ژانگو میخهای زمین
الجنقو مسامير الأرض
ژانرها
فأعطتها الصافية الجنيهات الحبشية الخمس، رمقتني النادلة الجميلة بنظرة أخرى، وهي تأخذ الزجاجات الفارغات والكأسين وتمضي: ها هي امرأة تدفع له الحساب، ألا يؤكد ذلك ما قاله لي سابقا بأنه مخصي، مسكين!
ومضينا نطلب شجرة الموت، لم أتعرف على مختار علي من الوهلة الأولى ، فقد بدا لي أكبر من عمره بعشرات السنوات، وصار نحيفا، وقد برزت عظام وجهه، وربما أصبح أكثر قصرا مما تركته قبل شهور كثيرة، لاحظت ذلك عندما نهض مختار علي من مرقده ليحتضنني بمحبة صادقة، كان نظيفا ويفوح من جوانبه عبق البخور، قال لي: كنت أعرف أنك ح تزورني قبل ما أموت.
أكدت له أنني جئت لآخذه معي، وسآخذه معي، ولن أتركه ورائي في ظل هذه الشجرة إطلاقا، كانت شجرة الموت العملاقة تسمع كل ذلك، وهي تدلي أفرعها الكبيرة التي تمتد أكثر من عشرة أمتار في الفراغ، مثل أذرع مخلوق أسطوري عملاق، ظليلة وكثيفة الخضرة طوال العام، لا يعرف من هو الشخص الذي زرعها، وهذا ليس غريبا؛ لأن أشجار النيم عادة تزرع بواسطة الطيور التي تبتلع الثمار الناضجة، وتطير بها مئات الأميال في هجراتها الطويلة وتزرقها حيثما حطت رحالها، يقدر عمرها بأكثر من مائة عام؛ حيث إن كل الأحياء بمدينة الحمرة رأوها بهذه الشاكلة وهم أطفال، لعبوا تحتها وهم صبيان، عايشوها وهم شيوخ، تغرد عليها أطيار الكروان والببغاوات الكبيرة الحجم في أواسط الفصل المطير، وتسكنها أطيار الرهو البيضاء في هجرتها الصيفية، يرقد تحتها الآن سبعة أشخاص، خمسة من الجنقو والاثنان من الإثيوبيين، يحكي عنها الناس حكايات مرعبة، ويقال إنها تخبر الشخص الذي يلجأ إليها بيوم موته، تهمس له به في أذنه عند الصباح الباكر، صوتها أشبه بصوت امرأة عجوز، ويقال إنها تحتفظ بروح الميت معلقة في أحد فروعها إلى يوم القيامة، كما من الشائع هنا الحديث عن بكائها ودموعها، كلما مات أحدهم في ظلها، أو على حسب التعبير المحلي هنا: «عندما يسلمها الأمانة»، ولكن أغرب قصة حكيت عنها هي؛ أن أحد الجنقو جاء لينهي مشوار حياته بها، بعد أن انغلقت قدامه وخلفه سبل الحياة، وبلغ به الفقر والمرض والجوع مبلغا عظيما، ولكنه في يوم ما من أيام إقامته تذكر أن لديه بعض جوالات السمسم مع أحد التجار بسوق همدائييت، وأنه إذا اتصل به، أو ذهب إليه، وأخذها قد تعيشه لما يقارب العام وتوفر له مصروف العلاج؛ لذا قرر أن يغادر شجرة الموت إلى همدائييت، حمل القوقو خاصته، ودع أصحابه، وعندما مشى نحو الخارج، وقبل أن يغادر ظل الشجرة هبط عليه أحد فروعها، اقترب من أذنه، وهمس له بصوت امرأة عجوز: ماشي وين؟ شايل الأمانة معك؟
ولكنه دفع الفرع بعيدا عنه، وأراد أن يهرب، غير أن الفرع أمسك به، وسحبه للظل، وأصيب الجنقوجوراي المسكين بالشلل أثر الرعب والخوف، ولم يستطع أن يغادر الشجرة مرة أخرى إلى أن سلمها الأمانة، هي روحه الغالية، في صبيحة اليوم التالي.
