بل من أكثرهم الغمط والكنود. وأما الذين استنارت سرائرهم بصدق المعرفة فهم يتلمحون ما فى الصفات العليا من عظمة وشمول، وما يصدر عنها من عجائب فى الأرض والسماء، فينعطفون نحو ربهم، وملء نفوسهم الإعجاب والإعزاز والود. ونحن ندرى أنه ليس لبشر ما فعل حقيقى، يصحح وصفه بأنه خالق لتمثال، أو مبدع لآلة، فإن يده لم تصنع أكثر من أنها تصرفت فى مادة موجودة أو ألفت بين أشياء كائنة، وأن الإلهام الأعلى هو الذى هدى أصحاب المواهب إلى إبراز ما يحمدون عليه ويعظمون به، إلا أننا نجد فى هذا الإيجاد المجازى فرصة للمقارنة، وثغرة لتعريف الناس بربهم، وإزاحة الغطاء عن قلوبهم حتى يحسنوا فهمه ومودته. وفى الأيام الأخيرة وفق أحد المخترعين إلى صنع آلة تحول الماء المالح إلى ماء عذب، وهذا ابتكار حسن وددت لو تابع العلماء تحسينه حتى يمكن الإفادة منه فى أرحب دائرة، إن استخدامه الآن ينفع بعض السفن التى تستغرق فى رحلاتها آمادا طويلة، أو بعض المحصورين الذين لا تتيسر لهم موارد الماء القراح لبعدهم عن منابعه. لكن ما هى الآلات التى تروى الألوف من الخلائق، وما يتبعهم من حيوان وطير؟ ما هى الآلات التى تسوق نطاف الماء الصافى إلى مساحات هائلة من الأرض فتحيل جدبها خصبا ومواتها حياة؟ كيف يتلطف بديع السموات والأرض فيسقى أولئك الأحياء من عباده وهذه الحقول المنداحة فى بلاده دون أن يشعر بنصب أو يتكلف إدارة أجهزة وطنين آلات؟. (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون * وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين * فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير) . والحق أن إمداد البشر بالماء الحلو على هذا النطاق الواسع بوساطة جهاز منسوج من الهواء، مبسوط الأذرعة بين الأرض والسماء، يستاق الماء بخارا من البحر الملح ثم يكثفه سحابا يختلط كيانها بما يجعل ماءها عذبا، ثم تنطلق فى شتى الأشكال مخترقة الآفاق إلى حيث تهمى بالخير والبركة...!! إن هذا لمما يملأ الفؤاد روعة، ويزيده إكراما وإعلاء لشأن الخالق المدبر تقدست أسماؤه، وتباركت آلاؤه، ولا إله غيره. 225
صفحه ۲۱۵