جامع البيان في تفسير القرآن
جامع البيان في تفسير القرآن
يعني بقوله: { واتبعوا ما تتلوا الشياطين } الفريق من أحبار اليهود وعلمائها الذين وصفهم الله جل ثناؤه بأنهم نبذوا كتابه الذي أنزله على موسى وراء ظهورهم، تجاهلا منهم وكفرا بما هم به عالمون، كأنهم لا يعلمون. فأخبر عنهم أنهم رفضوا كتابه الذي يعلمون أنه منزل من عنده على نبيه صلى الله عليه وسلم ، ونقضوا عهده الذي أخذه عليهم في العمل بما فيه، وآثروا السحر الذي تلته الشياطين في ملك سليمان بن داود فاتبعوه وذلك هو الخسار والضلال المبين. واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله: { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان }. فقال بعضهم: عنى الله بذلك اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوراة، فوجدوا التوراة للقرآن موافقة، تأمره من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه بمثل الذي يأمر به القرآن، فخاصموا بالكتب التي كان الناس اكتتبوها من الكهنة على عهد سليمان. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } على عهد سليمان. قال: كانت الشياطين تصعد إلى السماء، فتقعد منها مقاعد للسمع، فيستمعون من كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت أو غيث أو أمر، فيأتون الكهنة فيخبرونهم، فتحدث الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا. حتى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم، فأدخلوا فيه غيره فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة. فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب وفشا في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب. فبعث سليمان في الناس، فجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق، ثم دفنها تحت كرسيه، ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق، وقال: «لا أسمع أحدا يذكر أن الشياطين تعلم الغيب إلا ضربت عنقه». فلما مات سليمان، وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان، وخلف بعد ذلك خلف، تمثل الشيطان في صورة إنسان، ثم أتى نفرا من بني إسرائيل، فقال: هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدا؟ قالوا: نعم. قال: فاحفروا تحت الكرسي وذهب معهم فأراهم المكان. فقام ناحية، فقالوا له: فادن قال: لا ولكني هاهنا في أيديكم، فإن لم تجدوه فاقتلوني. فحفروا فوجدوا تلك الكتب، فلما أخرجوها قال الشيطان: إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السحر. ثم طار فذهب. وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرا واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب. فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم خاصموه بها، فذلك حين يقول: { وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر }.
حدثت عن عمار بن الحسن، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } قالوا: إن اليهود سألوا محمدا صلى الله عليه وسلم زمانا عن أمور من التوراة، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله عليه ما سألوه عنه فيخصمهم. فلما رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما أنزل إلينا منا. وإنهم سألوه عن السحر وخاصموه به، فأنزل الله جل وعز: { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر }. وإن الشياطين عمدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك، فدفنوه تحت مجلس سليمان، وكان سليمان لا يعلم الغيب، فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر، وخدعوا به الناس وقالوا: هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسد الناس عليه. فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث. فرجعوا من عنده، وقد حزنوا وأدحض الله حجتهم. وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } قال: لما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا لما معهم
نبذ فريق من الذين أوتوا الكتب
[البقرة: 101] الآية. قال: اتبعوا السحر، وهم أهل الكتاب. فقرأ حتى بلغ: { ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر }. وقال آخرون: بل عنى الله بذلك اليهود الذين كانوا على عهد سليمان. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج: تلت الشياطين السحر على اليهود على ملك سليمان فاتبعته اليهود على ملكه يعني اتبعوا السحر على ملك سليمان. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود عليه السلام، فكتبوا أصناف السحر: من كان يحب أن يبلغ كذا وكذا، فليفعل كذا وكذا. حتى إذا صنعوا أصناف السحر، جعلوه في كتاب، ثم ختموا عليه بخاتم على نقش خاتم سليمان، وكتبوا في عنوانه: «هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم». ثم دفنوه تحت كرسيه، فاستخرجته بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حين أحدثوا ما أحدثوا، فلما عثروا عليه قالوا: ما كان سليمان بن داود إلا بهذا. فأفشوا السحر في الناس وتعلموه وعلموه، فليس في أحد أكثر منه في يهود. فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نزل عليه من الله سليمان بن داود وعده فيمن عده من المرسلين، قال من كان بالمدينة من يهود: ألا تعجبون لمحمد صلى الله عليه وسلم يزعم أن سليمان بن داود كان نبيا والله ما كان إلا ساحرا فأنزل الله في ذلك من قولهم على محمد صلى الله عليه وسلم: { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا } قال: كان حين ذهب ملك سليمان ارتد فئام من الجن والإنس واتبعوا الشهوات.
