وعاب وضع الكتب وكرهه كراهية شديدة، وكان أبي يكره "جامع سفيان" وينكره، ويكرهه كراهية شديدة، وقال: من سمع هذا من سفيان؟ ولم أره يصحح لأحد سمعه من سفيان ولم يرض أبي أن يسمع من أحد حديثا.
اعلم أن من أهم مباحث هذا العلم وأشدها تعليقا بتحصيل الغاية المنشودة من علم الحديث معرفة علل الأحاديث، وهو فن دقيق؛ إذ به ينكشف مداخل الوهم والخطأ في مرويات الثقات الغالب على نقولهم السلامة والاستقامة، ولدقته لم يتحقق إلا لزمرة يسيرة من العلماء صاروا بذلك أئمة يقتدى بهم، وحجة يرجع إليهم.
وإن استمداد هذا العلم الشريف من كلام هؤلاء الأئمة ومناهجهم، وبمطالعة ذلك وتدبره يحصل لطالب علم الحديث أهلية الكلام في هذا الفن الدقيق.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: ولا بد في هذا العلم من طول الممارسة، وكثرة المذاكرة، فإذا عدمت المذاكرة به فليكثر طالبه المطالعة في كلام الأئمة العارفين كيحيى القطان، ومن تلقى عنه كأحمد، وعلي بن المديني وغيرهم، فمن رزق مطالعة ذلك وفهمه وتفقهت نفسه فيه؛ صارت له قوة نفس وملكة، صلح له أن يتكلم فيه (¬1).
ورحم الله أبا عبد الله على شدة تمسكه بالأحاديث والآثار وترك ما دونها من الأخبار؛ فلذلك وقع أختيارنا على أقواله في الحكم على الأحاديث، فهو فيه سابق فرسانه، وفي الفقه سابق ميدانه، وأعلم الناس بالفتيا في زمانه، ويندر أن يسمح الزمان بمثله.
صفحه ۹