قال لي مختار علي أنه لا يستطيع مغادرة هذا المكان إلا لقبره، وأضاف: الشجرة كلمتني، كلمتني، بكرة الصباح إن شاء الله ح أسلم الأمانة.
كان يتحدث بثبات بالغ، وبإيمان عميق، لولا أن الصافية حذرتني من البكاء عند الشجرة لبكيت؛ لأن من يبكي تحتها يموت تحتها أيضا، وأنا لا أريد أن أموت هنا، على الأقل الآن.
أعطيته سيجارة برنجي، ابتسم لي، ساعدته في العودة لفراشه الخشن، كان قربه القوقو، تلك الحقيبة الوفية التي لازمته لأكثر من عشرين عاما: أعرف أنها ستقتلني في يوم ما، ستودعني إلى باب القبر، وتبقى هنالك تضحك علي.
نبهتني الصافية بأن الساعة شارفت على الخامسة، وعليها أن تعيدني لمعسكر اللاجئين، وتعود مرة أخرى، ووعدتها بأن أحضر غدا لتشييع جثمان مختار علي، سلمتني المال الذي أرسله صديقي لي، وكنت قد تسلمت منها الطعام المعلب، والملابس بالمعسكر، عندما جاءتني في صبيحة هذا اليوم، وقبل أن تصطحبني إلى شجرة الموت، كنت بالفعل في حاجة بالغة لذلك المال، على الرغم من أن تسفاي ضابط الرعاية الاجتماعية كان قد فاجأني بهدية، ومعها بعض المال من أجل طفلي وزوجتي سابقا ألم قشي من حر ماله؛ لعلمه بأنني أعدم القرش الواحد، وسأكون محرجا أمام طفلي وأنا أراه لأول مرة، أتركه دون أن أقدم إليه شيئا، كان يعرف أن ذلك محزن جدا، صباح اليوم التالي استيقظت مبكرا، غسلت نفسي جيدا، لبست الملابس الجديدة التي أرسلها لي صديقي، وأخذت المال، والطعام المعلب ، وهدية تسفاي، آملا أن أقدمها لأم طفلي، ومضينا في لاندروفر 110 نحو الحدود السودانية، في الطريق كانت تطوف برأسي أفكار شتى، لم أكن أفكر في ألم قشي وولدي وحدهما، وهو الأوجب وما يظن الأمميون أنه ينبغي أن يحدث، ولكني كنت أفكر في أمور مختلفة وأناس شتى وعلى رأسهم ود أمونة، وكنت قد عرفت من بعض الجنقو الذين انضموا أخيرا لمعسكر اللاجئيين بالحمرة أن العازة أطلقت من السجن، بعد قضاء زهاء الخمسة أعوام به، وذلك عندما عرف ود أمونة السبيل إلى مسئول كبير في الخرطوم، قدم له ود أمونة خدمة خاصة جدا، ولكن أكثر الأخبار إدهاشا عن ود أمونة، وصلتني فيما بعد، أي بعد عشر سنوات من هذه الأحداث، وأنا في المهجر بالولايات المتحدة الأمريكية، هي أنه أصبح وزيرا اتحاديا باسم كمال الدين اليماني، كيف حدث ذلك؟ تلك قصة سوف يحكيها لكم أي فرد من الحلة، فيما يشبه الندوات يوم مريسة أي سيدة جميلة كانت، أو تجدونها في كتاب صديقي الذي أشرت إليه سابقا الموسوم «بثورة الجنقوجورايات»، أو في مذكرات ود أمونة الخاصة التي صدرت ببيروت بعنوان «حياتي»، تطرق سيادته فيها لأشياء كثيرة تخص حياته، لقد كان صريحا جدا في بعضها، ولكنه أيضا كان شديد الغموض في البعض