اضحكي يا سيدتي، واغرقي في الضحك، فذلك شيء يسرني ويرضيني؛ لأن الضحك خير من البكاء، ولأن النشاط خير من الفتور، ولأن ذلك بعد لا يغض من هذا التشبيه الذي تضحكين منه، ولا يرده إلى الضعف فضلا عن أن يرده إلى الفساد، فأنت تخدعين نفسك بهذا التناقض الذي ينخدع به أصحاب السذاجة، ترين الذبابة كائنا يسيرا ضئيلا لا يكاد يشغل من الجو إذا استقل في الجو حيزا ذا خطر، ولا يكاد يشغل من الجسم إن وقع على الجسم إلا مكانا لا يكاد يذكر، وترين صاحبنا ضخما فخما، طويلا عريضا، يسعى فيسبقه بطنه، كأنما يفسح له الطريق، وهو على ذلك أو من أجل ذلك يمشي ثقيلا بطيئا، كأنما يبذل أشق الجهد وأعنفه في كل خطوة يخطوها من خطواته هذه القصار التي لا تكاد تقدمه إذا سعى إلا في كثير من العناء، فإذا أراد أن يجلس التمس هو أو التمس الناس له ما يلائم جسمه الضخم الفخم من الكراسي العراض التي تستطيع أن تحتمل الأثقال دون أن تنحل أو تنهار، فإذا تكلم ارتج من حوله كل شيء، واحتاج الناس إلى أن يرغبوا إليه في أن يغض من صوته، ويخافت بحديثه إشفاقا على الأسماع أن تستك، وعلى الأسنان أن تصطك، وعلى القلوب أن تنخلع، وعلى الرءوس أن يأخذها الدوار، وأنا مع ذلك أشبه هذا الكائن الهائل المخيف بذلك الكائن الضئيل الخفيف، وأي غرابة في هذا، فإني لم أشبه جسما بجسم، ولا شكلا بشكل، وإنما شبهت خلقا بخلق، ومزاجا بمزاج.
والله يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، وهو قادر إن شاء على أن يركب في الناس أخلاق الذباب، ويركب في الذباب أخلاق الناس، ومن يدري لعلنا لو فهمنا طنين الذباب، واستطعنا أن نترجم ما يدور بين أفراده، وجماعاته من الحديث، أن يتاح لنا أن نتبين أن الله قد ركب في الذباب أخلاق بعض الأفراد والجماعات من الناس، ولكنا لم نعلم منطق الذباب، ولم يتح لنا أن نفهم لغته، ولا أن نستقصي ما يدور بين أفراده من الأحاديث، ولا ما يكون بين جماعاته من الخطوب، فأما الإنسان فقد أتيح لنا أن نفهم لغته، ونبلو أخباره، ونستقصي أنباءه، وأتيح لنا من أجل ذلك أن نتبين بعض ما فيه من الخصال التي تقربه من كبار الحيوان حينا، ومن صغاره حينا آخر.
والذي أستطيع أن أحققه هو أن صاحبي هذا الفخم الضخم الطويل العريض قد فطر على شيء من أخلاق الذباب، وأظهر ما ركب فيه من ذلك، هذا التهالك الملح الذي يمنعه أن يعيش بنفسه، وأن يعيش لنفسه، وأن يستقل بشخصه لحظة من لحظات الحياة، فهو دائما تابع لشيء أو تابع لإنسان، وهو دائما ملح في التتبع للأشياء وللناس، وهو يحيا من هذا التتبع، ولا يستطيع أن يحيا بدونه، وهو من أجل هذا مدفوع إليه بالغريزة القاهرة التي لا يدبرها عقل، ولا تصرفها إرادة، وإنما هي مندفعة أمامها لا تردها الأحداث، ولا تصدها الخطوب.
