385

جامع البيان في تفسير القرآن

جامع البيان في تفسير القرآن

يعني بقوله عكفا: مقيمة. وكما قال الفرزدق:

ترى حولهن المعتفين كأنهم

على صنم في الجاهلية عكف

وقد اختلف أهل التأويل في معنى المباشرة التي عنى الله بقوله: { ولا تباشروهن } فقال بعضهم: معنى ذلك الجماع دون غيره من معاني المباشرة. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } في رمضان أو في غير رمضان، فحرم الله أن ينكح النساء ليلا ونهارا حتى يقضي اعتكافه. حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج، قال: قال لي عطاء: { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } قال: الجماع. حدثنا سفيان بن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن الضحاك، قال: كانوا يجامعون وهم معتكفون، حتى نزلت: { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد }. حدثنا المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن الضحاك في قوله: { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } قال: كان الرجل إذا اعتكف فخرج من المسجد جامع إن شاء، فقال الله { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } يقول: لا تقربوهن ما دمتم عاكفين في مسجد أو غيره.

حدثني المثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك عن جويبر عن الضحاك نحوه. حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: كان أناس يصيبون نساءهم وهم عاكفون فيها فنهاهم الله عن ذلك. وحدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } قال: كان الرجل إذا خرج من المسجد وهو معتكف ولقي امرأته باشرها إن شاء، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك، وأخبرهم أن ذلك لا يصلح حتى يقضي اعتكافه. حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } يقول: من اعتكف فإنه يصوم ولا يحل له النساء ما دام معتكفا. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } قال: الجوار، فإذا خرج أحدكم من بيته إلى بيت الله فلا يقرب النساء. حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كان ابن عباس يقول: من خرج من بيته إلى بيت الله فلا يقرب النساء. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال : أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } قال: كان الناس إذا اعتكفوا يخرج الرجل فيباشر أهله ثم يرجع إلى المسجد، فنهاهم الله عن ذلك. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: كانوا إذا اعتكفوا فخرج الرجل إلى الغائط جامع امرأته، ثم اغتسل، ثم رجع إلى اعتكافه، فنهوا عن ذلك. قال ابن جريج: قال مجاهد، نهوا عن جماع النساء في المساجد حيث كانت الأنصار تجامع، فقال: { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون قال: عاكفون الجوار. قال ابن جريج: فقلت لعطاء: الجماع المباشرة؟ قال: الجماع نفسه، فقلت له: فالقبلة في المسجد واللمسة؟ فقال: أما ما حرم فالجماع، وأنا أكره كل شيء من ذلك في المسجد. حدثت عن حسين بن الفرج، قال: ثنا الفضل بن خالد، قال: ثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك: { ولا تباشروهن } يعني الجماع. وقال آخرون: معنى ذلك على جميع معاني المباشرة من لمس وقبلة وجماع. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال مالك بن أنس: لا يمس المعتكف امرأته ولا يباشرها ولا يتلذذ منها بشيء، قبلة ولا غيرها.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } قال: المباشرة: الجماع وغير الجماع كله محرم عليه، قال: المباشرة بغير جماع: إلصاق الجلد بالجلد. وعلة من قال هذا القول، أن الله تعالى ذكره عم بالنهي عن المباشرة ولم يخصص منها شيئا دون شيء فذلك على ما عمه حتى تأتي حجة يجب التسليم لها بأنه عنى به مباشرة دون مباشرة. وأولى القولين عندي بالصواب قول من قال: معنى ذلك الجماع أو ما قام مقام الجماع مما أوجب غسلا إيجابه وذلك أنه لا قول في ذلك إلا أحد قولين: أما من جعل حكم الآية عاما، أو جعل حكمها في خاص من معاني المباشرة. وقد تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نساءه كن يرجلنه وهو معتكف، فلما صح ذلك عنه، علم أن الذي عنى به من معاني المباشرة البعض دون الجميع. حدثنا علي بن شعيب، قال: ثنا معن بن عيسى القزاز، قال: أخبرنا مالك، عن الزهري، عن عروة، عن عمرة، عن عائشة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله». حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير وعمرة أن عائشة قالت: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان، وكان يدخل علي رأسه وهو في المسجد فأرجله». حدثنا سفيان بن وكيع، قال: ثنا أبي عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يدني إلي رأسه وهو مجاور في المسجد وأنا في حجرتي وأنا حائض، فأغسله وأرجله». حدثنا سفيان، قال: ثنا ابن فضيل، ويعلى بن عبيد، عن الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن عروة عن عائشة قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف فيخرج إلي رأسه من المسجد وهو عاكف فأغسله وأنا حائض». حدثني محمد بن معمر، قال: ثنا حماد بن مسعدة، قال: ثنا مالك بن أنس، عن الزهري وهشام بن عروة جميعا، عن عروة، عن عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج رأسه فأرجله وهو معتكف». فإذا كان صحيحا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكرنا من غسل عائشة رأسه وهو معتكف، فمعلوم أن المراد بقوله: { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } غير جميع ما لزمه اسم المباشرة وأنه معني به البعض من معاني المباشرة دون الجميع. فإذا كان ذلك كذلك، وكان مجمعا على أن الجماع مما عنى به كان واجبا تحريم الجماع على المعتكف وما أشبهه، وذلك كل ما قام في الالتذاذ مقامه من المباشرة.

