجنرال. يخرج الجنرال الإنجيل من تحت إبطه. يفتحه بإصبعي الإبهام والسبابة. يقرأ آية الشيطان ثم يغلقه. يضعه تحت إبطه دون تقبيل.
تعزف الموسيقى المارش العسكري. يعلن الجنرال الحرب. يلقي خطبة طويلة بلغة أجنبية. يترجمها صاحب الجلالة إلى العربية فتصبح أكثر غموضا. يردد كلمة لم يسمعها الناس من قبل، كالحروف المتقطعة. - زا دي فيل.
ينظر أهل الكفر بعضهم إلى بعض. يهمس أحدهم في أذن الآخر: يقصد «فيل» جنينة الحيوانات؟
لكن الجنرال يصحح الكلمة. يخرج طرف لسانه الأبيض بين شفتيه الحمراوين: ذا ديفيل!
لكن صاحب الجلالة لا يستطع أن يخرج طرف لسانه من فمه. يطبق شفتيه ويحملق بعينين خاشعتين نحو السماء. يعلن الخواجة الحرب. يلقي خطبة عن السلام بلغة أجنبية. يترجمها صاحب الجلالة إلى العربية فتزداد غموضا.
ينظر أهل الكفر بعضهم إلى بعض. عيونهم نصف مغلقة. ينامون وهم يسمعون الخطب. ترتفع أنفاسهم بالشخير وتعلو على الأصوات الأخرى. يفتحون عيونهم حين يبدأ الطرب. تطرقع الصاجات مع رقصة الحب. - حبك نار يا حبيبي! نار! نار!
يهزون رءوسهم ويتمايلون مع جسد زنوبة، هاتفين في نفس واحد: نار يا حبيبي نار!
الكل يهتف، والكل صامت، والصمت يدوي في أذنيها كهدير الشلالات، والهدير يذوب في صفارة واحدة خافتة كالنشيج، وهي تجري في الظلمة تخفي ردفيها بيديها الاثنتين. العصا الخيزران تلسع الهواء. لسعة وراء لسعة. علامات حمراء فوق لحمها العاري، تتلوى كذيول السحالي. صوت الشيخ مسعود ينفخ: سمعي يا بت آية إبليس.
تجري، ظهرها ناحيته ووجهها للريح. تتخفى من العيون في عبارة الليل. تركب قطار الفجر من الكفر إلى البندر. جسدها يهتز مع اهتزاز القطار. العجلات تطرقع فوق القضبان. الشبابيك مكسورة تطقطق بالإيقاع ذاته. جالسة فوق مقعد خشبي فوق ركبتيها حقيبة من الدمور، شعرها الأسود يطيره الهواء. القطار يصفر والدخان يملأ أنفها وفمها. موجات من الضوء الأصفر تمر فوق الوجوه الشاحبة. عيون صفراء تحملق في نهديها. ترفع الحقيبة وتخفي صدرها. أمامها طفلة كانت معها في المدرسة. ترتدي مريلة برتقالية فيها مربعات صغيرة. كولة بيضاء حول العنق. ترمقها بعينين تلمعان بالبريق. لأول مرة تركب قطارا، ولأول مرة ترى الأشجار والبيوت تجري إلى الخلف. النبض تحت ضلوعها يدق مع دبيب العجلات. صوتها يعلو فوق صفارة القطار. - اسمك إيه؟ - جنات.
نطقت كلمة «جنات» بصوت كالغناء. ناعم كشعاع الشمس في الشتاء، تحسه فوق جسدها دون أن تلمسه. يبدد الغربة. يملأ الكون بالدفء. تلقي بشعرها إلى الوراء وتضحك. ضحكتها تعلو فوق رأسها كدوائر من الفضة فوق ركبتيها كراسة غلافها أخضر. ورقها أبيض شفاف. فوق السطر حروف بالقلم. السطر وراء السطر وهي تنشد بصوت كحفيف الهواء: أنا جنات. - وأصلها جنان. - جمع جنة. - أنا وردة. - ونادرا ما تخرج من الصحراء وردة. - أنا جوهرة. - ونادرا ما تنشق الأرض عن جوهرة.
عيناها مرفوعتان وصوتها يسري في عروقها كتيار من الدم. كبرياء واحدة من بنات جنسها تكفي، تملأ صدرها بالهواء. تلقي رأسها إلى الوراء وتضحك. تحلق في السماء كاليمامة. ترفرف بجناحيها وترقص. - بتحلمي بإيه يا نفيسة؟ - عاوزة أكون عالمة.
فوق حجر الهرم تراها تكتب اسمها جنات الشاعرة، وإلى جوارها تكتب نفيسة العالمة. تضع قدمها فوق الهرم، والقدم الأخرى في الهواء، ثم تطير فوق المدينة. لا تريد شيئا من الدنيا سوى أن ترقص. تحرك ذراعيها وساقيها في الهواء. تصنع رقصتها هي لا رقصة خالتها زنوبة. جسمها تحفر عليه اسمها نفيسة. لا تريد اسما آخر وإن كان اسم الملك. لا تريد أن تكون زوجة العمدة ولا حرم الرئيس أو صاحب الجلالة. تريد أن تكون نفيسة، عالمة العوالم. تتألق في السماء كنجمة الصباح، تطبع بصمتهما فوق وجه الكون. تعزف الموسيقى وترقص : أنا كوكب الزهرة. - ثابتة في الأفق. - لا أسقط ولا أنطفئ. - أنا نفيسة ابنة أمي حزينة.
تمتلئ عيناها بالدموع من تحت بريق الفرح. ترى أمها واقفة في الظلمة. ظهرها لها ووجهها ناحية النافذة واقفة طوال الليل منتصبة القامة. رأسها لا يسقط فوق صدرها. تنام وهي واقفة. صوتها ممدود في الليل كالنشيج. - فين ولدي يا زهرة يا أم العدل والرحمة.
يسري الصوت فوق جفونها المغلقة وهي راقدة فوق البرش. تمد ذراعها عن آخرها حتى تلامس الجدار. مكانه إلى جوارها خال. الخواء يمتد ويشمل الكون، كان يرقد وذراعه تحت رأسه كالوسادة. شعره أسود غزير. أنفاسه لها رائحة الأطفال. شارب خفيف نبت فوق شفته العليا. بشرته سمراء بلون بشرتها. أصابعه طويلة رفيعة كأصابعها، شفتاه منفرجتان قليلا وعيناه مغلقتان. ينقلب على الجانب الآخر فينزلق الغطاء عن ظهره. تمتد يد أمها في الظلمة وتغطيه. الريح تصفر من بعيد بصوت كعواء الذئب. أوراق الشجر تتساقط. ذرات تراب ورمل ودخان يملأ الجو كالشبورة. رذاذ المطر يدق النوافذ. تشرئب بعنقها من تحت الغطاء. الريح تصمت والمطر يتوقف. سكون يسبق العاصفة. شيء مخيف في الغيب. الدقات تحت ضلوعها تتصاعد. صدرها يعلو ويهبط. أنفاسها تلهث. أذناها منتصبتان تترقبان.
ثم تسمع الدقات فوق الباب. كعب حديدية تدق الأرض. صوت شيخ الخفر يمزق الصمت. متحشرج كصوت الشيخ مسعود: فين إبليس؟
يلكزها في كتفها وهي متكورة فوق البرش: فين أخوكي يا بت؟
يركلها في بطنها ببوز الحذاء. تمسك طوبة وتقذفها في عينه. يهجمون عليها كالجراد. يحملونها داخل سيارة مصفحة. في المرآة الأمامية ترى وجهها طويلا شاحبا كوجه أمها، حول عنق المرآة تتدلى سبحة صفراء. فوق الرف أمام عجلة القيادة مصحف مذهب داخل صندوق من القطيفة الخضراء، وصندوق من مناديل ورق وردية (كلينكس). تشد منها ورقة تمسح العرق. يرمقها السائق بطرف عينه. رأسه محلوق من فوقه طاسة نحاسية. يدوس بإصبعه على زر أسود. يخرج صوت خشن يرتل القرآن. -
وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ...
يدوس بإصبعه على زر آخر. ينقطع القرآن وينطلق صوت مطربة تغني: نار يا حبيبي نار!
يهز رأسه ويغني معها: نار يا حبيبي نار، يمد ذراعه نحوها. جالسة ملتصقة بباب السيارة. متكورة حول نفسها داخل جلباب أبيض من القطن. شعرها مربوط بشريط أبيض.
تحس إصبعه يمشي فوق ساقها اليسرى. ناعما كذيل السحلية. يزحف صاعدا فوق الركبة. قبل أن يصعد أكثر تمتد يدها وتقبض عليه. يدها الأخرى تخلع فردة الحذاء. من الجلد القديم والكعب مربع سميك. تخلعه دون أن تفك الرباط. واسع أكبر من قدمها. كان أخوها ينتعله ويذهب إلى الكتاب، وهي تمشي بجواره حافية. تلسع الأرض بطن قدميها. يخلع فردة ويعطيها لها. تقفز فوق قدم واحدة داخل الحذاء. القدم الأخرى عارية في الهواء. يلعب معها الحجلة، قدمه عارية مثل قدمها، والقدم الأخرى داخل الحذاء. يقفزان معا ومن حولهما الأطفال يضحكون.
