كان يوسف الصديق شابا بادى العفة، راسخ اليقين، متين الخلق، عظيم الثقة فى الله، اجتاز الأزمات التى مرت به من تشريد، وسجن، وتلويث سمعة وكآبة عيش، فلم يهن له عزم، ولم تزل له قدم، ولم يطش له هدف. فماذا كانت عقبى هذا الإحسان؟ كانت العقبى أن الرجل المختطف المستضعف يلى أضخم المناصب، وتصير الجماهير طوع بنانه. (وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين * قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم * وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين) . ذلك كله فى الدنيا أما بعد ذلك: (* ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون) . وليوسف مع إخوته آلذين أهانوه، ولم يتقوا الله فيه، موقف آخر: إن الإحسان بلغ به المدى، وجعله فى مصر مناط الآمال ومحط الرحال، لكن الدنيا تقلبت بهؤلاء الاخوة، وجزتهم بسوء أنفسهم سوءا فى معايشهم اضطرهم إلى النجعة يطلبون القوت من ولى الأمر فى مصر، ودار بينهم وبينه حوار عرفوا منه: أى رجل يخاطبون. (فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين * قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون * قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) . والجملة الأخيرة يجب أن تكون فى السلوك الاجتماعى قانونا علميا كالقوانين المقررة فى علوم الرياضة والإحياء. إن الإحسان لا يضيع غرسه، ولن تتخلى العناية الإلهية عن أصحابه، مهما كبت بهم الحظوظ. وتعثرت بهم فى المراحل الأولى. وليس الإحسان جلودة ذهن طبيعته الغفلة، أو يقظة نفس طبيعتها الركود إنه خليقة مستقرة، وملكة تتكون من حب الإتقان وهواية الكمال، وإدمان الذكر لله، وطول الشعور بصحبته. وإذا كانت الإجادة العلمية تتطلب مزيدا من الخبرة والدراسة لأن شئون الحياة 082
دائمة التطور والتغير فإن الجو النفسى يتطلب صحوا دائما، وتعودا على الطاعات والفضائل، وولعا بما يرضى الله ويقرب غفرانه، قال تعالى: (إن المتقين في جنات وعيون * آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين * كانوا قليلا من الليل ما يهجعون * وبالأسحار هم يستغفرون * وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ) . وطرق الإحسان كثيرة ، ولكن من يطيقها؟ إنها تتطلب العزمات الشداد، والصبر الجميل، والهمم البعيدة، والجهاد الدءوب، وصاحب هذه الخصال أهل لأن يبسط الله عليه كنفه، ويلهمه رشده، وأن يكون أبدا معه ولذلك جاءت الآيات تؤكد عناية الله به وصحبته له. (إن رحمة الله قريب من المحسنين) . (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) . (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) . (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون * لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين * ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون) . والآية الأخيرة تفيد أن المحسن ليس معصوفا من الخطأ، ربما كان له ماض تاب منه، وربما ساورته وساوس تجعله يلم بما ليس من طبعه، ولكن الإشراق الذى يغمر حياته بالنور لا يعتكر لغيمة عابرة، وفضل الله عليه أوسع وأجل. ومن صور الإحسان التى استعرضناها آنفا ندرك أن أمتنا متخلفة أفرادا وجماعات فى ساح الحياة الدنيا والأخرى على سواء. وأنها قد تزعم وتتمنى، بيد أن سنن الله فى كونه لا تغلبها المزاعم والأمانى. ولا طريق لمجد الحياتين إلا أن تباشر كل عمل وهى تحس أن الله عليها شهيد، وأنها يجب أن تبلغ به مداه وفق ما شرع من وحى سماوى، أو وفق ما وضع من قوانين طبيعية. ذاك معنى " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ". 083
صفحه ۷۲