جامع البيان في تفسير القرآن

طبری d. 310 AH
195

جامع البيان في تفسير القرآن

جامع البيان في تفسير القرآن

وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور

[البقرة: 63] القول في تأويل قوله تعالى: { فلولا فضل الله عليكم ورحمته }. قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ذكره: { فلولا فضل الله عليكم } فلولا أن الله تفضل عليكم بالتوبة بعد نكثكم الميثاق الذي واثقتموه، إذ رفع فوقكم الطور، بأنكم تجتهدون في طاعته، وأداء فرائضه، والقيام بما أمركم به، والانتهاء عما نهاكم عنه في الكتاب الذي آتاكم، فأنعم عليكم بالإسلام ورحمته التي رحمكم بها، وتجاوز عنكم خطيئتكم التي ركبتموها بمراجعتكم طاعة ربكم لكنتم من الخاسرين. وهذا وإن كان خطابا لمن كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنما هو خبر عن أسلافهم، فأخرج الخبر مخرج المخبر عنهم على نحو ما قد بينا فيما مضى من أن القبيلة من العرب تخاطب القبيلة عند الفخار أو غيره بما مضى من فعل أسلاف المخاطب بأسلاف المخاطب، فتضيف فعل أسلاف المخاطب إلى نفسها، فتقول: فعلنا بكم، وفعلنا بكم. وقد ذكرنا بعض الشواهد في ذلك من شعرهم فيما مضى.

وقد زعم بعضهم أن الخطاب في هذه الآيات إنما أخرج بإضافة الفعل إلى المخاطبين به والفعل لغيرهم لأن المخاطبين بذلك كانوا يتولون من كان فعل ذلك من أوائل بني إسرائيل، فصيرهم الله منهم من أجل ولايتهم لهم. وقال بعضهم: إنما قيل ذلك كذلك، لأن سامعيه كانوا عالمين، وإن كان الخطاب خرج خطابا للأحياء من بني إسرائيل وأهل الكتاب إذ المعنى في ذلك إنما هو خبر عما قص الله من أنباء أسلافهم، فاستغنى بعلم السامعين بذلك عن ذكر أسلافهم بأعيانهم. ومثل ذلك بقول الشاعر:

إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة

ولم تجدي من أن تقري به بدا

فقال: «إذا ما انتسبنا»، و«إذا» تقتضي من الفعل مستقبلا. ثم قال: «لم تلدني لئيمة»، فأخبر عن ماض من الفعل، وذلك أن الولادة قد مضت وتقدمت. وإنما فعل ذلك عند المحتج به لأن السامع قد فهم معناه، فجعل ما ذكرنا من خطاب الله أهل الكتاب الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم بإضافة أفعال أسلافهم إليهم نظير ذلك. والأول الذي قلنا هو المستفيض من كلام العرب وخطابها. وكان أبو العالية يقول في قوله: { فلولا فضل الله عليكم ورحمته } فيما ذكر لنا نحو القول الذي قلناه. حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو النضر، عن الربيع، عن أبي العالية: { فلولا فضل الله عليكم ورحمته } قال: فضل الله: الإسلام، ورحمته: القرآن. وحدثت عن عمار،قال ثنا ابن أبي جعفر، عن الربيع بمثله. القول في تأويل قوله تعالى: { لكنتم من الخاسرين }. قال أبو جعفر : فلولا فضل الله عليكم ورحمته إياكم بانقاذه إياكم بالتوبة عليكم من خطيئتكم وجرمكم، لكنتم الباخسين أنفسكم حظوظها دائما، الهالكين بما اجترمتم من نقض ميثاقكم وخلافكم أمره وطاعته. وقد تقدم بياننا قبل بالشواهد عن معنى الخسار بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

[2.65-66]

يعني بقوله: { ولقد علمتم } ولقد عرفتم، كقولك: قد علمت أخاك ولم أكن أعلمه، يعني عرفته ولم أكن أعرفه، كما قال جل ثناؤه:

وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم

[الأنفال: 60] يعني: لا تعرفونهم الله يعرفهم. وقوله: { الذين اعتدوا منكم في السبت } أي الذين تجاوزوا حدى وركبوا ما نهيتهم عنه في يوم السبت وعصوا أمري. وقد دللت فيما مضى على أن الاعتداء أصله تجاوز الحد في كل شيء بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. قال: وهذه الآية وآيات بعدها تتلوها، مما عدد جل ثناؤه فيها على بني إسرائيل الذين كانوا بين خلال دور الأنصار زمان النبي صلى الله عليه وسلم الذين ابتدأ بذكرهم في أول هذه السورة من نكث أسلافهم عهد الله وميثاقه ما كانوا يبرمون من العقود، وحذر المخاطبين بها أن يحل بهم بإصرارهم على كفرهم ومقامهم على جحود نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتركهم أتباعه والتصديق بما جاءهم به من عند ربه مثل الذي حل بأوائلهم من المسخ والرجف والصعق، وما لا قبل لهم به من غضب الله وسخطه. كالذي: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: { ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت } يقول: ولقد عرفتم وهذا تحذير لهم من المعصية، يقول: احذروا أن يصيبكم ما أصاب أصحاب السبت إذ عصوني، اعتدوا يقول اجترءوا في السبت. قال: لم يبعث الله نبيا إلا أمره بالجمعة وأخبره بفضلها وعظمها في السموات وعند الملائكة، وأن الساعة تقوم فيها، فمن اتبع الأنبياء فيما مضى كما اتبعت أمة محمد صلى الله عليه وسلم محمدا قبل الجمعة وسمع وأطاع وعرف فضلها وثبت عليها بما أمره الله تعالى به ونبيه صلى الله عليه وسلم، ومن لم يفعل ذلك كان بمنزلة الذين ذكر الله في كتابه، فقال: { ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين }. وذلك أن اليهود قالت لموسى حين أمرهم بالجمعة وأخبرهم بفضلها: يا موسى كيف تأمرنا بالجمعة وتفضلها على الأيام كلها، والسبت أفضل الأيام كلها لأن الله خلق السموات والأرض والأقوات في ستة أيام وسبت له كل شيء مطيعا يوم السبت، وكان آخر الستة؟ قال: وكذلك قالت النصارى لعيسى ابن مريم حين أمرهم بالجمعة، قالوا له: كيف تأمرنا بالجمعة، وأول الأيام أفضلها وسيدها، والأول أفضل، والله واحد، والواحد الأول أفضل؟ فأوحى الله إلى عيسى أن دعهم والأحد، ولكن ليفعلوا فيه كذا وكذا مما أمرهم به. فلم يفعلوا، فقص الله تعالى قصصهم في الكتاب بمعصيتهم. قال: وكذلك قال الله لموسى حين قالت له اليهود ما قالوا في أمر السبت: أن دعهم والسبت فلا يصيدوا فيه سمكا ولا غيره، ولا يعملون شيئا كما قالوا.

صفحه نامشخص