ترن ضحكتها في أذنها وهي تدب فوق الأرض بقدم واحدة. ترفع القدم الأخرى في الهواء، ثم تدق بها الأرض. دقة وراء دقة مع إيقاع الطبلة، والدقات تحت ضلوعها تتصاعد باللحن ذاته. - لب دب لب دب لب دب ... - أنا نفيسة بنت أمي حزينة ... - وخالتي زنوبة كوكب الكفر ...
ثم ينقطع الصوت ويدب الصمت. يهرب الدم من وجهها. تختفي الشمس وراء شبورة كالدخان. يطل وجه الشيخ مسعود من الضباب. تسمع صوت العصا الخيزران تلسع الهواء، والهواء يلسع ردفيها العاريتين. علامات حمراء ترتسم فوق جسدها، تتلوى كذيول السحالي.
واقفة وجهها للجدار وظهرها ناحيته. لم تكن تستطيع أن تستدير وتنظر إليه وجها لوجه، لكنها هذه المرة استدارت. من تحت الطاسة النحاسية رأت الوجه. مربع أبيض بلون الموت. شدقاه منتفخان باللحم. كتفاه محشوتان داخل بدلة عسكرية. قرص من الصفيح يلمع فوق صدره.
قذفته بفردة الحذاء وفتحت باب السيارة. خرجت تجري حافية في الظلمة. تتخفى بين ظلال الشجر. تلم ثوبها حول نهديها. تكتم أنفاسها بيدها. تسند جسمها إلى جذع شجرة.
من فوق جفونها المغلقة تسمع الدقات تحت ضلوعها. تدوس بيدها على قلبها. ضوء القمر يسقط عليه وهو يمشي نحوها. ظله طويل أسود يرتسم فوق الأرض. رأسه مربع تحت القبعة النحاسية. قدماه حديديتان يدوس بهما على الزرع الأخضر. تسمع صوت ورق الشجر يتكسر تحت حذائه. رياح الخماسين من بعيد تعوي بصوت الذئاب. ذرات تراب تملأ الجو كالشبورة. ترفع وجهها إلى السماء. - يا رب!
لا أحد يرد في السماء، وهي تجري وحدها في الليل. الهواء يطير الشريط الأبيض من حول شعرها - يخلع عنها ثوبها حتى الوسط. تشده بيديها وتخفي بطنها وفخذيها. ترمق نجمة الصباح وتنادي أمها، لكن أمها ماتت في الكفر، وأخوها أخذوه في الفجر، وهي تمشي بجوار شط النيل. تمد ذراعيها أمامها مغمضة العينين. حول عنقها سلسلة يتدلى منها مصحف صغير من الذهب. شارع النيل تظلله أشجار الكافور. عوامة كبيرة ترقد بجوار الشاطئ. لمبات النيون تنعكس فوق المياه. ضحكات تطرقع في الجو ومعها الصاجات. - نار يا حبيبي نار!
رائحة الشواء تملأ أنفها. تجلس على الشط تتشمم الأكل أمامها الطريق تنزلق عليه السيارات. كشافات الضوء تسقط فوق وجهها. كشاف وراء كشاف. يظهر وجهها ويختفي يظهر ويختفي. لونه أصفر حين يظهر، وأسود حين يختفي. عيناها واسعتان تحملقان في الضوء. مقلتان سوداوان بلون الليل. مشتعلتان بالجوع.
فوق الرصيف فتاة راقدة داخل جلباب أسود، متكورة كالجنين داخل الرحم. بين ذراعيها طفل مولود يرضع ثديها. قطة مولودة ترضع الثدي الآخر. صفيحة قمامة راقدة فوق جنبها. كلب صغير يقضم قطعة عظم. يجري فوق ثلاثة أرجل ويعرج. يرفع رجله الخلفية ويبول فوق الجدار.
تنهض وتمشي نحو الصفيحة. خطوتها بطيئة عرجاء. يرمقها الجرو بعينين منكسرتين. تطفو فوقهما طبقة من الماء. «النني» الأسود يهتز، لكن الدمعة ثابتة. لا تجف ولا تسقط، يقترب منها ويترك أمامها قطعة العظم. تربت على رأسه وتتركها له. تقرب فمها من أذنه وتهمس. يتشمم عنقها، يداعب السلسلة الذهبية برجله الأمامية. صدرها تحت الجلباب يصعد ويهبط. من فوقه المصحف الذهبي يهتز. تشده من السلسلة وتضعه بين أسنانها.
تمشي نحو باب العوامة. من وراء الزجاج ترى أسياخ اللحم تشوى على النار. يهشها الرجل بيده كما يهش الذباب. تمد له يدها بالمصحف الذهبي. يمسكه بإصبعي الإبهام والسبابة. يفحصه من الظهر والبطن. يرنه فوق الرخام. يضعه في كفة الميزان، وفي الكفة الأخرى قطعة من اللحم المشوي.
تمشي بجوار الجدار تأكل. من خلفها الجرو يعرج، تناوله قطعة صغيرة. يلتقطها بفمه ويهز ذيله. يرفع رجله الخلفية. يبول فوق الجدار. الجدار عال تعلوه الزينات والأعلام، وصورة زنوبة عارية داخل بدلة الرقص. تدق بقدمها الحافية الأرض. تهتز الأرض ومن فوقها المقاعد، والأجساد داخل المقاعد تهتز، والرءوس الحليقة تهتز، تسقط عليها القبعات والعمائم والطواقي والعقالات والطرابيش، والطراطير التي توضع فوق الرءوس في الأعياد، والوجوه الملونة من الكرتون في الحفلات التنكرية، في الوسط مقعد مذهب له مسند عال. الوجه مربع أبيض. فوق الرأس طرطور يشبه القمع تعلوه ريشة. من خلفه خادم أسود طويل يرتدي نظارة سوداء. ترفع زنوبة قدما في الهواء ثم تدب بقدمها الثانية فوق الأرض. تهتز الريشة ومن تحتها القمع. يمد الخادم يديه الاثنتين ويثبت القمع فوق الرأس.
دائرة من الضوء تتحرك مع زنوبة. نهداها عاريان تحت بدلة الرقص. فوق كل نهد دائرة من الخرز الأسود. ساقاها طويلتان مشدودتان مسحوبتان إلى أعلى حتى البطن. حول السرة دائرة من الخرز الأزرق. فوق جبهتها قرص ذهبي أحمر. عيناها مقلتان مشتعلتان. تدب بقدمها فوق الأرض كالأسدة (مؤنث كلمة أسد). - نار يا حبيبي! نار!
يهتز المقعد ذو المسند العالي. يسقط الطرطور قبل أن تمتد يد الخادم. يطيره الهواء كالبالونة. يحلق فوق الحديقة الكبيرة. يجتاز السور العالي، ثم ينفجر كالبالونة ويسقط فوق الشط.
يجري إليه الجرو يمسكه بين أسنانه. تتجمع حوله الكلاب الضالة، والأطفال يتجمعون ينظرون بعيون واسعة يغطيها الذباب. أردافهم عارية. تلسعها العصا الخيزران. - امشي يا وله إنت وهو من هنا!
صوته يشبه صوت رئيس الخفر، والشط يشبه الجسر في الكفر، لكن الشارع مرصوف بالأسفلت، ولمبات النيون معلقة فوق الأعمدة، وفوق كل عمود صورة، واحدة متكررة والوجه واحد. يطل من الإطار المذهب. مربع الرأس يشبه الملك رمسيس. له قرنان يلتويان إلى الأمام كالإله رع. - نفيسا.
من فوق جفونها المغلقة رن الاسم. غريبا ومألوفا. يشبه اسمها. تخفي رأسها تحت اللحاف من القطن. له غطاء أحمر من الساتان. الوسادة غطاؤها أبيض. تعلوه بقع سوداء بلون الكحل. حول عينيها دوائر مرسومة بالقلم. تذوب في الليل مع قطرات العرق، وخيط من الماء الشفاف ينساب من زاوية العين. نهداها مضغوطان داخل مشد من المطاط، «الأستيك». حول كل نهد سلسلة من الخرز، شفتاها مصبوغتان بالبوبة الحمراء، وفوق كل خد بقعة مستديرة بلون الدم. - نفيسا يا نفيسا. - يا بنت الإبليسا. - يا مشعللة النار - في قلوب الكل.
