جامع البيان في تفسير القرآن
جامع البيان في تفسير القرآن
[البقرة: 80] وإخبار منه لهم أنه يعذب من أشرك وكفر به وبرسله وأحاطت به ذنوبه فمخلده في النار فإن الجنة لا يسكنها إلا أهل الإيمان به وبرسوله، وأهل الطاعة له، والقائمون بحدوده. كما: حدثنا محمد بن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس: { بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته } أي من عمل مثل أعمالكم وكفر بمثل ما كفرتم به حتى يحيط كفره بما له من حسنة، { فاولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }. قال: وأما { بلى } فإنها إقرار في كل كلام في أوله جحد، كما «نعم» إقرار في الاستفهام الذي لا جحد فيه، وأصلها «بل» التي هي رجوع عن الجحد المحض في قولك: ما قام عمرو بل زيد فزيد فيها الياء ليصلح عليها الوقوف، إذ كانت «بل» لا يصلح عليها الوقوف، إذ كانت عطفا ورجوعا عن الجحد، ولتكون أعني بلى رجوعا عن الجحد فقط، وإقرارا بالفعل الذي بعد الجحد فدلت الياء منها على معنى الإقرار والإنعام، ودل لفظ «بل» بل الرجوع عن الجحد. قال: وأما السيئة التي ذكر الله في هذا المكان فإنها الشرك بالله. كما: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، قال: حدثني عاصم، عن أبي وائل { بلى من كسب سيئة } قال: الشرك بالله. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: { بلى من كسب سيئة } شركا. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: { بلى من كسب سيئة } قال: أما السيئة فالشرك. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: { بلى من كسب سيئة } أما السيئة فهي الذنوب التي وعد عليها النار. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: { بلى من كسب سيئة } قال: الشرك. قال ابن جريج، قال: قال مجاهد: { سيئة } شركا. حدثت عن عمار بن الحسن، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: { بلى من كسب سيئة } يعني الشرك. وإنما قلنا: إن السيئة التي ذكر الله جل ثناؤه أن من كسبها وأحاطت به خطيئته فهو من أهل النار المخلدين فيها في هذا الموضع، إنما عنى الله بها بعض السيئات دون بعض، وإن كان ظاهرها في التلاوة عاما، لأن الله قضى على أهلها بالخلود في النار، والخلود في النار لأهل الكفر بالله دون أهل الإيمان به لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أهل الإيمان لا يخلدون فيها، وأن الخلود في النار لأهل الكفر بالله دون أهل الإيمان به فإن الله جل ثناؤه قد قرن بقوله: { بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فاولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } قوله: { والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } فكان معلوما بذلك أن الذين لهم الخلود في النار من أهل السيئات، غير الذين لهم الخلود في الجنة من أهل الإيمان.
فإن ظن ظان أن الذين لهم الخلود في الجنة من الذين آمنوا هم الذين عملوا الصالحات دون الذين عملوا السيئات، فإن في إخبار الله أنه مكفر باجتنابنا كبائر ما ننهى عنه سيئاتنا، ومدخلنا المدخل الكريم، ما ينبىء عن صحة ما قلنا في تأويل قوله: { بلى من كسب سيئة } بأن ذلك على خاص من السيئات دون عامها. فإن قال لنا قائل: فإن الله جل ثناؤه إنما ضمن لنا تكفير سيئاتنا باجتنابنا كبائر ما ننهى عنه، فما الدلالة على أن الكبائر غير داخلة في قوله: { بلى من كسب سيئة }؟ قيل: لما صح من أن الصغائر غير داخلة فيه، وأن المعنى بالآية خاص دون عام، ثبت وصح أن القضاء والحكم بها غير جائز لأحد على أحد إلا على من وقفه الله عليه بدلالة من خبر قاطع عذر من بلغه. وقد ثبت وصح أن الله تعالى ذكره قد عنى بذلك أهل الشرك والكفر به، بشهادة جميع الأمة، فوجب بذلك القضاء على أن أهل الشرك والكفر ممن عناه الله بالآية. فأما أهل الكبائر فإن الأخبار القاطعة عذر من بلغته قد تظاهرت عندنا بأنهم غير معنيين بها، فمن أنكر ذلك ممن دافع حجة الأخبار المستفيضة والأنباء المتظاهرة فاللازم له ترك قطع الشهادة على أهل الكبائر بالخلود في النار بهذه الآية ونظائرها التي جاءت بعمومهم في الوعيد، إذ كان تأويل القرآن غير مدرك إلا ببيان من جعل الله إليه بيان القرآن، وكانت الآية تأتي عاما في صنف ظاهرها، وهي خاص في ذلك الصنف باطنها. ويسئل مدافعوا الخبر بأن أهل الكبائر من أهل الاستثناء سؤالنا منكر رجم الزاني المحصن، وزوال فرض الصلاة عن الحائض في حال الحيض، فإن السؤال عليهم نظير السؤال على هؤلاء سواء. القول في تأويل قوله تعالى: { وأحاطت به خطيئته }. يعني بقوله جل ثناؤه: وأحاطت به خطيئته اجتمعت عليه فمات عليها قبل الإنابة والتوبة منها. وأصل الإحاطة بالشيء: الإحداق به بمنزلة الحائط الذي تحاط به الدار فتحدق به، ومنه قول الله جل ثناؤه: { نارا أحاط بهم سرادقها }.