القول في تأويل قوله تعالى: { تلك حدود الله فلا تقربوها }. يعني تعالى ذكره بذلك هذه الأشياء التي بينتها من الأكل والشرب والجماع في شهر رمضان نهارا في غير عذر، وجماع النساء في الاعتكاف في المساجد. يقول: هذه الأشياء حددتها لكم، وأمرتكم أن تجتنبوها في الأوقات التي أمرتكم أن تجتنبوها وحرمتها فيها عليكم، فلا تقربوها وابعدوا منها أن تركبوها، فتستحقوا بها من العقوبة ما يستحقه من تعدى حدودي وخالف أمري وركب معاصي. وكان بعض أهل التأويل يقول: حدود الله: شروطه. وذلك معنى قريب من المعنى الذي قلنا، غير أن الذي قلنا في ذلك أشبه بتأويل الكلمة، وذلك أن حد كل شيء ما حصره من المعاني وميز بينه وبين غيره، فقوله: { تلك حدود الله } من ذلك، يعني به المحارم التي ميزها من الحلال المطلق فحددها بنعوتها وصفاتها وعرفها عباده. ذكر من قال ذلك بمعنى الشروط: حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: أما حدود الله فشروطه. وقال بعضهم: حدود الله: معاصيه. ذكر من قال ذلك: حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت الفضل بن خالد، قال: ثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك: { تلك حدود الله } يقول: معصية الله، يعني المباشرة في الاعتكاف. القول في تأويل قوله تعالى: { كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون }. يعني تعالى ذكره بذلك: كما بينت لكم أيها الناس واجب فرائضي عليكم من الصوم، وعرفتكم حدوده وأوقاته، وما عليكم منه في الحضر، وما لكم فيه في السفر والمرض، وما اللازم لكم تجنبه في حال اعتكافكم في مساجدكم، فأوضحت جميع ذلك لكم، فكذلك أبين أحكامي وحلالي وحرامي وحدودي ونهيي في كتابي وتنزيلي، وعلى لسان رسولي وصلى الله عليه وسلم للناس. ويعني بقوله: { ولعلهم يتقون } يقول: أبين ذلك لهم ليتقوا محارمي ومعاصي، ويتجنبوا سخطي وغضبي بتركهم ركوب ما أبين لهم في أياتي أني قد حرمته عليهم، وأمرتهم بهجره وتركه.

[2.188]

يعني تعالى ذكره بذلك: ولا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل. فجعل ت عالى ذكره بذلك أكل مال أخيه بالباطل كالآكل مال نفسه بالباطل، ونظير ذلك قوله تعالى:

ولا تلمزوا أنفسكم

صفحه نامشخص