متخفية تحت الغطاء لا تطل عليهم. تعرف وجوههم دون أن تفتح عينيها. رءوسهم صلعاء تفوح منها رائحة كولونيا. ذقونهم ناعمة محلوقة بالموسى. أنفاسهم لها رائحة النفط المحروق. يخفون عيونهم وراء زجاج أسود. يجلسون في غرفة الانتظار يتلمظون. أنوفهم منتصبة الشعيرات، تهتز مع الهواء، كشوارب القطط تتشمم الشواء. يموءون تحت يديها بالوجع. يغرز أحدهم أسنانه في عنقها من الخلف، يقضم قطعة لحم. يملأ أذنها بكلمات نابية. - يا ساقطة!
تسد أذنيها بقطع من القطن. تحمل عنهم عبء الإثم. يتراكم الإثم تحت ضلوعها كالورم. يدفعون لها ثمن الدواء، ووجبة عشاء لطفلها. ترفع وجهها نحو السماء تخاطب الله: يا رب. تبدو لمن يراها أنها تكلم نفسها. تلكزها العصا في كتفها. - مخاطبة الرب ممنوعة يا نفيسا. - والرب لا يخاطب الأنثى يا نفيسا. - يا خارجة من التقفيصا يا نفيسا.
في ظلمة الليل تهرب. لا تعرف أين تذهب. حتى الرب أصبح ملكا لهم. يبنون له البيوت بالطوب والإسمنت المسلح. يحبسونه داخل جدران عالية ونقوش فوق الحجر. داخل أغلفة من الجلد وورق المطبعة، وحروف مصبوبة من الرصاص، وهي لا تفك الحرف، ولا تملك ثمن الكتاب، ويتراكم الإثم وراء الإثم تحت ضلوعها. تحسه بيدها ينهض كقطعة من القلب. تحمله فوق صدرها كالطفل وتمشي. تمشي في النهار والليل. تنام وهي تمشي. عيناها فوق الطريق حتى نهاية الشط، بيت أمها في الكفر. رائحة الخبيز والحليب. ذرات التراب والروث. جلباب أمها مكوم فوق الفرن. تفوح منه رائحة الدم. فوق الأرض أوراق شجرة ميتة، وكراسة باهتة أكلت أوراقها العتة. روح جدها الميت واقفة بجوار بيت الأدب. مشنة خبز مقدد يغطيها الذباب. فردة حذاء كانت تذهب بها إلى المدرسة. جلباب أخيها معلق في الحائط فوق مسمار صدئ يمتلئ بالهواء ويهتز بصوت هامس كصوت أخيها: نفيسا.
عيناها ترتفعان نحو السقف. تطل السحلية برأسها من الشق. عيناها تدمعان. تتوقف البقرة في الساقية وتنشج بصوت خافت. ترفع الحمارة رأسها وتمسح عرقها بكفها. قطرات دمع تتساقط من أوراق الشجر كالمطر.
وهي تمشي عيناها مفتوحتان جافتان. الهواء ثقيل مشبع بالدخان والهزيمة. رائحة بارود ونفط يحترق. الناس يسيرون فوق الأرصفة بعيون مغلقة. أفواههم مفتوحة يلهثون. الزحام شديد والأجساد تتكدس بعضها فوق بعض. طوابير طويلة ممدودة بامتداد الأفق. يتدافعون بالأذرع والأرجل. يتناطحون بالرءوس. كفوفهم مرفوعة مفتوحة نحو السماء. يتساقط الرغيف مثل قرص الشمس. ساحن وأحمر يطقطق بنار الفرن. يتطاير فوق رءوسهم كالكرة. يخرجون من الصفوف والطوابير تتعرج. يسود الهرج والمرج. تلسعهم العصا الخيزران. - النظام! النظام!
يسري الصوت في أذنيها كالريح تصفر، والصفير يدوي في الكون كآلاف الصفافير. آلاف الأصوات تهتف: النظام! النظام! وآلاف الأنفاس تلهث: يسقط! يسقط! الكل يهتف، والكل صامت، وهي تفتح فمها عن آخره لتصرخ، لكن صوتها محبوس لا يخرج. صدرها مربوط بمشد من الجلد كالحزام. قدماها داخل حذاء مفتوح له كعب عال. يكشف عن أصابعها الخمس مدهونة بلون أحمر. تطرقع فوق الأسفلت بصوت عال: طق طق طق طق طق.
يأتيها الصوت من خلفها. امرأة أخرى تتبعها. وقع قدميها فوق الأرض له الإيقاع ذاته. ظلها مرسوم إلى جوارها. يمشي معها خطوة بخطوة. ثوبها أسود بلون ثوبها. نهداها عاريان تحت ضوء القمر.
تستدير وتنظر وراءها. تختفي المرأة وراء جدار أو وراء عمود النور. تتركها وتمشي. تسمع وقع قدميها من جديد. في منتصف الكوبري تتوقف. تتوقف المرأة خلفها. تحس أنفاسها فوق عنقها. تلهث بصوت مسموع كالنهنهة.
تفتح حقيبتها الصغيرة. سوداء من الخرز اللامع. تخرج منديل ورق «كلينكس» تمسح قطرة عرق فوق أنفها.
وتمشي في طريقها لا تستدير. تكاد تمشي حتى نهاية الكوبري، لكن النهنهة تأتيها من الخلف يتوقف جسدها عن السير. تسند صدرها فوق السور الحديدي. تحملق في سطح النيل. يلمع تحت ضوء القمر كالمرآة. تسمع صوت جسم يسقط في الماء. تتعرج المرآة على شكل دوائر، ثم يعود الماء ساكنا كما كان. لامعا في الضوء الأبيض. تتعاقب الموجات بحركة كسولة مع الهواء البطيء.
فوق الموجات تراها طافية. يحوطها عشب أخضر يسمونه ورد الليل. ثوبها أسود ونهداها عاريان. وجهها ناحية السماء وعيناها مفتوحتان. شفتاها تتحركان كأنما تخاطب الرب.
يدب الصمت في الكون، والهواء يتوقف عن الحركة. رءوس الأشجار تلقي ظلالها فوق الأرض ثابتة. يختفي القمر وراء شبورة سوداء، ذرات رماد ودخان. وجوه الناس رمادية بلون التراب. عيونهم مغمضة. يتنفسون من أفواههم المفتوحة، ينهنهون.
ملايين النهنهات تتصاعد في الجو مع ذرات الغبار. مياه النيل تنكمش في القاع. يطفو فوقها عشب أسود كالجثث الميتة. آلاف الجثث. يرفعون الأعلام وأقواس النصر، ولمبات النيون تنعكس فوق سطح الماء، والكتل الطافية تسبح كالأجسام النائمة. لها رءوس سوداء مفتوحة في صمت. ينظرون نحو السماء بلا صوت، بلا صوت على الإطلاق، بلا أمل ولا يأس ولا أي شيء. مجرد ضوء أبيض بلون الثلج يغطي سطح القمر. ضوء حزين صامت كعيني أمها. تحملقان في الفراغ، بلا عتاب، بلا رجاء، بلا دعاء ولا أي شيء. نظرة طويلة ممدودة في اللاشيء إلى اللاشيء.
جنات تخرج
تلك الليلة والسحب السوداء متراكمة. الهواء ثقيل مشبع بالدخان والهزيمة، انفتحت البوابة الضخمة، مفاصلها الحديدية طقطقت بصرير الساقية العتيقة. صوت لم يكن مألوفا في ذلك السكون المطبق. اهتزت جدران السراي بحركة مرئية. رءوس الأشجار ألقت ظلاها السوداء فوق الأرض. مال فرع شجرة وانكسر. سقطت عصفورة راقدة فوق البيض. طارت في الأفق المظلم وذابت في الليل. تناثر قشر البيض فوق الأرض. كتاكيت صغيرة أطلت برأسها تنتفض من البرد.
دبت حركة في الأجساد الراقدة في العنابر. أجساد بشرية من بني آدم وبنات حواء. اتسعت عيونهم وعيونهن نصف المغلقة فيما يشبه النوم. فوق العيون دمعة حبيسة لا تجف ولا تسقط، الجلاليب بيضاء بلون الكفن، و«النني» أسود داكن بلون الليل. حملقة في الفراغ تشبه الذهول.
كانت راقدة داخل صندوق من الخشب يسمونه التابوت يحملونه فوق الأعناق. ترتدي ثوبا بلون فستان الزفاف. الكرانيش تتطاير من حولها كالأجنحة. الصندوق يهتز فوق الأجساد بإيقاع راقص، كالسرير الهزاز أو المرجيحة. عيناها مفتوحتان شاخصتان إلى أعلى. شفتاها منفرجتان عن ابتسامة. تنشد بصوت خافت كاللحن القديم. - انا جنات وأصلها جنان جمع جنة ... - أنا زهرة ... - ونادرا ما تخرج من الصحراء زهرة ... - انا لست مريم العذراء ولا حواء الآثمة. - أنا لست ساقطة ولا أنا طاهرة. - أنا إنسانة قلبي هو ربي. - وجريمتي قصيدة شعر.