فتأويل الآية إذا: من أشرك بالله واقترف ذنوبا جمة فمات عليها قبل الإنابة والتوبة، فأولئك أصحاب النار هم فيها مخلدون أبدا. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك، قال المتأولون. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي روق، عن الضحاك: { وأحاطت به خطيئته } قال: مات بذنبه. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا جرير بن نوح، قال: ثنا الأعمش، عن أبي رزين، عن الربيع بن خثيم: { وأحاطت به خطيئته } قال: مات عليها. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: أخبرني ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس: { وأحاطت به خطيئته } قال: يحيط كفره بما له من حسنة. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: حدثني عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: { وأحاطت به خطيئته } قال: ما أوجب الله فيه النار. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: { وأحاطت به خطيئته } قال: أما الخطيئة فالكبيرة الموجبة. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن قتادة: { وأحاطت به خطيئته } قال: الخطيئة: الكبائر. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا وكيع ويحيى بن آدم، عن سلام بن مسكين، قال: سأل رجل الحسن عن قوله: { وأحاطت به خطيئته } فقال: ما ندري ما الخطيئة يا بني اتل القرآن، فكل آية وعد الله عليها النار فهي الخطيئة. حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا سفيان، عن منصور ، عن مجاهد في قوله: { بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته } قال: كل ذنب محيط فهو ما وعد الله عليه النار. حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي رزين: { وأحاطت به خطيئته } قال: مات بخطيئته. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا الأعمش، قال: ثنا مسعود أبو رزين، عن الربيع بن خثيم في قوله: { وأحاطت به خطيئته } قال: هو الذي يموت على خطيئته، قبل أن يتوب. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: قال وكيع: سمعت الأعمش يقول في قوله: { وأحاطت به خطيئته } مات بذنوبه. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: { وأحاطت به خطيئته } الكبيرة الموجبة. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: { أحاطت به خطيئته } فمات ولم يتب. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حسان، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: { وأحاطت به خطيئته } قال: الشرك، ثم تلا:
ومن جآء بالسيئة فكبت وجوههم في النار
[النمل: 90]. القول في تأويل قوله تعالى: { فاولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }. يعني بقوله جل ثناؤه: { فأولئك } الذين كسبوا السيئات وأحاطت بهم خطيئاتهم أصحاب النار هم فيها خالدون. ويعني بقوله جل ثناؤه: { أصحاب النار } أهل النار وإنما جعلهم لها أصحابا لإيثارهم في حياتهم الدنيا ما يوردهموها، ويوردهم سعيرها على الأعمال التي توردهم الجنة، فجعلهم جل ذكره بإيثارهم أسبابها على أسباب الجنة لها أصحابا، كصاحب الرجل الذي يصاحبه مؤثرا صحبته على صحبة غيره حتى يعرف به. { هم فيها } يعني في النار خالدون، ويعني بقوله { خالدون } مقيمون. كما: حدثني محمد بن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس: { هم فيها خالدون }: أي خالدون أبدا. حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: { هم فيها خالدون } لا يخرجون منها أبدا.
[2.82]
ويعني بقوله: { والذين آمنوا }: أي صدقوا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. ويعني بقوله: { وعملوا الصالحات }: أطاعوا الله فأقاموا حدوده، وأدوا فرائضه، واجتنبوا محارمه. ويعني بقوله: { أولئك } فالذين هم كذلك { أصحاب الجنة هم فيها خالدون } يعني أهلها الذين هم أهلها { هم فيها خالدون } ، مقيمون أبدا. وإنما هذه الآية والتي قبلها إخبار من الله عباده عن بقاء النار وبقاء أهلها فيها، ودوام ما أعد في كل واحدة منهما لأهلها، تكذيبا من الله جل ثناؤه القائلين من يهود بني إسرائيل إن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة، وأنهم صائرون بعد ذلك إلى الجنة فأخبرهم بخلود كفارهم في النار وخلود مؤمنيهم في الجنة. كما: حدثني ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس: { والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } أي من آمن بما كفرتم به وعمل بما تركتم من دينه، فلهم الجنة خالدين فيها يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبدا لا انقطاع له أبدا. حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه أولئك أصحاب الجنة { هم فيها خالدون }
[2.83]
قد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على أن الميثاق مفعال، من التوثق باليمين ونحوها من الأمور التي تؤكد القول. فمعنى الكلام إذا: واذكروا أيضا يا معشر بني إسرائيل إذ أخذنا ميثاقكم لا تعبدون إلا الله. كما: حدثني به ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس: { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل } أي ميثاقكم { لا تعبدون إلا الله }. قال أبو جعفر: والقراءة مختلفة في قراءة قوله: { لا تعبدون } فبعضهم يقرؤها بالتاء، وبعضهم يقرؤها بالياء، والمعنى في ذلك واحد. وإنما جازت القراءة بالياء والتاء وأن يقال: «لا تعبدون»، و«لا يعبدون» وهم غيب لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف، فكما تقول : استحلفت أخاك ليقومن، فتخبر عنه خبرك عن الغائب لغيبته عنك، وتقول: استحلفته لتقومن، فتخبر عنه خبرك عن المخاطب لأنك قد كنت خاطبته بذلك، فيكون ذلك صحيحا جائزا، فكذلك قوله: { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله } و«لا يعبدون». من قرأ ذلك بالتاء فمعنى الخطاب إذ كان الخطاب قد كان بذلك، ومن قرأ بالياء فلأنهم ما كانوا مخاطبين بذلك في وقت الخبر عنهم. وأما رفع لا تعبدون فبالتاء التي في تعبدون، ولا ينصب ب«أن» التي كانت تصلح أن تدخل مع: { لا تعبدون إلا الله } لأنها إذا صلح دخولها على فعل فحذفت ولم تدخل كان وجه الكلام فيه الرفع كما قال جل ثناؤه:
قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون
صفحه نامشخص