وهو المأساة الحقيقية التي تمزق النفوس كمدا، لو كان لنا نفوس يمزقها الكمد؛ الثاني هو أنه حتى لو فرضنا حدوث المستحيل، ففرضنا أن الله قد هيأ لنا الوزير الذي يجد في نفسه «رفعة» لا تحتاج إلى «ترفع» و«علوا» لا يعوزه «التعالي»، فلم يجد مضاضة في الوقوف في صف الكتبة والخدم ساعة العصر، ليأخذ في دوره فنجانه من الشاي؛ أقول إننا لو فرضنا حدوث هذا المستحيل، لأبى الناس أنفسهم على الوزير أن يكون مثلهم، وأن يقف معهم على قدم المساواة في شئون حياته الخاصة التي لا يكون فيها وزيرا؛ لو تنازل الوزير المصري ووقف في الصف مع الكتبة والخدم، لأبى عليه ذلك هؤلاء الكتبة والخدم، وتسابقوا إلى التنحي للوزير الخطير عن مكان الصدارة في الصف، بل لتسابقوا إلى دفع القرش أو القرشين نيابة عنه، بل لتسابقوا إلى حمل فنجانه إلى حيث يطيب للوزير الجلوس.
ولو حدث ذلك وقلت لأحد ممن وقفوا في الصف: هذه منك عبودية وذلة، لدهش من قولك وأخذه العجب ونظر إلى يديه وإلى رجليه، حتى إذا لم يجد بها أغلالا وأصفادا، صاح في وجهك محتجا غاضبا: وا عجبا! كيف أكون عبدا وليس في قدمي أصفاد ولا في يدي أغلال؟ وأعود فأستعير شيئا مما قلته في مقالة «الكبش الجريح»: «قل في ذلك ما شئت يا «خروف»؛ قل إنها وداعة الحملان، أو قل إنه التواضع، وإن للتواضع عند الله رفعة الشأن، أو قل إنه كرم النفس، وليس الكرم بغريب على بني القطعان؛ قل في ذلك ما شئت يا خروف؛ لكنه عندي علامة لا تخطئ على ما في نفسك من ذل العبيد، الذي يستمرئ ضرب المخالب، ويستلذ وقع الأنياب.»
وأحب أن أذكر لك على سبيل الموازنة بالوزير الإنجليزي الذي وقف في صف الكتبة والخدم، مصريا كبيرا - إذا قيس الكبر بدرجات الوظائف، كما تقاس حرارة الماء بالترمومتر - أعرفه حق المعرفة، ويعرفني حق المعرفة كذلك، لقيته بعد غيبتي أعواما، وشاءت الظروف أن نلتقي في ديوان حكومي، فأرادت له أوضاع المجتمع أن يسلم علي تسليم الذي لا يعرفني كثيرا أو قليلا، وأنا لا أتهمه هو، لأني موقن أنه طيب النفس كريم العنصر، إنما أتهم المجتمع بأسره الذي هو عضو فيه، لأن هذا المجتمع - فيما يظهر - هو الذي وسوس له ألا يسلم على الناس أمام الناس في شيء من الترحيب، خشية أن يظن الناس أنه أمسى وبات مساويا للناس! وعندئذ ابتسمت لنفسي؛ أعني أنني ابتسمت ابتسامة أحسها دون أن يراها الناس - وأنا كثير الابتسام لنفسي هذه الأيام - ابتسمت لنفسي لما أدركت أن المصري الكبير قد فوت الغرض على نفسه وهو لا يدري، وإليك البيان:
أراد المصري الكبير أن يكون كبيرا - مع أنه كبير - فاتخذ لغايته سبيلا يعرفها علم النفس ودارسوه، ألا وهي اصطناع القوة ليمتاز من سائر الناس، ولا شك أن من دواعي القوة أن يسلم عليك الناس فلا تأبه للناس! وهذا في ذاته من المصري الكبير جميل جد جميل؛ لأن هذا هو ما أراده الله لعباده، وليس في وسع مصري كبير أو صغير أن يعصي ما أراده الله لعباده؛ لكن الذي غاب عن المصري الكبير فلم يدركه، هو أن القوة المنشودة لها سبيلان: إحداهما حقيقية تؤدي إلى القوة بمعناها الصحيح، وأما الأخرى فسبيل زائفة تخدعه وتخدع أمثاله ممن لا يتعمقون الأمور إلى لبابها؛ وسبيلا القوة هما المقدرة والسيطرة، المقدرة هي السبيل التي لا زيف فيها ولا خداع، والسيطرة لذاتها هي السبيل المضللة الخادعة؛ وهي مضللة خادعة، لأنها تؤدي بسالكها إلى عكس ما أراد لنفسه، إذ تؤدي به إلى الضعف والعجز، وإنما أراد لنفسه قوة وسلطانا.
والعجيب في هاتين السبيلين، سبيلي القدرة والسيطرة أنهما نقيضان لا يجتمعان، فإن كنت قويا بسبب قدرتك فيستحيل أن تلجأ إلى بسط سيطرتك على الآخرين، وإن كنت راغبا في بسط سيطرتك، فيستحيل أن تكون قادرا ماهرا، وقد يبدو هذا الكلام عجيبا، لكنه فيما أعتقد كلام صواب؛ فهل تتصور - مثلا - عالما متبحرا في علمه متملكا نواصيه، يعمل في معمله بغية الوصول إلى نتائج في العلم جديدة، هل تتصور مثل هذا العالم راغبا في بسط نفوذه على الناس؟ لا أظن ذلك؛ لأنه ليس بحاجة إلى مثل ذلك، فهو يتجه بأمله ومجهوده نحو الطبيعة يريد أن يملك زمامها، لا نحو عباد الله يبتغي إذلال رقابهم؛ هو لا يريد بغيا ولا طغيانا، لأنه قادر ماهر، مكتف بنفسه، والعكس صحيح؛ أي أن الإنسان إذا ما شعر بخواء نفسه وعجزها وهي وحدها، التمس القوة عن طريق الآخرين، فبطش وتعسف.
الطاغية في صميم طبيعته عبد يذل للقوة حيث يراها، كما أنه يبطش بالضعف أينما رآه؛ الضعف عند الإنسان القوي القادر يستثير العطف والإشفاق، أما الضعف عند الذي صاغه الله طاغية بطبعه فيغري بالاعتداء، وكلما ازدادت الفريسة ضعفا، ازداد الطاغية بطشا وعسفا وطغيانا؛ والعبودية والطغيان وجهان لشيء واحد.
والرأي عندي هو أننا عبيد لأننا طغاة، وطغاة لأننا عبيد؛ وأما الإنسان الحر القادر المكتفي بنفسه في عزة وكبرياء، فلا هو يطغى بالضعيف، ولا هو يعنو بوجهه ذلا لطاغية.
صفحه نامشخص