من تحت الملاءة البيضاء داخل الصندوق صدرها يعلو ويهبط. ورقة مشبوكة فوق الكفن بدبوس. مختومة بقرني أبيس ومنقار النسر. شهادة وفاتها الرسمية. اسمها الثلاثي مكتوب بالحبر الأسود. حروف متعرجة مشرشرة، بخط المدير، كأرجل الخنافس تتحرك تحت عينيها من وراء الزجاج. - جنات عبد الله عبد اللاه.
عيناها تنفتحان و«النني» الأسود يتسع ويتسع.
كأنما ترى اسمها الثلاثي لأول مرة. عبد الله؟! من هو عبد الله؟! أهو اسم أبيها؟ وعبد اللاه أهو جدها؟ ذاكرتها تصحو بالتدريج. صوت جدتها يسري في أذنيها كالصفير. تنادي جدها يا عبد اللاة. تقلب الهاء إلى تاء. ينتفض جدها في الكرسي ذي المسند العالي. يصحح لها النطق. - عبد اللاه مش عبد اللاة!
تفتح جدتها فمها عن آخره. تجذب الهواء في شهيق عميق ثم تطرده في زفير طويل، تخرج طرف لسانها لتنطق الحرف الصحيح، لكن لسانها يلتوي ويقلب الهاء إلى التاء: عبد اللاة.
يشوح جدها بيده المعروقة في الهواء: اللاه! مش اللاة!
ثم يمسك يدها المعروقة، يجعلها تكتب حرف الهاء على شكل الكحكة، دائرة مستديرة، وحرف التاء لها شكل الهاء بالضبط، وفوقها نقطتان. - الأنثى فوقها نقطتان!
من تحت اللحاف وهي نائمة تسمع جدتها تكرر الخطأ. تنسى أن تضع النقطتين فوق الكحكة، وصوت جدها يدوي في الليل. - النقطتين يا حمارة!
تلسع كلمة «حمارة» أذنيها كالعصا الخيزران. منذ حرمها أبوها من الميراث وهو يناديها يا حمارة. قبل ذلك كان يناديها، الست الهانم. أعمدة السرير النحاسية تصطك. صدرها يعلو ويهبط، أنفاسها تلهث، صوتها يزمجر كالهواء المكتوم. - الحكاية كلها نقطتين! - قالب الدنيا على نقطتين! - إلهي ياخدك من الدنيا!
ترسم الصليب على صدرها وتتمتم: أبانا الذي في السماوات اغفر خطايانا، وتغمض عينيها، ثم تفتح نصف عين. تراها راقدة إلى جوارها شاخصة في السقف. - نامي يا جنات. صاحية ليه؟ - هو بابا اسمه عبد الله يا نينة؟ - أيوه. - وجدي اسمه عبد اللاه؟ - نامي يا جنات واخزي عين الشيطان. - هو الله غير اللاه يا نينة؟ - معرفش اسألي أبوكي وجدك.
في الصباح يخرج أبوها قبل أن تسأله، وجدها يقول إن الله هو اللاه. يخرج طرف لسانه، ويفتح فكيه عن آخرهما مع الألف الممدودة بعد اللام في كلمة اللاه، ثم يملأ شدقيه بالهواء ويلتصق لسانه بسقف حلقه في كلمة الله. - واللاه هو اللاة يا بابا؟
يرمقها جدها بنظرة حادة وعيناه متسعتان، لأول مرة ترى لون «النني» في عيني جدها. أسود داكن السواد وفي الوسط ثقب كعين البئر. وجهه مربع أبيض اللون. له شارب أبيض مربع فوق الشفة العليا. أسنانه كبيرة صفراء مشرشرة الأطراف. صوته متحشرج في نهايته بحة. - أعوذ باللاه من الشيطان الرجيم.
يمسك أصابعها الصغيرة في يده الكبيرة، يجعلها تكتبها ثلاث مرات في كراسة الواجب. يمشي سن القلم فوق الورقة البيضاء. أعوذ باللاه. أعوذ باللاه. أعوذ بال ... ويفرغ القلم من الحبر في منتصف الكلمة. تملأه من الدواية. تكمل الكلمة. ترسم الهاء على شكل الكحكة كما علمتها أمها. ترفع القلم عن الورقة حين تغلق الدائرة. سن القلم رفيع كالإبرة. تسقط منه نقطة من الحبر فوق الكحكة، ثم تسقط النقطة الثانية قبل أن تبعده. تنقلب الهاء إلى تاء.
وكأنما تنقلب الدنيا. يحملق الشيخ بسيوني في كراستها، ثم ينتفض وأسنانه تصطك. - أعوذ باللاه! أعوذ باللاه!
يلسعها على أصابعها بالعصا الخيزران. فوق كل إصبع ثلاث لسعات، ثم يقبض على الأستيكة بأصابعه الخمس. يمسح النقطتين من فوق التاء. بكل جسده يضغط على الأستيكة، حتى يخرق الورقة. تتلاشى النقطتان من الوجود، ومن تحتها تتلاشى أيضا التاء المربوطة.
يمشي بين الصفوف يحملق في كراريس البنات، كلما سقطت عيناه فوق النقطتين ينتفض، وأسنانه تصطك، كأنما يرى إبليس وجها لوجه لا نقطة حبر. يرتفع صوت العصا في الهواء، وصوت الأستيكة يمسح الورقة، كأنما يزيل وجه الشيطان من الكون.
يتربع فوق الكرسي وأمامه الكتاب. يبلل طرف إصبعه بلعابه، ويفرز الأوراق. يتوقف عند صفحة يقرأ فيها بصوت عال، ومن ورائه البنات يرددن في نفس واحد:
أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى * ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذا قسمة ضيزى .
ثم يبتلع ريقه بصوت مسموع. تصعد تفاحة آدم في عنقه وتهبط. يحملق في وجوه البنات من تحت النظارة. جالسات وراء التخوت الخشبية. شاحبات الوجوه. رءوسهن ملفوفة بقماش أبيض من الشاش. مطرقات إلى الأرض. عيونهن مغلقة. أفواههن مفتوحة. يضرب بقبضة يده على المنضدة الخشبية.
انتباه!
ثم يواصل القراءة:
إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى ...
ترن كلمة «الأنثى» في أذنيها كأنما تسمعها لأول مرة. يضم فمه وهو ينطق الضمة فوق الألف. تتكور شفتاه كأنما يبصق. يمسح فمه بكم ثوبه.
يدب الصمت في الفصل. تنكمش كل بنت داخل التخت. يغلق الكتاب وينهض. يمشي بين الصفوف عيناه تبربشان. يمد أنفه بين الرءوس يتشمم، كالقط. تنتصب الشعيرات في فتحتي أنفه. شفتاه منفرجتان، يتمتم بصوت خافت كحفيف الهواء. - الأنثى ... الأنثى ...
يخرج طرف لسانه مع حرف الثاء. ينفتح فكاه عن أخرهما وهو يمد الألف بعد الثاء. يتثاءب وعيناه مغلقتان، ثم يفتح عينا واحدة يطل منها «النني» مستديرا صغيرا يدور حول نفسه ويتذبذب كالبلية السوداء. يرمق النهدين الصغيرين الصاعدين الهابطين تحت مريلة المدرسة.
تلف كل بنت ذراعيها حول صدرها. تحكم إغلاق ركبتها. تنكمش داخل جسمها. تخفي رأسها تحت الدرج. تلهث بصوت مكتوم كالنشيج.
يتوقف عندها وهي جالسة، مشدودة الظهر. يداها فوق التخت. عيناها مفتوحتان رموشها ثابتة لا يطرف لها جفن.
يلسعها على يدها بالعصا: غضي الطرف يا بنت! - اطرقي برأسك! - لا ترفعي عينيك في عيني!
عيناها مفتوحتان مرفوعتان. صوت أمها في أذنيها منذ ولدت. كاللحن القديم يسري في عروقها مع الدم. حروفها منقوشة فوق الورق تحت ضوء القمر. - أنا لا أخاف. - يا من تحارب المعرفة وتغلق العيون. - أنا لا أخاف.
تنهال العصا الخيزران فوق يديها وذراعيها. تسمع اللسعات في الهواء. لا تشعر بالألم. ترى العلامات الحمراء فوق اللحم تتلوى كذيول السحالي. قطرة دم تسقط فوق البلاط. تلمع تحت الضوء كالقرص الذهبي. تمسحها بكعب حذائها وترفع رأسها. تمشي بين صفوف التلميذات والتلاميذ. طويلة القامة ممشوقة الجسم. يحملونها فوق الأعناق. رأسها يلامس السماء. تضع قدمها فوق قمة هرم خوفو وتهتف: يسقط الشيخ بسيوني. - يسقط الملك والإنجليز. - يسقط! يسقط! يسقط!