وهنا يظهر الفرق الواضح بين صاحبنا وبين الذباب؛ فليس للذباب ما يحميه منا إن أردنا أن نرده أو نصده أو نخلص منه؛ بل كل شيء يغرينا بذلك، ويحثنا عليه، ولكن صاحبنا قد وجد من الحياة الاجتماعية، ومن نظم الحضارة وقوانينها، ومن الشرائع المنزلة، والشرائع المتكلفة ما يوفر له الحماية كل الحماية، ويبيح له أن يكلف الناس من أمرهم شططا، وأن يعذبهم عذابا أليما، فهم لا يستطيعون أن يصدوه في رفق دون أن يخرجوا على قوانين العرف المألوف، والأدب الموروث، وهم لا يستطيعون أن يصدوه في عنف دون أن يخرجوا على النظم والقوانين التي لا يستبيح الرجل المتحضر أن يخرج عليها، والتي لا تسمح لمتحضر أو غير متحضر بالخروج عليها.
فنحن مضطرون إلى أن نحتمله طائعين أو كارهين، وإلى أن نشقى به راضين بذلك أو ساخطين عليه، وهو يعلم ذلك حق العلم، ويشعر بذلك أقوى الشعور فيستغل ذلك أبشع الاستغلال، وينتفع به أقبح الانتفاع، وينمي في نفسه أخلاق الذباب ما وجد إلى تنميتها سبيلا، ولو أتيح لك يا سيدتي أن تجربي معاملة الذباب على نحو ما نعامل صاحبنا لرأيت الذباب يضخم ويعظم ويثقل، ويلح ويسرف في الإلحاح، ويستغل ما ييسر له من الأسباب حتى يبلغ من ضخامة الجسم وفخامته، ومن ارتفاع الطنين واتساعه ما يملأ الحياة هولا وروعا، ولكن الذباب لا يجد ما يحميه كما يجد صاحبنا وأمثاله ما يحميهم، فهم يسعدون بشقائنا، وينعمون ببأسائنا، ويحققون من الآمال والمآرب ما لا يستطيع الذباب المسكين أن يحقق، وانظري يا سيدتي لقد انتهى بي الأمر إلى أن أرحم الذباب، وأشفق عليه، وأرثي له حين أوازن بينه وبين هذا الذباب الناطق؛ لأنه لا يبلغ من حياته البائسة التعسة مثل ما يبلغ الذباب الناطق من حياته السعيدة الناعمة.
ولم يكن صاحبنا هذا دائما ضخما فخما كما ترينه الآن، وإنما كان نحيلا ضئيلا لا يكاد يملأ العين، وكان خفيف الحركة شديد النشاط لا يكاد يستقر في مكان، ولا يخيل إلى من رآه ساعيا مضطربا أنه يمشي على الأرض، وإنما يخيل إليه أنه يمشي في الهواء، وقد ظهرت فيه أخلاق الذباب هذه منذ طفولته الأولى في المدرسة فلم يكن كغيره من رفاقه يكتفي بهذه الحياة الاجتماعية الحلوة التي يحياها التلاميذ، فيلعب مع أترابه حين يلعبون، ويفرغ معهم للدرس حين يفرغون للدرس، ويستمع معهم للأساتذة حين يستمعون للأساتذة، إنما كان متهالكا على أترابه وأساتذته ما وجد إلى هذا التهالك سبيلا، فإن أعياه ذلك تهالك على خدم المدرسة والموظفين الذين يعملون فيها، وقد حسن الظن به أول الأمر، فقرر الذين كانوا يعيشون من حوله أنه عطوف ألوف يتودد إلى أمثاله من الناس سواء أوافقوه في السن أم خالفوه فيها، ولكنهم لم يلبثوا أن ضاقوا بهذا العطف واستثقلوا هذا الألف، وجعلوا يتدافعونه، ويلقي بعضهم حمله على بعض، ثم جعلوا يفرون منه جماعات وأفرادا، ولكنهم لم يستطيعوا أن يدفعوه، ولم تغن عنهم محاولة الفرار منه شيئا.