فلما رجع الله إلى سليمان ملكه، قام الناس على الدين كما كانوا. وإن سليمان ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه. وتوفي سليمان حدثان ذلك، فظهرت الجن والإنس على الكتب بعد وفاة سليمان، وقالوا: هذا كتاب من الله نزل على سليمان أخفاه منا. فأخذوا به فجعلوه دينا، فأنزل الله:
ولمآ جآءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتب كتب الله ورآء ظهورهم كأنهم لا يعلمون * واتبعوا ما تتلوا الشيطين
[البقرة: 101-102] وهي المعازف واللعب وكل شيء يصد عن ذكر الله. والصواب من القول في تأويل قوله: { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } أن ذلك توبيخ من الله لأحبار اليهود الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجحدوا نبوته وهم يعلمون أنه لله رسول مرسل، وتأنيب منه لهم في رفضهم تنزيله، وهجرهم العمل به وهو في أيديهم يعلمونه ويعرفون أنه كتاب الله، واتباعهم واتباع أوائلهم وأسلافهم ما تلته الشياطين في عهد سليمان. وقد بينا وجه جواز إضافة أفعال أسلافهم إليهم فيما مضى، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. وإنما اخترنا هذا التأويل لأن المتبعة ما تلته الشياطين في عهد سليمان وبعده إلى أن بعث الله نبيه بالحق وأمر السحر لم يزل في اليهود، ولا دلالة في الآية أن الله تعالى أراد بقوله: { واتبعوا } بعضا منهم دون بعض، إذ كان جائزا فصيحا في كلام العرب إضافة ما وصفنا من اتباع أسلاف المخبر عنهم بقوله: { واتبعوا ما تتلوا الشياطين } إلى أخلافهم بعدهم. ولم يكن بخصوص ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر منقول، ولا حجة تدل عليه، فكان الواجب من القول في ذلك أن يقال: كل متبع ما تلته الشياطين على عهد سليمان من اليهود داخل في معنى الآية، على النحو الذي قلنا. القول في تأويل قوله تعالى: { ما تتلوا الشياطين }. يعني جل ثناؤه بقوله: { ما تتلوا الشياطين }: الذي تتلو. فتأويل الكلام إذا: واتبعوا الذي تتلو الشياطين. واختلف في تأويل قوله: { تتلوا } فقال بعضهم: يعني بقوله: { تتلوا } تحدث وتروى وتتكلم به وتخبر، نحو تلاوة الرجل للقرآن وهي قراءته. ووجه قائلوا هذا القول تأويلهم ذلك إلى أن الشياطين هي التي علمت الناس السحر وروته لهم. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن عمرو، عن مجاهد في قول الله: { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } قال: كانت الشياطين تسمع الوحي، فما سمعوا من كلمة زادوا فيها مائتين مثلها، فأرسل سليمان إلى ما كتبوا من ذلك فجمعه.
فلما توفي سليمان وجدته الشياطين فعلمته الناس وهو السحر. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } من الكهانة والسحر وذكر لنا والله أعلم أن الشياطين ابتدعت كتابا فيه سحر وأمر عظيم، ثم أفشوه في الناس وعلموهم إياه. حدثنا القاسم، قال : ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عطاء: قوله: { واتبعوا ما تتلوا الشياطين } قال: نراه ما تحدث. حدثني سلم بن جنادة السوائي، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: انطلقت الشياطين في الأيام التي ابتلى فيها سليمان، فكتبت فيها كتبا فيها سحر وكفر، ثم دفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أخرجوها فقرءوها على الناس. وقال آخرون: معنى قوله: { ما تتلوا } ما تتبعه وترويه وتعمل به. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن عمرو العنقزي، قال: حدثني أبي، عن أسباط، عن السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس: { تتلوا } قال: تتبع. حدثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي، قال: ثنا يحيى بن إبراهيم، عن سفيان الثوري، عن منصور، عن أبي رزين مثله. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله عز وجل أخبر عن الذين أخبر عنهم أنهم اتبعوا ما تتلو الشياطين على عهد سليمان باتباعهم ما تلته الشياطين. ولقول القائل: «هو يتلو كذا» في كلام العرب معنيان: أحدهما الاتباع، كما يقال: تلوت فلانا إذا مشيت خلفه وتبعت أثره، كما قال جل ثناؤه:
هنالك تبلوا كل نفس مآ أسلفت
[يونس: 30] يعني بذلك تتبع. والآخر: القراءة والدراسة، كما تقول: فلان يتلو القرآن، بمعنى أنه يقرؤه ويدرسه، كما قال حسان بن ثابت:
صفحه نامشخص