تمتلئ الشوارع بالناس. تخرج النساء من البيوت والأزقة. تنفتح أبواب المدارس. تتدفق منها الأجسام. أطفال بالمرايل، وشباب، وبنات وأولاد، والعجائز أيضا جاءوا يدقون الأرض بالعصي الخشبية. رجال ونساء. وجوههم مكرمشة. عيونهم رمادية تترجرج من وراء الزجاج، والقطة تركت صفيحة القمامة وأقبلت تجري، ومن خلفها الجرو الصغير الأعرج، والكلاب الضالة، والأطفال الراقدون فوق الرصيف في حضن الأم، والشحاتون، وباعة الصحف، والعساكر الواقفون كالأعمدة الخشبية وجوههم للحائط، وبنات الليل السارحات في الليل بوجوه كالطباشير، والطوابير الواقفة أمام الفرن في أجساد متلاصقة ممدودة حتى الأفق، والهتاف يسري في أذنيها كهدير الشلالات. - يسقط! يسقط! يسقط!
وهي راقدة داخل الصندوق أحست الاهتزازة. رفعت الغطاء وأطلت برأسها. رأت الصندوق محمولا فوق الأعناق كالزورق في البحر. يتهادى فوق الأمواج بإيقاع اللحن، والأصوات تنشد بصوت كحفيف الهواء. خيوط الفجر تنتشر في الأفق بلون الشفق. - يسقط! يسقط! يسقط!
وضعت رأسها فوق الوسادة، أغمضت عينيها. فوق شفتيها ابتسامة. الصوت يمشي فوق جفونها المغلقة كشعاع الشمس. كصوت أمها قبل أن تولد، ينفذ من جدار الرحم دافئا بحرارة الدم.
ثم توقف الصوت. دب السكون. الريح من بعيد تصفر. صفارة طويلة مثل البوق. مزقت الصمت كطلقة الرصاص. تبعتها الطلقات، طلقة وراء طلقة في تتابع سريع، وصفارات البوليس، والأجراس في الكنائس بدأت تدق بصوت عال، والميكروفونات فوق المنارات والجوامع، والدبابات خرجت تزحف فوق الأرض والكعوب الحديدية تدق الأسفلت، والجنود بالرءوس النحاسية الصف وراء الصف، آلاف الصفوف.
من الصف الأول رأته يخرج. عرفته على الفور. يرتدي معطف المدير الأبيض، وجسد جدها الميت. وأنف زكريا المقوس، الوجه المربع وبشرة الملك البيضاء، وعمامة الشيخ بسيوني، من فوقها الريشة منتصبة في الهواء.
وقفت أمامه داخل مريلة المدرسة. كولة بيضاء حول عنقها. تحت إبطها كراسة وقلم.
جلس فوق المقعد ذي المسند العالي، كالعرش من الذهب. من حوله الأتباع والخدم. زوجته جالسة ضمن الخدم يسمونها الحرم. فوق صدره وسام يلمع. أمامه منضدة خشبية يدق عليها بمطرقة حديدية، في فمه صفارة ينفخ فيها. - بدأت الجلسة.
دوى صوته في الساحة الواسعة حول السراي. انفتحت أبواب العنابر. خرج الرجال داخل الجلاليب البيضاء الواسعة. حول الوسط حزام رفيع مربوط على شكل فيونكة. أقدامهم داخل شباشب من البلاستيك يسمونها زنوبة. وجوههم شاحبة بلون السحب. عيونهم واسعة تبحلق في الفراغ. ساروا بخطوتهم البطيئة الزاحفة. ملئوا الحديقة الجرداء التي يحوطها السور العالي. تلاصقت أجساد النساء في ركن الحريم. رءوسهن ملفوفة بالطرح الرمادية. وجوههن طويلة بلون التراب. جالسات متربعات فوق الأرض، وعيونهن مغلقة. - بدأت الجلسة.
تطلعت إليه العيون من وراء طبقة الماء كالزجاج الشفاف. فكاه ينفتحان وينغلقان مثل فكي المقص. رذاذ يتناثر من فمه. يتطاير حوله كذرات الرمل، ذرة واحدة طارت وانفجرت في الجو، امتلأ الهواء برائحة نفط ومعجون الحلاقة. ارتدى النظارة وفتح الكتاب. حملق في عيون الناس من تحت الزجاج ثم نفخ في الصفارة.
باسم اللاه (فتح فكيه مع الألف الممدودة).
وباسم صاحب السيادة (ارتفع صوته أكثر وانفتح فكاه عن آخرهما حتى طقطقت مفاصلهما).
وباسم الوطن (ضاعف الشدة فوق الواو).
وباسم العدالة والشرف والشرع والشرعية الدولية (نطقها كلها في نفس واحد دون فواصل).
أيها السادة (حملق من تحت العدسة إلى الرجال).
والسيدات (خفض صوته وخفض رأسه ورمق زوجته في ركن الحريم بطرف عينه).
باسم اللاه الرحمان الرحيم (أغمض عينيه وتثاءب).
نفتتح هذه الجلسة.
أمسك من فوق المنضدة مظروفا مغلقا بالشمع الأحمر. فتحه بمطواة طويلة كالسكين. ظهرت ورقة طويلة بيضاء، قربها من وجهه حتى لاصقت أنفه، ثم ناداها باسمها الثلاثي المكتوب في شهادة الوفاة. - جنات عبد الله عبد اللاه.
رن الاسم في أذنيها غريبا، كاسم امرأة أخرى. أطبقت شفتيها في صمت.
أشار إليها بإصبعه والصفارة بين شفتيه. - هذه المرأة أيها السادة (أسقط كلمة والسيدات) مصابة منذ الولادة بمرض خطير، جنون بالوراثة، يا حضرات السادة، يجري في دمها منذ جدتها حواء، وأعراضه تتجسد في الآتي:
أولا:
انفتاح العينين منذ الولادة.
ثانيا:
انكشاف الوجه رغم بلوغ سن الرشد.
ثالثا:
التحالف مع الشيطان لقلب نظام الكون.
رابعا:
الخروج عن الشرع والشرعية الدولية.
صمت طويلا وهو يحملق في الوجوه من تحت النظارة. العيون مغلقة والشفاه نصف مفتوحة يغطون في النوم وهم جلوس فوق الأرض. داخل جلاليبهم البيضاء حزام رفيع مربوط حول الوسط. أنفاسهم عالية كالشخير.
دق بالمطرقة فوق المنضدة. اهتزت الأرض ومن فوقها الأجساد. فتحوا جفونهم. حملقوا في الفراغ بعيون متسعة، ثم سقطت رءوسهم فوق صدورهم وغابوا في النوم.
دق بالمطرقة مرة أخرى. اهتزت الأرض والأجساد، ولم يستيقظ أحد. رمق رئيس الجلسة بطرف عينه، ثم استدار نحوه بكل جسمه. - يا صاحب السيادة ... أخطر الأعراض هو عدم فقدان الذاكرة، رغم جلسات الكهرباء، المتكررة بغير انقطاع، والحقن القاتلة لخلايا التذكر في المخ، والتهديد بالنار، والتلويح بالجنة، كل ذلك فعلناه يا صاحب السيادة بدون أي فائدة، فهي تذكر كل ما حدث في الماضي منذ خمسة آلاف سنة، بل قبل ذلك بكثير، حين وسوست السحلية لإبليس، وحين كان إبليس ملاكا طاهرا لا يعرف شيئا عن الفساد والشر.
صمت طويلا، ثم حملق في وجه صاحب السيادة. رآه مغمض العينين مفتوح الفم، يغط في النوم. خيط رفيع من اللعاب الأبيض ينساب من زاوية فمه، ويهبط فوق ذقنه. نفخ في الصفارة وأعلن انتهاء الجلسة. ظهر التمورجية بالمرايل البيضاء، ربطوا يديها وقدميها بالحبال. أرقدوها في الصندوق داخل ثوب الزفاف. وضعوا بين يديها باقة ورد، حملوها فوق الأعناق وساروا بها في الطريق.
من فوق جفونها وهي نائمة سمعت الصوت يهمس كحفيف الهواء. كصوت أمها تهدهدها في السرير الهزاز. كالشعاع الدافئ يمشي الصوت فوق جفونها المغلقة.
أنا جنات وأصلها جنان جمع جنة.
أنا وردة.
ونادرا ما تنبت في الصحراء وردة.
يا من تحارب التاريخ وتطفئ المصابيح.
يا من تكون على حقيقتك حين تتحدث بغموض.
فإذا ما تحدثت بوضوح أصبح كلامك فارغا.
أنا لست نقطة في كتابك أو نقطتين.
أنا لست اسما محذوفا أو تاء مربوطة.
أنا لا أخاف ...
يا من تسفك الدماء وتفسد في الأرض.
يا من تمسك العصا وتفرض الطاعة.
أنا لا أخفي وجهي ولا أخجل من جسمي.
أنا لا أرسم بالكحل عيني ولا أحمل اسم غيري.
يا من تحارب العقل والمعرفة.
أنا جوهرة.
ونادرا ما تخرج من الأرض جوهرة.