الآخر، أي في البعض الخاص جدا، الذي لا يهمنا بقدر ما يهمه هو شخصيا، واستعرض في هذه المذكرات القيمة كفاحه من أجل البقاء، بل من أجل أن يصبح إنسانا يشار إليه بالبنان، وذكر فيه في عدة مواقع اسم العازة، وألم قشي، وأشار للأم باسمها الحقيقي وهو «استيفانيس»، وهذا اسم لا يعني شيئا لمحبي الأم؛ لأنهم ببساطة لا يعرفونه، ولقد عبت عليه ذلك؛ لأن الأم قدمت له الكثير، وكان دائما ما تفخر به، وهو في ذلك الوقت لا يسوى شيئا ذا بال، ولم يرق لي أيضا ادعاؤه بأنه كان أحد قادة ثورة الخراء العظيمة ضد موظفي البنك، بل صنع لنفسه دورا مميزا بها، وأستطيع أن أقول إنه سطا على إنجازات صديقي كلها في هذه الثورة ، في الوقت الذي وصفنا فيه أنا وصديقي بالمتعنظين، ولا أدري ماذا كان يقصد بها بالضبط، ومرة أخرى وصفنا بالحالمين، وذلك عندما تحدث عن ثورة الجنقوجوراي، وحملهم للسلاح، ولكنه لم ينس أن يذكرني بأنني كنت أحد الذين ساعدوه في أن يفهم نفسه، وقال إنه لا يخجل من تاريخه الحزين؛ لأنه لم يصنعه بيده، صنعته الظروف التي حوله، وهو قام بأحسن ما يمكن عمله لشخص في حالته وفي ظروفه التي وصفها بالخاصة جدا، أما التاريخ الذي يجب أن يحاسب عليه هو التاريخ الذي بناه بنفسه، وهو تاريخ النجاح، خروجه من دوائر «الفقر والوحل»، نعم، لقد استخدم هاتين الكلمتين.
أما أجمل وأصدق ما بهذه المذكرات هو الجزء الخاص بالسجن، ولقد استفدت منه كثيرا جدا في الجزء الأول من هذه الرواية الموسوم «بالسجين، السجن والسجان»، ولو أنني لم أعتمده كاملا، ولكنه كان لي بمثابة العظمة التي بنيت حولها اللحم، وللأمانة العلمية، وحفاظا على الحق الأدبي أنني بنيت شخصيتي السجان الطباخ، والعازة، وفقا للصورة التي رسمها لهما سيادته في مذكراته، ومعظم النقد الذي قدم لهذه المذكرات من الأخلاقيين، ودعاة السترة كان فيما يتعلق بشأن السجن، وقد كتب أحدهم بأنه كان على السيد الوزير أن يسرد تاريخ مدينة القضارف العريق، ويتحدث عن البطل النور عنقرة، ذلك الوجه المشرق للمدينة، بدلا من الخوض في قاذورات السجن، وأوحاله، وأدان تلك الإشارات الجنسية التي تبدو واضحة في مذكراته، عندما تحدث سيادته عن طفل صديق له بالسجن، كان يعتدي عليه الطباخ جسديا، أو شيء قريب من ذلك.
أما الشيء الذي فشلت المذكرات في أن تبرزه بصورة جيدة، وبدا مشوها وناقصا ومرتبكا، فهي شخصية الطفل صديق ما أصبح فيما بعد سيادة الوزير بالسجن، وهما طفلان، الطفل الذي صور ضحية لكل شخص وكل زمان ومكان، الذي نعتقد بل نؤمن إيمانا قاطعا أنه ما يعرف في روايتنا بود أمونة، على كل؛ هذه المذكرات متوافرة في خارج السودان بكثرة، وقد تحصلون عليها بمجهود قليل.
صفحه نامشخص