فهو لم يكن ذبابا غافلا، وإنما كان ذبابا عاقلا، والعقل يفتق الحيلة، ويحسن التماس الوسائل، ويمكن صاحبه من التلطف، وحسن التأتي للعسير من الأمر، وقد عرف صاحبنا كيف يحتال، وكيف يبتغي الوسيلة إلى الأتراب وإلى الأساتذة، وإذا هم يشقون به ويصبرون على احتماله، ويبذلون له من ذات أنفسهم، ومن ذات أبدانهم ما يستطيعون؛ ليتخففوا منه، وليخلصوا من إلحاحه البغيض، وقد أدرك بعقله النافذ، وحيلته الواسعة ضعف الأتراب والأساتذة، فلم يزده ذلك إلا تتبعا لهم، وإلحاحا عليهم حتى أخافهم من نفسه، وتسلط عليهم بهذا الخوف الذي أشاعه في النفوس والقلوب.
وكذلك أنفق حياته في المدرسة الابتدائية والثانوية متهالكا لا يكاد يستقل، منتفعا لا يكاد ينفع حتى إذا أتم الدراسة الثانوية، ووجد عملا في بعض الدواوين تتبع زملاءه ورؤساءه بمثل ما كان يتتبع به الرفاق والأساتذة من التهالك والإلحاح، والغريب أنه بلغ في الديوان مثل ما بلغ في المدرسة من إكراه الزملاء والرؤساء على أن يقبلوه ويحملوه وينفعوه، يريد بعضهم بذلك أن يتخفف من عبء ثقيل، ويريد بعضهم بذلك أن يخلص من هم متصل، وصاحبنا يرى هذا كله، ويقدر هذا كله، ولا يحفل من هذا كله إلا لشيء واحد هو أن يتهالك على الزملاء والرؤساء؛ لينتفع ويستفيد، وما يعنيه أن يحبه هذا أو يبغضه، وما يعنيه أن ينفعه هذا استجابة للخير أو اتقاء للشر، كل هذه أمور لا تشغله، ولا تؤثر في نفسه كل التأثير؛ هو أن ينتفع مهما يكن المصدر الذي يأتيه منه النفع، ومهما تكن البواعث التي تدفع الناس إلى أن ينفعوه.
وقد قلت إنه لم يكن ذبابا غافلا، وإنما كان ذبابا عاقلا، ويجب أن أقول إنه كان ذبابا ذكيا أيضا، فكان يحسن الانتهاز للفرص، والانتفاع من الظروف، ولم يكن - ولا سيما بعد أن تقدمت به السن - يهجم على فريسته كما يهجم الذباب في غير حيلة ولا تلطف ولا احتياط، وإنما كان يدبر أمره تدبيرا لطيفا خفيفا فيتواضع ويتضاءل حتى يخيل إلى الزميل، أو إلى الرئيس أنه الخادم المطيع الذي لا يحب إلا أن يكون عندما يريد منه، فهو يسبق الزميل أو الرئيس إلى ما يظن أنه يرضيه، وإلى ما يقدر أنه يسره، ولا تسألي عن تلطفه في القول، وتظرفه في الحديث، وحسن سعيه إلى القلوب، فإذا بلغ من رضى الزميل أو الرئيس ما يريد، لم يعرف كيف ينصرف عنه، وإنما تهالك وألح في التهالك، ثم طلب وألح في الطلب حتى يكره الزميل أو الرئيس على أن يبلغه من الأمر ما يريد؛ ليخلص من هذا التهالك، ويستريح من هذا الإلحاح.
وتستطيعين يا سيدتي أن تتبعي سيرته في الدواوين فسترينها رائعة حقا، وسترينها مؤذية حقا، وأي غرابة في أن تجمع سيرة الرجل الواحد بين الروعة والإيذاء، وليست الروعة مقصورة على ما يعجب ويروق، ولكنها أيضا تكون فيما يؤذي ويسوء.
صفحه نامشخص