الصندوق الخشبي كالسرير يهتز مع اللحن. كالزورق فوق بحر من الأجساد. أجساد بشرية من بني آدم وبنات حواء. الصف وراء الصف يسيرون. الرجال منهم رءوسهم غير محلوقة. الشعر أسود غزير يغطي العنق، والنساء شعورهن سوداء طويلة، والعيون واسعة مرفوعة. الأقدام تدب فوق الأرض في إيقاع واحد، والأنفاس تذوب في نفس واحد، كحفيف الهواء، كصوت أمها وهي في السرير الهزاز. - هوه، نامي نينا ... هوووه ...
رءوس الأشجار ترتفع في السماء، تهتز فروعها بالإيقاع ذاته، الأطفال فوق الجسر يهشون الذباب من فوق وجوههم. يرفعون عيونهم. يدورون. كل منهم يمسك ذيل الآخر، ويغنون: هوه، نامي نينا ... هوووه ...
تتوقف البقرة في الساقية، تشرئب بعنقها في الفضاء وتطلق صوتا بالإيقاع ذاته، والماعزة والحمارة والجرو الصغير يرفع رأسه من صفيحة القمامة، والطفل الذي يرضع ثدي أمه فوق الرصيف، والقطط، والكلاب الضالة، والحشائش الصفراء فوق الأرض الجرداء، كلها تغني مع أمها ... - هوه، نامي نينا ... هوووه ...
تفتح عينيها داخل الصندوق وترى وجه أمها يلمع في الظلمة. عيناها تغطيهما طبقة من الماء كالدموع. لا تجف ولا تسقط. تلمع من بعيد في السماء السوداء كنجمة الصباح، وأصوات كثيرة تهدهدها. ملايين الأصوات الناعمة كحفيف الهواء يداعب أوراق الشجر.
براءة إبليس
انغلقت البوابة بعد خروج جنات. طقطقت مفاصلها الحديدية بالصرير العتيق. اهتزت القضبان السوداء ، واهتزت معهما جدران السراي اهتزازة ارتجت لها الأرض، ورءوس الأشجار، والأسلاك فوق السور، تطايرت من فوقها العصافير.
كان واقفا بجوار جذع الشجرة. داخل جلبابه الأبيض. شعر رأسه غزير أسود. عيناه متسعتان ثابتتان تطفو فوقهما دمعة حبيسة. كالسحابة الشفافة. تهتز مع اهتزازة البوابة. من تحتها «النني» ثابت لا يهتز، يتوهج بضوء أسود، حلقات السلسلة الحديدية تصطك بعضها ببعض، والقفل الضخم يتأرجح من اليمين إلى اليسار، يهتز في انتفاضة، كالنفس الأخير قبل أن يكف عن الحركة وتفارقه الروح.
يسقط الضوء الخافت على وجهه. طويل نحيل كوجه أمه، أسمر اللون شاحب. يرمق القفل بنظرة طويلة. تهتز فوقها طبقة من الماء. تنحدر من زاوية عينه، ثم تهبط بطيئة فوق عظمة الخد. تلمع تحت الضوء كفص من اللؤلؤ، قبل أن تسقط.
رفع وجهه ناحية السماء. أنفه من الجانب خط مستقيم، لا يشبه أنف أبيه. شفتاه منفرجتان قليلا، أنفاسه لها رائحة الأطفال. فوق شفته العليا ينبت شارب خفيف. جلبابه مفتوح حتى الصدر. ممزق من الخلف، وجرح قديم غائر تحت لوحة الكتف.
السماء سوداء بلا قمر ولا نجوم. الهواء ثقيل مشبع بالدخان والهزيمة، رائحة نفط وبارود يحترق. رءوس الأشجار ثابتة كالأشباح الميتة.
في المساحات السوداء تمتد نظرته الطويلة، تروح وتجيء، عيناه تبحثان في الظلمة. تفتشان في الخضم الأسود عن قطرة ضوء. السحب السوداء كالعباءة الكثيفة. ذرات تراب ورمل. عيناه تتيهان في الكون، مفتوح الجفون، منتصب فوق قدميه، ينام وهو واقف.
وفجأة يلمحها. يراها تشق السحب، أول ما يرى منها العينان. تلمعان من بعيد، يزداد اللمعان كلما أمعن النظر، تطلان عليه من الأفق، كعيني أمه تطل عليه من النافذة، وهو يمشي في الطريق، تلقي عليه نظرة أخيرة قبل أن يختفي، وصوتها في أذنيه يسري من بعيد، تقرأ من كراسة المدرسة، قصيدة كتبتها له في الليل:
أنا أحبك؛
لأنك الوحيد من بين العبيد.
رفضت السجود وقلت لا،
رأيتك تمشي
برأسك المرفوع وشعرك الغزير،
تقطع المساحات السوداء.
وسط عاصفة الصحراء،
وتبتسم،
لا أحد يأخذ منك ابتسامتك،
ولا قوامك الممشوق،
ولا جسمك أبدا ينثني،
ولا جسمك أبدا ينثني،
أو رأسك ينحني.
صوتها كاللحن القديم وهو يمشي إلى جوارها. يده في يدها يجريان إلى المدرسة. الجرس يدق والتلاميذ تهتف. أوراق الشجر تهتز بالإيقاع ذاته. شعاع الشمس يتراقص بين الفروع العالية.
يراها تقفز فوق قدميها. تلامس الفروع بأطراف أصابعها. تلامس الشمس، ثم يهبط جسمها إلى الأرض. تنكفئ فوق وجهها. يدخل التراب أنفها وفمها. تنهض واقفة فوق قدميها. تنفض التراب عن ملابسها. تلقي بشعرها إلى الوراء وتضحك. تحلق الضحكة حول رأسها كدوائر من الضوء.
تعاود القفز من جديد، وهو يقفز معها. يلامس معها الفروع العالية وشعاع الشمس، ثم يسقط معها في جوف البحر. تسبح في الماء كالسمكة الفضية وهو إلى جوارها يسبح. يتسابقان تحت الماء. يغوصان حتى القاع. أطراف أصابعهما تلامس عناقيد اللؤلؤ والمرجان، ونباتات خضراء وحمراء وزرقاء، وكل الألوان في قوس قزح. يضحكان بصوت يتراقص مع الموج، والموج يعلو ويلامس وجه القمر.
يمد يده تحت الماء ويمسك يدها. تهمس في أذنه: إبليس؟
ويهمس في أذنها تحت الماء:
أنا لست يا جنات إبليسا،
أنا لست شيطانا،
ولا أنا ملاك،
أمي حزينة وأختي نفيسا.
أنا إنسان
مثلك تماما،
وقلبي مفتوح.
صوته يسري في أذنيه وهو يمشي. أنا إنسان وقلبي مفتوح. عيناه تمتلئان بالدموع. قدماه حافيتان. يلامس الأرض بأطراف أصابعه. يخشى أن يدوس على ورق الشجر. يخشى أن يطأ أرض الوطن بحذائه، وهي تخلع حذاءها وتمسكه في يدها. تلقيه في البحر وتصفق بيديها. بطن قدمها يلامس الأرض. تعشق ملمس الأرض لبطن قدمها، تضحك وتجري فوق الماء. ثوبها أبيض من الحرير. فوق الأكمام كرانيش من الدانتيلا، تتطاير حولها كالأجنحة. ترفرف في الجو ثم تطير كالفراشة البيضاء. تجتاز الأسلاك فوق السور. تحلق تحت السحب. يراها من بعيد كالسهم الأبيض. تشق السحب وتختفي، ثم تظهر من جديد. تطل في الأفق كنجمة الصباح.
كان واقفا بجوار السور، عيناه شاخصتان نحوها، ذراعاه ترتفعان، أطراف أصابعه تكاد تلمسها. يشب على أطراف أصابعه فوق السور، كالطفل يشب فوق صدر أمه. صوتها يسري في أذنيه من اللامكان. - فين ولدي يا زهرة يا أم العدل والرحمة.
ذراعاها ممدودتان إليه، وهو يشب فوق السور. يرفع جسمه إلى أعلى ويقفز في الهواء، لكن الأرض تشده إلى أسفل. يسقط فوق ظهره وعيناه مشدودتان إليها. يدخل التراب في فمه وأنفه.
ينهض من جديد. ينفض التراب عن جلبابه. يعاود القفز مرة أخرى قفزة وراء قفزة. يرتفع جسمه ويسقط. يرتفع ويسقط. لا يكف عن المحاولة.
كان السور عاليا تعلوه الأسلاك، وقطع من الزجاج المكسور كالمسامير، نتوءات الحجر بارزة مدببة. تسلخت يداه وسقط عنها الجلد. خيوط رفيعة بلون الدم تمشي تتعرج فوق الجلد كالعروق الحمراء. يشربها الجلباب الأبيض من القطن.
يتمزق الجلباب فوق نتوء بارز. يسقط عن جسده ويتكور فوق الأرض بجوار السور. كالجنين يسقط من بطن أمه ميتا، تعلوه بقع الدم.
كان واقفا عاريا إلا من السروال. وجهه لضوء القمر. يحملق في الدوائر الحمراء فوق الجلباب، كأنما هو ذلك الجنين الميت، أو ربما مات وهو واقف. أو هي اللحظة الأخيرة قبل الموت.
في القفزة الأخيرة قبل انفصال الروح أصبح جسده خفيفا. أراد الجسد أن يمسك الروح قبل أن تفلت. حلقت الروح بعيدا عن الجسم، فامتدت نحوها يداه وأمسكتاها. يداه داميتان مسلوختان. بشرته بيضاء خالية من الدم. عيناه واسعتان مملوءتان بالضوء.
في هذه اللحظة السابقة للموت ارتفع جسده ولامس الروح. أمسكها بأصابع يديه وقدميه. تشبث بها وحلق معها فوق السور. ذراعاه وساقاه تدور في الهواء كالأجنحة. عظام ظهره بارزة كالهيكل بلا لحم، وجرح عميق غائر تحت لوحة الكتف.
طار يحلق في السماء. يلمع في الضوء كالسهم، رأسه أسود يشق السحب. يختفي داخل المساحات السوداء، لا تراه العين، ثم يظهر من بعيد كالنجم، يطل على المدينة، وإلى جواره نجمة الصباح.
ترمقهما العيون من وراء القضبان. عيون نصف مغلقة فيما يشبه النوم. عيون بشرية من بني آدم وبنات حواء. «النني» يطل من تحت طبقة الماء كالزجاج الشفاف. الجلابيب واسعة بيضاء علامة الجنون. حزام رفيع مربوط حول الوسط. ما إن ينظر الواحد منهم في عين الآخر، أو الواحدة في عيني الأخرى حتى تنتقل العدوى.
الرجال منهم رءوسهم محلوقة نمرة واحد بأمر المدير. وجوههم يغطيها شعر ميت يتدلى فوق صدورهم، والنساء في عنبر الحريم، رءوسهن ملفوفة بالطرح. أذرعهن حول صدورهن معقودة. أيديهن تحت خدودهن، والشفاه مطبقة لا صوت ولا نفس. ينظرن نحو السماء بلا صوت، بلا أمل ولا يأس ولا أي شيء. مجرد ضوء أبيض بلون الثلج يغطي سطح القمر. ضوء حزين صامت يحملق في الفراغ، بلا عتاب، بلا رجاء، بلا دعاء، ولا أي شيء.
كان واقفا في عنبر الرجال وراء النافذة. أذناه منتصبتان، مرهفتان تتلهفان على الصوت، لا أحد يناديه. حتى الهواء كف عن الحفيف. لا حركة ولا صوت.
عيناه تتسعان و«النني» الأسود يدور حول نفسه في الظلمة. واقف داخل جلبابه الواسع الأبيض. طويل عريض. رأسه ملفوف بالشاش، اللفة وراء اللفة، سبع لفات، ومن فوقها تنتصب الريشة السوداء، كعرف الديك. لحيته طويلة بيضاء تتدلى فوق صدره. مربع الوجه أبيض البشرة، علامة الأصل العريق الممتد حتى سلالة الملك، أنفه غضروف كبير علامة الانحدار من صلب أبيه لا من رجل آخر. قلبه ثقيل والهواء معدوم. صدره يعلو ويهبط. أنفاسه تلهث. عيناه مستديرتان و«النني» يدور حول نفسه كالخرزة السوداء.
يرفع أنفه عاليا ويمشي بين صفوف الأسرة كما كان يمشي بين صفوف الجنود. الصف وراء الصف. آلاف الصفوف وآلاف الوجوه الممسوحة. لا يرى منها إلا وجه واحد، هو وجهه. يراه منعكسا في عيونهم الساكنة كسطح الماء الراكد. فوق رأسه الريشة تنتصب كالإبرة، وفي يده السيف ورثه عن أبيه. صوته يدوي في أذنيه كصوت جده. - الطاعة يا عبيد. - أنا هنا صاحب الأمر. - ومن لا يطيع. - رأسه يطير.
ويرفع الجنود البنادق هاتفين في نفس واحد: يا يعيش! يا يعيش! إلى الأبد!
ترن كلمة «الأبد» في أذنيه. ينتفض جسده بالنشوة. يهز رأسه علامة اللذة، في أعماقه منذ الطفولة حنين للخلود. يتطلع بعينيه إلى هرم خوفو. يرى نفسه جالسا فوق القمة. من حوله الكواكب والنجوم، وهو يتألق في الوسط، فوق صدره النياشين. يرتدي التاج فوق رأسه. قرنان طويلان يلتويان إلى الأمام. يحمل بينهما قرص الشمس، يصعد فوق أعناق التلاميذ ويصيح: أنا! أنا الأكبر! الأكبر! كر! كر!
يكركر كالديك.
ويدوي صوت الجنود: يا يعيش! يا يعيش!
كالمطر ينهمر الرصاص من السماء، وقنابل تسقط من بطون النسور السوداء، ورياح الخماسين تصفر. ذرات تراب ورمل. رائحة بارود ونفط. دخان يملأ الكون.
والأجساد تتناثر في الهواء. أجساد بشرية من بني آدم وبنات حواء. يتعرف على البشر من أصابع اليد. الإبهام والسبابة. يتعرف على المرأة من النهدين.
يرمقها بطرف عينه وهو يمر بين الصفوف. صدره يعلو ويهبط تحت الدرع الحديدية. النهدان يهتزان تحت بدلة الرقص. يغمز لها على الطريقة الحديثة. يغمض عينا ويفتح العين الأخرى. لا أحد من الجنود يلحظه، ولا الرصاص يخترق صدره. يعود إلى بيته سالما، وفي الليل يصحو؛ يتسلل من الفراش، يرتدي الوجه التنكري، تغمض زوجته عينا وتفتح العين الأخرى.
في الصباح يرى سرواله الأبيض محروقا في الطشت، وفي صدره تحت الدرع يرى الشق، نافذا من الصدر إلى الظهر، بلا قطرة واحدة من الدم، والملاءة نظيفة بيضاء بلون الموت.
يرتدي الدرع حول صدره. يخفي الشق في اللحم تحت طبقة من الحديد. حذاؤه له رقبة طويلة من جلد النمر، وكعب مربع سميك، تعلوه حدوة حصان مدقوقة بالمسامير. يدق الأسفلت بحذائه. يدوس على أرض الوطن. يدوس على أوراق الشجر. يخبط الكعب الأيسر في الكعب الأيمن. يرفع قدمه عاليا في الهواء كالعصا الخشبية. صوته يدوي في أذنيه كصفير الريح. «أنا أنا! صاحب الأمر! إلى الأبد! الأبد!»
يدب الصمت من حوله. صمت غريب ثقيل. الجنود واقفون. لا أحد يهتف. لا صوت يقول يا يعيش! واقفون الصف وراء الصف. ظهورهم ناحيته، وجوههم ناحية الحائط. لا أحد يستدير وينظر إليه.
تتسع عيناه و«النني» يجحظ، يتلفت حوله. إلى اليمين وإلى اليسار. الناس يسيرون بعيون نصف مغمضة. وجوههم طويلة شاحبة. أنفاسهم تلهث. لا أحد يتعرف على وجهه، لا أحد يلتفت إليه، مياه النيل تمشي في طريقها غير مبالية به. الكتل السوداء تسبح فوق الماء لا تنظر إليه. عيونها محملقة في الفراغ، مملوءة باللاشيء.
يجتاز الشارع بخطوة ثقيلة، تكاد إحدى السيارات أن تدوسه. يهتز جسده وتسقط العمامة ومعها الريشة. يلمع رأسه المحلوق نمرة واحد تحت الضوء. يفرمل السائق وتنتفض السيارة واقفة. يطل رأس من النافذة ويصيح: مش شايف يا حمار؟ - مش عارف أنا مين يا حمار؟ - حاتكون مين يعني؟ ربنا؟ - أيوه أنا، لكن من غير اللبس الرسمي.
تحسس رأسه بدون العمامة، رأى الريشة تتطاير بجوار الشط. جرى وراءها يمسكها قبل أن تسقط في مياه النيل. أعاد العمامة إلى رأسه ومن فوقها الريشة.
فوق الرصيف رآها متكورة حول نفسها كالجنين. طفل يرضع من ثديها، وقط يرضع الثدي الآخر. حملقت في وجهه طويلا. عيناها واسعتان سوداوان تطفو فوقهما طبقة من الماء. رمقت جلبابه القديم، والشبشب البلاستيك في قدميه. دست يدها في جيب جلبابها وناولته قرشا. - مش عارفة أنا مين؟ - أنا ... أنا! ... كان الكل يضرب لي تعظيم سلام، أنا فوق الكل،
سار في الطريق يوقف المارة واحدا وراء الآخر. - عارف أنا مين؟ أنا ... أنا ... فوق الكل ... الكل يضرب لي تعظيم سلام ... تعظيم ... الكل ... يسجد ...
عيناه تدوران حوله وهو يمشي في الظلمة. صوته يرن في أذنيه وهو يردد «الكل يسجد» رءوس الأشجار تنحني مع الهواء كأنما تسجد. صفوف الجنود تجثو فوق الأرض ساجدة. يهز رأسه علامة الرضا. يمشي بخطوة بطيئة شامخا بأنفه في السماء. يصعد السلالم إلى عنبر الرجال. يمشي بين صفوف الأسرة. الكل غائب في النوم. عيونهم مغلقة. أجسادهم ممدودة بلا حراك. يهز رأسه مبتسما. نظام الكون على ما يرام، والكل راقد في خشوع.
ثم تصطدم عيناه بالسرير الخالي. تتجمد الابتسامة فوق شفتيه. تتسع عيناه و«النني» يجحظ. يهز رأسه علامة النفي. ينثني بجسده، وينظر تحت السرير. - فين إبليس؟
ضوء القمر يسقط فوق الملاءة المشدودة علامة الموت، الوسادة خالية يلمع غطاؤها بلون الثلج. جسده ينتفض كأنما من البرد. ريح باردة تدخل من النافذة. شعرة سوداء فوق الوسادة تلمع في ضوء القمر، تتلوى بحركة مرئية كأنما فيها الروح. تتطاير في الهواء ... يلتقطها بإصبعين اثنتين، الإبهام والسبابة. يقربها من عينيه. يهز رأسه عدة مرات. - لا يمكن!
يرفع وجهه إلى أعلى. يسقط الضوء فوق عينيه. البياض كبير تطفو فوقه سحابة شفافة كالماء. «النني» صغير، يتذبذب، يدور حوله، يهتز مع اهتزازة رأسه. - لا يمكن! - إبليس لا يموت!
صوته يرن في أذنيه وهو يردد: لا يموت! تنتابه رعشة، يصبح صوت رجل آخر، مشروخ كصوت جده قبل أن يموت. قدماه ثقيلتان وهو يمشي في الظلمة. ظلال الأشجار تهتز كالأشباح. يدوس بقدميه فوق أوراق الشجر. يسمع الأوراق تئن تحت قدميه. أنين خافت كمواء قطة تموت. يتوقف لحظة. يرهف السمع. من خلفه يأتي الصوت. وقع أقدام. يستدير بحذر، ويهمس: إبليس؟!
يراه طويلا أسود منتصبا وراءه. لا تفصله عنه إلا خطوة أو خطوتان. تنفرج شفتاه عن نفس عميق. ذراعاه ترتفعان نحوه.
تقبض ذراعاه على اللاشيء، يلامس ظله المرسوم فوق الأرض. كلما اقترب منه يبتعد. - إبليس! تعال! رد علي يا ولد!
الصمت يدب في الكون إلا الصفير الخافت كحفيف الهواء أو صوت الريح من بعيد. أوراق الشجر تهتز بحركة بطيئة. تسقط ورقة فوق الأرض بصوت مسموع. يشرئب عنقه نحوها. يتأملها وهي تطير ثم تهبط شيئا فشيئا، تتدحرج فوق الأرض، ثم تكف عن الحركة كأنما تفقد الروح.
يطرق رأسه. يتدلى أنفه فوق لحيته، ولحيته تتدلى فوق صدره. في أذنيه يمتد الصفير في الظلمة، ملايين الأصوات التي تصنع صمت الليل. يدوي الصمت في أذنيه كهدير الشلالات، يذوب الهدير في كلمة واحدة كصفير الريح. - إبليس؟!
يمسك رأسه بيديه الاثنتين. يرى الشبح إلى جواره ماسكا رأسه بيديه الاثنتين. يهمس بلا صوت، كأنما الصوت يمكن أن يبدده. - تعال! لا تذهب!
صدى صوته يرتد إليه مع حركة الهواء. عيناه تتسعان تحت الضوء. تمتلئان بالماء. - أتتركني وحدي؟ - آه يا ولدي!
ترن كلمة «ولدي» في أذنيه بصوت أبيه وهو يحتضر. يستند بجذعه إلى الشجرة. صدره يعلو ويهبط. أنفاسه تلهث. يلف ذراعيه حول صدره. يتكور حول نفسه جالسا القرفصاء.
يرى الشبح الأسود جالسا إلى جواره متكورا تحت جذع الشجرة. يقرب رأسه منه ويهمس: كنت مالي علي الدنيا يا إبليس.
يرفع عينيه ويحملق في الفراغ من تحت الماء. تنحدر الدمعة الحبيسة من زاوية عينه. يتركها تسقط. لا يمسحها بكم جلبابه. - حقك علي يا ابني! يا ما صحيتك من عز النوم وقلت لك قوم ثم فز وسوس للناس. كتبت ضدك ثلاثة كتب، وصادرت حقك في الكتابة.
يمسح عينيه بكم جلبابه، ويضع رأسه بين ركبتيه.
أنا المسئول عن الهزيمة يا ابني!
صاحب الأمر هو المسئول.
لكن الدنيا كانت بالمقلوب.
المسئول يطلع براءة،
والمرءوس يحاكموه.
القائد يأخذ وساما،
والجندي يموت.
رفع رأسه وحملق في السماء. سحب كثيفة سوداء، بلا قطرة ضوء، ولا قمر ولا نجوم. رءوس الأشجار ثابتة والهواء صامت. الضوء في غرفة الرئيسة مطفأ والنافذة مغلقة. السراي غارقة في الظلمة. عيناه تبحلقان في الفراغ. - في المحكمة طلعوني براءة، وإنت كبش الفداء.
رنت كلمة «كبش الفداء» في الليل بصوت مسموع. مثل قطعة حجر تلقى في بركة سوداء راكدة. تحركت الظلمة على شكل دوائر كبيرة داخلها دوائر أصغر. في الوسط ثقب أسود كعين البئر. - سامحني يا ابني! - إنت بريء!
انتفض جسده واقفا فوق قدميه وهو ينطق كلمة «بريء». توقفت المياه السوداء عن الحركة. والكون تجمد في كتلة واحدة من الرخام الأسود، وكلمة «بريء» تسقط فوق الرخام، تلمع في الضوء مثل قرش أبيض، ترن في الصمت بصوت عال، كرنين الفضة. - بريء!
الرنين في أذنيه يزداد ارتفاعا، وهو يمشي بجوار السور. السور عال من فوقه الأسلاك، السحب السوداء تنشق عن قرص مستدير. يلمع في الظلمة بضوء أبيض.
تحت الضوء لمحه متكورا كالجنين في رحم أمه. أبيض بلون القطن، ممزقا من فوق الصدر وتحت لوحة الكتف. تعلوه البقع الحمراء بلون الدم.
دفن وجهه في الجلباب يتشمم الرائحة. كالأب يتشمم ابنه الميت. صوته كالنشيج المتقطع: بريء! بريء!
صدى الصوت يهز السور والأسلاك. تهب العصافير من النوم وتطير في الجو. البوابة الحديدية تهتز ومعها السلاسل الحديدية والقفل الأسود. تشمل الاهتزازة الأرض وجدران السراي . يتردد الصدى كصوت الريح يهز النوافذ والأبواب. رءوس الأشجار تهتز والعمارات العالية، والأسلاك فوق الأسوار، والأبراج والفنادق ذات الخمس نجوم، والقلاع، والقصور، والسجون، وقباب الكنائس ومنارات الجوامع وأعمدة السواري. - بريء! بريء!
وانطلقت الصفارات تدوي والأجراس. ظهر المدير بملابس النوم يجري والصفارة في فمه. من خلفه التمورجية بالمرايل البيضاء في أيديهم الحبال. من خلفهم رجال البوليس بالطاسات النحاسية فوق الرءوس وكشافات الضوء. من خلفهم الكلاب البوليسية، والكلاب الضالة، والقطط، والشحاتون، وباعة الصحف، والدبابات خرجت من فوقها المدافع، وأجراس الكنائس تدق، وأجراس المدارس، والميكروفونات فوق المآذن وصراخ النسوة كالزغاريد، والزغاريد كالصراخ، ورياح الخماسين تملأ الكون بالتراب والرمل، وصفوف الجنود الصف وراء الصف، يتقدمهم الجنرال إلى جواره صاحب السيادة وصاحب الجلالة، وأصحاب الأمر والنهي، وجوههم بيضاء مغسولة من الذنب، يبتسمون في براءة الأطفال، ومن حول أعناقهم تتدلى الزهور، زهور ميتة معلقة في أسياخ من الحديد على شكل دوائر حول العنق.
وجدوه راقدا على ظهره بجوار السور. داخل جلبابه الأبيض. رأسه عار محلوق نمرة واحد بأمر المدير. عيناه مفتوحتان شاخصتان نحو السماء. «النني» أسود ثابت. يبحلق في الفراغ. شفتاه منفرجتان قليلا فيما يشبه الابتسامة. اعوجاجة خفيفة في الفم. وجهه مربع أبيض يغمره الضوء والريشة السوداء تتطاير فوق الأرض كأنما فيها الروح. (تمت)
صفحه نامشخص